إلقاء يوسف في الجب

  • الدرس الرابع: شرح الآيات 13 - 19
  • 2020-08-29

إلقاء يوسف في الجب

السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِه أجمعين، مع اللقاء الرابع من لقاءات سورة يوسف ومع الآية الثالثة عشرة وهي قوله تعالى:

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ
(سورة يوسف: الآية 13)

إخوة يوسف يراودون أباهم عنه لعله يسمح لهم باصطحابه معهم:

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ
(سورة يوسف: الآية 12)

يعقوب عليه السلام هنا يبرر لماذا لا يسمح لأبنائه أن يصطحبوا يوسف؟ يبرر قراره بأمرين، الأول: قال: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ)، السبب الثاني: الخوف (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، حزن وخوف، الخوف يكون من المستقبل؛ من شيء سيحدث، وعنده حزن في داخله على فراق يوسف.
(إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) هما سببان، السبب الأول: أكَّده بالمؤكِّدات (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) أكَّده بمؤكِّدين، الأول هو: (إنَّ) حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد، تقول: الجوُّ جميلٌ، وتؤكِّد فتقول: إنَّ الجوَّ جميلٌ، كأنك تقول: أُؤَكِّدُ، لذلك سمي مشبهاً بالفعل فهو يعطي معنى الفعل يُؤَكِّد، (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) ثم أكَّد بمؤكِّدٍ آخر وهو: (اللام)، تقول: الجوُّ جميلٌ، إنَّ الجوَّ جميلٌ، إنَّ الجوَّ لجميلٌ، مُؤكِّدان، هذه يسمونها لام المزحلقة تأتي في خبر إنَّ لتزيد التوكيد توكيداً، فأكَّد بمؤكدين حزنه على فراق يوسف، هذا يزيد مشاعر الحقد في نفوسهم على يوسف ألا يستطيع أن يتخلى عنه ساعةً من الزمن! بعض يوم! هو لا يستطيع فراقه حتى لبعض يوم (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ).

النهي عن الحزن في الإسلام
الحزن شعور في داخل النفس، وهو شعور مشروع لكنه لم يرد في القرآن الكريم إلا منهياً عنه، قال تعالى:

لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
(سورة التوبة: الآية 40)

لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ
(سورة الحديد: الآية 23)

لم يرد الحزن في القرآن مأموراً به، بينما الفرح ورد في القرآن منهياً عنه وورد في القرآن مأموراً به، منهياً عنه كفرح قارون:

لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ
(سورة القصص: الآية 76)

مأموراً به كفرح المؤمنين:

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
(سورة يونس: الآية 58)

هذا أمرٌ أن نفرح، فالفرح أُمِرَ به في القرآن الكريم في مواطن ونهي عنه في مواطن، فالفرح بالدنيا مذموم، والفرح بالبغي في الأرض بغير الحق والمرح مذموم، قال تعالى:

ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ
(سورة غافر: الآية 75)

لكن عندما يكون الفرح بطاعة الله وبمنهج الله يكون محموداً، قال تعالى:

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
(سورة الرعد: الآية 36)

النهي عن الحزن في القرآن الكريم
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) قالوا: فضل الله ورحمته هو الإسلام وأن جعلنا من أهل الإسلام، فنحن نفرح بشيء ولا نفرح بشيء، أما الحزن فلم يأتِ في القرآن إلا منهياً عنه؛ لأن القلب إذا امتلأ حزناً لم يعد قادراً على أن يمتلئ بالسكينة والأمن والطمأنينة وهذه كلها معانٍ مطلوبة، إلا أن الحزن مشروع، إذ لا بدَّ منه، فما معنى (لَا تَحْزَنْ)؟ معنى (لَا تَحْزَنْ) أنه لا ينبغي أن يأخذ بك الحزن مأخذاً يصل بك إلى أن يغتمَّ قلبك به ولا تستطيع قادراً على القيام بحق الله وبحق الناس من حولك، إلا أنَّ كل إنسان يحزن، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:

{ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ }

(رواه البخاري)

الحزن شعور مشروع، لم يؤمر به لكن لا بد أن يقع؛ لأن المشكلات في الدنيا كثيرة والعوائق كثيرة والصوارف كثيرة فيحزن القلب.

