بيان خطر الشرك والدعوة إلى التوحيد

  • الدرس الثالث عشر - شرح الآيات 61-64
  • 2019-08-02

بيان خطر الشرك والدعوة إلى التوحيد

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، اللهم علمنا ما ينفعا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين .


مقارنة بين صنفين من الناس الأول يؤمن بالغيب و الثاني يعيش لحظته :
مع اللقاء الثالث عشر من لقاءات سورة القصص ومع قوله تعالى :

أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
(سورة القصص : الآية 61)

الآن في هذه الآية يقارن ربنا عز وجل بين صنفين من الناس ، القرآن فيه نماذج : النموذج الأول : شخص يعيش على الوعد ، يؤمن بالغيب ، النموذج الثاني : يعيش لحظته ، يعيش واقعه ، يعيش الآن ، كيف هي الحياة الآن .
المؤمن ينظر إلى ما بعد اللحظة
هذان الصنفان موجودان في كل زمان وفي كل مكان ، صنف يعيش المستقبل ، وصنف يعيش الحاضر ، اللحظة ، غالب البعيدين عن الله عز وجل والمتفلتين يعيش لحظته لا يفكر بالمستقبل ، قد يفكر بالمستقبل القريب الذي هو أولادي ماذا سيدرسون ؟ بالمستقبل القريب، لكن أن يفكر بالمستقبل البعيد ما بعد الموت فهذا لا يكون إلا للمؤمن ، فنحن بين أن نعيش اللحظة وبين أن نعيش المستقبل ، المؤمن يعيش ما سيكون ، وغير المؤمن يعيش ما هو كائن، الآن ما الذي يمتعني؟ أن آكل ما لذّ وطاب ، ليس لدي مال يكفي ، أغش ، أسرق ، أبتز أموال الناس ، أرابي ، أحقق مالاً فآكل ما لذّ وطاب ، الآن ما الذي يمتعني؟ أن أنظر إلى شيء حرمه الله عز وجل ، موجود في كل مكان ، أفتح وأنظر ، يعيش اللحظة ، الآن أستمتع بالحياة ، المؤمن ينظر إلى ما بعد اللحظة ، ينظر إلى الآخرة فيعيش الغيب ، وهذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
(سورة البقرة : الآية 3)

الغيب هو الذي يميز المؤمن عن غير المؤمن
وأنا أقول : كل ربط دنيوي بين الطاعة وآثارها دون وضع الغيب في مكانه الصحيح فهو ربط خاطئ ، كيف؟ أي أن نطلق الكلام للناس أنه إذا أنت أطعت الله في الدنيا فلك المال الذي تريد ، والزوجة التي تحب ، والمكانة التي تريد ، وكل شيء لك في الدنيا ، فقط أطع الله عز وجل ، تماماً ، هذا الربط خاطئ بهذا الشكل ، نعم ربما تثمر طاعة الله عز وجل في الدنيا توفيقاً وتيسيراً وهذا وُعد به المؤمنون ، نعم ربما تثمر بعض المال الذي يكفيك ويكفي عيالك ، نعم ربما تثمر زوجةً صالحةً تسرك إن نظرت إليها ، نعم هذا ممكن ، لكن الغيب هو الذي يميز المؤمن عن غير المؤمن ، ربما تجد مؤمناً يطيع الله ويبتلى ولا يجد أثر ذلك في دنياه ، وإنما الأثر في الآخرة ، فكل ربط يكتفي بالدنيا ، بأن الطاعة من أجل الدنيا ، والمعصية تشقيك في الدنيا هو ربط خاطئ ، هذه جزئية بسيطة ، أما الأصل فأنني أطيع الله من أجل الآخرة ، من أجل حياة أبدية وليس من أجل الحياة الدنيا ، قد أطيع الله في الدنيا وأمرض ، الأنبياء ألم يمرضوا ؟ الأنبياء ألم يبتلوا ؟ ألم يفتقروا ؟ أيوب عليه السلام ألم يعش في الضر ؟ مسه الضر سنوات وسنوات ، محمد صلى الله عليه وسلم خاف في الله وما خاف أحدٌ مثله ، وأوذي في الله وما أوذي أحدٌ مثله ، في الطائف ضربوه ، سخروا منه ، أغروا به صبيانهم ، إذاً قضية أنني أعيش في الدنيا فأطيع فآخذ الأجر في الدنيا ليس هذا هو المطلوب .

