مقومات التكليف - اللقاء الأول

  • محاضرة في الأردن
  • 2021-11-29
  • عمان
  • الأردن

مقومات التكليف - اللقاء الأول

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على نبيِّنا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم عَلِّمنا ما يَنفعُنا، وانفَعنا بما عَلَّمتَنا وزِدنا عِلماً وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً يا ربَّ العالمين وبعد.


الإنسان هو الوحيد الذي قبِل حمل الأمانة:
أحبابنا الكرام، رجل تاجر، عنده أربعة أولاد طبيعة عمله، تقتضي أنَّ واحداً من هؤلاء على الأقل يجب أن يأخذ شهادة عُليا من بلد مُتَقدِّم ليُتابِع العمل في المُنشَأة التي هو فيها، فجَمَع الأولاد الأربعة وقال لهم: أنوي أن أُرسِل أحدكم إلى فرنسا لإحضار شهادة عُليا في هذا المجال، فمن منكم يَحمِلُ هذه الأمانة ليتابِع المعمل من بعدي ويستَلِم الأمور وأُفَرِّغُه لهذا الأمر ولا أريد منه شيئاً؟ من منكم يَحمِل الأمانة؟ الولد الأول قال: يا أبي أنا لا أجد نفسي هناك، أنا أعرف نفسي، لا أستطيع حَملَ هذه الأمانة، الدراسة صعبة جداً وأنا بالكاد أَنهيتُ الثانوية، لا أريد متابعة الدراسة، قال له: كما تريد يا بني، الثاني قال له: وأنا يا أبي أُشفِقُ من حَملِ هذه الأمانة، أنا خائف من الموضوع، لا أدري إن كانت إمكانياتي تَسمَح أم لا تَسمَح، اعذرني، والثالث قال مثل قول الثاني والأول، الرابع قال: يا أبي أنا لها، أرسلني وأنا لها، أَحمِلُ هذه الأمانة بصدق وأعود بعد خمس سنوات ومعي شهادة عُليا، وأسرُّ قلبك وخاطرك بها.
الآن الأب حَمَّل الأمانة لِمَن قَبِلَ الحَمل، قال له: ماذا تريد؟ قال: أُريد راتباً شهرياً، حاضر، أُريد تذاكر سفر كي أعود كل صيف وأَزوركَم، حاضر، أُريد سيارة في تلك البلاد لأن المواصلات صعبة، حاضر، أُريد دورات في تَعلُّم الفرنسية لأنني ضعيف حتى أُقوي مُحادَثتي، حاضر، أعطاه ما يُريد، مما يُعينُه على أداء المُهِمَّة، ربنا جلَّ جلاله يقول في قرآنه الكريم:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
[ سورة الأحزاب ]

السماوات والأرض تعبير قرآني عن الكون
السماوات قالت: يا رب نحن لَسنا أهلاً لهذه الأمانة، لا نستطيع، الأرض كُلّها بما فيها: لا نريد حَمْلَ هذه الأمانة، والسماوات والأرض في القرآن تعبير قرآني عن الكون بِكُلِّ ما فيه، سوى الله، كل شيء السماوات والأرض والجبال تعبير عن القوة، الجبال قوية جداً، نحن ننظر فنقول: فُلان راسخ كالجبل، ما شاء الله! أي نضرِبُ المثل في ثبات الجبل، ومع ذلك الجبال أشفَقنَ منها، لا نريد، وحَمَلَها الإنسان، الإنسان قال: يا رب أنا لها، أنا أحَمِلُها.
الآن سيسألني سائل: متى حدث ذلك لا نذكره؟ طبعاً لن تذكُرَه لأنه لم يكن هناك ذاكرة لِتذكره، عندما عُرِضَت الأمانة لم يكن هناك ذاكرة، أي حاسوب بلا ذاكرة، بلا رام، لم يكن هناك تسجيل، فالمعلومة لم تُخَزَّن أصلاً، لا تستطيع استرجاعها الآن، لأنها غير موجودة، الإنسان إذا فَقَدَ ذاكرته وقلت له: ماذا درَستَ في سنة 2003؟ هو فاقِدُ الذاكرة فكيف يجيب إن لم يوجد ذاكرة في الأصل؟! لا تستطيع أن تتذكر حَدَثاً كان قبل أن تنتقل إلى عالم الصُّوَر الذي فيه ذاكرة، والذاكرة في الدماغ بحجم حَبَّة العدس تُخَزِّن ملايين الصُّوَر والأفكار، و تُخَزِّن المعلومات وما إلى ذلك.
كُنَّا في عالم الذَّر كما نُسَمِّيه، أي عالم بعيد عن الصورة، لا يوجد صور، لا يوجد جبل ولا سماء ولا أرض، لكن الإنسان حَمَلَ الأمانة، كيف أَثِقُ بذلك؟ لأن الله تعالى يخبرني ومن أَصدَقُ من الله حديثاً، فأنا أُصَدِّق بالغيب:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
[ سورة البقرة ]

