تحقيق وعد الله – التوحيد .

  • الدرس الثامن عشر - شرح الآيات 84 - 88
  • 2019-11-15

تحقيق وعد الله – التوحيد .

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


العبرة بالعاقبة :
وبعد؛ مع اللقاء الثامن عشر والأخير من لقاءات سورة القصص.
انتهينا في اللقاء السابق إلى نهاية قصة قارون مع قومه، وهي القصة الثانية في سورة القصص، وانتهينا إلى تعقيبه جلَّ جلاله على القصة حيث يقول تعالى:

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(سورة القصص: الآية 83)

هذا التعقيب الأول، وقد تحدثنا عنه في اللقاء السابق، التعقيب الثاني هو قوله تعالى:

مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(سورة القصص: الآية 84)

إذاً قصة قارون هي قصة طغيان المال:

إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ
(سورة القصص: الآية 76)

(بَغَى): تجاوز حدوده بالمال الذي آتاه الله إياه، أنكر فضل الله عليه:

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي
(سورة القصص: الآية 78)

تغطرس وتجبر فكانت نتيجته بعد أن خرج على قومه في زينته أن خسف الله به وبداره الأرض:

فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ
(سورة القصص: الآية 79)

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ
(سورة القصص: الآية 81)

فعاد الذين كانوا يتمنون أن يكونوا مكانه بالأمس إلى من ربما يحمد الله تعالى على أنه لم يكن في مكانه، لأنه:

{ ألا يا رُب نفسٍ طاعمةٍ ناعمةٍ في الدنيا، جائعةٍ عاريةٍ يوم القيامة، ألا يا رُب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم }

[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان وسنده ضعيف]

العبرة بالخواتيم
فكم تجد من الناس في الدنيا من يظن أنه يكرم نفسه وهو في الحقيقة يهينها، وكم تجد في الدنيا من يهين نفسه في الظاهر وهو في الحقيقة يكرمها، فالعبرة بالخواتيم، فلذلك جاء التعقيب الأول: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) كما كان قارون، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) فالعبرة بالعاقبة، والأمور بخواتيمها لا بمقدماتها.

المراتب في العرف الرباني و العرف النبوي :
التعقيب الثاني الذي نريد الحديث عنه في هذا اللقاء:

مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا ۖ
(سورة القصص: الآية 84)

{ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا }

(أخرجه البخاري)

الله تعالى من إحسانه أنه يكافئ على الحسنة بعشر أمثالها ويزيد، كما في الصحيح، لكنه يعاقب على السيئة بمثلها ويعفو، وهذا من تيسير الله على عباده جلَّ جلاله.

{ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إذا تَحَدَّثَ عَبْدِي بأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فأنا أكْتُبُها له حَسَنَةً ما لَمْ يَعْمَلْ، فإذا عَمِلَها، فأنا أكْتُبُها بعَشْرِ أمْثالِها، وإذا تَحَدَّثَ بأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فأنا أغْفِرُها له ما لَمْ يَعْمَلْها، فإذا عَمِلَها، فأنا أكْتُبُها له بمِثْلِها. وَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: قالتِ الملائِكَةُ: رَبِّ، ذاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وهو أبْصَرُ به، فقالَ: ارْقُبُوهُ فإنْ عَمِلَها فاكْتُبُوها له بمِثْلِها، وإنْ تَرَكَها فاكْتُبُوها له حَسَنَةً، إنَّما تَرَكَها مِن جَرَّايَ. وَقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: إذا أحْسَنَ أحَدُكُمْ إسْلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُها تُكْتَبُ بعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها تُكْتَبُ بمِثْلِها حتَّى يَلْقَى اللَّهَ }

(صحيح مسلم)