سعي المؤمن إلى السعادة لا إلى المتعة و اللذة :
المؤمن يتأثر بما يحيط به
نأتي إلى الآية : (أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ) (لَاقِيهِ) أي سيلقاه ، ليس الآن ، (لَاقِيهِ) هذا اسم فاعل يفيد المستقبل ، فهو لاقيه مستقبلاً وليس الآن ، وعدناه (وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ) يوم القيامة ، هذا موعود ، يعيش على الوعد ، هذا صنف من الناس ، فتجده رغم ما يمر به من آلام ومصائب وأمراض وافتقار في الدنيا ، رغم كل ما يحصل له في الدنيا ، فهو لا يأبه لهذه المصائب ، لا أقول : لا يتأثر بها ، لا ، أبداً ، المؤمن إذا جاء فقر يفتقر ، وإذا جاء مرض يمرض ، فهو يتأثر بما يحيط به ، وقد يحزن لما يحيط به ، والحزن مشروع مادام في القلب وليس باليد ولا باللسان ، لكن لا يأبه لها بمعنى أنها لا تقعده ، ولا تحبطه ، ولا تثبطه ، لأنه ينظر إلى موعود الله عز وجل ، (أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ) يوم القيامة ، (كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الدنيا متاع كمتاع الراكب ، كيف إذا أحدهم يريد أن يسافر وأخذ معه متاعه ، فهذا المتاع يكون معه في سفره ثم يلقيه ، فالدنيا متاع ، فرقٌ كبير بين أن تُحصِّل المتعة وأن تُحصِّل السعادة ، المؤمن يسعى إلى السعادة لا يسعى إلى المتعة ، المؤمن يسعى إلى السعادة ولا يسعى لا إلى متعة ولا إلى لذة ، فهو إن عاش في الدنيا في مرض فهو في سعادة لقربه من خالقه ، ولو عاش في الدنيا في فقر فهو في سعادة لأنه يحقق هدفه الذي خلق من أجله ، أما الكافر فهو يُمتَّع ولا يسعد ، أي يتمتع في الدنيا لكنه في شقاء دنيوي وأخروي ، أجمل مثال يضربه شيخنا الدكتور راتب جزاه الله خيراً على هذه الآية ، جداً جميل ويوضح مفهوم الآية تماماً : أن رجلاً توفي عمه بحادث سيارة وهو الوريث الوحيد ، ولم تكن متوقعة وفاته ، هو في مقتبل عمره ، صغير ، فما كان يتوقع وفاته في هذا العمر ، لكنه توفي ، فانتقل ميراث عمه الضخم جداً إليه بلحظةٍ واحدة ، هذا الرجل الذي ورث هو في الأصل رجل فقير جداً، له دخل لا يكاد يكفيه إلى الخامس عشر من الشهر ، راتبه قليل ، وبيته مستأجر ، وحالته سيئة جداً ، وأولاده كثر ، ومصاريفه كبيرة ، توفي عمه فانتقل إليه المال ، لكن لأن عمه يعيش في دولة بعيدة ، وإجراءات الميراث تقتضي سنة كاملة من الإجراءات ، والمتابعات ، والمحامين، والقوانين، حتى ينتقل إليه هذا الميراث فهو يحتاج إلى وقت فبقي سنةً كاملة ينتظر هذا المال ، الآن هو مازال في بيته المتواضع جداً ، ومازال بدخله القليل جداً ، ومازال مع أولاده الكثر الذين يحتاجون إلى مصاريف عالية ، ومازال في البيت المستأجر الذي يتابعه المؤجِّر برأس كل شهر ليدفع أجرته ، كل الأمور مازالت كما هي لكنه أصبح سعيداً ، لماذا أصبح سعيداً ؟ لأنه موعود، فالحالة كما هي لكن الوعد الذي وعده بمالٍ وفير سيحقق به كل ما يصبو إليه ، جعله ينتقل من حالة التعاسة إلى حالة الفرح والسعادة ، هكذا هو المؤمن يعيش الواقع من غلاء أسعار ، ومن حرارةٍ في الجو ، ومن تسلط الأعداء ، ومن بعض الفقر أحياناً :

وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
(سورة البقرة : الآية 155)

ولكنه في داخله يعيش سعادة تنبع من الوعد الذي وعده الله إياه ، بأنك ما دمت في طاعتي فلك يوم القيامة شيءٌ مختلفٌ تماماً (مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)

{ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ذُخْرًا بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ) ثُمَّ قَرَأَ : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) }

(رواه البخاري)

(أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ) في الآخرة (كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .

العطاء و المنع من الله هو ابتلاء فقط :
الحياة التي تنتهي بالموت هي دنيا
قلنا في اللقاء السابق : الحياة الدنيا وليست العليا هذا أدنى مستوى في الحياة ، الحياة التي مستواها عالٍ جداً هي الحياة الأخروية التي فيها أبد ، أما الحياة التي تنتهي بالموت فهي دنيا ، وكل عطاءٍ ينتهي بالموت ليس بعطاء ، كل عطاءٍ ينتهي بالموت ليس عطاءً يليق بكمال الله ، فلا تنتظر عطاءً في الدنيا إلا بقدرٍ يسير ، وإن جاءك عطاءٌ فأعط مما أعطاك الله، هذا قارون هل كان الله يحبه عندما أعطاه (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) :

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
(سورة القصص : الآية 76)

إن قلت : كان يحبه ثم خسف به الأرض فقد كذب من قال ذلك ، وإن قلت : لا يحبه ، إذاً هو لا يعطي الدنيا لمن يحب ، جل جلاله يعطيها لمن يحب ولمن لا يحب ، إذاً هل هي مقياس ؟ إذا كانت تعطى للجميع فهل هي مقياس محبة الله لعبده؟ لا ، أعطاها لقارون، وأعطاها لعبد الرحمن بن عوف ، ولعثمان بن عفان ، إذاً أعطى الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب إذاً هي ليست مقياساً على أن الله يحبك إذا أعطاك الدنيا :

فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ* كَلَّا
(سورة الفجر : الآية 15-16-17)

العطاء والمنع هو ابتلاء فقط
(فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) ما الجواب؟ (كَلَّا) ،(كَلَّا) : أداة ردع وزجر ونهي ، (كَلَّا) كلامكم غير صحيح ، لا الذي ظنّ أن العطاء إكرامٌ من الله ، ولا الذي ظنّ أن المنع حرمانٌ من الله ، كلاكما مخطئ ، هذا العطاء والمنع هو ابتلاء فقط ، ابتلاء ، ليس إكراماً ولا إهانةً ، إن استخدمته في رضا الله أصبح إكراماً ، وإن ستخدمته في معصية الله أصبح إهانةً ، والمنع إن صبرت عليه أصبح إكراماً ، وإن جزعت وتكلمت بما لا يرضي الله أصبح إهانةً ، أما هو في حد ذاته فليس عطاءً وليس إكراماً وليس إهانةً .

من تمتع بالدنيا كما يريد سيأتي مكرهاً للوقوف بين يدي الله للمحاسبة :
يأتي ذليلاً مهاناً ليقف ليلقى حسابه
(ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) مُتِّع في الدنيا كما يريد ، أكل ما يشتهي ، ولبس ما يريد ، واستمتع بما يريد دون أي ضابط (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) لماذا قال (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) ما قال من الحاضرين أو ممن سوف يقفون بين يدي الله؟ المحضر إكراهاً ، المحضر يأتي إكراهاً لا يأتي طوعيةً لأنه لا يريد هذا الموقف ، فهو محضر وليس حاضراً ، يحضر أي يأتي ذليلاً مهاناً ليقف ليلقى حسابه ، ظلم ، واعتدى ، ونهب ، وأكل أموال الناس بالباطل ، واعتدى على حقوق الله ، وعلى حقوق العباد ، ولم يفقه لماذا هو في الدنيا فانطلق بدافعٍ من شهوته ، فسوف يحضر للحساب والعذاب (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) هذا يدل على الإكراه ، لن يأتي طواعيةً سيأتي مكرهاً للوقوف بين يدي الله عز وجل .
إذاً هذه الآية توازن بين صنفين من الناس كما قلنا صنف يعيش اللحظة ، وصنف يعيش المستقبل ، فمن يعيش المستقبل يتذكر دائماً وعد الله له ، كلما ألمت بك في الدنيا مصيبة تذكر وعد الله ، لا تنس وعد الله ، إياك ، إن نسيته أحبطتك المصيبة ، إن نسيته قهرك المرض، إن نسيته قهرك الألم ، أما إن تذكرت موعود الله فتنقلب المحنة إلى منحة ، والبلية إلى عطية ، لأنك تتذكر أنّ موعود الله عز وجل أعظم من أي مشكلة ، فالمؤمن أكبر من أكبر مشكلة ، وغير المؤمن أصغر من أصغر مشكلة .

