الطهور شطر الإيمان

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-12-14
  • عمان
  • الأردن

الطهور شطر الإيمان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين.
وبعد؛ أيها الإخوة الكرام، روى الإمام مسلم في صحيحه:

{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا }

(صحيح مسلم)

الآن نشرع في بيان معاني هذا الحديث الشريف، وهو من أمهات الأحاديث الشريفة التي جمعت أصول ديننا.

الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ
(الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ) الطُّهُورُ: من الطهارة، والطهارة من النظافة، لكن الطهارة ليست طهارة الجسد فقط وإنما هي طهارة الجسد، والنفس، والروح، الطهارة الجسدية جزءٌ من الطهارة، طهارة الثياب جزءٌ من الطهارة، قال تعالى:

وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
(سورة المدثر)

لكن هناك طهارة الداخل؛ طهارة الروح، طهارة النفس من الأدران، فـ(الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ) أي نصف الإيمان، فالإنسان عندما يُطهِّرُ ظاهره من النجاسات وباطنه من أمراض القلوب، من الحقد، واللؤم، والضغينة، والحسد، والكره للآخرين، فإنه يكون بذلك قد حَصَّل نصف الإيمان، (الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ) والطُّهُورُ نظافة الجسد ونظافة الداخل، سأضرب مثلاً: لو أنَّ كأساً من الكريستال اللامع، من الكريستال الفاخر الذي ثمنه بالمئات كما يُقال، فهذا الكأس الفاخر لو نظفته ثم ملأته بمياهٍ آسنةٍ فإنك لا تستطيع أن تنظر إليه، ولا تحبه وتأنف نفسك منه، مع أنَّ ظاهره الطهارة لكن باطنه السوء.
العين تأكل قبل الفم
العكس: لو جئت بإناءٍ سيءٍ، إناء بلاستيكي قديم فيه عدة ثقوب، متسخ، وملأته بأطيب شراب، ملأته بشرابٍ فاخرٍ، فإن نفسك أيضاً تأنف منه رغم أن الشراب الذي بداخله شرابٌ طيبٌ وأنت تحبه وأنت ترغب به، لكن الظاهر منعك منه، لذلك العوام يقولون: العين تأكل قبل الفم، فأما إذا جئت بالكأس الفاخر اللامع وملأته بأطيب الشراب فالآن تشتهيه النفس، إذاً الإنسان له ظاهر وله باطن فإذا طهَّر ظاهره ولم يُعمِّر باطنه بتقوى الله وبالخير وبالحب فإنه لا يقبل عند الله، ولو أنه قال: أنا نفسي فيها من الخير والحب ما فيها، لكن ثيابه متسخة وفيها نجاسات ولم يأبه لنظافة الخارج فإنه أيضاً يكون قد نقص في إيمانه، فلا بد من استكمال نظافة الخارج ونظافة الداخل، بحيث يكون الإنسان طاهراً ظاهراً وطاهراً باطناً.

العناية بأمراض القلوب من الطهارة
أمراض القلب كثيرة
هذا معنى (الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ) هو أن يُطهِّرَ الإنسان ظاهره بالنظافة الشخصية فنحن في ديننا لا تُقبل الصلاة بغير طهورٍ من الحدث الأكبر ومن الحدث الأصغر، ينبغي أن يكون الجسم طاهراً والثوب طاهراً والمكان طاهراً حتى تقبل الصلاة، لا نجاسة على البدن ولا نجاسة على الثوب ولا نجاسة على المكان الذي تصلي فيه حتى تُحقق طهارة الخارج وتُقبل الصلاة، وفي المقابل يزيد الإنسان على ذلك فيُطهِّرُ باطنه، وأمراض القلوب كثيرة؛ الحقد، الحسد، تمني ما عند الآخرين، تمني أن تزول النعمة عن الآخرين وأن تلحق بك، هذا كله من أمراض القلوب التي ينبغي على الإنسان أن يعالجها قبل الممات.
إخواننا الكرام: لو أن إنساناً أصيب بمرضٍ من أمراض القلب، لسارع إلى الطبيب فوراً، وهذا حقه بل واجبه الشرعي أن يُعالج نفسه حتى يُصلِحَ جسمه، فهذا القلب لو أصيب بمرض يتجه فوراً إلى الطبيب ويقلق ويجري القسطرة وبعد ذلك ربما يجري عمليات جراحية تكلفه كثيراً، لأنه يريد أن يصلح قلبه الصنوبري، لكن قلب النفس أولى بالإصلاح، مع أهمية إصلاح هذه المضخة إلا أن قلب النفس أولى بالإصلاح؛ لأن أمراض القلب كلَّها تنتهي عند الموت، لو أن الإنسان أصيب بمرض قلبيٍّ كضعفٍ في عضلة القلب، عندما يموت ينتهي هذا المرض بشكلٍ كاملٍ، وكلنا صائرون إلى الله عزَّ وجلَّ، لكن أمراض القلوب التي منها الحسد، والحقد، والضغينة، والكره، والتعلق بالدنيا بشكلٍ مذموم، والتعلُّق بالشهوات، هذه الأمراض كلها تبدأ آثارها المدمرة عند الموت ويدوم أثرها مع الإنسان إلى الأبد، فإما أن ينعُمَ بجنةٍ يدوم نعيمها، أو لا قدر الله يكون في نارٍ لا ينفد عذابها، فلذلك العناية بأمراض القلوب مهمةٌ جداً وهي من الطهور.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ
الحمد حالةٌ نفسيةٌ مبنيةٌ على معرفةٍ بفضل الله
(الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ) الْمِيزَانَ أحبابنا الكرام؛ ميزان الحسنات والسيئات والله تعالى تماشياً مع طبيعة عباده جعل لهم الميزان يُسجِّل عليهم الحسنات ويُسجِّل السيئات، فالإنسان يحب دائماً أن تَثقُلَ موازينه لا أن تخفَّ موازينه فإذا أراد أن يُثقِلَ موازينه فليُكثر من الحمد، الحمد حالةٌ نفسيةٌ مبنيةٌ على معرفةٍ بفضل الله تعالى، هذا تعريف الحمد، حالةٌ نفسيةٌ قبل أن تكون حالةً لسانيةً، هو حالةٌ نفسيةٌ مبنيةٌ على معرفةٍ بفضل الله.
إذا جلست بين يدي والدك وأنت ترى له من الفضل عليك ما ترى، فإنه يمتلئُ قلبك حباً له ويمتلئُ قلبك فرحاً به، هذا هو الحمد، تشعر بالامتنان بكل خليةٍ من خلايا جسمك لهذا الأب العطوف الذي بذل وقته وعمره وجهده من أجل تعليمك وتربيتك ورعايتك فتشعر بالامتنان، هذا الشعور إن كان تجاه الله تعالى فهو الحمد، ثم بعد ذلك ينتقل الحمد من القلب والنفس إلى اللسان فينطق بشكر الله تعالى، والشكر على مستوياتٍ؛ شكر اللسان، كما نفعل بعد الصلاة؛ الحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرَّةً ما أروع ذلك، ممتاز، استيقظ في الصباح حمد الله على نعمة الاستيقاظ:

{ الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أحْيَانَا بَعْدَ ما أمَاتَنَا، وإلَيْهِ النُّشُورُ }

(صحيح البخاري)

أكَلَ الطعام:

{ إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا }

(صحيح البخاري)

يارب لك الحمد، أطعمتنا وسقيتنا وآويتنا وكم من الناس لا مأوى له، هذا كله من الحمد، ثم ينتقل الحمد من اللسان إلى العمل، أولاً: القلب، ثم اللسان، ثم العمل، قال تعالى:

اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا (13)
(سورة سبإ)

