الاختلافات الفقهية - الجزء الثاني

  • الحلقة الحادية عشرة
  • 2021-06-05

الاختلافات الفقهية - الجزء الثاني

نتابع الحديث عن الاختلافات الفقهية، في اللقاء السابق تحدثنا عن نقطتين مهمتين، الأولى أن الدين يجمع ولا يفرق ولكنَّ بعدنا عن جوهر الدين هو الذي فرقنا، والثانية أن نظرتنا للدين يجب أن تكون واسعة باعتباره عقيدة وشريعة، مع التأكيد على أن الشريعة بناء فقهي أخلاقي اجتماعي متكامل.

الاختلاف الناتج عن النظر في الأدلة الشرعية:
ونتابع الحديث اليوم؛ النقطة الثالثة: ليس كل اختلافٍ معتبراً فالاختلاف المعتبر هو الاختلاف الناتج عن النظر في الأدلة الشرعية من الأئمة الثقات والعلماء العاملين.
وقد ألّف ابن تيمية رحمه الله كتاباً ماتعاً نافعاً في اختلاف الفقهاء سمّاه (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وقد بيّن فيه أسباب اختلاف الفقهاء وأنه ليس اختلافَ أهواء ومصالح، يقول في مقدمة كتابه:
وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ -الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا- يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ.
فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ, إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ, فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ.
وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ.
ثم شرع في بيان الأسباب المتفرعة عن هذه الأسباب الثلاثة الكلية، مع التمثيل لها.

الاختلاف غير المبني على النظر في الأدلة الشرعية:
أما الاختلاف الذي لا يكون مبنياً على النظر في الأدلة الشرعية أو يكون من رجال لم يعهد عنهم علم مؤصل أو ورع وخوف من الله فهذا ليس اختلافاً معتبراً.
الربا – مثلاً - حرام بالإجماع لا مخالف في ذلك، فلو خرج رجل من مشرق الأرض أو مغربها وأفتى بحل الربا وبجواز إيداع المال في المصارف الربوية إرضاء لحكومة بلاده مثلاً فهل نقول: إن هناك اختلافاً في حكم الربا!
الحجاب فرض على المرأة المسلمة بشروطه الشرعية المعتبرة المستنبطة من الأدلة، فلو قال قائل اليوم: إن الحجاب ليس فرضاً فهذا ليس اختلافاً وليس في المسألة قولان إنما هو قول واحد ولولا وسائل التواصل الحديثة التي لها إيجابيات وسلبيات لما سمعنا أصلاً بمن يدعي خلاف الإجماع!
ولكي نوضح المسألة أكثر نقول: الأرض كروية وهناك شبه إجماع على كرويتها، وهناك اليوم جمعيات ومؤسسات تقول: إن الأرض مسطحة! وينشرون مقاطع كثيرة على وسائل التواصل لإثبات نظريتهم تلك فهل يقول أحد: إن هناك قولين في شكل الأرض !!

ثلاث راسائل:
في ختام هذا الموضوع أحب أن أوجه ثلاث رسائل:

الرسالة الأولى:
موجهة لكل مسلم يرغب في معرفة أحكام دينه: اسأل من أهل الذكر من تثق بدينه وبعلمه، فالتدين الظاهري وحده لا يكفي ولا بد أن يكون المفتي صاحبَ علم، وكما أنك تختار لدنياك من تثق به فلا تذهب إلا لطبيب حاذق خبير معروف بعلمه مشهودٍ له بالخبرة فدينك هو سعادة الأبد فلا تسأل إلا أهل الذكر الثقات.
لكن العلم وحده لا يكفي فلا بد من أن تثق بدينه أيضاً وأنه ليس منتفعاً من فتواه ولم تعهد عنه فتوى مخالفة للنصوص وللإجماع إرضاء لقوي أو غنيّ.

الرسالة الثانية:
موجهة لكل طالب علم شرعي: وسِّع آفاقك ومداركك وإياك أن تتعصب لمذهب أو لقول شيخ أو لعالم وتجرد للحق وللحق فقط، فإذا كان أئمة المذاهب لم يتعصبوا لمذاهبهم فلم التعصب!
هذا أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وهذا مالك رحمه الله يقول: (إنما أنا بشرٌ أصيب وأخطىء، فانظروا في رأيي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكلُّ ما لم يوافقِ الكتاب والسنة فاتركوه).
وهذا الإمام الشافعي يقول: (إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخُذُوا بِهِ، وَدَعُوا قَوْلِي).
وأبين هنا أن كل هذه الأقوال عن الأئمة ومعها قول من قال: (كل يؤخذ منه ويرد عليه الا رسول الله) لا تعني أن أي إنسان بإمكانه أن يرد قولاً من أقوال الأئمة ، دون أن يملك مقومات ذلك، ولكن هذه النصوص تخص أهل العلم المتمكنين في المقارنة بين أقوال الأئمة ومناقشة أدلتهم.

الرسالة الثالثة:
موجهة لكل من دعا إلى الله وأفتى للناس: الفتوى مسؤولية وأمانة فاحرص على الفتوى الصحيحة، والفقه ليس التحريمَ فقط وليس التحليلَ فقط، وينسب لسفيان الثوري أنه قال: (إنما الفقه عندنا الرخصةُ من ثقة، أما التشدد فيُحسنه كلُّ أحد).
واعمل بقول ابن القيم الجوزية رحمه الله: (وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ جِنَايَةِ مَنْ طَبَّبَ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ بِمَا فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ، بَلْ هَذَا الطَّبِيبُ الْجَاهِلُ وَهَذَا الْمُفْتِي الْجَاهِلُ أَضَرُّ مَا عَلَى أَدْيَانِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ).
ليس في دين الله اختلاف بالمعنى المذموم للكلمة، بل هناك نظر واجتهاد وسعة وفهم وإطلاق للفكر ولكن كل ذلك يقيده النص والعلوم التي وضعت لخدمة النص والتي يحسن توظيفها رجال تمكنوا من العلم الشرعي مع خشيتهم لله تعالى،

وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
(سورة فاطر)

والحمد لله رب العالمين.