الأمور بيد الله تعالى وحده و موعود الله عز وجل لابد آت :
الآن تدخل السورة ، سورة القصص ، طبعاً نحن قلنا سابقاً إن سورة القصص تتحدث في الأصل عن الوعد ، هي في الأصل تتحدث عن الوعد ، من بدايتها تتحدث أنّ الله عز وجل سينصر أولياءه ، هذا وعدٌ من الله .

إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ
(سورة غافر : الآية 51)

فهي تتحدث عن وعد من وعود الله من بدايتها :

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
(سورة القصص : الآية 4-5)

الأمور بيد الله تعالى
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ) إلى أن قال : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) وروى لك قصة موسى ، وبيّن لك كيف أنه منَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وكيف أنه أهلك فرعون ، تماماً ، الآن تنتقل السورة إلى الحديث عن قضية مهمة جداً وهي قضية التوحيد ، بأن الأمور بيد الله تعالى ، وهي قضية أساسية لكن في هذه اللحظة ، وفي هذه الآونة السورة متفرعة عن قضية الوعد وقضية النصر ، فالذي يعلم أن الأمور بيد الله تعالى وحده يوقن بأن موعود الله عز وجل لابد آت ، فهو الواحد جل جلاله لا ينازعه في ملكه أحد .

اشتراك معظم الخلق في توحيد الربوبية :
الآن السورة ماذا يقول ربنا عز وجل؟

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
(سورة القصص : الآية 62)

(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) ، أَمَا قال : (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) هذا اليوم نفسه (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) ينادي من؟ ينادي هؤلاء المحضرين ، المكرهين إلى الحضور ، الذي لا يريدون الحضور أصلاً ، مثل مدرسة أقامت حفلاً في ختام العام الدراسي لتوزيع النتائج ، وهناك طلاب نمي إلى مسامعهم أو علموا من حالهم أنهم راسبون هذا العام ، الآن والده يدفعه إلى الحضور ، والده متأمل لعله ينجح ، فعندما يأخذه إلى القاعة لحضور حفل الختام كأنما يساق إلى الموت لا يريد أن يحضر ، أما الأول الذي يعلم أنه غالباً الأول على الصف أو الثاني على المدرسة أو كذا فيذهب مسرعاً فهو ليس محضراً وإنما حاضر ، وأما الثاني فكأنما (يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) :

يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ
(سورة الأنفال : الآية 6)

سؤال هل يحتاج إلى جواب
لأنه لا يريد هذا الموقف ، الموقف يحرجه ، هذا حال الكافر يوم القيامة بين يدي الله ، (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) في هذا اليوم وقفوا وأُحضروا فيناديهم ربنا عز وجل (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ) ؟ هذا السؤال هل يحتاج إلى جواب ؟ لا ، هذا السؤال للتوبيخ والتقريع ، مثل طالب أمضى عامه خلف الأجهزة اللوحية فجاء الامتحان ولم يدرس شيئاً فرسب في الامتحان ، وصدرت النتائج ، وعلم الأب برسوبه ، فقال له والده : أين الآي باد (iPad) ؟ فوقف الابن وقال له : لحظة في غرفتي سأحضره لك ، فيغضب الأب لأن الابن لم يفهم شيئاً من السؤال ، فالسؤال لا يريد الآي باد (iPad) يريد أن يذكرك بأن هذا (iPad) هو الذي جعلك ترسب في آخر العام ، ولو تركته جانباً لنجحت ، فهذا سؤالٌ لا يحتاج إلى جواب ، ولو أجاب عليه لاستفز والده ، ولأكل ضرباً مبرحاً ، وتحول من العتاب إلى العقاب ، إذاً (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) والزعم مطيَّة الكذب ، هذا الزعم ، ومن قال : زعموا فقد بدأ بالكذب ، يزعم أن فلاناً كذا ، (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) أي تزعمون أنهم - هنا أغفل المفعول به - المفعول به الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لي في الخلق أو في التدبير ، معظم الناس اليوم لا يزعمون لله شركاء في الخلق ، فتقول له : من خلقك ؟ يقول : الله ، وهذا ما فعله كفار قريش :

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ
(سورة الزمر : الآية 38)

توحيد الربوبية يشترك به معظم الخلق
فهم آمنوا بأن الله خالق ، ولكن عندما جاؤوا إلى التَّصرُّف في الكون زعموا لله شركاء يُصرِّفون معه الكون ، فلما حاججهم وأقرُّوا بأن الله هو الخالق قال : (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ) هذا هو التوحيد ، فتوحيد الربوبية يشترك به معظم الخلق اليوم حتى غير المسلمين لا ينكره إلا الملحدون ، والملحدون منتحرون عقلياً ، أي هؤلاء لا يُلقى لهم بال ، إما بعضهم منتفع بإلحاده ، وإما بعضهم - نسأل الله الهداية - عقلياً يوجد معه مشكلة ويحتاج إلى علاج ، لأنه ينظر إلى هذا الكون فيقول : ليس له خالق ، هذه مشكلة عقلية، لكن معظم الناس اليوم من المسلمين وغير المسلمين قد يشركون في إشراك الألوهية ، بمعنى أن الله خلقنا من فوق لتحت ، المعادلة صحيحة ، من فوق المعادلة صحيحة ، من الذي ينزل المطر ؟ الله ، من الذي يرسل لكم رزقكم ؟ الله ، من تعبدون ؟ المال ، والجاه ، والسلطان ، والله - والعياذ بالله - (تَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) :

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
(سورة الإسراء : الآية 43)

فيؤمن بأن الله هو الذي خلق ، وهو الذي يميت ، وهو الذي يعطي ، وهو الذي يربي ، وهو الذي ينزل الأمطار ، لا ينكر ذلك إنسان عاقل ، لكن عندما يتوجه لا يتوجه إليه ، وهنا المصيبة الكبرى ، فهنا يقول : (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) لا يشترط أنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء خلقوا مع الله ، أو رزقوا مع الله ، لكنهم كانوا عندما يتوجهون :

مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ
(سورة الزمر : الآية 3)

الشرك الخفي
يتوجهون إلى أصنامهم بدلاً من أن يتوجهوا إلى خالقهم ، واليوم من الشرك الخفي أن يتوجه الإنسان إلى منصبه ، وإلى لباسه ، وإلى طعامه ، وإلى شرابه ، وهذا الكلام ليس من عندي ، هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيصَةِ ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيفَةِ - القَطِيفَةِ : اللباس –" أي يقول لك : هذا الطقم من ماركة كذا أو من ماركة كذا ويتعالى به .

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمِ ، وَالقَطِيفَةِ ، وَالخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ }

(صحيح البخاري)

فعندما يقول تعالى : (أَيْنَ شُرَكَائِيَ) فهؤلاء غالباً ليسوا مزعومين بأنهم شركاء في الخلق ، لكن زعموهم شركاء في التدبير فاتجهوا إليهم وكأنهم (أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) تعالى .

أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ
(سورة التوبة : الآية 31)

فيقول : (أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) هذا لا يحتاج إلى جواب كما قلنا ، هو توبيخ وتقريع ، وهم الحجة قائمة عليهم ، فأقام الحجة عليهم بهذا السؤال زيادةً في الإنكار عليهم، وزيادة في الألم والعذاب .
ورد في بعض الأحاديث أنّ الكافر يوم يقف بين يدي الله يقول :

{ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ‏ :‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ‏ :‏ ‏"‏ إِنَّ الْعَارَ لَيَلْزَمُ الْمَرْءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقُولَ‏ :‏ يَا رَبِّ لَإِرْسَالُكَ بِي إِلَى النَّارِ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِمَّا أَلْقَى ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ }

(رواه الألباني‏)‏


وقفة العتاب للعاصي المذنب أسوأ عليه من العقاب لانحرافه عن جادة الصواب :
أحياناً العاصي المذنب وقفة العتاب هي أسوأ عليه من العقاب ، لأنه يستذكر كم كان مسيئاً عندما ترك العبادة وانحرف عن جادة الصواب .

فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
(سورة القصص : الآية 62)

أي في الدنيا :

قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ۖ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ۖ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
(سورة القصص : الآية 63)

