إنزال التوراة على موسى

  • الدرس التاسع - شرح الآيات 41 - 46
  • 2019-05-03

إنزال التوراة على موسى

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.


إرادة الله تتحقق إن طال الزمان أم قصر :
مع اللقاء التاسع من لقاءات سورة القصص، في اللقاء الماضي وصلنا إلى قوله تعالى:

فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
(سورة القصص: الآية 40)

(فَأَخَذْنَاهُ) أي فرعون (وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) الآية الأربعون من سورة القصص.
الآن نبدأ بالآية الواحدة والأربعين (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) لكن قبل ذلك أريد أن ألخص ما الذي حصل.
حقيقةً نحن تكلمنا أنّ سورة القصص محورها أو فكرتها الرئيسة هي بيان كيف تتدخل يد القدرة الإلهية في حسم الموقف دائماً، وكيف أنّ فرعون كانت له إرادة في الأرض، طبعاً إرادة بشرية قاصرة، لكن بالنتيجة كانت له إرادة أن يفعل شيئاً، وأنّ الله عز وجل صاحب القدرة المطلقة والإرادة المطلقة كانت له إرادة:

وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
(سورة القصص: الآية 5)

فالسورة تبين كيف أنّ إرادة الله هي التي تتحقق، طال الزمن أم قصر.

ملة الكفر واحدة لكن أهل الإيمان يتسلحون بطاعة الله والقرب منه :
السورة تخاطب المسلمين في مكة المكرمة وهم يسامون صنوف العذاب من أشباه فرعون، أبو جهل كان فرعون الأمة كما وصف، فهناك فراعنة كانوا في مكة يتصرفون بتصرفات فرعون وإن لم يبلغوا شأوه لكن كانوا يسيرون على خطاه، فالأمة في مكة كانت تعاني فعندما تتنزل هذه الآيات وتعطي للأمة درساً كيف أن الله عز وجل يحقق إرادته هذا يدخل الطمأنينة إلى نفوس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك عندما نقرأ في سورة القصص نجد أن هناك حلقة أُغفلت كما ذكرنا في اللقاء الماضي، هناك حلقة أُغفلت، قال:

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ
(سورة القصص: الآية 36)

المؤمن يتسلح بطاعة الله
حجتهم كانت كحجج أهل مكة المشركين (مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) هم كانوا يقولون ذلك (مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) كانوا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه ساحر، أي الحجج نفسها في كل زمان ومكان، لأن ملة الكفر واحدة، لكن أهل الإيمان يتسلحون بطاعة الله، ويتحصنون بالقرب من الله عز وجل، فهؤلاء قالوا: (مَا سَمِعْنَا بهذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)، (قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى) وهذا ما كان يقوله أهل مكة، أي الحجج واحدة، طبعاً هي ليست حجة، هي عقلاً ومنطقاً ليست حجة أن يأتيك إنسان بدليل قوي قاطع على شيء فتقول له: هذا سحر، أي لم يعد هناك مفاوضات ماذا أرد عليك؟ أو تقول له: هذا جديد عليّ لم أسمع به، إذا كان جديداً عليك فهل يكون خطأ! أي إذا كانت حجتك أن الجديد هو خطأ، وأن القديم هو الصحيح، فأنت غير قابل للنقاش، فلذلك ما خاض معهم موسى عليه السلام حواراً، لم يقل لهم لا ليس سحراً، لم يناقشهم أبداً، قال:

وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
(سورة القصص: الآية 37)

بدأ فرعون بمرحلة الاستهزاء:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
(سورة القصص: الآية 38-39-40)

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ) هنا اختصرت حلقة السحرة، دعا السحرة ودعا موسى فجمعهم لميقات يوم معلوم:

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ
(سورة الشعراء: الآية 38)

فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
(سورة الشعراء: الآية 45)