خوف يعقوب عليه السلام على سيدنا يوسف
الآن الخوف (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) يعقوب عليه السلام رغم علمه بأن إخوة يوسف يكيدون ليوسف والدليل في بداية السورة لما قصَّ عليه يوسف الرؤيا التي رآها قال له:

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا
(سورة يوسف: الآية 5)

لا تتهم الناس بغير بيِّنة
أي يتآمرون عليك، إذاً هو يعلم من أبنائه أن عندهم الكيد وعندهم المؤامرة ومع ذلك لم يتهمهم في نياتهم فقال: (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) فيعقوب عليه السلام ما يتبادر إلى ذهنه من مخاوف من إخوة يوسف لم يَبُحْ لهم بها، وهذا من أدب الأنبياء وهذا من أدب التربية ومن أدب الآباء، لا تتهم الناس بغير بيِّنة، ولا تتهمهم بما يجعلهم يزيدون من مكرهم وحقدهم، تعامل مع الناس على أنهم لا يريدون سوءاً إلا إن كان لديك دليلٌ واضحٌ صارخٌ قويٌّ، وبذلك تشجعهم على أن يُبعدوا عنهم السوء (وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) لم يقل سيأكله الذئب تقصيراً منكم، ولم يقل سيأكله الذئب لأنكم تريدون ذلك، وإنما قال: (وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) تغفلون عنه بأشيائكم أو بمتاعكم بما تفعلونه وتجهدون به من تعب وكد لتحصيل رزقكم (يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ)، فإذاً يعقوب عليه السلام يبرر عدم رغبته باصطحاب يوسف مع إخوته بشيئين اثنين: الحزن على فراق يوسف والخوف من أن يأكله الذئب، وليس المقصود الخوف من أن يأكله الذئب على وجه التحديد، ولكن يبدو أن هذه الحالة كانت متكررة، فوجَّه الخوف إليها، لكنه يخاف أن يحصل مكروهٌ ليوسف حال انشغال إخوته عن رعايته والقيام بشأنه.

قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ
(سورة يوسف: الآية 14)

كيف يستطيع الذئب أن ينال منه ونحن جماعةٌ قويةٌ! نحن عشرة رجال أشداء، وقلنا في اللقاء الماضي: إن العصبة هي المجموعة من ثلاثة إلى عشرة، مجموعة من الرجال الأقوياء ننفع وندفع، نأتي بالنفع لأنفسنا وندفع السوء عنها، فنحن عصبة، لسنا شخصاً أو شخصين، نحن عصبة ندفع الشر عنه وعن أنفسنا (إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ) إن حصل ذلك فهذه خسارةٌ عظيمةٌ أن يكون هناك عشرة رجال أشداء ولا يستطيعون بعد ذلك أن يحموا أخاهم الصغير.

مواقفة سيدنا يعقوب على ذهاب يوسف عليه السلام مع إخوته
قال تعالى:

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
(سورة يوسف: الآية 15)

الآن أقفل المشهد، ما سيأتي يبين أن والدهم وافق بعد ذلك، ووافق على مضض بين الإحراج والخشية على مشاعرهم والخوف من أن يظنوا أن والدهم يخاف على يوسف منهم، فأراد أن يبرِّد قلوبهم وأعطاهم يوسف، الآن لو نظرت في الأمر تقول: كيف سمح لهم وهو يخاف كلَّ هذا الخوف؟ الجواب:

لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا
(سورة الأنفال: الآية 44)