فأنا أُصِدِّقُ بالغيب، لأن الله تعالى أخبرني بأنه عَرَضَ الأمانة وبأن الإنسان قَبِلَ حَمْلَ الأمانة، فأنا قَبِلت.

النفس هي الأمانة التي قبِل الإنسان حملها:
ما هو حَمْلُ الأمانة بِمَثَل الرجل التاجر؟ الأمانة كانت أن يُسافر وأن يأتي بشهادة.
الأمانة هي نَفسُك التي بين جَنبَيك
ما الأمانة التي حُمِّلناها؟ الأمانة هي نَفسُك التي بين جَنبَيك، أن تُزَكِّيَها، أن تَحمِلَها على طاعة الله، أن تُنَقِّيها من الأدْران والأمراض، أن تُطيعَ الله فيما أمَر، أن تَنتهي عما نَهى عنه وزَجَر، أن تُحسِن للناس، أن تَعمرَ الأرض بالخير.
الأمانة أنَّك مُكَلَّف، كَلَّفَك، السماء والأرض والجبال غير مُكَلَّفَة، أي لا يوجد يوم القيامة حِساب، لن يوقف الله جبلاً يقول له: أحسنت، وجبلاً يقول له: أسـأت، أما الإنسان فسيَحمِل إساءَته وسيحَمل إحسانه، سيُجازى بالإحسان إحساناً، وبالإساءة حيناً عفواً وغفراناً، نسأل الله العفو والعافية، وحيناً عقوبةً وندماً وخُسراناً، حسب الإساءة.
إذاً نحن حَمَلنا الأمانة، ولا نستطيع تَذكُّر هذا الحَدَث العظيم لأننا وقتها لم نكن نَملِكُ الذَّاكرة أصلاً، فلا نذكُر.

تكليف كل إنسان وفق وسعه:
الآن ربنا عز وجل عندما حَمَّلَنا الأمانة وكَلَّفَنا أعطانا التَّكليف، قال تعالى في آيتين مُهمِّتين جداً في هذا الموضوع، الآية الأولى قال:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
[ سورة البقرة ]

والثانية قال:

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ۖ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
[ سورة الطلاق ]

كل إنسان مُكَلَّف ضمن الوسع
فكل إنسان مُكَلَّف ضمن الوسع، وضمن ما أعطاه الله، فمثلاً الذي آتاه الله تعالى بيئة صالحة، وأباً، وأماً، أعطوه من التَّربية الشيء الكبير، حسابه لن يكون كشخص لم يأخذ حَظَّه من الرعاية الأبوية فرضاً، الذي آتاه الله تعالى أنه يعيش في بلاد المسلمين ويَسمَع كل يوم الآذان خمس مرات لن يكون حسابه كشخص آخر لا يَنعُم بهذه المِيزة، لكن الجميع سيحُاسَب قطعاً:

وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
[ سورة الصافات ]

