• الحلقة 25
  • 2023-04-16

فاء فصيحة

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(59)
(سورة الأنعام)

السلام عليكم:
ربما سمعتم عن امرأة فصيحة، أسماء بنت يزيد مثلاً تلك الصحابية الجليلة التي قدمت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء جميعاً، فآمنا بك وبإلهك، وإنا معاشر النساء محصورات، مقصورات، حاملات أولادكم في بيوتكم، وإن الرجال قد فُضِّلوا علينا بالجُمَع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك كله الجهاد في سبيل الله، إلى أن قالت: فهل نشارككم في الأجر والثواب؟ نريد الأجر والثواب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله، وقال: هل سمعتم أحسن من مساءلة هذه المرأة في أمر دينها؟ فقالوا: ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا.

الفاء الفصيحة:
هذه فصيحة النساء، لكن هل سمعتم عن الفاء الفصيحة؟ الفاء الفصيحة في كلام البلغاء هي تلك الفاء التي تُفصِح عن شيء محذوف قبلها، يُفهَم من السياق، يقول تعالى:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
( سورة هود)

هذه الفاء ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ تسمى الفاء الفصيحة بمعنى أنها تدل على شيء محذوف قبلها، ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ فإذا علمت يقيناً أنه يعلم الغيب، وأن الأمر كله إليه ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾.
مثل ذلك قوله تعالى:

رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
(سورة المزمل)

أي إذا علمت أنه لا إله إلا الله فكيف بك تتوجه إلى غيره؟ ﴿لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾ فإذا علمت ذلك يقيناً ﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا﴾.
الأمر كله بيد الله تعالى
هذه هي الفاء الفصيحة ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ﴾ لماذا كثير من الناس يعبدون غير الله؟ لا أقول العبادة عبادة المشركين، لكن يلتجئون إلى غير الله، يطلبون من غير الله، لا تتعلق قلوبهم بالله؛ لأنهم لم يوقنوا أن الأمر بيد الله، وأن الغيب لله تعالى، ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ فلن تعبده حق عبادته، ولن تتوكل عليه حق توكله حتى تعلم أنّ له غيب السماوات والأرض، وأن مرجع الأمر كله إليه جل جلاله، أما من يقرأ الغيب، ويعلم أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض، وأنه إليه يُرجَع الأمر كله، فإنه يعلم أن هؤلاء الذين يتحركون في الحياة ليس لهم من أمرهم شيء، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ويوقن أن الله تعالى هو الذي يُسيّرهم، وهو الذي يحركهم.
أتذكرون مسرح العرائس؟ يوم كنا صغاراً كنا نحضر هذا المسرح، الطفل يظن أن تلك العرائس (الدمى) إنما تتحرك بذاتها، لكن البالغ، العاقل، الراشد يعلم أن هناك من يحركها من خلال خيوط موجودة ويمسكها بيده ويحركها على المسرح، فالعاقل يدرك أن هناك مَن يحركها، لكن الطفل الصغير لا يدرك، فيظن أنها تتحرك من تلقاء نفسها، فالمؤمن يعلم يقيناً أن الله تعالى هو الذي يحرك هؤلاء، وليس لهم من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله.
وأما البعيد عن الله تعالى، فإنه يظن أنها تتحرك بذاتها، فيقدسها، ويلتجئ إليها، ويدعوها من دون الله تعالى.
سفينة تمخُر عُباب البحر، ضخمة جداً، تتحرك من الشرق إلى الغرب، قام رجل وقال: أنا لا أريد أن أتحرك وفق مسار السفينة، أنا سأتحرك بعكس مسار السفينة، فوقف على ظهرها وبدأ يركض من الغرب إلى الشرق، يظن أنه يتحرك بخلاف حركة السفينة، لكنه في الحقيقة فوق ظهر السفينة، والسفينة متجهة من الشرق إلى الغرب، وحركته كلها إنما هي فوق السفينة وليست خارج السفينة.
إلى الملتقى، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.