مشيئة الله نافذة
مشيئة الله نافذة، هو نبي ويُوحى إليه وكان من الممكن أن يوحي إليه الله ألا ترسل معهم يوسف فهم يتآمرون عليه ويكيدون له، وكان من الممكن أن يُعلمه الله تعالى بوحيٍ بأنهم قد أجمعوا أمرهم أن يجعلوه في غيابة الجبِّ، لكن الله تعالى أراد أن يحصل الذي حصل، سلِّم الأمر لله عزَّ وجلَّ، هذا من باب التسليم، فإِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْفَاذَ أمرٍ أخذَ من كُلِّ ذي لُبٍّ لُبَّهُ، مع الله عزَّ وجلَّ لا يوجد إنسان يقول: أنا عاقل، عقلي معي، قوتي معي، عشيرتي معي، أبداً، إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْفَاذَ أمرٍ فلا بد أن يحصل هذا الأمر، قد يقول قائل: لماذا أرسله؟ لو كنت مكانه لما أرسلته مثلاً، يعلم منهم أنهم يكيدون ويخاف عليه ويحزنه وتوقع السوء وتوقع المكر وتوقع المكيدة ومع كل ذلك أرسله؛ الجواب: لأن الله تعالى أراد أن يرسله.
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) أجمعوا تدلُّ على أنه كان هناك مشاورات، الآن عدنا إلى المشهد السابق، لما تركناهم في المشهد السابق كانوا بين أمرين:

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا
(سورة يوسف: الآية 9)

وكان هناك رأي من أحدهم بأن يُلْقَى في غيابة الْجُبِّ، ولم نعرف على ماذا استقر الرأي، فجاء المشهد هذا ليكشف النتيجة التي توصلوا إليها (وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ) يعني أجمعوا أمرهم (أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) فيغيب عن أعينهم ويغيب عن أعين والده ويُنسى في هذا (الْجُبِّ) و(الْجُبِّ) هو البئر القريب من سطح الأرض الذي له فوهة كبيرة.

تعريف الوحي وأنواعه
الوحي هو الإعلام بخفاء
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) إلى يوسف، والوحي: هو الإعلام بخفاء من غير أن يشعر الآخرون، قد توحي إلى إنسان بشيء فتعلِمه بما تريد منه من غير أن يشعر الجالسون، فإذا كان الأب في مجلس وعنده بعض الضيوف قد يوحي إلى ابنه بأن يذهب ويحضر الضيافة دون أن يُشعِر الجالسين بهذا، فهذا اسمه وحي، الإعلام بخفاء يسمى وحياً، والوحي إذا جاء إلى الأنبياء فهو الوحي المعروف شرعاً وهو ما يُعلمه الله تعالى لأنبيائه ولرسله عن طريق مَلَكٍ من الملائكة الموكلين بذلك، لكن قد يكون الوحي بمعنى الإلهام، فأم موسى مثلاً ليست نبياً ولا رسولاً، ومن شروط النبوة والرسالة الذكورة حتى يقوم النبي والرسول بأعباء الرسالة وما يواجهه فيها، فهي ليست رسولاً وليست نبياً، ومع ذلك أوحى إليها الله تعالى:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ
(سورة القصص: الآية 7)

فهنا الوحي بمعنى الإلهام، ألقى في نفسها، أعلمها بخفاء أن ترضع ابنها (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) وكُلٌّ منا قد يوحى إليه لا على أنه نبي معاذ الله، لكن على أنه مؤمنٌ مقربٌ من الله له كرامةٌ عند الله فيقول: لا أدري لمَ ألهمني الله أن أغادر هذا المكان فلما غادرته وقع الحادث فيه! أُلهِمتُ، هذا وحي الإلهام، وقد يأتي الوحي بمعنى الغريزة، وحي الغريزة:

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
(سورة النحل: الآية 68)

وحي الغريزة عند النحل
فالنحل وحيها وحي غريزة بمعنى أنَّ الله عزَّ وجلَّ أودع فيها هذا الأمر، فلو جئت إلى نحلةٍ وأجريت معها مقابلةً وسألتها: لماذا تتخذين من الجبال بيوتاً؟ ولماذا تصنعين العسل؟ وكيف تصنعين هذا الشكل السداسي؟ لما عرفت جواباً! فهي تسير بغريزتها، سخرها الله لنا لتصنع لنا العسل، فهذا وحي الغريزة، فهناك وحي نبوة وهناك وحي إلهام وهناك وحي غريزة، وكل أنواع الوحي هي إعلامٌ بخفاء؛ أن تُعلِمَ شيئاً من جهةٍ إلى جهةٍ من حيث لا يدري الآخرون؛ الإعلام بخفاء.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) أوحى الله إلى يوسف، وهذا وحي النبوة لأن يوسف نبي ولو كان غلاماً صغيراً وهذه من إرهاصات النبوة المبكرة، الإرهاصات أي العلامات قبل أن يُبعث إلى الناس، (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) إلى يوسف (لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا) هم الآن أجمعوا أمرهم ليجعلوه (فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) يتفقون على ذلك، والله عزَّ وجلَّ يُطمئن نبيه بوحيٍ مباشرٍ إليه: يا يوسف لا تَبْتَئِسْ بما يصنعون، أن يا يوسف هذا الذي يجري يجري بعلمي وبحكمتي وبقدري وهو خيرٌ لك وسوف تنجو منه وسوف يأتي يومٌ تُعرِّفهم بفعلتهم هذه وأنت تعرفهم وهم لا يعرفونك، وجاء هذا اليوم:

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
(سورة يوسف: الآية 58)

هذا أوحي إلى يوسف وهم يُجمعون أمرهم (أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) وهو غلامٌ صغيرٌ لا يقوى على شيء إلا أنَّ الله تعالى في هذه اللحظات العصيبة القاسية أوحى إليه بهذا الوحي الذي ثبَّته وقوَّى من عزيمته، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) سيأتي يومٌ تعرفهم وهم لا يعرفونك، لا يشعرون بك، وقد تكون جملة (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) متعلقة ب (وَأَوْحَيْنَا) يعني (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ .. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) يعني لما كانوا يجمعون أمرهم على ذلك كان الله تعالى يوحي إليه هذا الوحي كما قلنا هو إعلامٌ بخفاء من غير أن يشعر إخوته بما يجري من إيحاء الله له، فهما معنيان، والمعنيان صحيحان، إما أن نقول: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بالوحي الذي أوحي إليه، أو: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ عندما سَيُنَبِّئُهُم يوسف بأمرهم، عندما سيقول لهم:

هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ
(سورة يوسف: الآية 89)

(لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) النبأ يأتي للخبر العظيم

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ
(سورة النبأ: الآية 1-2)

(لَتُنَبِّئَنَّهُم) أي لتخبرنهم بخبرٍ مهمٍّ جداً، فالنبأ أعظم من الخبر، لذلك يقال: وكالات الأنباء ونشرات الأخبار، فنشرات الأخبار تأخذ من وكالات الأنباء.

كذب أولاد يعقوب عليه السلام على أبيهم عند عودتهم

وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ
(سورة يوسف: الآية 16)

في الليل سترٌ للكاذب
أُغلق المشهد، والقصة عبارة عن مشاهد، وكل مشهد يُغلَق وما بعده يُفسِّر ما الذي حصل، الآن هم جعلوه (فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) وهنا الله تعالى لم يذكر التفاصيل، فلا داع لها، هذا من الإيجاز والبلاغة، أودعوه (فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) وتناقشوا في الأمر وفعلوا ما فعلوا في نهارهم، الآن (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ)، لماذا جاؤوه ليلاً؟ لأن الليل أستر للكاذب فوجه الكاذب يفضحه، الكاذب تقاسيم وجهه تفضحه، ولحن قوله يفضحه، وطريقة صياغة الخبر تفضحه، تبارك الله ما جعل للكاذب قوةً على أن يَسبك كذبته مهما كان بارعاً فيها فلا بد أن تُخترق كذبته في شيءٍ ما، وهذا من عظيم خَلْقِ الله تعالى أن الإنسان لمَّا يكذب يكون مرتاباَ؛ يتفاوت الناس، هناك من الناس من لا يعرف الكذب فإذا بدأ في الكذب قيل له: يا فلان أنت كالأطفال كذبتك واضحة، وهناك من يصوغها ويحبكها لكن هناك من الخبراء من يكشفه، فالكاذب يُعرف بتقاسيم وجهه ويُعرف بلحن قوله، قال تعالى:

وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
(سورة محمد: الآية 30)

فتهدُّج صوته وطريقة خطابه وتصنُّع بكائه كُلُّ ذلك يكشف كذبه، هم الآن تستروا بالليل، الليل يستر، فتغيب وجوههم أمام أبيهم فيصبحون أكثر قدرة على المواربة لذلك (جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً) حتى لا يفتضح أمرهم (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) يتصنعون البكاء، وَلَيْسَتِ النَّائِحَةُ الثَّكْلَى كالنَّائِحَةِ الْمُسْتَأَجَرَةِ، كما قيل في المثل، بالمناسبة: النواح حرام

{ عَن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ }

(رواه مسلم)

حكم البكاء والنواح
فالنياحة حرام، لكن البكاء ليس حراماً، والنواح يعني لطم الخدود وشق الجيوب والصوت العالي، فكان العرب أحياناً يأتون بالنَّائِحَة التي تنوح في المآتم يستأجرونها يدفعون لها مالاً حتى تأتي وتصرخ فقالوا: وَلَيْسَتِ النَّائِحَةُ الثَّكْلَى كالنَّائِحَةِ الْمُسْتَأَجَرَةِ، فالنَّائِحَة التي فقدت ابنها تنوح من قلبها الممتلئ بالحزن والأسى على الفراق، أما المستأجَرة فمهما فعلت فلا تستطيع أن تعبر عن الحزن لأنه لا يوجد حزن في الأصل فهي قد استُؤجرت، فهؤلاء يتباكون وبكاؤهم مفضوح (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) قالوا:

قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ
(سورة يوسف: الآية 17)

الآن بدؤوا أيضاً بالاستعطاف من جديد (يَا أَبَانَا) وهذا استعطاف ليذكروه بما بينه وبينهم من أواصر القُربى والحب فأنت أبٌ لنا.

حكم اللعب في الإسلام
(يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) والاستباق يكون في العدو والركض، ويكون في الخيل، ويكون في النبل والسهام، كله يسمى استباقاً، نلعب لعبة فيها سباق من يسبق الآخر.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها:

{ أنها كانت مع رسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - في سَفَرٍ، قالت: فسابقتُه فسبَقْتُه على رِجْلَيَّ، فلما حَمَلْتُ اللحمَ؛ سابقتُه فسَبَقَني، فقال: هذه بتِلِكَ السَّبْقَةِ }

(أخرجه أبو داود بسند صحيح)

اللعب المباح مسموح
(هذه بتِلِكَ السَّبْقَةِ) يعني واحدة بواحدة صلى الله عليه وسلم، فكان يسابق زوجته، واليوم ربما يأنف كثير من الرجال أن يسابق زوجته أو يسابق حتى أولاده، لكن المؤمن يسابق يلعب يتحرك، واللعب المباح مسموح ما دام لا يلهي عن طاعة ولا يشغل عن ذكر، فما دام هذا اللعب لا يشغلك عن طاعةٍ من الطاعات فقد يصبح هذا اللعب عبادة إذا أدخلت به السرور على قلبك، أو قلب زوجتك، أو قلب أولادك، فالاستباق مشروع شرعاً، وهذا يُستأنس به في مشروعية السباق، يذكره بعض الفقهاء في مشروعية السباق (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) لأن هذا لو لم يكن مشروعاً لما باحوا به لأبيهم النبي (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) إما عدواً أو بالنُّبُل والسهام.

كشف كذب أولاد يعقوب عليه السلام
الخلل في شرط ذهاب يوسف مع إخوته
(وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا) وهذا خللٌ عظيمٌ في الشرط الذي اشترطوه على أنفسهم، فهم اشترطوا أن يحموا يوسف فإذا بهم قد أخذوه ليحمي أمتعتهم، هم لما قالوا: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا) (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) فإذا بهم يقولون: (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا) الولد الصغير تركتموه ليحفظ لكم أمتعتكم وأنتم تلعبون؟! أنتم ذهبتم ليلعب هو ولتقوموا أنتم برعايته! وهذا بداية كذبهم.
(وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) يعقوب عليه السلام أعطاهم الحجة من غير أن يشعر، لما قال لهم: (أَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) فهم من جهلهم اصطادوا الكلمة ووجدوا العذر المناسب ولو كان عندهم فكرٌ؛ لكن سبحان الله الكاذب يُفضح بكذبه كما قلنا، ولو كان عندهم تفكيرٌ لوجدوا كذبةً أخرى لقالوا: سقط أو كذا، لكن اصطادوا الكذبة كما هي أكله الذئب كما قال لهم، هو أوحى لهم بالعذر من غير أن يشعر وهذا يفضحهم.
كادَ المُريبُ بِأَن يَقولَ خُذوني
{ ابن سهل الأندلسي }
قالوا: (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا) مؤمن أي مصدق (وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) نعرف أنك لن تصدقنا، هم متضعضعون أمام أنفسهم، أخفوا وجوههم بسواد الليل لكن القصة كلها غير مسبوكة بطريقة تقنع طفلاً، اصطيادهم للكذبة ثم إخلالهم بالعهد وترك أخيهم الصغير الذي لا يقوى على شيء وهم العصبة تركوه عند متاعهم وذهبوا ثم أكله الذئب!

ذكر قميص سيدنا يوسف
قال:

وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
(سورة يوسف: الآية 18)

قميص يوسف تكرر ثلاث مرات في قصة يوسف، فأصبح مثلاً، قميص يوسف يذكر في عدة مواطن:
- الموطن الأول:

وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ
(سورة يوسف: الآية 18)

- والموطن الثاني:

فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
(سورة يوسف: الآية 28)

- والموطن الثالث لما قال:

فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا
(سورة يوسف: الآية 93)

فالقميص مرَّةً مملوء بالدم، ومرَّةً يرد بصر يعقوب عليه السلام، ومرَّةً يكشف خيانة امرأة العزيز، هذا قميص يوسف.
وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ
هنا المرَّة الأولى: قال: (وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) قيل في بعض الكتب: إنهم ذبحوا معزةً ولطخوا القميص بدمها، وورد في بعض الروايات أنهم لم يمزقوا القميص فقال لهم أبوهم: أكل لحمه وترك قميصه! (وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) لم يقل: بدمٍ كاذب؛ وهل يكذب الدم؟ هم الكاذبون، والدم قد يأتي مجازاً الدم كاذب، لكن لم يقل: بدمٍ كاذب، قال: (بِدَمٍ كَذِبٍ) الكذب هو المصدر، (بِدَمٍ كَذِبٍ) كما تقول: فلانٌ عادلٌ، وقد تقول: فلانٌ عدلٌ، فالعدل مصدر لكن لشدة عدله أصبح هو العدل، وكما قال تعالى:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
(سورة التوبة: الآية 28)

ولم يقل: نجِسون، وهنا لم يقل: بدمٍ كاذب، وإنما الدم أصبح هو الكذب لشدة خيانتهم ولشدة كذبهم.

النفس وأنواعها
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا)، (سَوَّلَتْ) أي يسرت وسهلت لهم، فالنفس الأمَّارة بالسوء تسوِّل لصاحبها السوء، يعني سوَّلت لكم أنفسكم أمراً سيِّئاً وليس أمراً حسناً، لكن حذف الصفة لدلالة الحال عليها، كلنا أدرك أن الأمر المسوَّل به سيء، فلم يقل: بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً سيِّئاً، بل قال: (أَمْرًا) وهذا الأمر سيء حتماً، فهو بقوة فراسته وبالقرائن التي بين يديه مما قالوه ومما جاؤوا بهذا الدم الكذب الواضح أن القميص ملطخ بالدم وليس دم يوسف، كل هذه القرائن مع فراسة يعقوب أدرك أن ابنه لم يأكله الذئب فقال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا) والنفس أيها الكرام؛ أمارةٌ بالسوء، وهناك نفسٌ لوامةٌ، وهناك نفسٌ مطمئنةٌ، في القرآن الكريم عندنا: نفسٌ أمارةٌ بالسوء، ومذكورة في سورة يوسف لما قالت امرأة العزيز:

إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
(سورة يوسف: الآية 53)

أَمَّارَة: أي كثيرة الأمر بالسوء، طبيعتها تأمر صاحبها بالسوء، تأمره ألا يقوم لصلاة الفجر، تأمره ألا يكفَّ لسانه عن المعايب، تأمره ألا يساعد فلاناً، تأمره ألا يفعل معروفاً، أمارةٌ بالسوء، كثيرة الأمر، لكن الإنسان يجب عليه أن يكثر من لومها فتصبح نفساً لوامةً، أقسم الله تعالى بها في قرآنه فقال:

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
(سورة القيامة: الآية 1-2)

مادامت نفسك تلومك فأنت بخير
فهي نفسٌ محمودةٌ لأنها ما إن يقع صاحبها بالمنكر حتى تلومه، لمَ فعلت ذلك؟ لمَ عصيت ربك؟ لمَ أسأت إلى فلان؟ لمَ؟ لمَ؟ مادامت نفسك تلومك فأنت بخير ولو كنا نقع في بعض الآثام والمعاصي لكن ما دمت صاحب نفسٍ لوامةٍ فهنيئاً لك، لأن النفس اللوامة لا بد أن تصل بك يوماً إلى النفس المطمئنة التي اطمأنت إلى أمر الله وإلى وعد الله فاستقامت على أمره، هذه أهم ثلاثة نفوس في القرآن، أمارةٌ بالسوء، لوامة، ثم:

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي
(سورة الفجر: الآية 27-28-29-30)


الصبر الجميل
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) سأصبر صبراً جميلاً، بمَ قابل مصيبته فوراً؟ بالصبر الجميل، لذلك يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى }

(رواه البخاري)

مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي) فلما مضى (قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فجاءت إلى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعتذرت، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)
الصبر على ما يحزنك ولا تريده
كل الناس يصبرون بعد حين وهل نملك غير الصبر؟ يقول لك: صبرت، وهو تكلم بكلام لا يليق وفعل ما يحلو له ثم يقول لك: صبرت! هذا الصبر الإجباري القهري ليس صبراً، أما الصبر عندما تتلقى أمراً لا تريده ويُدخل إلى قلبك الحزن ثم تقول: يا ربِّ لك الحمد، فيعقوب عليه السلام من فقد هنا؟ فقد يوسف الحبيب الذي يتوسَّم فيه أن يحمل إرث إبراهيم عليه السلام، يوسف الذي رأى (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) يوسف الذي يحزنه أن يذهبوا به ساعة ثم هو الآن لا يجده فلم يقم إليهم ولا ضربهم ولا خرج عن طوره ولا سبَّ ولا شتم إنما قال: (سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ما الصبر الجميل؟ وهل هناك صبرٌ غير جميل؟ نعم، هناك صبر لكنه غير جميل يصبر ويشكو الأمر لغير الله، لكن صبره جميل لأنه قال بعد حين:

إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
(سورة يوسف: الآية 86)

فالصبر الجميل ألا تشكو الأمر إلا لله، أما أن يدعي الصبر وكلما جاءه أحد يكلمه بالمسألة من أولها إلى آخرها، ولا مانع للمؤمن أن يُحدِّث مؤمناً بمصيبته لعله يخفف عنه لكن أن يملأ الدنيا بالحديث وهو صابر فهذا صبرٌ ليس جميلاً، الصبر الجميل أن تكون شكواك لخالقك فقط لمن يملك أمرك هذا صبرٌ جميلٌ وفي القرآن الكريم: صبرٌ جميلٌ، وهجرٌ جميلٌ، وصفحٌ جميلٌ، ثلاثة من الأخلاق العالية وصفت بالجميل، فقيل: الصبر الجميل صبرٌ بلا شكوى إلا لله، والهجر الجميل هجرٌ بلا أذى

وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا
(سورة المزمل: الآية 10)

والصفح الجميل صفحٌ بلا عتاب، فقد يصفح إنسان عن آخر ثم يعاتبه، يقول له: سامحتك وصفحت عنك لكن هل يعقل أن تفعل بي ذلك! اجعل صفحك جميلاً، اجعل صفحك جميلاً ولا تعاتبه على ما مضى، وهناك هجرٌ مع الأذى، يهجره ولا يكلمه لأنه مثلاً بعيدٌ عنه، ولكن يؤذيه بلسانه ويتحدث عنه، فهذا ليس هجراً جميلاً، وهناك صبرٌ غير جميل عندما يكون صبراً مع الشكوى والمذلة للناس، فهنا قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) سأصبر صبراً جميلاً.
(وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ)، (تَصِفُونَ) أي تصفون الكذب

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ
(سورة النحل: الآية 116)


الاستعانة بالله تعالى
(وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ) ونحن في كُلِّ صلاةٍ نقول:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
(سورة الفاتحة: الآية 5)

الاستعانة بالله أصلٌ في ديننا
فالاستعانة بالله تعالى أصلٌ في ديننا (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ) تستعين على هذا الصبر الجميل بالله تعالى، من الذي يصبِّرك؟ الله، من الذي يجعل صبرك جميلاً فلا تشكو إلا لخالقك؟ الله، فقال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ) أستعين بالله تعالى على هذا الكذب الذي كذبتم به وهذه القصة الملفقة التي جئتم بها والتي لا تقنع طفلاً، لكن يعقوب سلم أمره لخالقه ومولاه، وكأن يعقوب عليه ااسلام يعلم بقرارة نفسه أن أمر الله تعالى نافذ وأن الله قد أراد هذا الأمر وقد سخَّر له هؤلاء وهذا كما قلنا سابقاً لا يعفيهم من المسؤولية، كون الله تعالى أراد ما سيكون لا يعفي إخوة يوسف من مسؤوليتم عن فعلتهم النكراء بيوسف لكن الأمور تجري بأمر الله تعالى فهو جلَّ جلاله يقدر الخير ويقدر الشر ومن يأتي على يديه الخير طوبى له ومن يأتي على يده الشر فالويل له، والإنسان هو الذي اختار أن يفعل الخير أو أن يفعل الشر ولكن الأمور كلها تجري بالمقادير وهذا يريح النفس.

نجاة يوسف عليه السلام من الجب

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ ۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
(سورة يوسف: الآية 19)

الآن عدنا للبئر الذي وضع فيه، وهذا المشهد كان مع أبيهم يعقوب عليه السلام وانتهى المشهد، عدنا إلى المكان الذي تُرك فيه يوسف في (غَيَابَتِ الْجُبِّ)، (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ) والسيارة مثل جوَّالة يعني الذين يجولون، البائعة الجوالة، وهناك سيارة ممن يكثرون السير، (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ) قومٌ يسيرون كثيراً، (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) والوارد هو الذي يستطلع منابع الماء، قال الشاعر الجاهلي في معرض الفخر:
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا
{ عمرو بن كلثوم }
الوارد هو الذي يرد الماء قبل القوم
(فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) الوارد هو الذي يرد الماء قبل القوم ليستطلع الماء، وهل هو صالحٌ للشرب فيأتي بهم إليه فهو الوارد (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) لينظر (فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ) هنا المشهد القرآني لا يحدِّثكَ كيف تعلق يوسف ربما بالدلو أو صرخ واستغاث واستنجد الله أعلم (فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ ۖ قَالَ يَا بُشْرَىٰ) بشرى عظيمة جاء يطلب الماء فوجد غلاماً والغلام في هذا العهد يباع ويشترى، فهو ثروة، كأنه وجد عقداً من اللؤلؤ في هذا الزمن، لأن هذا غلام يباع ويشترى غلام صغير، ويوسف عليه السلام قد أوتي شطر الحسن (يَا بُشْرَىٰ هَٰذَا غُلَامٌ) استبشر برؤية هذا الغلام.
(وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) جعلوه معهم على أنه بضاعة، لم يعد كإنسان له حاجاته بل أصبح بضاعةً تباع وتُشرى.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) لأن الله تعالى:

وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة يوسف: الآية 21)

وقد قلنا قبل ذلك: إن هذه القصة عبرتها عندما يقول تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فهم يكيدون ويتآمرون ويتحركون ولكن كُلُّ هذه الحركة إنما تتم بأمر الله وبتقديره وبما يريده ولما فيه الخير ونشر الخير (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
والحمد لله رب العالمين