• 2018-08-31
  • الأردن
  • مسجد الصالحين

أخلاق المسلم


الخطبة الأولى

يا ربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحقُّ ما قال العبد وكُلُّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كيثراً.


مكانة الأخلاق في الإسلام
مرتبة الأخلاق في الإسلام
وبعد فيا أيها الإخوة الكرام: فإنَّ الإسلام قد جعل للأخلاق مرتبةً عظيمةً في مراتبه، كيف لا والإنسان يُعبِّرُ للناس عن دينه من خلال أخلاقه؟ فالناس قد لا ترى من المؤمن صلاته، فصلاته بينه وبين ربه، على عظم أهميتها فهي عماد الدين، وقد لا تستفيد بشكل مباشرٍ من صيامه فهي عبادةٌ بينه وبين ربه على عظم أهميتها في الدين، لكن الإسلام عندما ينقلب سلوكاً وأخلاقاً بين الناس فهذا ما يراه الناس من الإسلام، وهذا ما عبرت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها حينما وصفت رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ:

{ كان خُلُقُه القُرآنَ }

(أخرجه أحمد)

كان يتمثل القرآن واقعاً في حياته، كان صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي على الأرض تجد أخلاق القرآن في سلوكه وفي تعاملاته وفي حديثه وفي تعامله مع زوجته ومع أولاده ومع جيرانه، فالأخلاق أيها الإخوة؛ تحتل مكانةً مهمةً في دين الله تعالى، وحينما أراد ربنا جلَّ جلاله أن يصف نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وقد آتاه من المعجزات والبيِّنات وآتاه من حسن الصورة وجمالها ما آتاه، حينما أراد أن يمتدحه امتدحه بأخلاقه فقال:

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
(سورة القلم: الآية 4)

أيها الإخوة الكرام: وفي آيةٍ ثانيةٍ يخاطب ربنا جلَّ جلاله نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
(سورة آل عمران: الآية 159)

الرحمة تكون بعد إحسان الصلة بالله
أي بسبب رحمةٍ استقرت في قلبك ولن تأتي الرحمة إلا من خلال حسن الصلة بالله تعالى، فأنت عندما تحسن صلتك بالله تستقر الرحمة في قلبك، فالله هو الرحيم وهو الرحمن فإذا أحسنت الصلة به من خلال الصلاة، من خلال الأذكار، من خلال قراءة القرآن جعل في قلبك هذه الرحمة، رحمةً من رحماته جلَّ جلاله، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ) من خلال الاتصال بالله (لِنتَ لَهُمْ) أصبحت ليناً لهم فالتفوا حولك وأحبوك وفدوك بأنفسهم وبأرواحهم وبأموالهم.
وفي المقابل (وَلَوْ كُنتَ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك (وَلَوْ) (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لتركك الناس على أنك نبيٌّ مرسل وعلى أنك مؤيدٌ بالمعجزات ولكن لو كان في القلب فظاظةٌ وغلاظةٌ للناس لتركوك وانفضوا من حولك.
كسب محبة الآخرين باللين والمودة
هذه الآية أيها الإخوة؛ يحتاجها كل إنسانٍ في حياته، يحتاجها المعلم في صفه؛ ارحم الطلاب يلتفوا من حولك ويحبوك، كن فظَّاً غليظ القلب ينفضوا من حولك ويكرهوك، يحتاجها الأب في بيته؛ كن رحيماً يحبك أولادك ويلتفوا من حولك، لا قدر الله كن فظَّاً غليظ القلب ينفضوا من حولك، تحتاجها الأم، يحتاجها مدير المؤسسة ومدير الشركة وكل من وُلِّي منصباً ولو على شخصين، بالرحمة التي تنعكس أخلاقاً وليناً ومودةً وحباً وكلمةً طيبةً، يلتف الناس حولك وبالفظاظة والغلاظة ينفض الناس من حول هذا الفظ الغليظ ويتركوه ولا يعبؤوا به.

الحلم سيد الأخلاق
أيها الإخوة الكرام: أما سيد الأخلاق فهو الحلم، الحلم سيد الأخلاق، بل هو يجمع الأخلاق كلها، جمعت الأخلاق كلها في الحلم، فالحليم صبور، والحليم شجاع، والحليم صاحب رؤيةٍ ثاقبةٍ، والحليم رحيم، لذلك قالوا: الحلم سيد الأخلاق.
وحينما جاء الأَشَجُّ عبْدُ الْقَيْس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً؛ كما في صحيح مسلم: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاة }

(رَواهُ مُسلم)

فالحليم يحبه الله تعالى وَالأَنَاة إلا في شأن الآخرة:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ
(سورة آل عمران: الآية 133)

وَالأَنَاة إلا في شأن الآخرة فالتأني من الرحمن والعجلة من الشيطان، "إِنَّ فيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاة"، وفي حديث البخاري:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوْصِنِي، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لاَ تَغْضَبْ }

(رواه البخاري)

وصية النبي صلى الله عليه وسلم
يطلب وصيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، (قَالَ: لاَ تَغْضَبْ) هي وصيةٌ واحدةٌ بكلمتين اثنتين (لاَ تَغْضَبْ)، (فَرَدَّدَ مِرَارًا) أعاد السؤال أَوْصِنِي يا رسول الله، (قَالَ: لاَ تَغْضَبْ) الجواب واحد، قال الرجل كما في رواية أحمد: (ففكرت حينما قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَغْضَبْ" فإذا الغضب يجمع الشر كله) الشر كله في الغضب.
أيها الإخوة الكرام: كان أحد العرب في الجاهلية يقول:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
{ عمرو بن كلثوم }
والجهل هنا ضد الحلم، هذا شعار الجاهليين، وعصر الجاهلية لم يكن كما يتخيل البعض خالياً من العلم؛ فكان فيه من الشعراء والفنون المختلفة، لكن عصر الجاهلية سمي جاهليةً من الغضب ضد الحلم، أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا، هذا شعار الجاهليين، أما شعار المسلمين فهو الحلم، فإذا جهل أحدٌ علينا قابلنا جهله بحلمنا وصَفَحنا وعَفَونا وتَنَازلنا.

آثار الغضب
أيها الإخوة الكرام: حُكِيَ أنَّ إبليس لعنه الله قال: متى أعجزني ابن آدم فلن يعجزني إذا غضب؛ لأنه ينقاد لي فيما أبتغيه منه ويعمل بما أريده وأرتضيه، فإذا غضب الإنسان فقد السيطرة على نفسه فأصبح ألعوبةً بيد الشيطان فيأخذ منه ما يريد، يأخذ منه معصية الله تعالى.
الآثار السلبيةٌ للغضب
أيها الإخوة: الغضب له آثارٌ سلبيةٌ جداً مؤلمة في الدنيا والآخرة، كم من غاضبٍ طلَّق زوجته ولا يريد طلاقها؟ وكم من غاضبٍ ضرب أولاده وهو يرحمهم ويحبهم ضرباً مبرحاً؟ وكم من غاضبٍ ضرب زوجته التي أكرمه الله تعالى بها في بيته؟ وكم من غاضبٍ هجر وقطع رحمه حين غضبه؟ وكم من غاضبٍ أساء إلى جيرانه ثم ندم ندامةً عندما يراهم وقد رأوه وهو على حالة الغضب؟ وكم؟ وكم؟ وكم من غاضبٍ سفك دماً معصوماً حراماً وهو غاضب؟ الغضب يجمع الشر كله أيها الأحباب.

{ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَهَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ؟ قَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ: فَقَالَ: وَهَلْ تَرَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ }

(صحيح مسلم)

(اسْتَبَّ رَجُلاَنِ) أي تبادلا المسبَّة، (فَقَالَ الرَّجُلُ: وَهَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ؟) يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرفع صوته في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَهَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ؟)
قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
(سورة الحجرات: الآية 2)

فوقع في إحباط العمل وهو غاضب فرفع صوته في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

علاج الغضب
1. كظم الغيظ
أيها الإخوة الكرام: آثار الغضب الذميمة لا يمكن إحصاؤها، وأما علاج الغضب فيكون أولاً في كظم الغيظ، أيها الإخوة الكرام: كل إنسانٍ قد يغتاظ من شيءٍ، قد يزعجه شخصٌ ثقيلٌ، أو قد يزعجه موقفٌ لا يرتضيه لنفسه، أو قد يزعجه شيءٌ من عَرَضِ الدنيا فيغتاظ من داخله ويشعر بالغليان يريد أن ينتقم؛ العلاج أن يكظم الغيظ.
أيها الأحباب: الدنيا كلها نعيشها تحت قوله تعالى:

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ
(سورة النازعات: الآية 40-41)

كظم الغيظ هو علاج الغضب
فكل ثمرة الآخرة التي ننتظرها: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) هذه الثمرة التي ننتظرها ما ثمنها الذي ندفعه؟ أن ننهى (النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ)، نفسك تريد شيئاً وأنت وفق الشرع لا تبتغيه فانهها عن الهوى، عن هوى النفس، نظرةٌ محرمةٌ (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ)، مالٌ من شبهة (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ)، غيظٌ تريد أن تمضيه وأن تنفجر في وجه من أساء وأن تنتقم أشد انتقام وأن تكيل له الصاع بعشرة (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ) فكظم الغيظ هو علاج الغضب، قال تعالى:

وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
(سورة آل عمران: الآية 134)

يروى أن خادماً لعلي بن الحسين كان يسكب الماء له فوقع الإبريق من يده على رأس علي بن الحسين فشجَّه، فرفع عليٌّ رأسه إليه غاضباً، فقال الخادم: يا سيدي إن الله تعالى يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، قال: قد كظمت غيظي، قال: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال: عفا الله عنك، قال: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال: أنت حرٌّ لوجه الله.
هذه مراتب: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فأولى المراتب: ألا تمضي غيظك، أن تكتمه، والمرتبة الثانية: أن تعفو، فوق كظم الغيظ تقول: قد عفوت عنك، والثالثة: أن تحسن له فإذا أحسنت له أسرت قلبه (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما في الصحيح:

{ عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ }

(رواه الإمام أحمد)


2. الإكثار من ذكر الله
أيها الإخوة: ومن علاج الغضب أن يكثر الإنسان من ذكر الله وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى:

وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ
(سورة الكهف: الآية 24)

قال عكرمة وهو من التابعين، قال: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي إذا غضبت.

{ إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ }

(أخرجه أبو داود)


3. الوضوء وتغيير الحالة
من علاج الغضب أن يتوضأ الإنسان، ومن علاج الغضب أيها الإخوة:؛أن يغير الإنسان الحالة التي هو عليها

{ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ }

(رواه أَبُو دَاوُدَ)

وهذا من تغيير الحالة، فالإنسان الذي يكون في موقف ويقع في غضبٍ شديدٍ فليتحول؛ إن كان قائماً فليجلس في مكان آخر، إن كان جالساً يَضْطَجِعْ يغير الحالة التي هو عليها حتى يهدأ بعض غضبه.
أيها الإخوة الكرام: إذاً من علاج الغضب: كَظَمَ الغَيْظ ، ومن علاج الغضب: الإكثار من ذكر الله والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ومن علاج الغضب: الوضوء والاغتسال، ومن علاج الغضب: تغيير الحالة التي يكون الإنسان عليها.

يمكن لكل إنسانٍ أن يصبح حليماً
وقد يسأل سائلٌ أيها الإخوة فيقول: أنا شخصٌ غضوبٌ هكذا خلقني الله، أنا لا أتحمل تثور ثائرتي فوراً، نقول له: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني وهو صحيح:

{ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ }

(رواه الطبراني)

كل إنسان قابلٌ للتعلم
هل يستطيع الإنسان أن يقول: أنا جاهل هكذا خلقني الله لا أستطيع أن أتعلم؟ نقول له: تستطيع أن تتعلم، اقرأ وتعلم، كل إنسان قابل ليتعلم، وأيضاً كل إنسانٍ قابلٌ ليصبح حليماً غير غضوب بالتَّحَلُّم، بممارسة الحلم، مرَّةً بعد مرَّةً، يغضب المرَّة الأولى فيغير حالته ويكظم غيظه، في المرَّة الثانية أسهل، في الثالثة أسهل، في الرابعة أسهل، ثم يصبح الحلم سجيَّةً فيه ويصبح حليماً بعد أن كان غضوباً وهكذا هو الإيمان يحول الإنسان من حالٍ إلى حالٍ.
أيها الإخوة الكرام:

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ" }

(متفق عليه)

(وَعَلَيْهِ بُرْدٌ) رداءٌ، (نَجْرَانِيٌّ) من نجران، (غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ) أمسكه، (ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ) بهذه الفظاظة، (مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ) أريد مالاً، ( ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ) هذه أخلاق النبوة فمن أراد أن يتخلق بأخلاق النبوة فدونكم هذه الأخلاق والحلم؛ التفت له وأمر له بعطاء وانتهى الأمر.

المؤمن يملك نفسه عند الغضب ويغضب وينتقم لله فقط
أيها الإخوة الكرام:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ }

(متفق عليه)

(لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ) الذي يصرع الناس، يقولون: هذا شديد، قوي، لا، (لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) هذا هو الشديد القوي الذي يستطيع أن يملك نفسه عند الغضب.

{ عَنْ عَائِشَةَ رضِي اللهُ عنها قَالَتْ: ما ضَرَبَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ شيئًا قَطُّ بيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ، وَما نِيلَ منه شيءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ، إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ }

(صحيح مسلم)

المؤمن يغضب لله وينتقم لله
( إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبيلِ اللهِ) أخلاق الجهاد شيءٌ أخرٌ، (وَما نِيلَ منه شيءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِن صَاحِبِهِ،) لم ينتقم النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه أبداً، قال: (إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شيءٌ مِن مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.) هذه علامة الإيمان أيها الإخوة؛ انظر في نفسك هل تنتقم لنفسك أم تنتقم لدين الله؟ إن غضبت إذا انتهكت محارم الله فهذه علامة الإيمان، وإذا كان الإنسان يغضب لنفسه فحسب ولا يغضب إذا انتهكت حرمات الله فهذه علامة أنانيةٍ مفرطةٍ وضعفٍ في الإيمان، المؤمن يغضب لله وينتقم لله، أما لنفسه فيتنازل ويخفض جناحه للمؤمنين.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل عصيانك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم انصر المستضعفين في كل مكان، اللهم بفضلك ورحمتك أطعم جائعهم واكسُ عريانهم وارحم مصابهم وآوِ غريبهم وأنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.