لكن نَثِقُ بِعَدل الله، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)، و هذا تعليم لنا، أي إذا كنتَ مُرَبِّياً في موضع تُرَبِّي به طُلاباً أو أولاداً فاحرَص على هذين الأمرين دائماً.
أولاً لا تُكَلِّف إلا ضمن الوسع، لا تَطلُب من ابنك شيئاً فوق وُسعه، اطلُب الوسع، إذا أَرَدت أن تُطَاع فمُر بالمُستَطاع، ثم لا تُحاسِبه على شيءٍ لم تُعطِه مُقوِّماته، أحياناً الزوج يُحاسِب زوجته على شيء تقول له: أنت لم تُحضِر لي، قلت لك أن تُحضِر لي كذا وكذا، ما أحضَرت، فأنا ما استطعتُ، لماذا لم تطبخي اليوم؟ لأنك لم تأت بالمواد الأولية، أنت خرجتَ من البيت وما جِئتَ بالكوسا والأرز فكيف أطبخ الكوسا؟ أي أنت عندما تريد أن تُكَلِّف ينبغي أن تُعطي من كَلَّفتَه الشيء الذي يُعينُه على أداء المُهمِّة التي كَلَّفتَهُ بها.

مهمة الإنسان أن يوقِعَ حركَتَه في الحياة ضمن المنهج الإلهي:
الإحسان للناس عبادة
الآن ربنا جل جلاله كَلَّفَنَا، قال لنا: أنتم مُكَلَّفون بعبادتي، بالعبادة بمفهومِها العام الذي تحدَّثنا عنه كثيراً، وهو كل عمل ضمن المنهج الإلهي وليس العبادة الشعائرية فحسب، كل عَمَل ضمن المنَهِج الإلهي، أي النُّزهة مع الأهل من غير مَعصية عبادة، وأن يأتي الرجل أهله بالحلال عبادة، وأن يَلعب لعبة كرة قدم مع رفاقه مع سَتر العورة والإحسان للناس عبادة، وهكذا، فمهموم العبادة كل نشاط يأتي ضمن منهج الله.
مهندس، طبيب، تاجر، كل إنسان في عبادة وهو في عمله، في بيته، مع أهله، فلمَّا كَلَّفَكَ بأن تُسَيّر حياتك وَفَقَ المَنهَج الإلهي، أن تُوقِعَ حركَتَك في الحياة وفَقَ المَنهَج على السِّكَّة، السِّكَّة حلال وحرام، يوجد سِكَّة، كَلَّفَك بالعبادة أي أن تُوقِعَ الحركة ضمن السِّكَّة، وليس خارجها، قال تعالى:

بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
[ سورة هود ]

ما معنى (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ)؟ أي بالأموال يوجد رِبا، وغِش، ويوجد تَدليس ونَجَش، ويوجد بيع حلال: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ) البيع الحلال من غير الرِّبا والغش.
بالنساء بَقيِّةُ الله هي زوجتك، بالعُلو في الأرض بَقيَّة الله هي طَلَبُ العِلم، تَعلو في الأرض بعلِمك، لا تعلو في الأرض بالتَّجبُّر على عباد الله، فكل شيء فيه بَقيَّة، ما أبقاه الله لك ضمن الحلال، مُهِمَّتُك أن تُوقِعَ حركَتَك في الحياة ضمن المنهج الإلهي.
ما الذي أعطانا الله تعالى إيَّاه من أجل أن نُوقِع حركَتَنا في الحياة ضمن المَنهَج؟ عندما قال الابن لأبيه: أنا لها يا أبَت، هذا الابن الرابع، قال: أنا لها، هل تركه؟ لم يتركه، بل أعطاه كل ما يحتاجه، لكن الآن الابن الرابع هذا الذي قال: أنا لها، يوجد أمامه خياران، الخيار الأول: أن يُنَفِّذ المُهِمَّة وأن يَحمِل الأمانة كما ينبغي، وعندها سيكون في أعلى المراتب، سيعود لأبيه بعد سنوات وقد جاء بالشهادة العُليا، وسُيقام له حفل تكريم، وسَيَدُرُّ عليه بعد ذلك العمل أرباحاً كبيرة، وسيكون في مكان محترم في المجتمع إلى آخره.
وقد يَغفلُ عن الأمانة، ويذهب إلى تلك البلاد فينظر في مُتَعِهَا، فيترُك الدراسة ويذهب إلى الحانات والعياذ بالله، إلى المقاصف، إلى المتنزهات، ينقضي العام الدراسي وقد رسَب، يعود إلى والديه ولم يحمِل الشهادة، فيحُاسَب حِساباً عسيراً على ما قدَّم، هنا:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72
[ سورة الأحزاب ]