لأنه في العرف الرباني وفي العرف النبوي- صلى الله على سيدنا محمد- المراتب كما يلي:
تضنيف المكافأة على الحسنات
الصنف الأول: شخص أراد أن يعمل حسنة، همَّ بها لكنه لم يعملها، أي نوى نيةً طيبة لكن منعه مانعٌ من تحقيقها، هذا تكتب له حسنة، وهو لم يعمل، لكنه نوى النية فمنعه مانعٌ عنها فهذا تكتب له حسنة.
الصنف الثاني: شخصٌ نوى الحسنة ثم عملها، همَّ بها وعملها، فهذا تكتب له عشر حسنات.
الصنف الثالث: إنسانٌ همَّ بسيئةٍ ثم لم يعملها، ولكن هنا نضيف لم يعملها مخافة الله، لا نقول: ذهب ليسرق فوجد الباب موصداً فلم يسرق، لا، همَّ بالسرقة لكنه امتنع عنها مخافة الله، فهذا تكتب له حسنة، هو همَّ بسيئة فلما لم يعملها مخافة الله كتبت له حسنة.
الصنف الرابع: شخصٌ همَّ بالسيئة ثم عملها فتكتب له سيئة واحدة.
فالآية الكريمة هنا هي أصل هذا الحديث الشريف: قال تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا) وهنا أطلق الخير، فقد يكون الخير بالعشر أو بأكثر من العشر، (فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا).

وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
(سورة الشورى: الآية 36)

وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(سورة القصص: الآية 84)

أي يُجزون السيئة بالسيئة، ويُجزى المحسن الحسنة بخيرٍ منها، فأنت قد تفعل حسنةً من الحسنات ولا تدري ما هو الخير الذي يأتي بعدها من الله تعالى، كل شيء سيفنى وسيزول لكن عمل الخير وعمل الشر تطويه الأيام، لكنَّ فاعل الخير يسعد إلى الأبد، وفاعل الشر يشقى إلى الأبد، لذلك قيل: "فاعل الخير خيرٌ من الخير، وفاعل الشر شرٌّ من الشر".
فاعل الخير يسعد إلى الأبد
فاعل الخير خيرٌ من الخير، لأنَّ الخير ينقضي لكن فاعل الخير يخلد بخيره في جنةٍ يدوم نعيمها، فهو خيرٌ من الخير، أما فاعل الشر فهو شرٌّ من الشر، لأنَّ الشر سينقضي ولكن فاعله سيبقى في نارٍ لا ينفد عذابها، نسأل الله العافية.
وقيل: "نِيَّةُ اَلْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَ نِيَّةُ اَلْكَافِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَلِهِ".
لأن المؤمن ينوي أن يهدي الخلق جميعاً فيمكنه الله من هداية إنسانٍ، ينوي أن يهدي عشرةً من أصدقائه فيمكنه الله من هداية صديق، لكن نيته خيرٌ من عمله، أما فاعل الشر فنيته شرٌّ من عمله، فهو ينوي أن يدمر الأرض، وأن (يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) فلا يُمَكِّنُهُ الله إلا بشيءٍ من ذلك، فنيته شرٌّ من عمله.
هذه التعقيبات أنهت قصة قارون وعَقَّبت عليها.

موعود الله يتحقق مهما طال الزمان :
الآن أتينا إلى ختام السورة في أربع آيات، وسنرى أن ختام السورة يتوافق مع بداية السورة.
كيف ختمت السورة؟ يخاطب الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول له:

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
(سورة القصص: الآية 85)

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ) نزلت هذه الآية كما في الصحيح في الجحفة على طريق مكة عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة نزل بالجحفة فنزلت عليه هذه الآية: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ).
هجرة النبي الكريم وحبه لوطنه
النبيُّ صلى الله عليه وسلم خرج من مكة طريداً مهاجراً مستخفياً يريد أن يصل إلى المدينة، خرج من مكة وهي أحب البلاد إليه فهي موطن ولادته، ومرتع صباه، فهو يحبها كما يحب الإنسان وطنه، ويحبها فوق ذلك لما جعل الله فيها هذا البيت المعمور الذي أعطاه تلك القداسة، وتلك العظمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحب وطنه لكن الله تعالى أراد له أن يهاجر من وطنه ليبني دولة الإسلام، الآن يطمئنه وهو خارجٌ من مكة قال: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ) أي سيرجعك إلى المكان الذي خرجت منه، فمعاد الإنسان هو بيته الذي خرج منه، يطمئنه قبل الخروج، متى تحققت عودته صلى الله عليه وسلم؟ بعد ثلاث عشرة سنة، لكنها تحققت لأنها موعود الله، وموعود الله لا بد أن يتحقق مهما طال الزمن.
(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) وهو الله جلَّ جلاله.

أوجه المواءمة بين (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) والرَّد إلى المعاد :
ما معنى (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ)؟ أي فرض عليك تبليغ الرسالة، وتبليغ القرآن، (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي فرض عليك أن تبلغه للناس:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
(سورة المائدة: الآية 67)

الآمر ضامن
فالله فرض على نبيه القرآن، ما وجه المواءمة أو المناسبة بين (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) والرَّد إلى المعاد؟ وجه المناسبة أن نقول: إنَّ الآمر ضامن، فالذي أمرك بتبليغ الرسالة سيحميك وسيرجعك إلى بلدك منتصراً فاتحاً، وقد خرجت منها الآن طريداً مهاجراً ملاحقاً، فالآمر ضامن، لا يعقل أن يأمرك إنسانٌ بشيء ولا يضمن لك النتائج، فإن لم يضمن لك النتائج فلستَ ملزماً بالتنفيذ، مثلاً: لو قال لك إنسان من أهل الأرض: افعل هذا؟ قلت له: هذه مخالفة وقد أعاقب عليها، ماذا يقول لك: افعل والأمر عندي، أنا ضامن، فإن علمت صدقه فيما يقول فعلت وأنت مطمئن، لأن هناك من يضمن لك النتائج في ألا تعاقب أو ألا تحاسب، هذا في دنيا البشر، فالله تعالى عندما قال لك: (أطعني) فهو يضمن لك النتائج، وعندما قال لك: (لا تَعْصِنِي) فهو يضمن لك النتائج، وعندما قال لك: بَلِّغ وادعُ إلى الله تعالى فهو يضمن لك النتائج، فإياك ثم إياك ثم إياك أن تظن أنَّ الله تعالى يمكن أن يتخلى عنك.
هاجر عليها السلام يوم أسكنها إبراهيم وأسكن ابنه بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، (نادته فقالت: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟) هو الآمر بأن تجعلني وابني في هذا المكان القاحل الذي لا إنس فيه ولا نبت ولا شيء؟ (قال إبراهيم: نعم)، هذا أمر الله، الآن سيدة اليقين هاجر تقول له: (إذاً لا يضيعنا)، فما دام الله هو الآمر فهو الحافظ والضامن جلَّ جلاله.
ثقة المرأة الصالحة برسول الله
تلك المرأة التي زوَّجها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابيٍّ من فقراء الصحابة، لجليبيب، تلك المرأة لما سمعت أباها وأمها يتناقشان في أمر زواجها، وأمها ترفض أن تزوج ابنتها الثرية الجميلة إلى رجلٍ فقيرٍ دميم، لكنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفرضه لكنه خطبَ هذه الفتاة لجليبيب، فلما سمعت الفتاة من خلف خدرها مناقشة أبيها وأمها في شأن زواجها نادت: من خطبني إليكما؟ لم تقل: من الزوج؟ بل قالت: من الخاطب؟ فقالا: رسول الله، قَالَتْ: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ؟ ادْفَعاني إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي، فلما أخبر والدها النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم بموافقتها على الزواج من جليبيب، دَعَا لَهَما رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: "اللهُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا الْخَيْرَ صَبًّا وَلَا تَجْعَلْ عَيْشَهَا كَدًّا كَدًّا".
كَدًّا كَدًّا: أي تعباً.
فالقضية قضية (إذاً لا يضيعنا)، قضية (إذاً لن يضيعني)، لا يضيعك الله تعالى، ولا يضيعك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ عن عائشة رضي الله عنها قالت: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: مَا لَكِ يَا عَائِشُ، حَشْيَا رَابِيَةً؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، قَالَ: لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ }

(رواه مسلم)

النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج إلى البقيع ليلاً، وقد أمره ربه أن يخرج ليستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فعائشة رضي الله عنها تبعته لترى أين سيذهب؟ وهو ظنها نائمة عندما خرج، فتبعته فلما رجع وعلم أنها قد خرجت في إثره تتحسس مسيره وهي تظن أنه ربما خرج إلى زوجةٍ أخرى من زوجاته صلى الله عليه وسلم، فلهدها لهدةً في صدرها، قال: (أخشيتِ أن يحيف الله عليكِ ورسوله؟) هل ظننت أنَّ الله يظلمك أو أن رسول الله يظلم؟ حاشاه جلَّ جلاله، وحاشا رسوله صلى الله عليه وسلم.
دع الأمر لله عز وجل
إذاً قضية (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ) هي قضية حتمية، لأن الله تعالى قد أمرك بأن تبلِّغ الرسالة، فلا يعقل ولا يقبل ولا ينبغي أن يأمرك بالتبليغ ثم يتركك دون أن يحميك، ودون أن يحقق موعوده لك، وهذه الآية لنا منها نصيب، فأنت في كل لحظة قل: إنَّ الذي فرض عليَّ الصلاة سيثيبني عليها، إنَّ الذي أمرني ألا أغش المسلمين سيرزقني، إنَّ الذي أمرني أن أغضَّ بصري سيكافئني بزوجةٍ صالحة، إنَّ الذي أمرني أن أعرض عن مجالس اللهو، ومجالس الفسق والمجون سيكرمني بجلسةٍ صالحة فيها صالحون، وسيكرمني بالجنة يوم القيامة، (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ)
(قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) فدعِ الأمور لله جلَّ جلاله، فهو جلَّ جلاله أعلم بالمهتدين وأعلم بمن هم (فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).

الهدى هدية ثمينة عظيمة من الله :
انظر عندما يتحدث ربنا عن الهدى إما أن يقول:

إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى
(سورة الحج: الآية 67)

الضلال يغرق الإنسان
(إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى) عَلَىٰ هُدًى، أو أن يقول: (مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ) أتى بالهدى، وكأن الهدى، وهو كذلك، هدية ثمينة عظيمة من الله، يُؤتى بها، ثم لم يقل: ومن جاء بالضلال، فالضلال أحقر من أن يؤتى به، لكنه قال: (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) أي غارقٌ في ضلالاته، غارقٌ في إثمه، غارقٌ في عدوانه، فالهدى يؤتى به، لكن الضلال يغرق الإنسان في ظلماته، فقال: (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) وهو مبينٌ لأنَّ الحق واضح، فمتى كان الحق واضحاً كان الضلال مُبيناً، لأنَّ الإنسان عندما يضل بعد أن هداه الله إليه بالكون، وهداه إليه بالفطرة، وهداه إليه بالعقل، وهداه إليه بالشرع، ثم هو يضل بعد ذلك فضلاله مبين، وسيأتي يوم القيامة ليعض أصابعه ندماً عندما يرى كم كانت الأمور واضحة، وكم أعرض هو عن ربه واتجه إلى الضلال المبين.

النبوة رحمةٌ من الله لأنها تأتي لهداية الناس ولإسعادهم في الدنيا وفي الآخرة :
ثم يقول تعالى:

وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ
(سورة القصص: الآية 86)

(وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) هذا استثناءٌ منقطع.
ما معنى استثناء منقطع؟
الاستثناء المتصل أن تقول: جاء الطلاب إلا أحمد، أحمد طالب لكنه لم يأت، فاستثنينا أحمد من مجموعة طلاب، لكن عندما تقول: جاء الطلاب إلا حقائبهم، فالحقائب ليست طالباً أو طلاباً، فهذا استثناءٌ منقطعٌ، فالمستثنى بإلا ليس جزءاً من المستثنى منه، فيسمى استثناءً منقطعاً، كقوله تعالى:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
(سورة الكهف: الآية 50)

فسجد الملائكة (إِلَّا إِبْلِيسَ) إبليس ليس من الملائكة، (إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ولو كان من الملائكة لما عصى ربه، فإبليس ليس من الملائكة فهو من الجن، لكن لما قال: (إِلَّا إِبْلِيسَ) فإبليس استثناء منقطع لأن ما بعد (إِلَّا) ليس جزءاً مما قبلها، فهنا الاستثناء منقطع.
(وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) أي ولكن (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) أي ولكن كان هذا الإلقاء للقرآن عليك رحمةً من الله تعالى لك.
اختيار الله لنبيه الكريم
هذا يعلمنا درساً، النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطلع إلى أن يُلقى إليه الوحي (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ) لم يكن صلى الله عليه وسلم يرجو ذلك، لم يكن يتطلع إليه لكنَّ الله اختاره.
كتعقيب لطيف: أنت إن كنت مديراً أو كنت في مكان قيادي، حاول أن تبحث- هذا تعقيب وليس تفسيراً انتبهوا- عن الشخص المناسب لتضعه في المكان المناسب، أما من يطلب منك دائماً أن تمكنه، وأن تضعه في مكانٍ ما، يتطلع إلى الإمارة، يتطلع إلى الإدارة، يتطلع إلى القيادة، فليس دائماً هو المكان الصحيح له، وغالباً ما يكون ليس مكانه الصحيح، عندنا استثناء واحد في القرآن يوسف عليه السلام:

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 55)

لأن الطَّامة كبيرة، ويوسف عليه السلام قادر على أن يدير الدفة الاقتصادية في هذه السبع العجاف بأحسن إدارة، فهو يملك الخبرة (عَلِيمٌ) وهو (حَفِيظٌ) مؤتمن، أي (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، فلما وجد في نفسه القوة والأمانة فما تركها لغيره (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ) لكن النبوة هي اختيارٌ واصطفاءٌ من الله تعالى:

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ
(سورة الزخرف: الآية 31-32)

النبوة رحمة من الله
فالله سمَّى النّبوة رحمة كما في هذه الآية: ( إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) فالنبوة رحمةٌ من الله، لأنها تأتي لهداية الناس، ولإسعاد الناس في الدنيا وفي الآخرة، لذلك قال: (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ) أنت لم تتطلع ولم تتشوف إلى أن تكون نبياً، لكن ذلك كان رحمة من الله تعالى بك وبالناس الذين ستدعوهم إليه، ردُّ فعلك على هذا العطاء العظيم من الله، ما رد فعله؟ قال: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) لا تقف ظهيراً: أي يقف ظهراً إلى ظهر، مسانداً لهم (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) أي لا تقف في صفهم، ولا تظاهرهم، ولا تساندهم، ولا تعطهم التنازلات من دينك من أجل أن يرضوا (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ).

العلاقة بين ختام السورة و مبتدئها :
انتصار إرادة الله عز وجل
قلنا: إنَّ ختام السورة يتناسب مع مبتدئها، قبل أن نتابع الآيات المتبقية، ما العلاقة الآن بين الختام والمبتدأ؟ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ)، بداية السورة تتحدث عن إرادة الله، وبيَّن إرادته جلَّ جلاله من خلال قصتين: قصة موسى مع فرعون، وقصة قارون مع قومه من بني إسرائيل، قصتان، وفي القصتين تجلَّت إرادة الله القاهرة، كانت إرادة فرعون أن يذبح الأبناء، وأن يستحيي النساء، وأن يجعل أهلها شيعاً، وأن يستضعف طائفةً منهم، وأن يكون فاسداً ومفسداً في الأرض، لكن إرادة الله تعالى كانت: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) فانتصرت إرادة من؟ إرادة الله بلا شك وبلا ريب، انتصرت إرادته جلَّ جلاله فهي الغالبة.
في قصة قارون: إرادة قارون كانت العلو والفساد في الأرض (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) فإرادة الله هي النافذة، الآن هذه الآيات تتوجه- هي سورة مكية- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُسام مع قومه سوء العذاب من قريش:

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
(سورة البروج: الآية 8)

فلما جاء ختام السورة قال: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ) أي كما ردَّ موسى إلى أمه، ثم رده من مدين وأعاده إلى مصر دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ، ومنتصراً على فرعون، كذلك ستعود يا محمد صلى الله عليه وسلم، ستعود إلى مكة التي أخرجتك، والتي نكلت بك وبأصحابك، ستعود إليها فاتحاً منتصراً كما عاد موسى إلى قومه هادياً فاتحاً منتصراً، فهذا التناسب بين المبدأ والختام.
عندما يقول جلَّ جلاله: (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) نعود إلى مبتدأ السورة (طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) يأتي ختام السورة (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ).
(فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) تتناسب مع من كانوا ظهيراً لفرعون الطاغية (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) كما كان من قبلك من أنبياء الله من أولي العزم موسى عليه السلام، هذا التناسب بين المبدأ والختام.

دعوة الله عز وجل النبي إلى الثبات على الدعوة و تبليغ آيات ربه :
ثم يقول تعالى:

وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(سورة القصص: الآية 87)

الابتلاء يحتاج إلى صبر
(وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ) أي لا يمنعنَّك، لا تجعل لأحدٍ باباً لأن يصدك عن تبليغ آيات ربك (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) بعد أن بيَّن له، أي ربنا عز وجل يأمر الآن نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأوامر، وبيَّن له من خلال قصةٍ مشابهة كيف كان الأمر، وكيف أصبح الكافرون والمشركون، وكيف مكَّن الله للمؤمنين، فالآن عندما تأتي الآيات بعد القصة بهذه الأوامر تأتي أبلغ في القلب، وأوقع في النفس، فيقول له: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ) أي لا تجعل أحداً يصدك عن آيات الله، واثبت على دينك، هذا ابتلاء، والابتلاء يحتاج إلى صبر، ابتلي موسى من قبلك فصبر، وأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم تُبتلى فتصبر، فقال: (بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ۖ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ) هذا الثبات، أي ابق ثابتاً على الدعوة إلى الله عز وجل، ولا تلتفت إلى المشككين، ولا إلى المعرضين، ولا إلى المعاندين، فإن الله قد كفاك إياهم كما كفى موسى عليه السلام المعاندين من قومه (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، الآية التي قبلها: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) وهذه (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المشرك هو الذي ترك الإخلاص في نيته، أو الإخلاص في طاعته، ترك الإخلاص في النية أو في الطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت نواياه خالصةً لوجه الله الكريم، وكانت طاعاته خالصةً لوجه الله الكريم.

إخلاص النية لله تعالى :
لا يجري في الكون إلا ما يريده الله
(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الآن السورة تختم بقضية التوحيد، لأننا عندما نقول: إن السورة بأكملها كانت حول إرادة الله النافذة فهذا هو التوحيد، ما معنى أن تقول: إنه لا يجري في الكون إلا ما يريده الله؟ هذا هو التوحيد، لا يجري في الكون إلا ما يريده الله، هذا هو التوحيد، فرعون أراد لكنه خسر، قارون أراد لكنه خسر، مشركو مكة يريدون، يريدون شيئاً لكن مصيرهم إلى الخسارة، هذه الآيات تتنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم متى؟ وهو في طريقه إلى المدينة مهاجراً خائفاً طريداً يخاطبه الله تعالى بهذه الآيات يقول له: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ).
يقول له: (فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ)
يقول له: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أخلص النية لله وادعُ إلى ربك.

الابتعاد عن الشرك و الاتجاه إلى الله توحيداً :
ثم تختم السورة الكريمة ببراعة كما هي سور القرآن كلها:

وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(سورة القصص: الآية 88)

معنى الربوبية
(وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ ) هنا وقف لازم (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ) هذا تبيان، عندمَّا قال: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كأنَّ سائلاً سأل: كيف يكون الإنسان من المشركين؟ فجاء الجواب عندما يدعو مع الله إلهاً آخر، (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ) من الإله الآخر؟ المال قد يكون إلهاً آخر، الطغاة قد يكونون آلهةً أخرى، الأصنام قد تكون آلهةً أخرى، ما معنى إله؟ قلنا: هناك رب وهناك إله، طبعاً وكلاهما لشيءٍ واحدٍ وهو الله جلَّ جلاله، لكن ما معنى الربوبية وما معنى الألوهية؟ قلنا الربوبية: هي ما يأتي من الله إليك، فكل ما يعطيك الله تعالى إياه فهو من اسمه الرب جلَّ جلاله.
من ينزل المطر؟ الرب، من يعطيك مالاً؟ الرب جلَّ جلاله، من يرزقك كليتين تعملان بانتظام؟ الرب الذي يربي جلَّ جلاله، من يعطيك ولداً؟ الرب جلَّ جلاله:

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
(سورة الزمر: الآية 38)

فقط الغبي غير العاقل هو الذي لا يؤمن بأن إلهاً خلق الكون فقط، الموضوع واضح.
الشرك يتعلق بالتوجه
لكن الآن إلى من تتوجه؟ هذه الألوهية، فمن أعجب العجب أن تقول: إنَّ الله خلقني ورزقني ويعطيني ويمدني ثم إنني إذا أردت شيئاً فإنني أطلبه من الطبيب، أو من العالِم، أو من فلان، أو من فلان، هذا من أعجب العجب، هو الخالق والرازق ثم إذا أردت أن تتوجَّه تتوجَّه إلى غيره؟ هذا الشرك، فالشرك ليس خطأً في مفهوم الربوبية، لأنه لا ينكر الربوبية إلا الملحدون، والملحدون قد نحروا عقولهم وهم قلة، لكن الإنكار أو المشكلة تكون في مفهوم الألوهية، فالشرك يتعلق بالتوجه، بالقصد، إلى من تتوجه؟ فإن كنت تتوجه إلى الله وحده فأنت مُوحِّد، وإن كنت تتوجه إليه وإلى شيءٍ آخر معه جلَّ جلاله فهذا هو الشرك، تأخذ بالأسباب، فالأخذ بالأسباب ليس شركاً ما دامت القلوب معلقةً برب الأسباب، الأخذ بالأسباب ليس شركاً ما دامت القلوب متعلقةً برب الأسباب.
ذهابك إلى الطبيب تعبدٌ
يمرض الإنسان فيذهب إلى الطبيب، هل نقول له: ذهابك إلى الطبيب شرك؟ لا، ذهابك إلى الطبيب تعبدٌ لله الذي أمرك أن تتداوى، لكن من الذي يشفي في نظرك؟ في عقيدتك؟ هل الطبيب الذي يشفي أم الله؟ فإن قلت: إنَّ الله هو الذي يشفي وأتعبد الله بالذهاب إلى الطبيب فقد أصبت عين الحقيقة، وإن قلت: إنَّ الله يشفي فلم تذهب إلى الطبيب فقد عصيت الله تعالى، لأنك لم تتداوَ، وإن قلت: إنني أذهب إلى الطبيب لأن الطبيب هو صاحب الخبرة والعلم وهو القادر على شفائي فقد أشركت، فهناك شرك ومعصية، وهناك توحيدٌ وطاعة، فأنت ينبغي أن تكون موحداً مطيعاً، فتتخذ الأسباب طاعةً، وتتجه إلى الله توحيداً، هذا هو الموقف الصحيح.
فقال: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ) المطلق على إطلاقه، من هو الإله الآخر؟ أي إله آخر تجد أنه يعطي أو يمنع، أو يخفض أو يرفع، أو يعز أو يذل مع الله تعالى فهذا من الشرك، وقد يكون الشرك جلياً وهذا معنى قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ
(سورة النساء: الآية 48)

إذا مات الإنسان مشركاً شركاً جلياً فإنَّ الله لا يغفر له شركه، وقد يكون الشرك خفياً كما هو في عالمنا الإسلامي اليوم، فالناس تعتقد أن الأمر بيد فلان، وهذا لا يقوله بلسانه، وإنما يقوله بلسان حاله لا بلسان مقاله، فتنظر في أحواله فتجد أنه متعلقٌ بفلانٍ أو فلانٍ من الناس، يطيعهم ويعصي خالقه لإرضائهم فهذا هو الشرك الخفي.
(وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحقٍّ إلا الله، هذا معنى لَا إِلَٰهَ إِلَّا الله، لَا إِلَٰهَ إِلَّا الله أي لا معبود بحقٍّ إلا الله، لا نعبد إلا الله، لا نتوجه إلا إليه، لا يعطي ولا يمنع، ولا يخفض ولا يرفع إلا الله جلَّ جلاله.

كل شيء هالك إلا الله الحي الدائم الباقي الذي يدوم ولا يفنى :
(لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ) (كُلُّ) لفظ من ألفاظ العموم، بأصول الفقه هناك ألفاظ عموم، فـــ (كُلُّ) من ألفاظ العموم، الآن المضاف إليه (شَيْءٍ) نكرة، وكلمة شيء في الأصل هي أعمُّ كلمةٍ في اللغة كما قيل، أعمُّ كلمةٍ في اللغة، فيصح أن يطلق الشيء على (كُلّ شَيْءٍ) فقال: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا) (إِلَّا) استثناء (إِلَّا وَجْهَهُ) (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ) كل شيء مهما بدا لك كبيراً فسيهلك وسيفنى (إِلَّا وَجْهَهُ) جلَّ جلاله فهو الحي الدائم الباقي الذي يدوم ولا يفنى جلَّ جلاله.
كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه
وقد قيل عن أبي العالية: قال: كل شيء هالكٌ إلا عملاً ابتُغيَ به وجه الله، كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه، أي إلا العمل الذي ابتغيت به وجه الله، فأنت تفنى لكن أعمالك الصالحة التي ابتغيت بها وجه الله تبقى وتدوم معك، وتلقى جزاءها في جنةٍ يدوم نعيمها، وهذا من التفسير الإشاري اللطيف (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

إرادة الله عز وجل هي النافذة دائماً :
الآن (لَهُ الْحُكْمُ) هل رأيت في سورة القصص في القصتين أنَّ الله له الحكم؟ طبعاً واضح جداً، هل كان الحكم لفرعون أو لقارون؟ لا، هل كان لموسى؟ حتى لموسى لم يكن، الحكم كان لله، لأنه هو الذي حكم جلَّ جلاله أن يكون ذلك فكان ما حكم به (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فرده إليها وجعله من المرسلين، (لَهُ الْحُكْمُ) جلَّ جلاله لأنه يحكم بين عباده، ولو قال: الحكم له لاحتملت أن يكون الحكم لغيره معه، لكن عندما قال: (لَهُ الْحُكْمُ) فقدَّم شِبه الجملة على المبتدأ فأفاد ذلك الحصر والقصر، (لَهُ الْحُكْمُ) أي لا يحكم إلا الله، أي إذا وجدت حاكماً يحكم فهذا يحكم بحكم الله، سواءً كان يحكم وفق الشرع أو بخلاف الشرع، لأنه لا يحدث شيءٌ في الكون إلا بأمره جلَّ جلاله، أو بإرادته جلَّ جلاله.
لا يقع في الكون شيءٌ لا يريده الله
لا يحدث شيءٌ في الكون إلا بإرادته، أي لو وجدت قاضياً حكم حكماً بما يوافق شرع الله تعالى، فهذا حكم بإرادة الله، وبأمر الله، وبرضا الله جلَّ جلاله، ولو وجدت حاكماً حكم بخلاف ما أمر الله تعالى، فهذا حكم بإرادة الله، لكنه حكم بما لا يرضي الله، كل حكم في الأرض إنما هو لله تعالى، لكن لحكمةٍ بالغة علمها من علمها وجهلها من جهلها فإن وجدت في الكون حكماً بغير رضا الله تعالى، وبغير ما أمر به جلَّ جلاله، فقد وقع هذا الحكم بإرادته، فلا يقع في الكون شيءٌ لا يريده الله.

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ
(سورة الزمر: الآية 7)


أفعال الله عز وجل حكمة و عدل و مصلحة :
انشغل بما أراده الله منك
قيل: "إنَّ الله تعالى أراد بنا وأراد منا، فاشتغلنا بما أراده بنا عما أراده منا" أراد بك مرضاً، أراد بك فقراً، أراد بك قوةً، أراد بهذا البلد حرباً، أراد بهذه الممتلكات تلفاً، هذا أراد بنا جلَّ جلاله، وأراد منا؛ أراد منا أن نطيعه وألا نعصيه، أراد منا أن نفعل ما يوجب مغفرته وجنته، وأن نترك ما يوجب عقابه وناره، فما الذي فعله كثيرٌ من المسلمين؟ تركوا ما أراده منهم وانشغلوا بما أراده بهم، لماذا يُقتل الأطفال؟ ما ذنبهم؟ يا أخي هذا مما أراده بك، انشغل بما أراده منك بدلاً من أن تنشغل بما أراده بك، لماذا مرض فلان لم يفعل شيئاً؟ وما شأنك أنت بإرادة الله؟ هو الخالق جلَّ جلاله، هذه إرادته ولها حكمة، نوقن أنَّ أفعاله جلَّ جلاله كلها معللة أي لها علة، هل تقبل من مديرك في العمل له منصب ومكانة أن يفعل فعلاً لا علة له ولا حكمة؟ أبداً، فكيف تقبل على الله أن يظلم أو أن يفعل شيئاً لا حكمة فيه؟!

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
(سورة الإسراء: الآية 43)

فالله جلَّ جلاله أفعاله كلها حكمة، وكلها عدل، وكلها مصلحة، جلَّ جلاله، لكن قد نفهمها وقد لا نفهمها لأن علمنا قاصر وعلمه جلَّ جلاله عظيم:

وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(سورة البقرة: الآية 216)

فأنت عندما تريد أن تنشغل فانشغل بما أراده الله منك لا بما أراده بك، ما أراده بك سلِّم إليه الأمر فيما يكن، فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا:
وسلم إلينا الأمر في كل ما يكن فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا
{ أبو المواهب الشاذلي }
لكن انشغل بما أراده منك.

لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(سورة القصص: الآية 88)

(لَهُ الْحُكْمُ) جلَّ جلاله في كل ما يجري في الكون.
(لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالمرجع إليه.
وإذا قال تعالى: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فمعنى ذلك أنه سيحاسب على الأعمال جميعها صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها.

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا
(سورة الكهف: الآية 49)

فالمرجع إليه جلَّ جلاله، وسيسأل، وسيحاسب، وسيحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وتختم السورة بقضية التوحيد، التي كانت القصص فيها عن التوحيد، وبذلك يتناسق المبدأ مع الختام.
والحمد لله رب العالمين