هدف السورة هنا هو بيان العاقبة
كلها لم تذكر في سورة القصص، ذكرت في سور أخرى، هنا في هذه السورة لم تذكر هذه الحلقة، لماذا؟ لأن الله عز وجل في هذه السورة يريد أن يبين لك أن الأخذ السريع يأتي بعد الإمهال وبعد الاستكبار مباشرةً، أما إذا حدثتك سورة القصص عن حلقة السحرة فلربما خرجت عن الهدف الرئيس منها، الهدف الرئيس هنا (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ) هنا يوجد حلقة استمرت أياماً، أخذ ورد وعطاء، لماذا لم تذكرها السورة؟ لأن هدف السورة هنا هو بيان العاقبة، فلا داعي لذكر التفصيلات، لأن العقوبة مهما طال أمدها فما دامت آتية فهي قريبة:

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا
(سورة المعارج: الآية 6-7)

أي إذا قال لك إنسان: أنا محكوم بالإعدام ولكن باقي لي ثلاثة أشهر، ويظن أنه سيفعل كثيراً من الأعمال، ولكن الأيام تمضي كلمح البصر، والعاقبة قادمة، فأنت ما الذي يجعلك تفرح بالإمهال إذا كانت العقوبة قادمة لا محالة؟!

التواضع لله لأن موعود الله لابد من أن يتحقق :
إذاً هنا (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وقلنا: لا يوجد استكبار إلا بغير الحق، فهذا قيد وصفي وليس قيداً احترازياً، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) لماذا استكبروا في الأرض بغير الحق؟ لأنهم (ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ) فالذي يظن بمعنى يعتقد أنه راجعٌ إلى الله تعالى لا يستكبر في الأرض، لأنه سيقف بين يدي الكريم المتعالي يوم القيامة، إذاً ما الذي يجعلك تتواضع لله؟ عندما تعلم أنك ستقف بين يديه يوم القيامة:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ
(سورة العلق: الآية 6 -7)

متى يطغى الإنسان؟
متى يطغى الإنسان؟ عندما يشعر بالاستغناء عن الله عز وجل، وهو في الحقيقة ضعيف وفقير، قال: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ) وقلنا كلمة النبذ هنا من الاحتقار والإلقاء، كأنها حبة تلقى فِي الْيَمِّ المتلاطم الأمواج (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) هنا بين أم موسى وهي تلقي رضيعها في تابوت في اليم، ثم بين إرادة الله عز وجل عندما نُبذ فرعون وجنوده في اليم، عندما أُلقي موسى عليه السلام في اليم كانت كل الدلائل الأرضية تشير إلى أنه هالكٌ لا محالة، فهو طفلٌ رضيع لا يملك من أمره شيئاً، ولما أُلقي فرعون وجنوده في اليم وبدؤوا المعركة مع موسى، لم يكن يتخيل أحدٌ في الأرض أن فرعون سيغرق، وأن جثته ستنتشل، وقد ملأ الماء المالح مجاري نفسه، ما كان أحد يتخيل ذلك، لكن لمّا كانت قدرة الإله ترعى موسى رعته فأوصلته إلى باب فرعون ليربيه في قصره، ولما تخلت رعاية الله عن فرعون بسبب تكبره، وتجبره، وإساءته لعباد الله، تركته بقوته وحده فركن إلى قوته فغرق في اليم هو وجنوده، أنت ضع طفلاً رضيعاً وضع فرعون وجنوده قل: هذا الطفل الرضيع سنلقيه في اليم، وهذا فرعون وجنوده سنلقيهم في اليم، من الذي سيخرج سالماً؟ كل دلائل الأرض تقول: سيخرج فرعون وجنوده سالمين، وسيغرق هذا الطفل الرضيع في الماء، لكن لمّا تدخلت قدرة الإله نجا موسى الرضيع، وهلك فرعون الطاغية وهو من عتاة الطغاة، هذا هو المحور العام في السورة.
(فَانظُرْ) الآن ربنا عز وجل يوجهك إلى أن تنظر، لا أروي لك القصة من أجل أن أمتعك، لا أروي لك القصة من أجل أن تسمع وتنتهي مهمتك (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) اليوم هناك ظالمون يحيطون بك تيقن من هلاكهم كما تيقنت من هلاك فرعون، ويوم كان هذا القرآن ينزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم كان أصحابه يعيشون صعوبات ما بعدها صعوبات، هذا القرآن يتنزّل وبلال يوضع في الصحراء، وتوضع فوقه الصخور الصم، فيقول: أحدٌ أحد:

{ مرّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بياسرٍ وعمّارٍ وأمّ عمارَ وهم يُؤذونَ في اللهِ تعالى فقال لهم : صبرا يا آل ياسرَ ، صبرا يا آل ياسرَ فإن موعدكُم الجنةُ }

موعود الله تعالى آت
هذا القرآن كان يتنزل، وكان الصحابة يخافون أن يقرؤوا القرآن على مرأى قريش، كانوا يسمعون هذا وظروفهم أصعب من ظروفنا، فجاء القرآن بلسماً لأرواحهم، وشفاءً لصدورهم، اليوم رأينا بعد ذلك كيف نصر الله محمداً وأصحابه، وكيف أعلى شأنهم كما أعلى شأن موسى، فحريٌّ بنا أن نتيقن من أن موعود الله تعالى آت، وأن الكرة في ملعبنا، وأننا ينبغي أن نسعى سعينا الجاد لأن نكون جنوداً في الحق لا جنوداً لفرعون.

الإمامة تستخدم في الخير أو في الشر فعلى الإنسان أن يكون خيّراً :
الآن نبدأ بالآيات الجديدة:

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ
(سورة القصص: الآية 41)

(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً) الإمامة ليست دائماً شيء حسن، فرعون يقدم قومه يوم القيامة إماماً، لكنه إمام يأخذهم إلى النار، فما كل من يتقدم الناس ويصبح إماماً لهم هو إمامٌ في الخير، وإن كان سبق إلى أذهان الناس أن الإمامة غالباً ما تستخدم في الخير، فيقال: فلان إمام الناس أي قائدهم في الخير، لكن هؤلاء فرعون وجنوده جعلهم الله أئمةً، أي هم كانوا أئمةً، أئمةً للناس، بالمقابل في سورة السجدة:

أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا
(سورة السجدة: الآية 24)

فهناك أئمةٌ يهدون إلى الخير، وهناك أئمةٌ يهدون إلى الشر، فأنت إن كنت في مكانٍ، في منصبٍ، في مكان قيادي، في مكان لك فيه مكانة فكن إماماً في الخير:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(سورة النحل: الآية 120)

الأمة يدعو الناس إلى الخير
قال عبد الله بن مسعود: إنّ معاذ بن جبل كان أمة قانتاً لله، فقلت: غَلِطَ أبو عبد الله، لأن الله تعالى قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) فقال عبد الله بن مسعود: الأمة هو الذي يدعو الناس إلى الخير، فلذلك كنا نشبه معاذاً بإبراهيم، فالإمام هو الذي يدعو الناس إلى الخير، أما الإمام الذي يدعو الناس إلى الشر فهذا والعياذ بالله إثمه مضاعف، قال: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) كيف يدعو الإنسان إلى النار؟ يدعو إلى أعمالٍ توصلك إلى النار، أي أنت إذا كان لديك صديق، وهذا الصديق ذو شخصيةٍ قيادية، الله عز وجل خلق البشر، وكل إنسان أعطاه مواصفات، والمحصلة أن الله سيحاسبه على ما أعطاه، أحياناً شخص هو شخصيته بطبيعتها قيادية، أي الناس تلتف حوله، يذهب يذهبون معه، يأتي يأتون معه، وشخص ذكي ومحترم وأخلاقي ولكن شخصيته ليست قيادية، هو يحب أن يستمع لأمر أي شخصيته تنفيذية، هناك شخصية تنفيذية، وهناك شخصية قيادية، ليس هذا بأفضل من هذا عند الله، لكن كل واحد أوكله الله بمهمة، فأحياناً هذا الشخص الذي يكون له القيادة يعمل فيقلده الناس، يذهب فيذهبون معه، فإذا ذهب إلى الخير كان له الأجر المضاعف، وإذا ذهب إلى الشر فذهب الناس معه، كان عليه وزره ووزر من تبعه فينبغي أن يلتفت من جعله الله عز وجل يقود ولا ينقاد، ينبغي أن يلتفت إلى هذا الأمر، وهو أنّ الله عز وجل عندما منحك هذه القوة في القيادة ينبغي أن تستثمرها في الخير، إذا أعطاه مالاً فاستخدمه في الخير أو في الشر، مثل الذي أعطاه وسامة، هذا أعطاه قيادة، أعطاك قيادةً فأنت هل تستثمرها في الخير أم في الشر؟ فرعون شخصية قيادية، بمكر، بدهاء، بخبث، بتسلط، بتجبر، لكن استطاع أن يحكم أهل مصر سنوات طويلة، فهو عندما حكمهم بهذه العقلية الاستبدادية هو كان إماماً إلى الشر، أمَّ جنوده إلى الشر، كيف ذلك؟ قال: (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي دعاهم إلى أعمالٍ توصلهم إلى النار، قال: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ) من ينصرهم يوم القيامة من بأس الله تعالى؟ في الدنيا دعوا الناس إلى النار، فيوم القيامة هل لهم من نصير؟ أي ينصرهم أو يقف معهم؟ أبداً:

وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا
(سورة مريم: الآية 95)

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
(سورة الأنعام: الآية 94)

{ عن عائشةَ رضي اللَّه عنها قَالَتْ: سمعتُ رَسُول اللَّه يقول: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلًا }

(متفقٌ عَلَيهِ)

أي يأتي كيوم خلقته أمه، لا يوجد شيء، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ).

أصل القبح في الأعمال وليس في الأشكال و في القلوب وليس في الأجسام :

وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ
(سورة القصص: الآية 42)

اللعنة هي الطرد من رحمة الله
(وَأَتْبَعْنَاهُمْ) أي ألزمناهم على الدوام (فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً) رافقتهم اللعنة، أصبحت اللعنة رفيقاً لهم، كيف إذا كانت الرحمة رفيقاً لك في حياتك؟ رحمة الله معك، عناية الله معك، وكيف إذا أصبح هؤلاء أتباع فرعون قد اتبعوا في هذه الدنيا لعنةً، لعنةً من الله ومن الملائكة ومن الناس أجمعين؟ لعنوا أي طردوا من رحمة الله، وأبعدوا من رحمة الله فما أتعسهم! (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) الآن المقبوح هو اسم مفعول من قُبِحَ فهو مقبوح، قُبِحَ: أصبح ذا شأنٍ يقبحه الناس عليه، ينفرون منه، قبيح، مقبوح بمعنى قبيح هنا، أي القبح ملازمٌ له، طبعاً القبح ليس في الشكل وإن كان أحياناً:
أصل القبح في القلوب
أحياناً إنسان يقول لك: وجهه أسود- والعياذ بالله- ممكن، وممكن أن يلبس الإنسان رداء المعصية، وهناك إنسان يقول لك: وجهه نور، فممكن، لكن أصل القبح هو في الأعمال وليس في الأشكال، أصل القبح في القلوب وليس في الأجسام، فقال: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ) هم من المذمومين، فانظر إلى حالهم في الدنيا كيف كان يقف فرعون وجنوده ويخطبون بالناس، ويحدثونهم عن مشاريعهم المستقبلية، ولهم الأبهة والعظمة، والناس في خدمتهم، والعبيد حولهم، والأرض ملكٌ لهم كما يزعمون ويتصورون، وانظر إلى حالهم وهم في منتهى الذل بين يدي الله عز وجل مقبوحين يوم القيامة، مُنَفَّرٌ منهم، يبتعد الناس عنهم، فوازن بين الصورتين.