ظَلوم: لأنه ظَلَم نفسه فحَمَل أمانة لا يستطيعُها، وجَهول: لأنه جَهِل حجم الأمانة، ظَنَّ الموضوع سهلاً.
أنا أذهب إلى الجنة، و لكنه لم يكن لديه القدرة، فهنا كان ظلوماً جهولاً، لكن إن حَمَل الأمانة بحق وانتقل من الإنسان إلى المؤمن، قال : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ) بشكل عام أمَّا المؤمن فيحمِلها حقَّ حِملِها، قال تعالى:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
[ سورة الجمعة ]

التوراة مَنهَج من الله
(حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا) أي حُمِّلوا أمانة المَنهَج، التوراة مَنهَج من الله، حُمِّلوا الأمانة ثم لم يَحمِلوها، أي لم يُعطوها حقَّها، لماذا مَثَّلَهُم الله تعالى قال: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) جِيءْ _ أجَلَّكُم الله _ بِحِمار، وضع فوقه كتاباً مُهماً، أحدَثُ نظرية في الفيزياء النووية، ماذا يتعلَّم الحمار من الكتاب؟ لا شيء، يبقى على وضعه، لو وضعتَ الكتاب على ظهره مئة سنة يبقى حماراً أجَلَّكم الله، لا يتعلم.
فقال: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) يحمل كُتُباً على ظهره ولا يفهم شيئاً، فالإنسان عندما يقول أَحمِلُ الأمانة ثم لا يحمِلُها:

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
[ سورة الفرقان ]

(أَضَلُّ سَبِيلاً) لأن الأنعام لم تحمِل أصلاً الأمانة، أمَّا هو فحَملها ثم لم يَحمِلها، حَمَلَها فأخَذَ الوِزر دون أن يأخذ الأجر، فكيف حاله؟
فهُنا الابن عندما قال: أنا لها، أعطاه الأب ما يحتاجه، ماذا تريد يا أبَت؟ قال له: أريد بيتاً، وسيارة، وراتباً شهرياً، ولغة، ومصاريف، أُعطيك وأنت تُحَقِق الأمانة.

مقومات التكليف:
1 ـ الكون:
الإنسان عندما حَمَل الأمانة أُعطِي أشياء لم تُعطَ للمخلوقات الأخرى، أول ما أعطاه الله تعالى الكون، سَخَّر الكون كلَّه لأجله، كل الكون، قال تعالى:

وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
[ سورة الجاثية ]

كل ما سُخِّر لك هو دونك
كل شيء، الخروف مُسَخَّر لك، والعشب مُسَخَّر لك، والشمس مُسَخَّرة لك، والقمر مُسَخَّر لك، والمُسَخَّر له أعظَم من كل المُسَخَّرات، أنت الآن تجلس على الكرسي، أنت مُسَخَّرٌ للكرسي أم الكرسي مُسَخَّرٌ لك؟ الكرسي مُسَخَّر لك، أنت أهم أم الكرسي؟ أنت. فكل ما سُخِّر لك هو دونك، فالله تعالى (سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) فأنت أكرَمُ عنده من كل شيء، قال تعالى:

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
[ سورة الإسراء ]

فأنت لك الأفضَليَّة لأن كل شيء مُسَخَّر لك، فلمَّا تأتي بالخروف وتذبحه وتأكله فهو مُسَخَّر لك:

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
[ سورة النحل ]