الحق هو الشيء الثابت
(قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) حَقَّ : أي ثبت ، قلنا : الحق هو الشيء الثابت ، فحَقَّ القَوْلُ : أي ثبت ، بمعنى آخر بالمعنى الحديث صدر الحكم ، (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي صدر الحكم ، انتهى ، الآن قبل أن تغرغر الحكم لم يصدر ، وأنت لا يجوز لك أن تصدر أحكاماً على الناس ، الله وحده يصدر الأحكام ، لكن ربنا عز وجل حتى قبل أن يغرغر العبد لا يصدر عليه حكماً مع أنه جلّ جلاله عالمٌ بما سيكون ، علم كشف لا علم جبر ، لكن لا يصدر حكمه ، (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي ثبت ، انتهى ، المسألة أصبحت محسومة ، إنسان محكوم بالإعدام صدر الحكم ، استأنف ، صدر حكم الاستئناف بالتنفيذ ، صدَّق عليه المفتي ، في بعض البلاد يصدق المفتي ، رئيس الجمهورية وإلخ انتهى صدر الحكم ، الآن التنفيذ غداً ، الآن جاؤوا به ووضعوه على حبل المشنقة ، الآن يريد أن يبكي فليبك ، إذا أراد أن يعتذر ، أنا آسف لم أكن أقصد فليعتذر ، إذا بقي صامتاً ولم يتكلم ولا بكلمة أفضل له لأنّ القرار صدر ولم يعد هناك معنى لئن يستعطف المحكمة ، أي محكمة ؟ القرار صدر ، ولم يعد بمقدور أحد أن يبعد عنك هذا الحكم ، هذا في الدنيا ، في واقع الدنيا ، وعندما يأتي يوم القيامة (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي صدر الحكم وأصبح واقعاً وهو الآن قيد التنفيذ ، فليس هناك أي شيء يدعو لترك الحكم ، (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ۖ تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ ۖ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) الآن يحاولون اللحظة الأخيرة وقد حقَّ عليهم القول أن يعتذروا لأن موقفهم بين يدي الله أولاً : فيه من الذل والمهانة ما فيه ، ثانياً : لأنهم يعلمون ما ينتظرهم من العذاب ، لهذين السببين معاً ، لأن الموقف مهين ، ولأن العذاب بعده أليم ، فهم لهذين السببين يحاولون للحظة الأخيرة أن يعتذروا بشيءٍ لعله يخفف عنهم العذاب ، ما هذا الشيء؟ (رَبَّنَا) هم يعترفون بربوبيته جلّ جلاله (رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا) أي أضللنا ، أغوينا من الغواية وهي الضلالة ، (هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا) من الناس (أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا) أي نحن أضللناهم كما ضللنا ، نحن لم يكن لنا سلطانٌ عليهم ، نحن عندما ضللنا ما كان هذا إجباراً من أحد ، وإنما كان خياراً منا ، وهؤلاء لما ضلوا ضلوا بخيارهم ، أي وكأنهم يقولون : يا رب لا تحاسبنا بما فعلوا يكفنا ما بنا ، (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا) هؤلاء الذين أضللنا فهم في كلامهم يعترفون بأنهم أضلوهم ، ثم يعودون ليقولوا : نحن عندما أضللناهم كما ضللنا نحن ، فهم ونحن سواء فليحاسب كلٌ على عمله ، (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ) أي نحن يا رب نبرأ إليك من هؤلاء ، يكفينا حسابنا، يكفينا ما بنا ، (تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) هؤلاء لم يكونوا يعبدوننا نحن وإنما كانوا يعبدون شهواتهم ، وإنما كانوا يعبدون شياطين الإنس والجن ، وإنما كانوا يعبدون مصالحهم وأهواءهم ، (مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) فلا تحاسبنا بجريرتهم .

على الناس الاهتداء قبل الوقوف بين يدي الله :
الآن :

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ ۚ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ
(سورة القصص : الآية 64)

الرؤية هنا لا تشترط أن تكون بصرية
(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) وهذه نتيجة معروفة مسبقاً ، أي لا يمكن للشريك أن يستجيب لاسيما في هذه اللحظة الفاصلة والراهنة ، هؤلاء الشركاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يملكون لغيرهم ؟ (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) ما معنى ذلك ؟ (رَأَوُا الْعَذَابَ) تحتمل أن تكون في الآخرة الآن (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) في الآخرة (لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) أي إلى سبيلٍ يُنجِّيهم من العذاب ، ولكنهم لا يهتدون ، لما (رَأَوُا الْعَذَابَ) في الآخرة أمامهم تمنوا لو أن هناك سبيلاً يهتدون إليه فينجيهم من العذاب لكنه غير موجود ، هذه أمنية (لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) حرف تمني (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) لنجوا من هذا العذاب ، لكنهم لن يهتدوا إلى سبيل ، فالعذاب محيطٌ بهم من كل جانب ، هذه في الآخرة ، ممكن أيضاً (وَرَأَوُا الْعَذَابَ) في الدنيا لما رأوا أقواماً أهلكهم الله ، والرؤية هنا لا تشترط أن تكون بصرية وإنما رؤية معنوية ، لما أخبرهم الله تعالى عن مهلك قوم عاد ، ألم يروا العذاب ؟ لما أخبرهم الله تعالى عن قوم ثمود وكيف أخذتهم الصيحة ، ألم يروا العذاب ؟ فلما (رَأَوُا الْعَذَابَ) في الدنيا كان حرياً بهم أن يهتدوا إلى الله قبل أن يقفوا هذا الموقف بين يدي الله ، فالآية إذاً (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة ، فهم (رَأَوُا الْعَذَابَ) في الآخرة فلم يجدوا سبيلاً يهتدون إليه للخروج من العذاب ، ولما رأوا بأعينهم أو برؤيةٍ معنويةٍ عذاب من كان قبلهم ممن عصوا الله تعالى لكان خيراً لهم أن يهتدوا إلى الله قبل أن يقفوا هذا الموقف بين يدي الله تعالى ، (وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) .