أي (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ) لأجل شكر الله على نعمائه، فأنت عندما تشعر بالامتنان لنعمة المال تُنفق من المال في طاعة الله، وهذا أروع وأعظم أنواع الحمد، وأنت عندما تمتن لله عزَّ وجلَّ لنعمة أن وهبك زوجةً تسرُّك إن نظرت إليها، وتحفظك إن غبت عنها، وتُطيعك إن أمرتها تبادر إلى دفع صدقةٍ لتزويج شابٍ، تُبادر لدفع صدقةٍ تزوج بها شاباً كما أنعم الله عليك بالزوجة، وأنت عندما تحمد الله تعالى على نعمة العلم:

وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
(سورة النساء)

أبواب الخير كثيرة
فتبادر إلى تعليم إنسان إما بجهدك وخبرتك أو بمالك، وعندما تحمد الله على نعمة الطعام والشراب فتنظر فترى في الناس من لا طعام ولا شراب له، فتبادر إلى دفع الصدقات لإطعام الناس ولإكسائهم، وعندما تنعم بنعمة العافية تبادر إلى دفع المال لمن لا يجد ثمن دوائه، وهكذا.. أبواب الخير كثيرة، فالحمد لله تعالى الذي يملأ الميزان هو هذا الحمد بمفهومه المتكامل حمد القلب، وحمد اللسان، وشكر العمل، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ).

وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، من فضل هاتين الكلمتين أن خيرهما وفضلهما يملأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وكم بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ إذا كان بين الأرض التي نعيش عليها والشمس التي تُدفِّئُ كوكبنا إذا كان بيننا وبينها ما يقرب من مئة وستةٍ وخمسين مليون كيلو متر، فكم بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ إذا كان أقرب نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض يبعدُ أربع سنواتٍ ضوئيةٍ، يعني يبعد عنا كما قدروه بخمسين مليون عامٍ لو أردنا أن نصل إليه، خمسون مليون سنة من سنوات الأرض فكم بين السماء والأرض؟ قال تعالى:

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
(سورة الواقعة)

مجرَّاتٌ، ونجومٌ بعدد ما في الأرض من حجرٍ ومدر، وكلها تبعد عن بعض بآلاف بل بملايين السنوات الضوئية، فانظر إلى هذا التشبيه النبوي قال: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قد يستغرب الإنسان أن كلمتين تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الحقيقة أن الكون على اتساعه، والله تعالى قال:

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
(سورة الذاريات)


التعظيم مع الشكر يحققان الهدف من وجودك
الكون بكل ما فيه نعمةٌ من نِعَم الله
وهناك نظرياتٌ الآن في اتساع الكون، هذا الكون وعلى اتساعه بكل ما فيه هو نعمةٌ من نِعَم الله تعالى، أفليس الحمد لله وتسبيحه وتعظيمه أهمَّ من كل هذه النِعَم؟ هكذا ينظر المؤمن بهذا المفهوم، المؤمن ينظر بأن هذه المخلوقات وأن السماوات بما فيها وأن الأرض بما فيها كلها خلقٌ من خلق الله تعالى، كلها مسحةٌ من جمال الله، كلها مسحةٌ من عظمة الله، فالآن إذا قال: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ملأت السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لأن الحمد على النعمة أفضل من النعمة.
والدليل: أنت إذا أمسكت بصحن حلويات فاخرة وتناولته ثم قلت: الحمد لله، صحن الحلويات أين هو؟ تلقَّفَهُ الفم ونقله المري إلى المعدة وهُضِمَ في المعدة ثم أُخرِج، حصل الاستقلاب وأخذت بعض فوائده ثم أُخرِج، هذا صحن الحلويات الفاخر الذي تنعمت به بعد دقائق انتهى أثره، وبعد ثوانٍ انتهت طعمته في الفم وقلت: أعطونا ماءً لنشرب بعد الحلو، وانتهى الأمر، لكن لما قلت: الحمد لله، ما الذي بقي يوم القيامة؟ بقي الحمد، فذهبت النعمة وبقي المنعم جلَّ جلاله، هذا أثر الحمد، لذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ)، سُبْحَانَ اللَّهِ كلمة تعظيم، تنزيه، أُسبِّحُ الله ما معناها؟ أي أُنزهه جلَّ جلاله، أنت إذا رأيت زهرةً جميلةً تقول: سُبْحَانَ اللَّهِ، إذا نظرت إلى وجه طفلٍ صغيرٍ قد وُلِدَ لتوِّه ورأيت العينين، ورأيت الأذنين، ورأيت الأنف، ورأيت الجلد الذي يكسوه، واليدين اللتين يُحركهما، والرجلين، والأصابع، والأظافر، وهذه الأجزاء التي تراها فما بالك بالتي لا تراها، كلية، وكبد، وتصفية، ومعامل في داخل الجسم.. تقول: سُبْحَانَ اللَّهِ من أعماقك، ما معنى ذلك؟ أنت تُعظِّمُ الله تعالى لما رأيت من عظيم خلقه هذا كله من حوينٍ منويٍّ لا يُرَى بالعين المجردة، فتقول: سُبْحَانَ اللَّهِ كيف جعله الله بشراً سوياً في رحم أمه فتعظم، هذا معنى سُبْحَانَ اللَّهِ، ترى زهرةً برائحةٍ فواحةٍ، بمظهرٍ جميلٍ فتقول: سُبْحَانَ اللَّهِ، فالتسيبح هو تعظيمٌ وتنزيه، لما عظمت الله نزَّهته أن يُشابه أحداً من خلقه، سُبْحَانَ اللَّهِ ما هذا الخلق العظيم؟ فهذا التسبيح، والحمد ذكرناه قبل قليل، فأصبح الآن التعظيم مع الشكر يحققان الهدف من وجودك، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لأنهما حققا الهدف من وجودك، لما تجد شيئاً فتقول: سُبْحَانَ اللَّهِ وتعظِّمُ الله الذي خلق ثم تحمد الله تعالى أن أوصله إليك فقد حققت الهدف من وجودك، قال تعالى:

مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ (147)
(سورة النساء)

(شَكَرْتُمْ) هي الحمد لله، (وَآمَنتُمْ) هي سبحان الله، فإذا شكر الإنسان وآمن فلا يعذبه الله جلَّ جلاله لأنه حقق الهدف من وجوده ومن وجود الكون من حوله فعظَّم الله وشكر الله، (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

وَالصَّلَاةُ نُورٌ
(وَالصَّلَاةُ نُورٌ): أحبابنا الكرام النور يهديك في الظلمة، تسير في الظلمة تحتاج نوراً، العين لولا النور لا قيمة لها إطلاقاً، لو كانت الدنيا ظلاماً لا شمس فيها ولا ضوء لو أن الدنيا كذلك خلقها الله تعالى إذاً يستوي الأعمى مع البصير، لأنه ليس هناك نورٌ مع عدم وجود النور انعدم الوسيط بين العين والأشياء المرئية، فأصبح وجود العين كعدمها، لكن لما خلق الله تعالى النور قال تعالى:

وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ (1)
(سورة الأنعام)

المُصلي يرى بنور الله
لما خلق الله تعالى النور أصبح للعين قيمةٌ وأصبح للمرئيات قيمةٌ فتقول: هذا جميل، وهذا أجمل، إذاً النور شيءٌ مهمٌ جداً في حياتنا، الآن الصلاة: الصلاة هي التي تتوسط كالنور بينك وبين ما تراه، فالمُصلي يرى بنور الله، المُصلي الذي له صلةٌ بالله بالمعنى العام وبالمعنى الخاص المهم جداً، الذي يؤدي الصلوات الخمس في أقل أحوالها الفرائض، وقد يزيد عليها سنن الرواتب، وقد يزيد عليها قيام الليل، وقد يزيد صلاة الضحى، وقد يزيد من النوافل المطلقة، كلها صلاة، فعندما يُصلي الإنسان فإنه يجعل لنفسه نوراً يرى به الحق حقاً والباطل باطلاً، كما أن العين بالنور ترى الأشياء على حقيقتها فالإنسان بالصلاة يرى ما حوله على حقيقته، المُصلي لا يمكن أن يرى الربا شيئاً حسناً! مستحيل، لأن صلته بالله تمنعه من أن يرى الباطل حقاً أو أن يرى الحق باطلاً، المُصلي حقيقةً لا يمكن أن يرى أن الرشوة مغنمٌ فيأخذ مالاً من رشوةٍ ويقول لك: كسبنا مئة دينار، معاذ الله، لأنه يرى بنور الله هذه المئة الآن هي مغنم، الآن في اللحظة التي أخذها لكن هي بعد حين إطعامٌ من حرام، ويوم القيامة هي نارٌ تُحرق والعياذ بالله، فهو لا يرى أن الرشوة مغنم، المُصلي عندما تأتيه امرأةٌ لَعُوب تريد أن تأخذه إلى الحرام فإنه يرى فوراً أن هذه المرأة ستُهوِيهِ إلى نار جهنم فيقول:

مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ (23)
(سورة يوسف)

يوسف عليه السلام ما الذي رآه؟ اليوم لو جئت بمئة شابٍ وعرضت عليهم العرض الذي عرض على يوسف عليه السلام كم شاباً يمكن أن يقبل بهذا العرض؟ ربما كثيرون يرونه مغنماً، سيدته وهو في قصرها ومن مصلحتها ألا يُفتضح الأمر، وهي تدعوه إلى نفسها وتُغلِّقُ الأبواب، قد يجد لنفسه مئة عذرٍ ويقول: أنا يا أخي لست نبياً فماذا أفعل؟ فيقع في الحرام، يوسف عليه السلام ما الذي رآه؟ رأى بالنور لصلته بالله أصبحت نوراً فرأى أن هذه المعصية ستُذله في الدنيا وتُشقيه في الآخرة فأعرض عنها، فجعله الله عزيز مصر ومكَّنَه فلما مرَّ كان البعض يقولون: سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته، فرأى عزَّ الطاعة ورأى ذُلَّ المعصية بنور صلته بالله تعالى، هذا معنى ( الصَّلَاةُ نُور ) فالذي يُحسن صلاته يخرج إلى الدنيا على نورٍ فلا تغويه امرأةٌ متبذلةٌ بثيابها، ولا يغويه مبلغٌ من حرام، ولا يغويه منصبٌ سيسأل عنه يوم القيامة يدع المناصب لله تعالى إذا كانت المناصب لن تجعله يقوم بأمر دينه ويُحق الحق ويُبطل الباطل، لا تُثنيه سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة لأنه يرى بنور الله، قال تعالى:

وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ (28)
(سورة الحديد)

يمشي الإنسان بنور الله فيرى الأمور على حقيقتها، لا يغترُّ بشيء، هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (وَالصَّلَاةُ نُورٌ).

وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ
الصدقة هي علاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان
(وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) الصلاة: هي العلاقة بين العبد وربه، الصدقة: هي العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، الصلاة: صلةٌ بالله تنير الطريق، الصدقة برهانٌ على محبتك لله، كيف تُبرهن لله تعالى أنك تحبه؟ عندما تُحسن إلى عباده بالصدقة تبرهن له أنك تحبه، لذلك قالوا: الحب بلا إنفاقٍ نفاق، إنسان يقول: أحبك يا فلان، ثم فلان من الناس احتاج شيئاً من المال فطلبه منك وأنت تملكه وقلت له: لا يوجد معي، وأنت تملك المال وتستطيع مساعدته ثم تدَّعي أنك تحبه لن يُصدِّقك بعد ذلك، الآن العلاقة مع الله عزَّ وجلَّ تحتاج إلى إنفاقٍ، والإنفاق لا يكون من المال فقط، قال تعالى:

مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
(سورة البقرة)

قد تتصدق على إنسانٍ بالابتسامة، كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ }

(رواه الترمذي)

الصدقة مفهومها واسعٌ
لا تملك مالاً لكن تملك أن تبتسم في وجهه، فهذه صدقة، قد تتصدق على إنسانٍ بعلمٍ تُفيده به، قد تتصدق عليه بإماطة الأذى عن الطريق، تجد قشرة الموز في الطريق فتقول: لعل إنساناً يمر من هنا فيتزحلق بها ويُصيبه الأذى فتنزل وتأخذها وتلقيها في القمامة في مكانٍ بعيدٍ عن الناس وتنظف يديك، هذا بذل جهدٍ، صدقة، إذاً الصدقة مفهومها واسعٌ، ليست الصدقة دفع المال فحسب لكن تنصرف في ذهن الناس إلى أنها دفعٌ للمال، ولا شك أن دفع المال مهمٌ جداً لأن المال محببٌ للنفس ولكن الإنسان قد يجود بماله بعلمه بخبرته بابتسامته بكلمته الطيبة:

{ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ }

(أخرجه البخاري)

فعندما يقول صلى الله عليه وسلم: الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، فأي شيءٍ تُنفقه على عباد الله من مالك، من خبرتك، من علمك، من جهدك، من ابتسامتك، من إماطة الأذى عن طريق الناس، من كفِّ الأذى عن الناس، أي شيء تفعله من هذه المجموعات فأنت تبرهن بذلك على حُبك لله تعالى، تبرهن للمولى أنك تُحبه، هذا معنى برهان.
ومن معاني برهان أيضاً أنك يوم القيامة إذا وقفت بين يدي الله تعالى وسألك عن أعمالك تأتي صدقتك برهاناً لك بين يدي الله تعالى، تأتي صدقتك دليلاً على إيمانك بين يدي الله تعالى، فصدقتك تكون شفيعاً لك بين يدي الله هذا أيضاً من معاني (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ).

بين الصلاة والصدقة
إذاً (وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) الصلاة: هي صلة بين الإنسان وخالقه من خلال الصلوات الخمس، من خلال الأذكار، من خلال قراءة القرآن، من خلال التفكُّر في خلق السماوات والأرض، أي شيء يصلك بالله بالمفهوم العام هو صلاة، الدعاء صلاة:

وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ (103)
(سورة التوبة)

الصلاة في الأصل هي الدعاء
ما معنى (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)؟ أي ادع لهم، فالصلاة في اللغة في الأصل هي الدعاء، الدعاء صلاة، فكل أنواع الصلاة نورٌ لك، هي نورٌ يهديك الطريق، تنزل إلى العالم إلى المجتمع إلى العمل إلى الأهل إلى الأصحاب وأنت تهتدي بصلاتك فترى الحق حقاً والباطل باطلاً بهذا النور (وَالصَّلَاةُ نُورٌ).
(وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) علاقتك بالناس من حولك، علاقتك بالآخرين من خلال الإنفاق، الإحسان، الصدقة، العطاء، إسعاد الناس، هذا كله صدقة، (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) بمعنى أن الصدقة تبرهن على محبتك لله:

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ (103)
(سورة التوبة)


الصدقة تُطهِّرُ وتُزكِّي
الصدقة أيها الأحباب: تُطهِّرُ وتُزكِّي، كيف؟(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) تُطهِّرُ: تُطهِّرُ نفسك من الشح:

وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
(سورة الحشر)

الإنسان يحرص على ألا يُعطي، والشرع يأمره أن يُعطي، فإذا أعطى طهَّر نفسه من الشُّح، وتُطهِّرُ المال لأن المال فيه حق، فيه جزءٌ ليس لك، جزءٌ إجباري اثنان ونصف بالمئة وهو الزكاة وجزءٌ آخر هو الصدقات:

{ سُئِلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الزكاةِ فقال: إنَّ في المالِ لَحَقًّا سِوَى الزكاةِ }

(سنن الترمذي)

وهناك آيتان:

وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
(سورة المعارج)

هذه الزكاة.

وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
(سورة الذاريات)

قال العلماء: هذه الصدقة.
(مَّعْلُومٌ): اثنان ونصف بالمئة الزكاة.
(حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ما يستطيعه الغني من الإنفاق فوق زكاة ماله مما أعطاه الله.
(تُطَهِّرُهُمْ): تُطهِّرُ المال، وتُطهِّرُ نفسك من الشح، وتُطهِّرُ نفس الفقير من الحقد، فالفقير عندما يرى المجتمع لا يهتم به ينقُمُ على مجتمعه فلا بد أن يطهِّرُ نفسه بالصدقة.

الزكاة نماءً للمال
(وَتُزَكِّيهِم بِهَا): الزكاة: هي النماء، الزكاة: من النمو، انظروا لما فرض الإسلام هذه الصدقة سماها الزكاة، النمو، أهل الأرض لما فرضوا شيئاً إجبارياً على الناس سموه الضريبة، الضريبة: من الضرب فيضرب نفسه لأنه دفع المال، أما القرآن قال له: هذه زكاة، نماء، تُنمي مالك، لأن الله عزَّ وجلَّ يضاعف لك هذا المال:

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ (261)
(سورة البقرة)

الزكاة هي النماء
هذه الزكاة نماء، وتُنمي نفسك فتشعر بنفسك في مجتمعك أنك عضوٌ فاعلٌ تُعطي مما أعطاك الله، إذا أردت أن تَسعد فأسعدِ الناس، وتُنمي نفس الفقير لأنه يشعر بالامتنان لمجتمعه الذي لم ينسَ حقه، وما عاش في الترف والنعيم وتركه يعيش دون طعامٍ وشرابٍ فتنمو نفسه، فصارت الصدقة طهارةً للمال وطهارةً للغني وطهارةً للفقير، وصارت الزكاة نماءً للمال ونماءً لنفس الغني ونماءً لنفس الفقير، هذه الصدقة، وأعود وأكرر مرَّةً ثانية الصدقة ليست محصورةً بمالٍ تدفعه، ربما من أعطاه الله المال لا ينبغي أن يقول: أنا أبتسم في وجه الناس، لا، لا يكفي ابتسم لكن مع البسمة اجعل صدقةً، لكن إذا كان إنسانٌ لا يملك إلا ما يُعيل به نفسه وأسرته ربما لا يدفع صدقةً إلا في السنة مرَّةً واحدةً كصدقة الفطر، فكيف يتصدق؟ عنده أبواب واسعة للصدقة بعلمه، بجاهه، بخبرته، بابتسامته، بإماطته الأذى عن الطريق، بكفِّ الأذى عن الناس، هو له صدقة، كل هذه أبوابٌ للصدقة (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ) تُبرهن على محبة العبد لخالقه وتُبرهن يوم القيامة إذا وقف الإنسان بين يدي الله تكون صدقته حجةً له بين يدي الله، برهاناً له بين يدي الله فيسعد بها إلى أبد الآبدين، هذا معنى (وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ).
تتمة الحديث: (وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا) وهذا يحتاج إلى شرحٍ مفصلٍ أرى أن نُقسم الحديث إلى قسمين لأن المعاني واسعة جداً، وأنا كنت أحاول قدر الإمكان الاختصار لكن وجدت أن الحديث فيه من الغنى والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكَلِم صلى الله عليه وسلم، فهو أفصح العرب صلى الله عليه وسلم، فأرى أن المتبقي يحتاج إلى دراسةٍ واعية.. الصبر، والقرآن، وختام الحديث رائع جداً وهو حركة الإنسان في الحياة.
(كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا) فهذا ما نؤجل الحديث عنه إن شاء الله إلى لقاءٍ قادم.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.