دنيا وأخرى

  • الحلقة 19
  • 2023-04-10

دنيا وأخرى

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(59)
(سورة الأنعام)

السلام عليكم:

صور من الإيمان بالغيب:
• دخل موظفان إلى مكتبيهما، جاء مراجعٌ قدّم رِشوةً، رفضها الأول واغتبط برفضه، وقبلها الثاني واغتبط بها.
• مرّت امرأة متبرّجة، مدّ الأول بصره إليها وملأ عينيه من محاسنها، وغضّ الآخر بصره عنها مبتغياً رضا الله تعالى.
• جلست نسوة في مجلس، وجاء الحديث عن امرأة في غيبتها، فخاضت الأولى في الأعراض، وأكثرت من الحديث، وكفّت الثانية عن الحديث، ونصحت أو غادرت.
ما الذي يحدث؟ لماذا قبِلَ مَن قَبِلَ، ورفض من رفض؟ لماذا أطلق بصره مَن أطلق، وغضّ بصره مَن غض؟ لماذا أمسك لسانه مَن أمسك، وأطلق لسانه مَن أطلق؟
لو أردت أن أحلل هذا لقلت لك باختصار: إنه الإيمان بالغيب، ولو قلت لي: صف لي الدنيا بكلمة، لقلت لك: إنها الشهادة، ولو قلت لي: صف الآخرة بكلمة، لقلت لك: إنه الغيب،

{ إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ. }

(صحيح مسلم)


كل ما في الدنيا يدعوك إلى المعصية:
كل ما في الدنيا يدعو إلى المعصية
كما يقول صلى الله عليه وسلم، كل ما فيها يلمع، كل ما فيها يدعو إلى المعصية، أموال ونساء، وسيارات فارهة، وأبنية شاهقة، كل ما في الدنيا يدعوك إليها، أما الآخرة فهي غيب يحدّثك الله تعالى عنه لم ترَه بعينيك، ولكنك تؤمن به بخبر الله تعالى، لذلك من يستشرف الغيب، وينظر إلى الغيب هو الذي يقلع عن المعصية، والذي يؤمن بالشهادة فقط، ويجعل كل همه في الدنيا هو من يفعل المعاصي والآثام، وفي الدعاء النبوي: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا" الدنيا همٌّ من الهموم، ولكنها ليست أكبر الهم، بل إن أكبر الهم هو الآخرة، "لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا" والدنيا علم من العلوم، ولكنها ليست مبلغ العلم، بل إن مبلغ العلم هو العلم بالله تعالى، والعلم بالآخرة.

الدين لا يدفعك إلى ترك الدنيا:
الدين لا يدفعك إلى ترك الدنيا، ولكنه يدفعك إلى ترك الحرام في الدنيا فقط، الدين ليس تركاً للدنيا، ولكنه ترك للحرام في الدنيا، ما معنى قوله تعالى:

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
(سورة الأعراف)

معنى ذلك أنهم أعطوا الدنيا حجماً أكبر من حجمها، لها حجم معين، ولكنهم أعطوها حجماً أكبر من حجمها.
الدين يدفعك إلى ترك الحرام
مات رجل في ريعان شبابه، قال بعضهم: "مسكين، لم يستمتع بشبابه" لو دخلنا إلى العمق؛ لماذا قالوا ذلك؟ لأن كثيراً منهم –وأخشى ذلك- يشعرون أن الدنيا هي أكبر الهم، وهي مبلغ العلم، فقد غرتهم الحياة الدنيا، فلما مات، ولما يقضِ من الدنيا وطَراً قالوا: مسكين، مات ولم يستمتع بشبابه، أما من يدرك حجم الدنيا فإنه يدرك أن الدنيا سواء كانت ثلاثين عاماً، أو مئة عام، فإنها ستنقضي، وهي لا تعادل شيئاً أمام الآخرة، فماذا أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمس في مياه البحر.
الدنيا شهادة، والآخرة غيب، واليوم الآخر غيب، في موعده هو غيب:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
(سورة الأعراف)

أراد الله تعالى أن يخفي هذا اليوم الآخر عن الناس حتى يكون الإيمان به حقيقياً، وحتى يكون السعي له جاداً:

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15)
(سورة طه)

فاليوم الآخر غيبٌ بموعده، وغيبٌ بتفاصيله، ولا يؤمن باليوم الآخر إلا من يؤمن بالغيب حقاً.
إلى الملتقى، أستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.