الكتب السماوية بصيرة و هدى و رحمة :
الآن تقريباً قصة موسى وفرعون انتهت، الآن تبدأ التعقيبات.
من طبيعة القصص القرآني أنّ بعد القصة هناك تعقيبات، والحقيقة أن التعقيبات أهم من القصة نفسها، أي هناك موقف وهناك عبرة، هناك قصة وهناك عبرة من القصة:

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ
(سورة يوسف: الآية 111)

فعندما تنتهي القصة الآن أصغ بأذنك وبقلبك وبعقلك إلى تعقيبات الله عز وجل، إذا كلمك والدك عن قصة ثم بعد ذلك قال لك: سأستنبط لك منها العبر فتنصت له، الآن رب العزة جل جلاله أعطاك قصةً، وقال لك: إليك التعقيبات، التعقيبات أهم من القصة نفسها، طبعاً يمكن أن تستنبط بالتعقيبات بنفسك عندما تقرأ القصة، أي مرّ معنا كثير من العبر أثناء الرواية، لكن ربنا عز وجل الآن سيعطيك الخلاصة، خلاصة القصة، قال:

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(سورة القصص: الآية 43)

الكتاب هدى ورحمة
الكتاب هو التوراة، الكتاب إذا عُرّف بأل يشير إلى شيء معهود بالذهن، فإذا قلنا: آتى الله محمداً الكتاب فهو القرآن، وإذا قلنا: آتى الله عيسى الكتاب فهو الإنجيل، وإذا قلنا: آتى الله موسى الكتاب فهو التوراة، فالكتاب هذه أل العهد، تعود إلى معهودٍ في الذهن يناسب حال الكلام، وقد نقول: درست النحوَ من الكتاب، فتقصد كتاب سيبويه، فكلمة الكتاب تشير إلى معهود في الذهن يفسره السياق واللحاق والسباق أي مجمل الكلام، (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ) الكتاب هو التوراة (مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ) طبعاً مرّ قبل موسى قرون، القرن الزماني هو مئة عام، وقد تطلق القرون على العهود الزمانية بغض النظر عن عدد السنوات، (الْقُرُونَ الْأُولَىٰ) قوم نوح قرن، قوم عاد، قوم ثمود، قوم لوط، هذه أقوام، مرَّ عليها الزمن، وأُهلكت بذنوبها، وأخذها الله بذنوبها، قال: (مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ) هذا الكتاب لماذا أعطي لموسى ولقومه؟ والقرآن لماذا أعطي لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ والزبور لداود؟ والإنجيل لعيسى؟ الكتاب بشكل عام لماذا أنزل؟ لماذا أنزله الله؟ قال: (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) يوجد عندنا بصائر، ويوجد عندنا هدى، ويوجد عندنا رحمة، ثلاثة أمور، الكتاب بصيرة، الكتاب هدى، الكتاب رحمة، كيف سنفسرهم؟ بصائر جمع بصيرة، الكتاب يجعلك تبصر لأنه يبصّرك بالغايات والأهداف، أي أنت تسأل القرآن: لماذا أنا في الدنيا؟ يأتيك الجواب:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
(سورة الذاريات: الآية 56)

تسأل القرآن: ما مصير الطغاة؟ ما مصير العصاة؟ يقول لك:

وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ
(سورة الصافات: الآية 24)

سيُسألون عن كل أعمالهم، تسأل القرآن: ماذا بعد الموت؟ يقول لك: إلى الجنة أو إلى النار، تسأل القرآن: كيف يحيا الإنسان إن التزم منهج الله تعالى؟ يأتيك الجواب:

فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
(سورة النحل: الآية 97)

تسأل القرآن كيف تكون معيشة من أعرض عن ذكر الله؟ يأتيك الجواب:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
(سورة طه: الآية 124)