لكم، البقرة تَحمِل كميات كبيرة من الحليب، لا يحتاج ولَيدُها إلا واحداً من خمسة من الحليب، والباقي لِمَن؟ لك، حتى تشرب الحليب صباحاً وتُشرِبُه لأبنائك، فهي مُسَخَّرة لك، حتى ولَيدُها الذي يشرب الحليب لك، من أجل أن يكبر ويكون لَحمُه لك، وحليبه لك.
كل شيء في الكون يدلك على الله
إذاً كل شيء في الكون مُسَخَّر للإنسان، فهذا أول ما أعطاك الله تعالى، الكون بكل ما فيه لك، قال لك: انظُر في الكون كل شيء يَدلُّك عليه، كل شيء في هذا الكون المُسَخَّر لك يَدلُّك عليه، انظُر إلى الشمس تهتدِ إلى الله، إلى القمر تهتدِ إلى الله، وفي كل شيء له آيةٌ تَدلُّ على أنه واحد، كل شيء يدلُّ على الله.
إن وضعَتَ يدك على شعرك، في رأس كل إنسان، لكن ليس رأسي لأنه ابتدأ الصلع، في رأس كل إنسان في وضعه الطبيعي ثلاثمئة ألف شَعرة، كل شَعرة من هذه الشَّعرات يُمِدُّها الله تعالى، كل شَعرَة القيَّوم يُمِدُّها من أجلك، لها غدَّة دهنيَّة وغدَّة صِبغيَّة. الدَّهنيَّة؛ يقول: شعري زَيَّت، إذا لم يستَحِم لعدة أيام، شعري زيَّت، هذه الغدَّة الدهنيَّة، الصّبغيَّة: اللون، كل شَعرة لها عضَلَة وعَصَب.
العَضَلَة؛ يقول: وقَف شَعر بَدَني، قَفَّ شَعرُ رأسي، بالفُصحى: قَفَّ شَعرُ رأسي، من الخوف أو من البرد قَفَّ، وقَف، قَشْعَر بَدني، فوقوف الشعر دليل أن لكل شعرة عضَلَة، العَضَلَة تُحَرِّكُها، وكل شَعرة لها عَصَب، لكن عَصَب حركة وليس عَصَب حِس، لو كان عَصَب إحساس كان يحتاج إلى مستشفى ليُجري العمليات الجراحية التي هي قص الشعر لكيلا يتألم، لكن جعل له العَصَب عَصَب حركة فقط، وليس أعصاب حِس، مثل الأظافر، فينمو الشعر لكن لا تُحِسُّ بألم إذا قصصت الشعر، فلكل شَعَرة غدة دهنية، غدة صبغية، عضَلَة، عَصَب، ولها وَريد وشِريان، أي خط توصيل، إمداد. فتَخَيَّل هذا على مستوى الشعر، لو ذهبَ الإنسان إلى الكُليتين وإلى الكَبِد، وإلى جهاز الدوران وجهاز الإطراح.
أي كل شيء مُسَخَّر من أجلك، جعله الله تعالى لك، لخدمَتك، هذا الكون بكل ما فيه يَنطِق بوجود الله وبوحدانيَّتِه وبكماله، أي شيء في الوجود يقول لك ثلاث كلمات: الله موجود، لأن وجودَك يدل على وجوده، ويقول لك: الله واحد لا شريك له:

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
[ سورة الأنبياء ]

ويقول لك: الله كامل كمالاً مطلقاً لأن كل شيء خلقه:

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
[ سور التين ]

فيُعطيك وجوداً ووحدانية وكمالاً، كل شيء في الكون يَنطِق بوجود الله وبوحدانيَّته وبكماله.

تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف وتسخير تشريف:
الكون بكل ما فيه مُسَخَّر للإنسان تَسخير تعريف وتَسخير تشريف.
رَدُّ فعلنا على تَسخير التَّشريف أن نَشكُر
ردُّ فِعلَك على تَسخير التَّعريف أن تُؤمِن، ورَدُّ فعلنا على تَسخير التَّشريف أن نَشكُر، أنت إذا أمسكتَ تُفَّاحة، هذه التُّفَّاحة بقوامِها، بحجمها، بطعمِها الحلو، بغلافِها الأنيق، بجمال مَنظرها، بطيب طَعمِها، برائحتها الجميلة، تَدُلُّك على خالقها، تقول: سبحان الخالق العظيم! فإذا مَضَغتَها وأكلتَها وشَعرْتَ بإكرام الله لك تقول: يا رب لك الحمد، هنا تكون قد حَقَّقْتَ الهدف من خَلْق التفاح، أمورك سليمة.
البعيد عن الله عز وجل ينَتَفِع فلا يَشكُر، وينظُر فلا يعتبِر، التفاحة أمامه ولا تَدُلُّه على الله، ويأكل ولا يقول: الحمد لله، فما استفاد من التفاحة أبداً، لأنه استفاد فقط من فائدة نَفعيَّة تنتهي بالموت فقط، أكَّالٌ نَكَّار، أو أكّيلٌ نَكّير.
إذاً كل شيء في الكون مُسَخَّر تَسخير تعريف وتَسخير تشريف، إذا نظرتَ في التَّعريف تتعرَّف إلى الله من خلال الأشياء، وفي التَّشريف تشكُر الله تعالى، قال تعالى:

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
[ سورة النساء ]

هذا الكون هو أول ما أعطاك الله سخَّرُه لك، ألم تَقبل حَمْلَ الأمانة؟ ألم تَقُل: أنا لها؟ وهذا الكون هديَّة مِنِّي لك، انتَفِع به واشكُر الله عليه، تعرَّف إلى الله من خلاله.
الحيوانات أجَلَّكُم الله مهما نَظَرَتْ في الكون لا تستطيع أن تُجرِي مُحاكَمَة، لكن أحياناً والعياذ بالله تكون بعض الكائنات الحيَّة بِشكرها لله أعظَم من الإنسان في شُكرِه لله، فيهبط الإنسان عن مستوى إنسانيَّته إلى مستوى لا يليقُ به.
إذاً أيها الكرام، المُقَوِّم الأول، أو أول ما أعطاك الله تعالى من الأمور هو: الكون.

2 ـ العقل:
العقل عملية تتم في القلب
الأمر الثاني: هو القوة الإدراكيَّة التي يُسميها الكثيرون العقل، الإدراك، الاستدلال، الاستنباط، الاستنتاج، التَّفكُّر، التَّذَكُّر، المُحاكَمَة. هذه كلها فروع عن قوَّة إدراكيَّة أودَعَها الله في الإنسان، اصطُلِحَ على تَسميتها العقل، أي عمليَّة الفَهم، لأن العقل كما قُلتُ سابقاً ليس جهازاً مُستَقِلّاً في الإنسان، يقول لك: أين العَين؟ هذه العَين، أين الدماغ؟ ها هو، الرأس؟ ها هو؟ اليد؟ ها هي، أين العقل؟ العقل عملية تتم في القلب:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
[ سورة الحج ]

يَعقِلُ الإنسان الأشياء، يفهَمُها، يُدرِكُها من خلال هذه القوة التي أودَعَها الله في الإنسان، ما أعطى الكائنات الأخرى ما يُشاِبهُهَا، لكن أعطاهم دونها بكثير، تُسمَّى الغريزة، أي أنت إذا كنتَ تمشي في سيارتك وهناك قطة تَعبرُ الطَّريق، وأَحَسَّت بالخطر تَرجِعُ فوراً، تَهرب، هذا إدراك، لو ما أدرَكَت تُتابِع، أدرَكَتْ أن هناك خطراً إن استمرَّت في عبور الشارع فرَجَعَت، هذه تُحافِظ بها على نفسها:

﴿ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ

هذا وَحي الغَريزَة:

أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
[ سورة النحل ]

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50)
[ سورة طه ]

الطيور تُهاجِر وتعود، عندها إدراك؟ لا نقول: الكائنات الأخرى لا تَملِكُ إدراكاً، لكن ليس هذا الإدراك الذي يَحمِلُ على الاستنباط والاستنتاج والاختراع والتَّطوير والاستدلال بشيء على شيء، هذا كله من هِبَة الله تعالى على الإنسان.

قوانين العقل:
أعظم ما في هذه القوة الإدراكيَّة التي تُسمَّى اصطلاحاً: العقل، أعظم ما فيها كما يقول علماء المنطق ثلاثة قوانين: القانون الأول يُسمُّونَه: مبدأ السَّبَبيَّة، أي إدراك الإنسان لا يستطيع أو عقل الإنسان لا يستطيع أن يُدرِكَ شيئاً إلا أن يَعرِف كيف حَصَل، من أين، يسأُلك عن السبب، هذا مبدأ السَّببيَّة.
مبدأ السببية يقتضي أن هناك سبباً لكل شيء
سافرتَ مع أهل بيتك إلى العَقَبَة ثلاثة أيام، وتأَكدت بنفسك بأن جميع الأنوار مُطفَأة، وأغلَقتَ الباب وسافرت، رجعتَ بعد ثلاثة أيام، فَتَحتَ الباب تفاجأتَ في الصالون الإضاءة كاملة، إذاً حَكَمتَ فوراً بأن هناك شخصاً دَخَل في غيابك، لأنه لا يعقَل ولا يَصح فيما وهَبَك الله من إدراك أن تكون الأضواء قد اشتَعَلت بنفسها، فتبحَث عن السبب، تضطرب اضطراباً شديداً، اضطرابُك لأنك فَهِمتَ أن هناك أحداً دَخَل، هذا مبدأ السببية.
الآن نفسه هذا المبدأ الذي أودَعُه الله في داخلك إذا استخدمته تَصِلُ به إلى الله، الكون كله، إذا أنت لم تقبَل إضاءة من غير أحدٍ كَبَس الزِّر، كيف يُمكن أن تَفَهَم كوناً بغير خالق؟ مستحيل، تخيَّل قاموساً من قواميس اللغة الإنكليزية السَّميكة حوالي ألفي صفحة، بخط صغير، كيف صار؟ قالوا:حدث انفجار بالمطبعة، المطبعة كلها حروف، صار الانفجار وبعد انتهائه وجدنا القاموس، تبَعثَرَت، انَضَمَّت، ظهر القاموس، لا يقبلُها العقل، هذا مكتوب، وراءه عقول وعلماء وعمل وكمبيوتر وتصنيف، فإذا جاء أحدهم وقال: أنا أرى الكون بدون خالق، هذا يُشَك في قُوَّتِه الإدراكيَّة لا في دينه، أو أنه مُنَتفِع يريد أن يكون مُتَفَلِّتاً من كل قَيد فيُنكِر وجود الله حتى لا يَشعُر بأَلِم الفِطرة، وأن هناك حساباً سيُعاقِبُه، أي لمصلحة يقول ذلك، أمَّا لا يستطيع إنسان مُدرِك حقيقة أن يفَهم شيئاً بلا سبب، وإذا كان هناك شيء مُتقَن يُصبح إيمانه بوجود السبب أكبر، هذا المبدأ الأول بالإدراك.
المبدأ الثاني الغائيَّة، الغَائيَّة: أنت لا تقَبَل شيئاً بغير غاية، لماذا؟ أتينا لندخل وجدنا بابين، قال: لا تدخل من هنا، ادخل من هنا، البابان يُدخِلانك إلى غرفة واحدة، لماذا منعنا؟ تبدأ تنظر، يا ترى هناك الأرض غير نظيفة فما أَحَبَّ أن ندخُل فأدخَلنَا من الباب الثاني، سوف تبحث عن الغاية، لا يستطيع الإنسان إلا أن يبحث عن غاية الشيء، لماذا؟ قال تعالى:

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
[ سورة المؤمنون ]

هذا مبدأ الغائيَّة، كل شيء له غاية.
عندما تطبخ المرأة الحليب أو تَغلي الحليب على النار عندما يأتون بالحليب من عند الحلَّاب ليس حليب العُلَب، فإذا وَضَعتْهُ على النار غالباً المرأة لا سيما اليوم مع وسائل التواصل والفيس بوك و الواتس أب تنسى الحليب، فتسعون بالمئة الغاز ينطفئ لوحده من الحليب، أي مهما حاولت وجَلَسَتْ أمامه في النتيجة يفور الحليب، كان يوجد اختراع عندنا يشترونه من السوق، قِرِص فَخَّاري له فَتحة في المُنتَصف، فإذا وضَعَته في قعر وعاء الحليب لا يفور الحليب، الآن إذا أتى به ووضعه حُلَّت مُشكلته، لو تأَخَّر عن الحليب يأتي فيجد الحليب كمت هو.
لكن يبقى هناك سؤال في الإدراك لماذا؟ ما الغاية؟ ما الذي حصل؟ طبعاً الذي حصل كما تعلمون جميعاً أن الفتحة الصغيرة في القِرص جَمَّعَت الفُقاعات وأخرَجَتها من مكان واحد في المُنتصَف فَثَقَبَت القِشدة التي تتكون أثناء الغَليان فهَمَد الحليب، ولم يعد يخرُج خارج الوعاء، أنت لو حُلَّت مشكلتك بشيء يبقى العقل يُفَتِّش عن الغاية، فالله تعالى لمَّا خلَقَنا وخَلَقَ لنا الكون قال لك: هذه القوة الإدراكيَّة التي أعطيتُك إيَّاها ستُنبِئُك يقيناً بأن وراء الكون خالقاً عظيماً، وسَتُنبِئُك يقنياً بأنك مخلوقٌ لغاية، وسَترِجُع إليَّ لتُحاسَب، فقط بمبادئ الفِكر التي أعطانا الله إياها، فأعطاكَ الكون وأعطاك القوة الإدراكيَّة العقل.
العقل لا يستطيع أن يفهم شيئاً ونقيضَه
المبدأ الثالث هو مبدأ عدم التَّناقُض، مبدأ عدم التَّناقُض، فالعقل لا يستطيع أن يفهم شيئاً ونقيضَه في لحظة واحدة، أي إذا قلت له: أين أنت؟ أنا بعبدون وبالصويفية الآن، بعبدون وبالصويفية معاً؟ لا، إمَّا بعبدون أو بالصويفية، لا يصِح أن تكون في مكانين بوقت واحد، فإذا وقَعَتْ الجريمة في مكان ما، واستطاع المُتَّهَم بالجريمة أن يُثبِت أنه كان مسافراً عند وقوع الجريمة فوراً يَصدُر أمر بإخلاء سبيله، لأنه لم يكن موجوداً في المكان، فلا يُعقَل أن يُنَفِّذ الجريمة وهو موجود في مكان آخر.
هذا مبدأ بسيط جداً اسمه عدم التَّناقض، العقل لا يستطيع أن يُدرِك أن هناك شيئاً يقع ولا يقع في وقت واحد، أو موجود وغير موجود في وقت واحد.
هذه المبادئ التي وهَبَنا الله إيَّاها متوافقة مع الكون، فبالعقل والكون تستطيع أن تصل إلى الله، تستطيع أن تصل إلى أن هناك يوماً آخر، اليوم الآخر الذي تُسوَّى فيه الحسابات، لأن المخلوقات يستحيل أن تُخلَق عبَثَاً، أي إذا كنتَ جالساً في مسرحية، نحن لا نجلس في مسرحيات، لكن فرضاً مسرحية هادفة، جَلستَ على المقاعد، مسرحية فيها سِتار، كُشِف السِّتار، بدأت المسرحية، الفصل الأول، الفصل الثاني، أُغلِقَ السِّتار والناس جالسة، بعض الناس قالت: انتهت المسرحية، فجاوب آخر: لا، لم تنته، تَأَخَّرت فقط، ولكن بقي مَشهَد، لماذا يقول: ما يزال هناك مَشهَد؟ لأنه هو في إدراكه لا بدَّ من نهاية، هكذا نحن في إدراكنا للقصص، لا بد من نهاية تُسَوَّى فيها الحِسابات، لا بد في نهاية الأمر أن يتم التَّصفيَة، فالظالم يُحاسَب، والمظلوم يأخذ حقه، فيبقى جالساً فمتى انتهى العرض يُصَفِّقون ويذهبون.
فالإنسان بقوَّتِه الإدراكيَّة التي أودَعها الله فيه يقول: ربنا عز وجل العظيم الخالق المُبدع يستحيل أنه خَلَق الكون عبَثَاً وأننا مِتْنا وانتهى الأمر، ولو أنَّا إذا مِتْنا انتهينا كان الأمر سهلاً، ولكنَّا إذا مِتنَا بُعثنَا، ونُسأَل بعدها عن كل شيء.
فلا بدَّ أن يُدرِك العقل بأن هناك حِساباً، لأن الكون لم يُخلَق عبَثاً، الكون هو المُقّوِّم الأول، والمُقوِّم الثاني هو العقل الذي يُؤمِن بالسَّببية والغائيَّة وعدم التناقض، طبعاً المُقوِّمات التي منَحَنا الله إيَّاها عندما قَبِلنا حَمل الأمانة كثيرة، هذان الأولان منها، وإن شاء الله في اللقاءات القادمة نُفَصِّل القول في باقي تلك المُقوِّمات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله.