• محاضرة في الأردن
  • 2021-07-05
  • عمان
  • الأردن

إياك نعبد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

السؤال مفتاح العلم:
أيها الكرام؛ منذ وجد الإنسان خُلق معه التساؤل، وقد أثبت الله عز وجل هذه الحاجة في الإنسان في آيات كثيرة بدأت بقوله تعالى:

وَيَسْأَلُونَكَ...(85)
[ سورة الإسراء]

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي...(186)
[ سورة البقرة]

وَيَسْتَفْتُونَكَ.... (127)
[ سورة النساء]

السؤال مفتاح العلم
الإنسان يسأل، ولو لم يسأل فإنه لن يتعلم، فالسؤال مفتاح العلم، فكل إنسان يسأل والأسئلة تتنوع، هناك أسئلة عن الدنيا، يسأل الإنسان عن الاقتصاد، السياسة، العلوم، البرمجة، الكومبيوتر، الطب، الهندسة، وهذه الأسئلة مشروعة، قد يكون بعضها واجباً، فإن لم يوجد في الأمة المسلمة من يكون متخصصاً في مجال من مجالات الطب، فيصبح واجباً على الأمة أن تعلّم أطباء ليكونوا عوناً للأمة، وقد يكون هذا السؤال والتعلم مباحاً، أو مستحباً، أو مسنوناً، وقد يكون محرماً، فإذا سأل ليتعلم صناعة الخمور - والعياذ بالله – نقول له: هذا محرم، فالسؤال عن الدنيا متنوع ومتعدد، وكلنا يستيقظ صباحاً فيسأل عن الدنيا، يتصل بالمعمل: كيف الوضع اليوم؟ كيف البيع؟ كيف الشراء؟ الإنسان يتابع تجارته، هذا سؤال عن الدنيا.
الدنيا تنتهي بالموت
وأرقى من السؤال عن الدنيا أن يسأل الإنسان عن الدين، هذا المجلس سؤال عن الدين، استفتاء عن الدين، فالحاجة الدنيا يلبيها الإنسان بالسؤال عن الدنيا، طعامه، وشرابه، وبيته، وأهله، وأسرته، وهذا مشروع كما قلنا، ضمن حدوده الطبيعية، لكن الإنسان الأرقى يسأل عن دينه، حلال أم حرام؟ هذه الصفقة ترضي الله أم فيها شبهة فأرفضها؟ هذه العلاقة تحل أم تحرم؟ الصيام الواجب، المندوب، فاتتني صلاة فماذا أفعل؟ وقعت في مشكلة مع زوجتي كيف أحل الموضوع شرعياً وفق منهج الله؟ يسأل عن الدين، فهذا الإنسان أرقى عند الله، لأنه انتقل من الدنيا إلى الدين، والدنيا تنتهي بالموت أما الدين فيبقى معك إلى أبد الآبدين.
وهناك سؤال أرقى من هذا وذاك، فهو ليس سؤالاً عن الدنيا ولا عن الدين، وإنما عن الله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) هذا أعظم سؤال، بعد أن يسأل عن الدين يسأل عن الله يقول لك: كيف أصل إليه؟ كيف يحبني؟ كيف أحظى بقربه؟ كيف أشعر بالسكينة في مناجاته؟ كيف يكون راضياً عني؟ ما معنى العليم؟ الخبير؟ القوي؟ العزيز؟ يحب أن يسأل عن ربه، هذا أعظم سؤال، لأن شرف السؤال من شرف المسؤول عنه، فالمؤمن يسأل عن الدنيا، ويسأل عن دينه، ويسأل عن خالقه.

سؤال الخبير انطلاقاً من حرصه على وجوده:
هناك أسئلة كبيرة في الوجود، كل الناس تسألها، من أنا؟ لماذا أنا هنا؟ إلى أين؟ إلى أين المصير؟ هذه الأسئلة سألها الفلاسفة، وسألها الماديون والاشتراكيون والرأسماليون، هذه أسئلة كبيرة جداً.
فرضاً على سبيل المثال الماديون؛ من الإنسان؟ من أنا؟ مادة، المادة تفنى، مثله مثل الطاولة، مثل مادي، ربما الاشتراكيون يضعون منظومة عمل، أي في الاشتراكية كلنا سواء، الرأسماليون؛ يعتبرونه كتلة مالية نقدية، ماذا يحقق؟ أين مكانه المالي مثلاً؟ الوجوديون، إلى آخره، يوجد نظريات وضعية كثيرة، تسألها: من الإنسان؟ فتجيبك بإجاباتها.
الشركة الصانعة خبرتها أفضل من الوكلاء
بربكم لو أنك اقتنيت جهازاً غالي الثمن، وبالغ التعقيد، حاسوب صناعي فرضاً وصار عندك عطل، تسأل من؟ الخبير، الآن والدتك بالبيت تحبها كثيراً، وتقبّل يدها كل يوم صباحاً ومساء، هل تسألها عن هذا الموضوع؟ لا تعرف وإن كانت والدتك، وهي أهم عندك من بيل غيتس، ومئة ألف بيل غيتس، لكنها لا تعرف، وليست خبيرة، ليس عندها خبرة، لك جارٌ بقَّال تحبه، وكل يوم يسلم عليك وتسلم عليه، لا دخل له، هو يعرف بالخضروات والفواكه، لكنك تذهب وتسأل الخبير، الآن إذا استطعت أن تصل للشركة الصانعة يكون عملك مئة بالمئة، لأن الشركة الصانعة خبرتها أفضل من الوكلاء.
الإنسان إن أراد أن يسأل الأسئلة الكبيرة، يسألها لمن؟ للصانع جل جلاله، من صانعنا؟ الله، لذلك قال الله تعالى:

الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً (59)
[ سورة الفرقان]

حتى في الدنيا لا تسأل إلا الخبير.

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
[ سورة النحل]

غير الخبير يقول لك إذا نصحك: أطفئ الجهاز ثم أعد تشغيله قد يكون هذا هو العطل، لا تسأل غير الخبير، اسأل الخبير فقط.
فأنت عند الأسئلة الكبيرة في الحياة اسأل الخبير جلّ جلاله، أين تجد الجواب؟ في القرآن وفي السنة، هذا الأمر انطلاقاً من ماذا؟ انطلاقاً من حرصك على وجودك، وعلى سلامة وجودك، لأنك أعقد آلة في الكون، لا تريد أن تعطب، لا تريد أن تخسر آخرتك، ليس من المعقول أن يقضي أبده بنار جهنم، والله صعبة جداً، نسأل الله العافية، عندما يريد أن يسأل عن أموره وعن دينه وكذا يسأل الخبير جلّ جلاله، حرام؟ حلال؟ فالقضية قضية سعادة الأبد أو شقاوة الأبد فلا ينبغي للإنسان أن يتهاون في السؤال، أو أن يسأل غير الخبراء.

إخضاع الحياة لمنهج الله عز وجل:
عدنا إلى الأسئلة الكبيرة التي بدأنا بها، من أنا؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ كل واحد يمكن أن يعطيك جواباً، ما أريد أن أركز عليه اليوم هو لماذا؟ هناك شاعر كان يقول:
جئت لا أدري لماذا جئت؟ إلى أين؟ لا أدري، كله لا أدري، يسمون هؤلاء: اللاأدرية، لا أدري، لماذا أنت في الحياة؟ لا أعرف، إلى أين؟ لا أعرف، نموت، وبعد ذلك؟ لا يوجد عنده أوسع من هذا الجواب، لماذا نحن في الدنيا؟ للعبادة، قال تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
[ سورة الذاريات]

لا معبود بحق إلا الله
ومعلوم عندكم إذا جاء النفي مع إلا فهذا حصر، أي إذا قلت: جاء طالب، ويمكن: جاء طالبان، إذا قلت: جاء أحمد، يمكن جاء محمد أيضاً، أما إذا قلت: ما جاء إلا محمد، أي جاء محمد فقط، فهذا حصر، ما مع إلا حصر، فإذا قلت: الله تعالى إلهنا، يمكن أن يقول لك أحدهم: أيضاً الدينار إلهنا، والدولار إلهنا، أما قولك: لا إله إلا الله فتعني أنه لا معبود بحق إلا الله، والباقي كلهم ليسوا آلهة، هذا اسمه حصر، النفي مع إلا، فهنا عندما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) طبعاً هنا قدم الجن لأن الجن خلقوا قبل الإنسان، قال:

وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
[ سورة الحجر]

فالجن مخلوقون قبل الإنس، فالذي يقول لك: كيف عرفت الملائكة أن الإنس سيفسدون في الأرض؟ لعلهم رأوا قبلهم مخلوقات مكلفة وهي الجن كلفت بالطاعة فعصت، رأوا ذلك، فعلموا أن الإنسان سيفعل مثل الجن، لأن المكلف عنده خياران يفعل أو لا يفعل، أما الملائكة:

لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
[ سورة التحريم]

على كل عندما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي لا يوجد لك هدف بالحياة إلا أن تعبد الله، الآن قد يفهم الواحد للوهلة الأولى أني جئت لأصلي وأصوم فحسب؟ لا، ليس هذا هو المعنى، الموضوع أعقد من هذا بكثير.
العبادة هي الخضوع
في عصور الإسلام المتأخرة مُسخ مفهوم العبادة إلى أنك إذا قلت: عبادة، يقول لك: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، هل يوجد غيرهم؟ لا، ما العبادة؟ هل تعرفون الطريق المعبد؟ وطئته الأقدام حتى صار مذللاً، خضع الطريق لم يعد يربكك أثناء القيادة، خضع الطريق خضوعاً كاملاً، العبادة هي الخضوع، العبادة لا تكون إلا لله تعالى، أنت تستطيع أن تقول: أطيع والدي، لكنك لا تقل: أعبد والدي، الوالد يطاع لكن الله تعالى يُعبد، لا تقل: أنا عبد النبي، أنا عبد الله، أطيع الله وأطيع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن العبودية لله، لأن العبودية هي الخضوع التام للمنهج، أردت أن تأكل كُلْ لكن كُلْ من حلال، من مال حلال والطعام حلال، كُلْ ما شئت لا يوجد مانع، بشرط أن يكون الطعام حلالاً ومن مال حلال، أردت أن تلعب، العب لكن استر عورتك أثناء اللعب، ولا تفتعل مشكلات مع الآخرين، وإذا حان وقت الصلاة توقف واذهب إلى الصلاة، فالعبادة تعني أن الحياة كلها تذلل وفق منهج الله فقط، فالعبادة ليست فصل المؤمن عن الحياة، عندي عبادة، وعندي حياة، لا، أحياناً يقولون: دين ودنيا، لا يوجد دين ودنيا، يوجد دين فقط، أي لا يوجد انفصال بين الدين والدنيا، الدنيا تخضع للدين وانتهى الأمر، وتعيش حياتك كما تريد، فالعبادة خضوع للمنهج، طريق معبد، أن تخضع للمنهج في كل تصرفاتك، تتزوج وتنجب الأولاد، وتربي الأولاد، وتذهب إلى العمل، وتطرح طرفة في المجلس، وتضحك، تضحك لله، وتغضب لله، وترضى لله، فالمؤمن يعيش حياته كما يعيشها الآخرون تماماً، لكنّه يُخضع حياته لمنهج الله.
كل إنسان يخضع بحركاته لقانون بلده
الآخرون ألا يوجد عندهم قيود يُخضعون حياتهم لها؟ بلى، لكنها في غير منهج الله، هل يوجد إنسان في الأرض يعيش من غير قيود؟ من غير منهج ؟ يفعل ما يريده؟ لا، يقول لك: يوجد قيود بالمجتمع أنا أريد أن أفعل ذلك لكن هذا في الطريق لا يصح، مجتمعنا صعب، يقول لك: أريد أن أتكلم هذه الكلمة، لكن لا أعرف ما تبعاتها، يمكن أن يأخذوها عليّ ويمسكوها ممسكاً عليّ ويستدعونني، كل إنسان يخضع بحركاته لقانون البلد الذي هو فيه، لطبيعة الحياة، لثقافة البلد، يضع محددات ويخضع فيها، المؤمن خضع لكنه عرف لمن يخضع، إذا أحنيت رأسك بين يدي الله فهذا قِمة العز والشرف، أما أن تحني رأسك لمخلوق فهذه قمة الذلة، فالمؤمن فقط استطاع أن يخضع حياته للجهة الوحيدة التي يجب أن نُخضع حياتنا لها، لكن ما حرم نفسه من شيء في الحياة، البعيدون عن الله عز وجل يجعلون المركزية في الحياة للمخلوق، للإنسان، فإذا قلت مثلاً ما رأيك بهذه التجارة؟ يقول لك: كم تدر من الأرباح؟ هو فوراً ينظر ما سيأتيه، إذا قلت له: بالنسبة لابنك تريد أن تضعه بهذه المدرسة أو بتلك؟ يقول لك: أين يكون سعيداً أكثر؟ لا يقول: أين يرضي الله؟ إذا قلت له: هل تريد هذه الزوجة أو هذه؟ لا يقول لك: أريد المحجبة، يقول لك: من الأجمل؟ فالمركزية بحياته منطلقة من أنه يخضع للمخلوق، لما يظنه إسعاد المخلوق، هو بالحقيقة ترفيه المخلوق، هو يريد أن يكون سعيداً ويريد أن يدور الكون كله حول سعادته، أما المؤمن فالمركزية في حياته تدور كلها حول الخالق، فأول سؤال يسأله بأي شيء يعرض عليه يكون السؤال دائماً: هذا الشيء يرضي الله أم لا ؟ يجوز أم لا يجوز؟ فهو دائماً يخضع حياته لمنهج الخالق، لمنهج الخبير، لأنه:

وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
[ سورة فاطر]

لأنه لا يمكن لجهة في الأرض أن تمنحك سعادة إلا الله عز وجل، أي سعادة الأبد، الآن كثير من الناس يمدونك بجلسات طارئة، يأخذونك نزهات جميلة، يأخذونك إلى منتجعات ضخمة، يعطونك أموالاً، يوجد لذائذ كثيرة بالحياة لذلك الله امتحننا، لكن هل يوجد جهة بالأرض يمكن أن تمدك بسعادة مستمرة متنامية إلى الأبد؟ أبداً لا يوجد غير الله عز وجل يعطيك هذا المشروع العظيم، فلذلك لا ينبغي أن تخضع حياتك إلا لمنهج الله عز وجل.

التوجه إلى الله وحده بالحمد:
نحن في كل صلاة نقرأ الفاتحة، صحيح؟ وفي الفاتحة يوجد آية أنا أسميها: الآية المركزية في الفاتحة، أو المفصلية في الفاتحة، وهي قوله تعالى:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[ سورة الفاتحة]

هذه المفصلية، قبلها:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
[ سورة الفاتحة]

كل ما يأتيك من الله ربوبية
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) مفهوم التوجه إلى الله وحده بالحمد، لأن (الـ) هنا للاستغراق، لأن الحمد كله لله (رَبِّ الْعَالَمِينَ) الربوبية، أي هو الذي يربيك، يربي جسمك ويربي نفسك، ربنا عز وجل يربي أجسادنا بالطعام، بالشراب، بعمل الأجهزة، كل ما يأتيك من الله ربوبية، الكبد يعمل هذا من الربوبية، والكلية تصفي الدم وهذا من الربوبية، إذا كنت تنظر فترى الأشياء فهذه ربوبية، نمو الشعر ربوبية، لا يوجد أعصاب حس بالشعر تدفعك كل شهر للذهاب إلى المستشفى لتعمل تخديراً كي تقص شعرك وهذه ربوبية، لو جعل لك أعصاب حس بالشعر تتألم بقص الشعر، إن رأيت شخصاً ذاهباً إلى المستشفى تقول له: ماذا بك خير إن شاء الله؟ يقول لك: أريد أن أعمل عملية جراحية لأقص شعري، لأن شعري أصبح طويلاً، عند قص الأظافر، احمد الله أنه لا يوجد فيها أعصاب حس، ربوبية، كل شيء يمدك الله به هو من الربوبية.
الآن: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) النبات عالم، الحيوان عالم، الحشرات عالم، الإنس عالم، الجن عالم، العوالم كلها ربها الله جلّ جلاله، فأنت عندما قرأت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) - لله المثل الأعلى التشبيه دائماً للتقريب وليس للمماثلة معاذ الله - أنت اليوم إذا قالوا لك: عندك لقاء مع ملك البلاد، مع الرئيس الفلاني، فأنت تستهيب الموقف، ويمكن أن يطرق قلبك وأنت داخل إليه، عندما تدخل إلى إنسان تقول في نفسك: يجب أن أدرس حركتي أمامه، لا يمكن أن تقعد وتستند عند ملك، عند رفيقك تستند، عند الملك لا تستطيع، تكون الحركة مدروسة كثيراً.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) كأنك تستهيب هذا، فأنت عندما تقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) تستهيب الموقف.

الرحمن والرحيم:
الرحمن صفة ذات الله عز وجل
انظر كيف قال لك مباشرة: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هو يملك العالمين، وليس الإنس وليس الجن فقط، وإنما كل العوالم، لكن جعل علاقتك به تنتظمها الرحمة، أي لا تخف، الموقف مهما يكن مهيباً إلا أنك بين يدي (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فهون عليك، انظر إلى ترتيب الآيات: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الرحمن؛ صفة ذات الله عز وجل، الرحيم؛ صفة فعله، كيف؟ ربنا عز وجل قال في القرآن الكريم:

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45)
[ سورة مريم]

أنت إذا قرأت الآية أول مرة تقول: عذاب من المنتقم، من الجبار، هو قال: (عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) معنى هذا أن الرحمن قد يعذب عباده عذاباً أدنى ليقيهم من العذاب الأكبر يوم القيامة، حتى يقودهم إلى بابه، فالرحمن في ذاته، فأنت قد لا تفهم رحمته بكل فعل يفعله جلّ جلاله، فقط تأدب، هو الرحمن، الرحيم؛ أفعاله مع المؤمنين، قال تعالى:

وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)
[ سورة الأحزاب]

ووصف رسوله قال:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
[ سورة التوبة]

فالرحمن لا يطلق إلا على الله، انتبهوا، وما تسمى أحد بالرحمن، وما تجرأ أحد إلا مسيلمة الكذاب، سمّى نفسه رحمن اليمامة، فأصبح الكذاب إلى يوم القيامة، صار اسمه مسيلمة الكذاب، لأنه لا يوجد رحمن إلا الله، أما المؤمن فلا يصح أن يكون رحمن، الرحمن صفة ذات لله عز وجل، قال:

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110)
[ سورة الإسراء]

فسوى بين الرحمن وبين الله (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ)لأنه اسم الذات: الله، والرحمن اسم ذات يختص بهما جلّ جلاله، فعندما قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

الله تعالى يملك الأشياء خلقاً وتصرفاً ومصيراً:
الملك يملك الأشخاص والأشياء
الآن: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وفي قراءة صحيحة (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قرأها الجمهور (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) والملك هو الذي يملك الأشياء والأشخاص، لذلك لا نقول: مالك البلاد، نقول: ملك البلاد، لأن الملك يملك الأشخاص والأشياء، يملكهم أي أمره نافذ، يصدر مرسوماً يجب أن ينفذه كل الأشخاص، فهو يملك الأشياء أي يحكم، له أمر في البلد، والله تعالى ملك ومالك جلّ جلاله.
لكن الفرق بين ملك الله وملك الناس كبير، أنا مالك أنا أملك أشياء، عندي بيت، عندي سيارة، عندي هاتف، عندي مفروشات، أنا أملك أشياء، لكن ملك الإنسان ناقص، مهما ملكت فملكك ناقص، مؤقت وناقص، أنت تملك البيت، أنت أنشأته؟ لا والله، اشتريته من شخص قبلي كان مالكه، عندك بيت كان بالدوار السابع ماذا عملت به؟ والله أجرته، لا يدخل عليه أحد أبداً، أنت مالك البيت لكنك مؤجره، لمن هذا البيت؟ إلى متى لك؟ والله لا أعرف يجوز أن أبيعه السنة القادمة أو لنموت، لمن؟ للورثة، والله لا أعرف، فملك الإنسان ناقص، أما الله تعالى فيملك الأشياء خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، فهو ملكها وخلقها، فهي ملكه، ثم يتصرف بها كيف شاء، ترجع إليه ملكية كل شيء، فهو يرث:

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
[ سورة مريم]

ملكه عظيم، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيوم الدين يوم الجزاء، فأنت إذا علمت أن الله هو الرب، والرحمن، والرحيم، وأن يوم الجزاء بيده، وأنه سوف يجازيك عن أعمالك.
وما يعفو الله أكثر، ستتوجه إليه وحده بالعبادة.

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
[ سورة الفاتحة]

الآية مفصلية كما قلنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

العلاقة مع الله مبينة على الحب وليست على القسر:
العبادة هي الطاعة الطوعية مع الحب
أريد أن أتكلم عن الآية التي هي مفهوم العبادة، العبادة كما قلنا هي الخضوع، لكن ليس الخضوع المجرد عن الحب، وإنما الخضوع المقترن بالحب، الطاعة الطوعية مع حب، نحن كنا في الخدمة الإلزامية في الجيش، يقول الضابط للمجند: منبطحاً لسبب أو لآخر، قبل أن يقول التنوين يكون المجند منبطحاً، حاضر سيدي، وهو يقول له: حاضر سيدي لكنه من الداخل يدعو عليه: لا وفقه الله، فهل هذه عبادة؟ لا هي طاعة، وطاعة عمياء لكن لا يوجد في القلب حب، أما نحن فنعبد الله حباً، عندما أقف أصلي، لأن الله أمرني لكن أنا أحبه، لذلك قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
[ سورة المائدة]

فالعلاقة مع الله مبينة على الحب لا على القسر، لذلك:

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
[ سورة البقرة]

إذاً تعبد الله حباً، لأن القسر لا يسعدك، أستاذ في المدرسة سأل أحد الطلاب: ماذا يعمل والدك يا بني؟ قال له: عنده محل ورود، قال له بغلظة: أحضر لنا باقة ورد غداً، قال له الطالب: حاضر أستاذ، ذهب إلى أبيه، قال له: ما هذا الأستاذ؟ عمل له باقة ورد وبعثها له، أحضرها الابن وقال له: تفضل، وضعها الأستاذ على الطاولة، الولد كان منزعجاً من الأستاذ لأنه أحضرها بشكل إجباري، أما لو كان الأستاذ حنوناً، فقال الابن لأبيه: والله أنا أحببت الأستاذ أريد أن آخذ له باقة ورد، كل النهار يكون مسروراً، ما الذي أسعده؟ اختياره، لأنه أتى بالباقة حباً، ما أتى بها قسراً، لو أتى بها قسراً ما أسعدته الباقة، فالإنسان عندما يقدم العمل مع الحب يسعده العمل، لكن حينما يقدم العمل وهو مرغم عليه فلا يشعر بالسعادة أبداً.
الآن نحن نصوم برمضان، لا أحد مثلاً من المؤمنين الصادقين مثلاً تراه متأففاً، الكل يتمنى أن يستمر رمضان، مع أنك تمتنع عن الطعام والشراب، ومتعب، وعملك صعب، لكن أنت في حب، لأنك تفعل العبادة بحب، فلذلك العبادة طاعة مع الحب، أما الطاعة من غير حب فتغدو عملاً قسرياً، إجبارياً، لا قيمة له عند الله، ولا عند الناس.

الغاية من التقديم والتأخير عند النحويين:
الآن ربنا عز وجل قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إياك هو لفظ الجلالة، أي يشير إلى لفظ الجلالة، باللغة العربية مفعول به، النحويون لا يحبون أن يقولوا عن لفظ الجلالة مفعولاً به، فقالوا: اسم منصوب على التعظيم، من أدبهم مع الله، اسم منصوب على التعظيم، هذا من جماليات النحويين لكن موقعه الإعرابي يأتي الثالث، أي نعبد الله، نعبد والفاعل مسترر تقديره نحن، لماذا قدم المفعول به على الفعل والفاعل؟ هذا لسببين:
العرب تقدم ما حقه الاعتناء به
السبب الأول أن العرب تقدم ما حقه الاعتناء به، سأقول ثلاث جمل: أكل الولد التفاحة، فعل، فاعل، مفعول به، الولد أكل التفاحة، التفاحةَ أكل الولد، الآن كل الجمل تؤدي المعنى الإجمالي نفسَه، لكن مرة قدمت أكل، مرة التفاحة، مرة الولد، بالمثال الأول الاهتمام على الأكل، كأن أحدهم سأل: ماذا حصل؟ أكل الولد التفاحة، المرة الثانية كأنه سأل: من الذي أكل؟ الولد أكل التفاحة، صار الاهتمام بالولد، المثال الثالث: أين التفاحة؟ التفاحةَ أكل الولد، عندما قدمنا كل مرة واحداً أعطيناه الاعتناء والاهتمام، ولله المثل الأعلى، عندما قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هل الاهتمام الأعظم منصب على فعل العبادة أم على المعبود؟ على المعبود جلّ جلاله حتى تعلم بين يدي من تقف، أنت واقف بين يدي الله، فقدم لك (إِيَّاكَ) على الفعل، لأن الفعل ليس له معنى إذا كنت لا تعرف من تعبد، الأصل هو المعبود جلّ جلاله.
والسبب الثاني للتقديم: هو الحصر، فلو قال: نعبدك، احتمل أن نعبد غيره معه أي نعبدك ونعبد الدرهم، والدينار، والأولاد، والزوجة، إياك نعبد، أي لا نعبد إلا الله، التقديم أعطى معنى الحصر، قبل قليل النفي مع الاستفهام يفيد الحصر، أيضاً التقديم يفيد الحصر: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي لا نعبد إلا الله.

العبادة مع الجماعة:
يوجد مدلول ثان: لماذا لم يقل إياك أعبد؟ أعبد أنا وحدي، لا، نعبد، لأنك مع الجماعة يكون معنى العبادة أجمل، والجماعة يعينونك.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
[ سورة التوبة]

أي هذه الجمعة الطيبة فيها خير وبركة لأن الاجتماع على خير، فقال: (نَعْبُدُ) كأننا صف واحد.
من لا يعرف الله لا يعبده
والسبب الثاني: أنك عندما تقف بين يدي ملك الملوك وحدك تشعر بالهيبة العظيمة أما عندما يتجاوب معك إخوانك فيصير الموقف أسهل عليك، ألطف، لماذا يصير ألطف؟ الآن إذا كنت ذاهباً إلى رجل مهم جداً، وقال لك أحدهم: أنا أذهب معك، قلت له: والله نصبح اثنين أحسن نشد أزر بعض (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، فالعبادة كما يعرفها شيخنا الدكتور راتب - حفظه الله - وهي من أجمل التعاريف التي سمعتها منه، كان يقول: العبادة طاعة طوعية، أي ليست قسرية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، أساسها معرفة يقينية لأن الذي لا يعرف الله لا يعبده، بين يدي من يقف؟ ثم تصبح الصلاة مملة، تصبح حركات، روتين، تصبح: أرحنا منها يا بلال، أما من يعرف:

{ عن سالم بن أبي الجعد رحمه الله قال: قال رجل من خُزاعةَ: ليتني صلَّيتُ فاسترْحتُ، فكأنّهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: أقم الصلاةَ يا بلالُ، أرِحْنا بها }

[أخرجه أبو داود]

الصلاة تصبح راحة من هموم الدنيا، تقف بين يدي الجليل، فأساسها معرفة يقينية، النتيجة: تفضي إلى سعادة أبدية، أما هي كما قلنا: طاعة طوعية مع الحب، طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية، هذا كنه العبادة، الطاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لأنك لن تعبده حقاً إلا بالاستعانة به، فقسمت الآية إلى شطرين (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الاستعانة هي طلب العون، استعان؛ طلب العون مثل استطعم؛ طلب الطعام، غالباً الهمزة، والسين، والتاء تفيد الطلب، أقول: طَعمت، أي أكلت، استطعمت؛ طلبت الطعام، استسقى؛ طلب السقيا.

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
[ سورة البقرة]

طلب السقيا لهم، قرأت واستقرأت، وهكذا، عندما نقول: استعان؛ طلب العون، ممن طلب العون؟ من الله وحده (إِيَّاكَ) أي وحدك (نَسْتَعِينُ) أي لا نستعين إلا بك جل جلالك، فأنت عندما تريد أن تعبد الله حق عبادته ينبغي أن تستعين به حق الاستعانة، لأنك لن تستطيع أن تعبده إلا إذا أعانك ووفقك إلى ذلك، فأنت حتى في عبادتك تشعر بالافتقار إلى الله عز وجل، فكل حياتنا عبادة، فعندما تعبد الله في حياتك، تعبِّد حياتك وفق منهج الله، هذه العبادة تكون أيضاً بالاستعانة بالله تعالى لأنه هو الذي يقويك، عندما تعبد الله في تجارتك من الذي رزقك؟ الله، عندما تعبد الله في أكلك وشربك، من الذي خلق الطعام والشراب؟ الله، إذاً في المحصلة عبادتنا فضل منه جلّ جلاله، وكم من الناس في مشارق الأرض ومغاربها الذين لم يهدوا إلى العبادة الحق، فتجد شعوباً بالأرض يعبدون الجرذان - والعياذ بالله- فأنت شرفك بأنك تقف بين يديه، وأنك تعبده، وأنك تعرف وجوده خالقاً (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي لا نستعين إلا بك، ونستعين بك على عبادتك، جلّ جلاله.

الله تعالى ما خلق الإنسان إلا ليرحمه:
اليوم أحببت أن يكون اللقاء إجابة عن سؤال كبير يطرح هو: لماذا؟ لماذا نحن هنا؟ من أجل العبادة بمفهومها الواسع لا الضيق.
أريد أن أضرب مثالاً أختم به؛ أب أرسل ابنه إلى بلد ما ليدرس، ويأتي بشهادة عليا، فقال لابنه: ما أرسلتك إلى هذا البلد إلا لتدرس، أي كل الهدف من هذه الرحلة التي تكلفت عليها من طيران، وتعليم، وإقامة، لا أريد منك شيئاً، أنا ما أرسلتك إلا لتدرس، هل هو لم يرسله فعلاً إلا ليدرس أم أن هناك شيئاً أبعد من الدراسة؟ يريد أن يرجع ومعه شهادة، ويأتي بأموال من الشهادة، يتخرج، ويصبح إنساناً له مكانة في المجتمع لكن هو لم يحصل على تلك المكانة إلا عن طريق الدراسة، أما هو إذا لم يدرس الآن لا يوجد تخرج، ولا شهادة، ولا جامعة، ولا مكانة، ولا أموال، فاختصر الطريق وقال: ما أرسلتك إلا لتدرس.
رب العالمين يريدنا أن نعبده
بعض الناس يقول لك: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي رب العالمين يريدنا أن نعبده، إذاً لماذا خلقنا؟ بعض الناس ضيقو الأفق يقول لك: لماذا؟ لو لم يخلقنا لكان أفضل لنا، لا نريد كل هذه القصة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي هو ما خلقك إلا للجنة، المحصلة يريد أن يسعدك بجنة عرضها السماوات والأرض، نحن أبناء الآخرة جئنا للدنيا بشكل مؤقت، وسنغادر، فعندما يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) لأنك لن تستطيع أن تصل إلى الجنة التي هي رحمة الله إلا عن طريق العبادة، قال تعالى:

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
[ سورة هود]

خلقهم ليرحمهم، فأعطاك كلمة مفصلية قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي من أجل أن يعبدوني فيسعدوا بعبادتي، ويستحقوا الجنة التي خلقتها لأجلهم.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

انظر إلى هذا المعنى، قال: (أعْدَدْتُ لعباديَ) فلان نريد أن نأتي لعنده، قبل أن نأتي أعد لنا المكان، هيأه، ويمكن أن يمسح الأرض، ويضع لنا الكراسي، ويهيئ الطعام، هذا من إكرامه لنا، أي هو أعد لنا المجلس من قبل أن نصل إليه (أعْدَدْتُ) فربنا عز وجل انظر لهذا المعنى يقول: (أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين) أي هو يهيئ لك المكان، والزمان، والأنهار، والجنان، والحور العين، يهيئ لك كل الأمور من أجل أن تصل بسلام (أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين) ثم قال: (ما لا عين رأتْ) ضيقة جداً، أنت تسألني: ماذا رأيت بحياتك؟ أعدد لك عشر مدن، ثم أقف، أنا سافرت لبعض المدن العربية والغربية وانتهوا، تقول لي: ماذا سمعت؟ سمعت عن الدانمارك، والسويد، والقطب الشمالي، والقطب الجنوبي، لكن ما رأيتهم فقط سمعت، تقول لي: ماذا يخطر على بالك؟ أقول لك: والله يخطر على بالي تفاحة بحجم هذه الطاولة، ليست موجودة لكن خطرت على بالي، فالخواطر لا تنتهي قال: (أعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ) حتى الخواطر التي خطرت على قلبك سنجد شيئاً في الآخرة لم يخطر لك على بال، فكل هذا الإعداد من الله عز وجل هو من الرحمة ولدخول الجنة، فعندما يقول لك: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) لأنك لن تستطيع أن تصل إلى هذا الخير العميم إلا إن أخضعت حياتك لمنهج الله عز وجل، لأن هذا هو السبب الذي وضعه الله تعالى لدخول الجنة التي تنتظرنا جميعاً إن شاء الله في رضا الله ورحمته.
والحمد لله رب العالمين