المؤمن يرى بنور الله
إذا القرآن بصائر، أي أن معك شيئاً تنظر من خلاله، أنت لا تعلم الغيب، لا أنا ولا أنت ولا الأنبياء يعلمون الغيب، لكن أطلعك الله على جزء من الغيب، أي تعلم من الغيب بقدر ما أطلعك الله عليه، فالمؤمن يرى بنور الله، هذا البصائر، أنت ترى للأمام، أمّا إذا جلست مع إنسان بعيد كلَّ البعد عن الدين، وبعيد كلَّ البعد عن هدف حياته، فماذا يرى؟ لا أعرف، لست أدري، لماذا خلقت؟ لست أدري، إلى أين؟ لست أدري، مثل هذا الشاعر لست أدري، لا يعرف شيئاً مسكين، لا يعرف لماذا هو موجود؟ ولا إلى أين المصير؟ فلماذا هذه الحياة إذاً؟ فالبصائر هي أنك تبصر الغايات، أي أنت بنور الله ترى ما لا يراه الآخرون، هذه بصائر، تبصر المستقبل، الهدى هو أن يهديك إلى الوسائل التي توصلك إلى الغايات، أي البصائر أنت تدرك أن هناك جنةً وناراً من خلال الكتاب لأنه بصائر، والهدى يهديك إلى الطريق الذي ينبغي أن تسلكه لتصل إلى ما أبصرته، فالكتاب يقول لك: هناك جنة، والكتاب يقول لك: كيف تصل إلى الجنة، واضح، بصائر وهدى، أنت بطريق منحدر معك شيء نظرت به فرأيت في الأسفل قصراً جميلاً جداً جداً جداً، الآن فتحت خريطة فقيل لك: تنزل وتذهب يميناً ثم يساراً، ثم، ثم، ثم، إلى أن تصل إلى هذا القصر، فأنت رأيت بالبصيرة ما سيكون، وبالهدى عرفت كيف الطريق إلى الوصول إلى ما أبصرته، فالقرآن الكريم (بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى)
انظر ثلاث كلمات رائعات جداً، بصائر وهدى ورحمة، أحياناً أنت تبصر شيئاً، وتعلم الطريق إليه، لكن الطريق شاق جداً، وصعب جداً، تحتاج إلى الرحمة، فربنا عز وجل لم يقل لك: ستذهب في الطريق وتصل وتركك، القرآن فيه رحمة، تقرؤه فتشعر بالأنس، تقرؤه فتشعر بالراحة النفسية، تقرؤه فتدمع عينك، تقرؤه فتشعر بالقرب من الله عز وجل، هذه رحمة الله، إذاً الهدف واضح، والطريق إليه واضحة، ومعك من الله عز وجل مُعينٌ لك في أثناء رحلتك للوصول إلى هدفك، فقال: ( بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً) هذا هو الكتاب، القرآن والتوراة والإنجيل وكل الكتب السماوية جاءت لتبصر الهدف، ولتنير لك الطريق، ولتسلك إليه الهدف، وأنت في رحمة الله عز وجل.

قصة موسى دلالة على نبوة محمد لأنه لم يكن موجوداً يوم قضى الله الأمر :
(لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لعله يكون هناك اتعاظ بهذا القرآن الكريم، أو بهذا الكتاب الذي هو التوراة هنا، أي هذه الآية مثل ختام القصة مع بداية العبرة، ختام القصة مع بداية العبرة التعقيبات، التعقيب الأول: قال:

وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ
(سورة القصص: الآية 44)

الإيمان الحقيقي هو الإيمان بالغيب
(الْغَرْبِيِّ) من الجبل، أي من جبل الطور الغربي، حيث أعطى الله موسى عليه السلام الرسالة، وأعطاه الأمر والنهي، والوعد والوعيد، قال: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ) يا محمد هل كنت موجوداً في غرب الطور عندما عهد الله لموسى الرسالة؟ أبداً، ما كنت، هذا خطاب يأتي لأهل مكة، إذاً من أعلمه؟ الله تعالى، إذاً أول عبرة من القصة أن مجرد ورود القصة بهذه التفاصيل هو دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن موجوداً يوم قضى الله الأمر، عندنا أثر ونظر وخبر، هذا ليس نظراً لأنه لم يكن موجوداً، وليس أثراً لأننا لم نر آثاره، إذاً هذا خبر، الآن إن كنت مؤمناً حقاً تصدق خبر الله عز وجل، (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أنت لم تكن موجوداً، ولم تر بعينك، إذاً هذه القصة إن صدّقتها فأنت مؤمنٌ بالغيب حقاً، ومن يريد الإيمان الحقيقي فهو الإيمان بالغيب، وهؤلاء أهل مكة المشركون الذين حول النبي صلى الله عليه وسلم لو قرؤوا هذه القصة بقلوبهم وبألبابهم لوصلوا إلى أنّ محمد صلى الله عليه وسلم هو نبيٌّ مرسل، وإلا من أين جاء بهذه الأخبار المفصلة كأنك تراها؟ عندما قرأنا قصة موسى ألم تلاحظوا أنه كأننا نراها بأعيننا، عندما كان يقول ربنا عز وجل:

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ
(سورة القصص: الآية 24)

التفاصيل المهمة التي ذكرها، ولكن هي تفاصيل تصور لك، هذا التصوير الفني في القرآن، وكأنك ترى بعينيك، قال:

وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ
(سورة القصص: الآية 45)

(وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا) أي جاء من بعد موسى أقوامٌ وأقوام، (فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) دائماً الرسالة بأولها تكون أشد قبولاً في نفوس الناس، بعد حين طول الأمد يجعل القلب قاسياً، حتى إذا تاب الإنسان إلى الله وأناب إليه، يقول لك: في رمضان شعرت بسعادة غير طبيعية، أصلي التراويح وأنا مقبل على الله بكليتي، ثم بعد ذلك يدخل ويعافس الأهل والولد فيشعر بأن المعنويات ضعفت، وبأن الهمة فترت، هذه طبيعة بشرية في النفس، قال: (وَلَٰكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فما الذي حصل؟ قست القلوب، (فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) كما ورد في آيات أخرى.

فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ
(سورة المائدة: الآية 14)

طبيعة الرسالة
قال: (وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي لم تكن مقيماً في أهل مدين يوم جاءهم موسى عليه السلام لكن القصة وردت في القرآن بالتفصيل، (تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) إذاً هذه رسالة، طبيعة الرسالة أن المرسل يخبرك بشيءٍ لا تدركه حواسك، ولا يصل إليه عقلك، هذه فحوى الرسالة من الله عز وجل، أما إن أرسلت لك رسالة أخبرك بها بما رأيتَ أمس فما قيمة هذه الرسالة؟ أنا وأنت كنا في رحلة بالأمس، واليوم أرسلت لك رسالة كتبت لك فيها: بالأمس رأينا الجبال الخضراء، تقول لي: نعم رأيناها وانتهى، لماذا ترسل لي رسالة؟ أما إذا كنت لم تذهب وأنا ذهبت فأنا أرسلت لك في اليوم الثاني وقلت لك: أنا كنت في الأمس برحلة ترفيهية، ورأيت فيها الجبال الخضراء، فتقول لي: الله أكبر ليتني كنت معك، فأنت تنفعك الرسالة عندما يأتي بها شيءٌ لم تكن موجوداً عندما حصل، وإلا لو كنت موجوداً فما نفع أن يرسل إليك؟!
لذلك قال في نهاية الآية: (وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) هذا فحوى الرسالة، فحوى الرسالة أن الله عز وجل يُعلِمك بأشياء لا يمكن أن تصل إليها لا بحواسك ولا بعقلك، فمن سيخبرك بما كان في الأزمنة السابقة؟ ومن سيخبرك بما سيحصل بعد موتك؟ ومن سيخبرك بما سيكون في المستقبل؟

غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
(سورة الروم: الآية 2-3)

فالرسالة تأخذ قيمتها عندما يكون فيها شيءٌ جديد، وإلا إن كانت وصفاً لحال فهذا أدب، يمكن أن ترجع من الرحلة وتكتب وتصف الجمال، هذا من الأدب لكنه ليس رسالةً، لا يحمل جديداً ينفعك، وإنما أُمتِّع الناس بما رأيت فأكتب لهم، أما الرسالة فتحمل شيئاً جديداً، تقرأ فتقول: جاءتني رسالة ينبغي أن أتحرك، هذه هي فحوى الرسالة، قال: (وَلَٰكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).

رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تبشير و إنذار :
ثم قال تعالى :

وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(سورة القصص: الآية 46)

البشارة تسبق الإنذار
(وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) عندما نادى الله عز وجل موسى عليه السلام وحمّله الرسالة (وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) ولكن كان هذا الأمر رحمة من الله عز وجل في أن علمك إياه، لماذا علمك الله هذه القصص السابقة؟ قال: (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ) أي من أجل أن تخوّف الناس من شيءٍ لم يخافوا منه من قبل، لم يأتهم نذير من قبل، النبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، أي رسالته تبشير وإنذار، والتبشير قبل الإنذار دائماً، ونحن في ديننا نعلم أن البشارة تسبق الإنذار، (مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا):

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
(سورة الفرقان: الآية 56)

التبشير يقرب النفوس
لأن التبشير يقرب النفوس، لكن هنا باعتبار القصة عن هلاك الأمم فجاء الحديث بالإنذار ليس إغفالاً لدور البشارة، لكن المقام يناسب ذلك، لمناسبة الكلام، إذا كان هناك شخص قد اقترب منه ثعبان مخيف، وأنت قلت: سأبشره قبل أن أنذره فأتيتَ وقلت له: الأيام القادمة أحلى، والدنيا جميلة، ولا تخف، والثعبان يقترب، فأكل لدغة الثعبان ومات، ولكنه مات مسروراً! مستبشراً خيراً! ما معنى ذلك؟ الآن وقت الإنذار، الآن هناك ثعبان مخيف قادم فأنقذه وبعد ذلك بشّره، فليس دائماً الأصل أن التبشير يسبق الإنذار، الأصل إذا كنت جالساً مع إنسان بظروف طبيعية بشره بالجنة، ثم خوفه من النار، لكن إذا كانت الظروف استثنائية وهو لا يرتدع ويقتل، فلا تقل لي: إني أُبشّره، بل أنذره وخوِّفه، فهنا الظروف استثنائية، المسلمون يسامون سوء العذاب، المسلمون محاطون بالمشركين من كل حَدَبٍ وصوب، النبي صلى الله عليه وسلم جاءته هذه القصة لتُسلّي عن قلبه وعن قلوب أصحابه قال: (وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) جاءت هذه الرحمة (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ) من أجل أن تستخلصهم وتستنقذهم من النار:

وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ
(سورة فاطر: الآية 24)

فهؤلاء لم يأتهم نذير، فأوجب الله على نفسه، وألزم نفسه وذاته العلية إن صح التعبير أن ينذر كلَّ القرى ومن حولها، فأرسل نذيره محمداً صلى الله عليه وسلم قال: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

مهمة الدعاة دفع الناس إلى التذكّر :
الإيمان موجود في القلوب
(يَتَذَكَّرُونَ) التذكر يشير إلى أن شيئاً موجوداً قد نسيته فينبغي أن تتذكره، ما الشيء الموجود الذي سيتذكرونه؟ نداء الفطرة، الإيمان في الأصل موجود، ونحن عندما نتحدث عنه إنما نذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين، فالإيمان موجود في القلوب، ولكن نحن نستثيره ونذكّركم به، أمّا هو فمستقر في الأعماق، فمهمة الدعاة ليست أن يبنوا شيئاً مفقوداً في قلوب الناس، ولكن أن يدفعوهم إلى التذكّر، كل شيءٍ في الكون يدعوك إلى الإيمان بالله، أنا فقط أذكّرك، أنا لا أضيف شيئاً، إذا قلت لك: أنت تمشي، هل أضفت شيئاً؟ لا، لكن أنا أذكّرك أنك في نعمة نسيتها؛ تستطيع أن تمشي على قدميك فأنا أذكّرك فقط، أنا إذا قلت لك: الصدق مطلوب فأنا لم أضف لك شيئاً جديداً، الفطرة تقول: إنّ الصدق مطلوب، لكن أذكّرك بأن الصدق مطلوب، إذاً كلمة (يَتَذَكَّرُونَ) توحي بأن:

وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
(سورة الذاريات: الآية 55)

أن تتذكّر شيئاً قد أنستك إياه الظروف، أو أنستك إياه متاعب الحياة، فأنا أذكّرك بفطرتك، وأذكّرك بعقلك، وأذكّرك بالوحي، فأنا أذكّر فقط، هذا معنى (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
نكتفي بهذا القدر في هذا اليوم، هذه تعقيبات القصة، مهمة جداً، وبعدها يبدأ كلام متعلق بالقصة، ويفتح لنا أفقاً جديداً في سورة القصص، نتابع ذلك في لقاء لاحق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته