• الأردن
  • 2022-09-19
  • عمان
  • محاضرة في الأردن

العلم ثلاث ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي و أُسَلِّم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين.

السعي إلى العلم:
وبعد؛ أيها الأكارم: كلنا يسعى إلى العلم، العلم ضد الجهل، وما أحد يحب أن يكون جاهلاً، الإنسان يسأل حتى يتعلم، والله تعالى قال:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
[ سورة النحل]

وأثبت الحاجة إلى السؤال في كتابه في آيات كثيرة:

يَسْأَلُونَكَ....(189)
[ سورة البقرة]

يَسْتَفْتُونَكَ... (176)
[ سورة النساء]

العلم حقيقة مقطوع بصحتها
فالإنسان يسأل ليتعلم، ما العلم؟ العلم حقيقة مقطوع بصحتها، تطابق الواقع، عليها دليل، لو لم يكن مقطوعاً بصحتها لكانت وهماً، أو شكاً، أو ظناً، أو غلبة ظن، الوهم ثلاثون بالمئة مثلاً، قد يكون الأمر كذا، أتوهم أنه كذا، ثلاثون بالمئة، الشك يستوي فيه الطرفان، ربما نعم وربما لا، خمسون بالمئة، الظن فوق الشك، ستون، سبعون بالمئة، غلبة الظن قد تصل إلى تسعين بالمئة، لكن العلم حقيقة مقطوع بصحتها، المعادن تتمدد بالحرارة هذا علم، لأن هذه الحقيقة أصبحت واقعاً، يطابق الواقع، وعليه أدلة، وليس دليلاً واحداً، أما أحياناً الإنسان يقول لك: هذا علم هو بعد ذلك ينظر، هذا الأمر قيد البحث والدراسة في الطب، في العلوم الأخرى، في الفيزياء، في أي مجال، تطابق الواقع عليها دليل، لأنها إن لم تطابق الواقع كانت جهلاً، عنده معلومات، والواقع يشهد بخلافها، معناها ليست معلومات صحيحة أصلاً، فهي ليست علماً، عليها دليل لأنها إن لم يكن عليها دليل فهي تقليد.
لو قال لك إنسان: أنا عالم بالتكييف، قلت له: ما شاء الله ! أين درست التكييف؟ قال: والله ما درست، لكن قبل أن أنام أمسك الريموت كنترول أضغط الزر فيأتي الهواء البارد، وأستمتع به، إذاً أنت لا يوجد عندك أي دليل بالتكييف ولا أي معلومة، أنت منتفع فقط، لكن أنت لست عالماً.

العقيدة لا تؤخذ تقليداً بل تؤخذ علماً:
التوحيد علم، ربنا عز وجل قال:

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
[ سورة محمد]

لأنه لو قال: قل! لكان تقليداً، ولكان كل أصحاب الضلالات لهم حجة عند الله.

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)
[ سورة الإسراء]

لكان كل إنسان ضال في الأرض قال:

إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
[ سورة الزخرف]

العقيدة تؤخذ علماً
إلا العقيدة، العقيدة لا تؤخذ تقليداً، تؤخذ علماً، فالعلم حقيقة مقطوع بصحتها، تطابق الواقع، عليها دليل، لو لم يُقطع بصحتها فهي وهم، أو شك، أو ظن، أو غلبة ظن، لو لم تطابق الواقع لكانت جهلاً، لو لم يكن عليها دليل لكانت تقليداً، والتقليد ليس علماً مع أنك قد تنتفع به، إنسان عمل سكة حديد، ترك فواصل فيها لأنه سمع أن المعادن تتمدد بالحرارة، نجا، الآن سألته: لماذا تركت فواصل؟ قال: رأيت أحدهم يفعل ذلك ففعلت مثله، نجوت.
التقليد في السلوك ينجيك، لكنه ليس علماً، أما لو أن إنساناً ما احترم العلم سيعاقب بالعلم نفسه، لو قال قائل: أنا لن أعبأ بالقانون المعادن تتمدد بالحرارة، وبنى بناء وما جعل فواصل تمدد سينهار البناء، فالتقليد قد يفيدك، لكنه ليس علماً قوياً تحاجج به.
لذلك نحن اليوم مع شبابنا، مع الجيل القادم بحاجة إلى العلم وليس مجرد التقليد، لعل جداتنا وأجدادنا كان عندهم علم توحيد عظيم جداً، لكن لا يوجد عندهم تفاصيل النقاش، ونجوا به، وربما إيمانهم أفضل من إيماننا، قالوا لعجوز: أتعلمين من هذا؟ قالت: من هذا؟ قالوا: هذا عنده ألف دليل على وجود الله، قالت: والله لو لم يكن عنده ألف شك لما احتاج إلى ألف دليل، فسمعها فقال: اللهم ارزقنا إيماناً كإيمان العجائز، لكن العصر اليوم فيه شهوات وفيه شبهات كثيرة، لذلك لا بد من تعميق العلم أكثر على كل حال، فالعلم حقيقة مقطوعة بصحتها، تطابق الواقع، عليها دليل.

تقسيمات العلم:
ربط العلوم كلها بالله
الآن تقسيمات العلم كثيرة؛ كل يقسم العلم حسب وجهة النظر التي ينظر منها إلى العلوم، في الشرع أعظم تقسيم هو تقسيم الإمام الغزالي، قال: العلم علمٌ به، وعلمٌ بأمره، وعلمٌ بخلقه، علمٌ به جلّ جلاله، وعلمٌ بأمره، افعل ولا تفعل، وعلمٌ بخلقه، ربط العلوم كلها بالله، وهذا فعلاً من فقه الإمام الغزالي، ما دام الله تعالى هو الخالق جل جلاله إذاً أي علم سيتصل به بأي باب من الأبواب، فالذي يتعلم الفيزياء هو يتعلم خلق الله، والذي يتعلم فقه العبادات يتعلم أمر الله، والذي يقوم في الليل يتعرف إلى الله، فالنتيجة أي علم تتعلمه هو متصل به جل جلاله، فقال: علمٌ به، وعلمٌ بأمره، وعلمٌ بخلقه، العلم به أشرف العلوم وأصل العلوم، ولا ينفعك علم إلا بعد العلم بالله، لو بلغ الإنسان في علوم الشريعة أعظم منصبٍ في الأرض، المفتي العام مثلاً، المناصب الدينية كثيرة، هذا بعلم الشريعة، لن ينفعه علمه بالشريعة إذا لم يكن عنده علم بالله، ستجده في أقرب فرصة يفتي ليرضي الأقوياء، يفتي ليرضي الأغنياء، ستجده في أقرب فرصة يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ستجده في أقرب فرصة يستغني عن دينه جُبناً أو خوفاً، لأنه لا يوجد علم بالله، ومهما تعلم الإنسان من علوم الخليقة لو صار الطبيب الأول بجراحة القلب بالعالم، وما عنده علم بالله فإنه يستطيع في الدنيا أن يمارس عمله , وأن يصبح له اسم لامع:

كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)
[ سورة الإسراء]

لكنه سيخسر خسراناً مبيناً يوم القيامة، فالعلم به جلّ جلاله أصل كل علم، وهو أشرف العلوم، وهو النجاة، ولن ينجو إنسانٌ إلا بالعلم بالله، وأما العلم بأمره فهو سبيل النجاة والفوز في الآخرة، إذا تعلم وتعرف إلى الله لكنه لا يعرف ماذا يريد منه الله، افعل ولا تفعل، لم ينجُ، أي لم يعلم مثلاً أن الصلاة فرض، لم ينجُ، فالعلم بأمره مهم جداً لتسلك الطريق، أي العلم بالله عرفك بالخالق، كيف أصل إليه؟ العلم بأمره، فهما متكاملان.
وسنأتي إلى العلم بخلقه، يحتاج إلى تفصيل.

أحكام العلوم السابقة في الشريعة:
الآن ما أحكام هذه العلوم في الشريعة؟ العلم به؛ واجب عيني على كل مسلم مكلف، واجب عيني، أي لا يمكن لإنسان أن يترك هذا العلم، وقد يقول قائل: ما دليلك على أن العلم به علم؟ اسمعوا إلى قوله تعالى قال:

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
[ سورة الزمر ]

أصل العلوم العلم به
الله تعالى في هذه الآية سمّى الإنسان الذي يقوم في الليل (سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) خوفاً وطمعاً، رغباً ورهباً، سماه عالماً، قال: هذا عالم، تقول لي: والله هذا ما أخذ أي شهادة في العلوم الشرعية، لا يوجد عنده معلومات هو قد يكون أُميّاً في علوم الخلق، لكنه عالم بنص الآية، لأنه (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) وصل لأصل العلوم، أنا هنا لا أهون أبداً من العلوم الأخرى، وسأتكلم على ضرورتها بعد قليل، أتحدث عن أصل العلوم، أشرف العلوم، أقدس العلوم، العلم الواجب الذي لا ينجو إنسان دونه، أن يتعرف إلى خالقه، أصل العلوم العلم به، والأمة ما تراجعت، وما قصرت في تطبيق دينها، وما تراجعت حتى في دنياها إلا من تقصير في العلم به جل جلاله، اليوم اسأل ملياراً ومئتي مليون مسلم في الأرض: الكذب حرام أم حلال؟ حرام، قولاً واحداً، هل هناك إنسان يقول الكذب حلال؟ لماذا كثير من المسلمين يكذبون إذاً ما دامت المعلومة موجودة؟ نقص في العلم به، لا يعرف الآمر، يعرف الأمر لكنه لا يعرف الآمر، في اللقاء الماضي عندما تحدثنا عن بقرة بني إسرائيل قلنا إن الله بدأ الكلام:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
[ سورة البقرة ]

العلم بالله يحجزك عن محارم الله
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) لو سمعوا الكلام (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ) لبادروا إلى التنفيذ فوراً ، لكنهم ما انتبهوا إلى الآمر، لذلك كان الصحابة يقولون: لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على من اجترأت، فالعلم بالله هو العلم الذي يحجزك عن محارم الله، بمعلومات قليلة بالعلم بأمره تستقيم بها على أمر الله، ومعلومات كثيرة دون العلم به تتفلت منها، اليوم مجمل المسلمين يعلمون أن الربا حرام وكثير منهم يرابون، مجمل المسلمين يعلمون أننا مأمورون بغض البصر وأكثرهم يطلقون البصر، معظم المسلمين يعلمون أن الغش حرام ويغشون المسلمين أنفسهم وقد يصلي الواحد منهم في الصف الأول في المسجد، إذاً أين المشكلة؟ الخلل في أن هؤلاء عرفوا الأمر لكنهم لم يعرفوا الآمر.
ونضرب مثالاً على هذا دائماً على هذا الأمر من واقع بعض بلادنا، أن أحدنا قد تأتيه ورقة صغيرة، مكتوب عليها: تعال يوم الثلاثاء الساعة الثامنة صباحاً هناك رسالة استلمها بالبريد المسجل، هذا الرجل قد يأتي وقد لا يأتي، يقول لك: أنا لي صديق بالبرازيل هذا إلى الآن متعلم على الرسالة بالبريد المسجل، يجب أن يبعث لي التهنئة بالعيد برسالة بريدية، إلى الآن لم يتعلم على الإيميل، لن أنزل، والآن الدنيا رمضان، وأريد أن أنزل، وأنا صائم ، أذهب لأحضر الرسالة وتكون في النهاية: كل عام وأنتم بخير، لا يوجد غيره، كل سنة يبعثها، ما اهتم بالأمر، لأن الموقع هو مدير البريد، رسالة بالحجم نفسه بالمعلومات نفسها: تعال الساعة الثامنة صباح يوم الثلاثاء عندك مراجعة لــ... والتوقيع مدير الــ.... لا ينام الليل، قبل أيام، ماذا يريدون مني؟ لعلي تكلمت كلمة غير مناسبة، لعلي يوم كنت بالمكان الفلاني أحدهم صورني وأرسل الصورة، لعل، لعل، لعل، يحسب مئة حساب، ما الذي اختلف بالأمر؟ الأمر واحد، إنه الآمر.
العلم بالله يحتاج إلى صلة بالله عز وجل
إذاً العلم بالله، من هو الله؟ الخالق، البارئ، المصور، الذي خلقنا، الذي أعطانا، الودود، الرحيم، الغفور، أسماؤه الحسنى، أن تقف في الليل فتناجيه، أن تقرأ القرآن الكريم، أن تعمل الأعمال الصالحة من أجله، أن تخدم عباده من أجله، أن تدعوه، أن تناجيه، هذا علم، علم مغيب اليوم بالساحة، لا يوجد إنسان إذا رأى شخصاً يصلي قيام الليل يقول لك: ما شاء الله عالم ! عالم، طبعاً عالم، هذا هو العلم الحقيقي أصلاً، لا يوجد إنسان إذا رأى إنساناً دائماً صلواته يحافظ عليها، بوقتها، بخشوعها، بتمامها، يقول: عالم، نقول: عالم على الطبيب، على الفيزيائي، هذا هو العالم الأصل، هذا أصل العلم، لأنه خائف من ربه، الدعاء، المناجاة، العلم بالله لا يحتاج إلى كتب، العلم بالله يحتاج إلى صلة بالله عز وجل، الصلاة علم بالله، الذكر علم بالله، التفكر بخلق السماوات والأرض علم بالله، الأعمال الصالحة التي يخفيها فلا تعلم يمينه ما أنفقت شماله علم بالله، الدعاء علم بالله، كل نظر في شيء يوصلك إلى الله فهو علم بالله تعالى، يجب أن ننمي جانب العلم بالله تعالى، هذا أهم علم، العلم بالله، وهذا حكمه الوجوب، لأنه لا يستقيم شيء إلا به، أما العلم بأمره فهو بين الوجوب والندب، وجوب وندب، الواجب هو ما تحتاجه، والمندوب هو ما لا تحتاجه، أي كل البشر يجب أن يتعلموا أحكام الصلاة، الوضوء، الطهارة، هذا وجوب، لأن الإنسان إذا جهل أحكام الصلاة لن تصح صلاته، والصلاة عماد الدين، جاء رمضان يجب أن يعلم أحكام الصيام، عنده سعة، وسع الله عليه يجب أن يعلم أحكام الزكاة، أراد أن يحج يجب أن يتعلم الحج، هذه العبادات، هذا علم وجوب، العبادات وجوب لأنه لا يمكن أن يعبد الله كما أمر الله إلا من خلال العلم، هذا ينبغي أن يطلبه، واجب.
كل إنسان يجب عليه أن يتعلم ما يخص مهنته
الآن حرفته ما هي؟ يقول لك: أنا طبيب، هناك أحكام في الطب دقيقة جداً يجب أن تتعلمها، أنت تحديداً، أنا ليس عليّ أن أتعلمها، أنا لست طبيباً، لكن أنت يجب أن تتعلمها، كيف تتعامل مع المريضة، هناك بعض الأطباء لا ينتبه إلى أنه يجب أن ينظر فقط إلى المكان الذي يحل النظر إليه للضرورة، لا يجب أن تتكشف المرأة أمامه، على سبيل المثال، لا يعلم بعض أحكام الطب إن كان مثلاً بالنسائية، أطفال الأنابيب، ما أحكامها، ما المستجدات الفقهية، متى يحل نقل الأعضاء، حسب اختصاصه يجب أن يتعلم وإلا أخطأ، التاجر إذا دخل السوق ولم يتفقه أكل الربا شاء أم أبى، التاجر عنده أحكام البيوع يبيع ويشتري، يجب أن يعرف ألا يكون هناك غش بالبيع، فكل إنسان يجب عليه أن يتعلم ما يخص مهنته، الآن هذا الوجوب، باقي العلوم، والله يوجد أحكام السياسة الشرعية، الحدود، القصاص، ما درسها، يندب أن يدرسها، لأن هذا علم شريف جداً، علم الشريعة، لكن لا يأثم لو تركها لأنه لا يحتاجها، إذا احتاج شيئاً منها سأل عنها أهل الذكر، لكن العبادات أتقنها، والأحكام المتعلقة بحرفته أتقنها، الباقي على الندب، إذا تعلمها أُجر، وإذا ترك تعليمها لم يأثم، هذا العلم بأمره.
العلم به يحتاج إلى المجاهدة، قالوا: جاهد تشاهد، أي جاهد نفسك وهواك تشاهد من خيرات الله ما تشاهد، ومن فضل الله، جاهد تشاهد.

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
[ سورة النحل]

أي قيام الليل يحتاج إلى جهاد، أداء الصلوات في جماعة يحتاج إلى جهاد، الصلاة النوم باكراً، صلاة الفجر تحتاج إلى مجاهدة، هذا يحتاج إلى جهاد النفس والهوى، أن يحمل الإنسان نفسه على طاعة الله حملاً، لأن النفس لا تطاوع الإنسان دائماً.
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصحَ فاتهمِ
{ قصيدة البُردة للإمام شرف الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد البوصيري }
لا تصدق أنهما ينصحان؛ النفس والشيطان، هم ينصحانك لراحة جسدك لكن ليس لسعادة أخراك ودنياك.
فالأصل في العلم به هو المجاهدة، وليس المدارسة، العلم بأمره يحتاج إلى مدارسة، أي أحكام العبادات، يفتح الكتاب، أو يحضر درس علم، يحفظ شروط الصلاة، أركان الصلاة، ما معنى الشرط، ما معنى الركن، مصلٍ شك بالثالثة أم بالرابعة، أي ركعة هو؟ ماذا يفعل؟ سجود السهو كيف؟ يبني على الأقل، ثم يسجد السهو، مثلاً.
إذا جاء رمضان الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إذا أخطأ ماذا يترتب عليه، إذا نسي ماذا يترتب عليه، الإبرة تفطر أم لا تفطر، إلى آخره، هذه معلومات فقهية تحتاج إلى مدارسة، كتاب، فقيه يعلمك، سؤال تسأله، هذه مدارسة، نقوم بهذا الفعل بشكل يومي، السلام عليكم شيخنا: في بيع هذا، والله لا يجوز هذا ربا، حسناً نحن لا نريده، مثلاً يحتاج إلى مدارسة، سؤال وجواب، لكن لا يطبق، الإنسان لا يطبق الأمر إلا إذا كان يعرف الآمر، لذلك بدأنا بالعلم بالله.

أنواع العلم بخلقه:
العلم الجائز هو الذي أجازه العلم بأمره
أما العلم بخلقه فهو نوعان، ابتداءً، جائز ومحرم، الجائز هو الذي أجازه العلم بأمره، نرجع إلى العلم بأمره نسأل الشرع، جاءنا شخص قال: أريد أن أحضّر دكتوراه في الفيزياء يجوز؟ يجوز، لا نقول واجب أو غير واجب، يجوز، لا يوجد مانع، يوجد معمل يصنع خموراً يعمل دورة، يعلمنا كيف نخمر العنب، لا يجوز، هذا علم بخلقه لكن هذا العلم حرام، هناك امرأة قالت: يوجد علم خاص للرقص مع الموسيقى الهادئة، لا يجوز، فانتبه، فالعلم بخلقه منه ما هو جائز، ومنه ما هو محرم، نسأل عن ذلك من خلال العلم بأمر الله.
الآن الجائز منه تكتنفه الأحكام الفقهية، فقد يكون فرضاً، وقد يكون مندوباً ، الجائز منه، كيف فرض؟ هل هناك علم بخلقه فرض؟ نعم، إذا كنا في بلد نعيش فيها وهناك اختصاص بالطب غير موجود، فصار هناك فرض كفاية على الأمة أن تُعلم أحد أبنائها هذا الاختصاص الطبي حتى تعالج المرضى، فإذا فعلوا أثيبوا جميعاً، وإذا تركوا أثموا جميعاً، الأمة إذا لم تنمِ نفسها بالاختصاصات الطبية، الهندسية، إلى آخره ما تحتاجه الأمة، إذا كان هناك نقص يجب أن يسعى الجميع في ذلك، فكل إنسان يقوم بدوره يصبح هذا العلم واجب التعلم لأن الأمة بحاجته، وقد قصر الناس فيه، أما إذا كان موجوداً، والله يوجد بالبلد أو في القرية التي نحن فيها يوجد عشرة أطباء، الآن يندب أن يتعلم الإنسان العلم، أو يباح له أن يتعلمه، لكن إذا تركه لا يأثم، ولا يأثم أحد.

العلم بالله تعالى أعظم العلوم:
هذا مخطط العلوم كما صنفها الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، علم به، وهو أشرف العلوم، وأقدسها، وخيرها، وأساس النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وعلم بأمره وهو أصل للنجاة بين يدي الله تعالى، افعل ولا تفعل، المنهج التفصيلي الذي ينبغي أن يتعلمه الإنسان العبادات.
الشاب يريد أن يتزوج، يجب أن يعلم أحكام الزواج، حتى لا يَظلم أو لا يُظلم، حقوقه وواجباته، ماذا لزوجته عليه، وماذا له عليها، حتى لا يطلب شيئاً ليس له، أو يظلمها في شيء هو لها، مثلاً تزوج وهو قد فهم أنه بالزواج يملك زوجته وما تملك، ليس صحيحاً، ذمتها المالية مستقلة عنك، تزوج واعتقد أنه وإياها ينفقان على البيت معاً، نصف بنصف، غير صحيح، هي تنفق استحباباً، أنت المكلف، إن أنفقت على العين والرأس، إن تركت لا تستطيع أن تجبرها، تزوج وهو لا يعلم أن للمرأة الحق في التصرف بمالها، مالها الخاص، لها ورثة من أهلها أرادت أن تهدي منها لأحد، لا أسمح لك أن تعطي أحداً، مالي، هذه نماذج، عندما لا يتعلم الإنسان العلوم المتعلقة بالزواج مشكلة.
الآن دخل بعالم العمل يجب أن يتعلم الأحكام الشرعية المتعلقة بعمله، هذا العلم بأمره.
والعلم بخلقه يعرض على العلم بأمره، فإن وافق الشرع قمنا به، وإن خالف الشرع تركناه.

التوحيد نهاية العلم:
ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد
في محصلة الأمر أعظم العلوم العلم بالله تعالى، وأعظم ما يكون في العلم بالله تعالى أن توحده، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، لذلك: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو من نفسه دخل الجنة، لأنه تعلّم أعظم علم وهو التوحيد، التوحيد حقيقته لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله، أي لا يعطي، ولا يمنع، ولا يخفض، ولا يرفع، ولا يعز، ولا يذل إلا الله جلّ جلاله، فالإنسان الذي تعلم هذه المعلومة الآن بلغ نهاية العلم، لذلك منتهى العلم، لذلك قال تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
[ سورة الأنبياء]

ما معنى (مِنْ رَسُولٍ)؟ هذه من لاستغراق أفراد النوع، أي نحن اليوم أستاذ دخل إلى الصف، قال: كل طالب له هدية مني، وزع الهدايا، هم ثلاثون طالباً، يوجد طالبان غائبان ليس لهما هدية، أعطى الهدايا للطلاب الموجودين، لكن لو أنه دخل وقال: ما من طالب مسجل في هذه الشعبة إلا وله هدية، فقد أدخل الغائبين، استغرق الأفراد جميعاً.
فلما قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) أي كل الرسل الذين أُرسلوا إلى قومهم سواء.

وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164)
[ سورة الأنبياء]

(إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) لأن التوحيد نهاية العلم، والعبادة هي نهاية العمل، أي الإنسان إذا تعلم الفيزياء النووية وما وصل للتوحيد فهو جاهل، وإذا وصل للتوحيد وهو لا يحسن القراءة والكتابة فهو عالم، وإذا لم يصل للتوحيد وهو يحمل أعلى شهادة في علوم الشريعة فهو جاهل، علوم الشريعة، لكن ما وصل للتوحيد جهل.
لذلك (إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) الإنسان يعلم معلومات كثيرة بحياته، أعظم علم يتعلمه هو التوحيد، (فَاعْبُدُونِ) هو السلوك، العلم بأمره. العلم به، والعلم بأمره (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) التوحيد (فَاعْبُدُونِ) العمل، الإنسان أعظم عمل يعمله هو عبادة الله، ولو كان في نزهة مع أهله كما اتفقنا سابقاً، ولو كان في عمله الذي يحترف منه فهو في عبادة، لأنه يبتغي وجه الله، ولا يأتي شيئاً يخالف منهج الله بهذا المفهوم العام للعبادة، أعظم عمل يعمله الإنسان أن يعبد حياته وفق منهج الله، وأعظم علم يتعلمه الإنسان أن يعلم أنه لا إله إلا الله ، فإذا وصل إلى (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فقد حقق ما جاء به الأنبياء جميعاً من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم جاؤوا بالتوحيد وبالعبادة (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
والحمد لله رب العالمين