التوحيد رأس العلم و نهايته :
رأس العلم ونهاية العلم التوحيد
إذاً أعود عوداً على بدء ، هذه الآيات : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ) (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ) هذه الآيات تتحدث عن قضية مفصلية في ديننا وهي التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، رأس العلم ونهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل العبادة ، قال تعالى :

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(سورة الأنبياء :الآية 25)

وكل الأنبياء جاؤوا بحقيقة التوحيد ، ويوم القيامة لا ينجيك إلا التوحيد ، والتوحيد ليس قولاً تقوله ، هو عقيدةٌ تعتقدها وتعقد في قلبك ، هو إيمانٌ يقينيٌّ بالله ، لذلك ما قال تعالى : فقل لا إله إلا الله ، وإنما قال :

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ
(سورة محمد الآية 19)

ينبغي أن تعلم (أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ) ما معنى (لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ) ؟ أي لا مُتَصَرِّف ، ولا مُدَبِّر ، ولا مُعطي ، ولا مَانع ، ولا مُعز ، ولا خَافض ، ولا رَافع إلا الله ، كل ما تراه عينك من البشر من عطاء ومنع ، وخفض ورفع ، إنما هم عصيٌّ بيد الله تعالى تحركهم يد القدرة الإلهية ، بالمسرح القديم أيام مسرح العرائس إلى الآن يوجد في بعض البلدان ، اليوم أصبح هناك مئة وسيلة للعرض ، لكن ما زال له نكهة خاصة فيعملوه أحياناً ليشدوا الأطفال به ، فأنت ترى على المسرح أشخاصاً يتحركون أي لعب ودمى تتحرك ، الطفل يظنها تتحرك بنفسها فينشد لها ، الأكبر عمراً يعلم أن هناك خلف الستار من يمسك بها ويحركها ، غير المؤمن لضعف إدراكه يظن أن هذه القوى في الأرض إنما تتحرك بذاتها ، وبقوتها ، وببطشها ، وبجبروتها ، أما المؤمن فيعلم أن هناك يداً تحركها (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) :

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ
(سورة الأنفال : الآية 17)

الإيمان أن لا ترى في الكون قوةً إلا الله
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) فيعلم أن ما يجده من هؤلاء البشر إنما هم كالدمى تماماً في مسرح العرائس ، تحركهم يد القدرة الإلهية كيفما شاءت ، هذا هو الإيمان ، الإيمان أن تصل إلى هذه المرحلة ألا ترى في الكون قوةً إلا الله ، فإن أصابك خير فمن الله ، وإن أصابك شر فمن الله لكن السبب من نفسك ، لكن كله :

قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ
(سورة النساء : الآية 78)

الشر نسبي ينبع من العبد
الخير والشر بيد الله جل جلاله ، لكنه يتحكم في الخلق بالخير المطلق جل جلاله ، أما الشر فهو نسبي ينبع من العبد فيأتي جزاؤه من الله تعالى شراً ، هذا معنى : وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ" . ما معنى ليس إليك ؟ هل معنى أن الشر يفعله غير الله ؟ لا ، لكن سببه ليس إليك فالله لا يبتدئ عباده بالشر ، وإنما سلوكهم في الحياة :

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
(سورة الروم : الآية 41)

فهو موظّف لخيرٍ فما بعده (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) هذا معنى : وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ، لكن كل الأمر بيد الله (قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ) تماماً ، فهذه الآيات إذاً من سورة القصص تحدثت عن قضية التوحيد ، وقضية التوحيد هي أخطر ما في ديننا ، كما في الحديث القدسي :

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قَالَ اللهُ تَعَالَى : يَا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِيْ وَرَجَوتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِيْ ، يَا بْنَ آدَمَ لَو بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ استَغْفَرْتَنِيْ غَفَرْتُ لَكَ ، يَا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيْتَنِيْ بِقِرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لقِيْتَنِيْ لاَتُشْرِك بِيْ شَيْئَاً لأَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغفِرَةً }

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

فمع التوحيد ينفع قليل العمل وكثيره ، ومع الشرك لا ينفع لا قليل العمل ولا كثيره ، وإنّ الله تعالى لا يحب العمل المشترك :

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي ، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ }

(صحيح مسلم)

الله تعالى يريدك خالصاً له
ولا يقبل على القلب المشترك ، فإذا كان قلبك معلقاً بالله وبغير الله ، فالله تعالى لا يجعلك تقبل عليه ، ولا يقبل عليك ، لأن قلبك معلقٌ بغيره ، الله تعالى يريدك خالصاً له :

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ
(سورة الزمر : الآية 11-12)

فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ
(سورة الزمر : الآية 2)

{ اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفِكَ الوجوهَ كلَّها }

(أخرجه ابن عدي)

من جعل الهموم كلها هماً واحداً ، همّ آخرته ومعاده ، كفاه الله الهموم كلها .

التوحيد ألا ترى إلا الله :
التوحيد ألا ترى إلا الله
في زمن الخليفة يزيد بن معاوية كان له والٍ على العراقين ، العراقان هما الكوفة والبصرة ، الكوفة والبصرة تسمّيان العراقين ، فكان له والٍ هو ابن هبيرة ، هو والٍ على الكوفة والبصرة ، على العراقين ، فجاء لابن هبيرة تعليماتٌ من يزيد ، نظر فيها فإذا في تنفيذها إغضابٌ لله تعالى ، إن نفذها أغضب الله ، وإن ترك تنفيذها فسيغضب يزيد لأنه الخليفة وقد أمر وأمره نافذ ، فما كان منه وهكذا كانت عادة الولاة أن يستنصحوا العلماء ، فكان العلماء لا يقفون بباب الأمراء وإنما يستدعون مكرمين ليُشيروا على الأمراء فيأتمر الأمراء بأمر العلماء وليس العكس ، فكانت الأمة بخير ، فجاء بهما واستفتاهما ، بمن جاء ؟ جاء بتابعين جليلين هما عامر الشعبي والحسن البصري ، فبدأ بالشعبي فسأله : جاءني كتابٌ من يزيد إن نفذته أغضبت الله تعالى ، وإن تركت تنفيذه غضب يزيد فماذا أفعل؟ فقال له الشعبي كلاماً فيه ملاطفةٌ وملاينةٌ ومسايرة ، لا أدري ماذا قال له لكن أتخيل أنه قال له : أمسك العصا من الوسط، حاول أن تنفذ بعض الأمر وأن تترك بعضه ، حاول ألا تغضب يزيد دون أن تغضب الله ، أي محاولات ليست المفارقة والمفاصلة وإنما المواءمة ، ثم التفت إلى البصري فقال : وما تقول يا أبا سعيد ؟ قال يا ابن هبيرة : خف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله ، فإن الله يمنعك من يزيد ، أي عندما يريد يزيد أن يؤذيك الله يمنعك منه ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله ، واعلم يا ابن هبيرة أنه يوشك أن ينزل بك ملكان غليظان شديدان فيزيلانك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ، وهناك لن تجد معك يزيد ، وإنما ستجد عملك الذي خالفت به ربَّ يزيد ، قال : فمال ابن هبيرة عن الشعبي ، ترك الشعبي وما قاله له مع أنّ كلامه فيه ملاينة وملاطفة ، واتجه إلى البصري فجعل يكرمه ، ويتودد إليه ، فخرج الشعبي والبصري إلى الناس ، فقال الناس : ما الذي حصل ؟ فقام الشعبي - انظروا إلى إخلاص الشعبي رغم أنه أخطأ في الملاينة والمسايرة في غير موضعها لكنه علم ذلك فوقف - وقال : أيها الناس والله ما قال الحسن البصري لابن هبيرة كلاماً أجهله ، كل الذي قاله من التوحيد أعرفه - المعلومات أعرفها - ولكنني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة ، وأراد الحسن فيما قاله وجه الله ، فأقصاني الله من ابن هبيرة - أبعدني عنه - وأدنى الحسن منه ، يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله على خلقه في كل مقامٍ فليفعل، هذا هو التوحيد ، التوحيد ألا ترى إلا الله ، وهذا فحوى الآيات التي بين أيدينا اليوم .
والحمد لله رب العالمين