تأويل يوسف عليه السلام لرؤيا السجينين والملك

  • الدرس التاسع : شرح الآيات 40 - 49
  • 2020-12-26

تأويل يوسف عليه السلام لرؤيا السجينين والملك

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وبعد؛ مع اللقاء التاسع من لقاءات سورة يوسف ومع الآية الواحدة والأربعين وهي قوله تعالى:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
(سورة يوسف)


قدرة يوسف عليه السلام على تأويل الرؤيا
صاحبا السجن دخلا مع يوسف السجن، رأيا من إحسانه في السجن ما رأيا، فلما رأيا رؤيةً مناميةً ذهبا إليه ليؤوِّلَ لهما الرؤيا، أي ينبئُهما بما يكون في مآلها، إلى أين تصل هذه الرؤيا؟ يوسف عليه السلام نبي وصاحب حكمةٍ وذكاء، فاستثمر الموقف، طمأنهما أولاً أنه يستطيع تأويل الرؤيا:

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ (37)
(سورة يوسف)

أستطيع أن أنبئكما بما يأتيكما من طعام، فلأن أكون قادراً على تأويل رؤياكما من باب أولى، لأن الرؤيا لها مرتكزاتٌ سأرتكز عليها في التأويل، أما الطعام فليس له مرتكزاتٌ، سأنبئكم بشيءٍ من الغيب لكن بما أطلعني الله عليه مما علمني ربي.. بعد أن طمأنهما بدأ باستثمار الموقف في دعوتهما إلى التوحيد، إلى ما يبقى، إلى ما يدوم، الرؤيا ستكون في الدنيا والدنيا فانية، لكنه خشيَ على مصيرهما أمام الله عزَّ وجلَّ، فاستثمر الموقف:

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
(سورة يوسف)

ونفى الشرك:

مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (40)
(سورة يوسف)

يُعلمنا القرآن الكريم ألا نواجه الآخرين بالشر
الآن بدأ بتأويل الرؤيا، قال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) لم يذكر لهما من هذا الأول ومن الثاني، وهذا من أدب الإنسان ألا يواجه الآخرين بالشر، أحدهم سيأخذ بُشرى، والبشرى تقتضي أنه سيخرج من السجن وسيعود إلى القصر وإلى عمله في سقاية سيده الخمر، هذه بشرى لأنه سينجو.. الثاني سيُقتل لكن يوسف عليه السلام بأدبه العالي يُعلمنا القرآن الكريم ألا نواجه الآخرين بالشر، فلذلك قال: (أَمَّا أَحَدُكُمَا) الآن هو وحده سيفهم لأن الأول رأى في منامه أنه يعصِرُ خمراً إذاً هو الذي سيسقي ربه خمراً، والثاني رأى في منامه أن الطير تأكل من رأسه إذاً هو الذي سيُقتل ويُصلب فتأتي الطير فتنقر في رأسه وتأكل منه، فسيفهم كلٌ منهما تأويل رؤياه دون أن يواجه الآخر بالشر، وهذا من أدب المؤمن.

الحاكم يحكم بأمر الله تعالى
(أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا): لماذا سماه رباً؟ الرب هو السيد، هو الحاكم، القاهر، وهم في هذا العصر كانوا يتخذون هؤلاء أرباباً من دون الله، يجعلون لهم الحاكمية، وهذا من معاني الربوبية، لذلك ماذا قال لهم في الآية التي قبلها؟ قال: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) لماذا يُسمى ولي الأمر بالحاكم؟ لأنه يحكم بأمر الله، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أنت مهمتك أيها الحاكم في الأرض أن تُنفذ حكم الله فقط، أنت ليس لك حكمٌ حتى على مستوى الأسرة، أنت أيها الأب تسمى ربَّ الأسرة بمعنى أنك تُمدها بما تحتاجه وهذا من معاني الربوبية، لكن هل لك حكمٌ في الأسرة؟ لا، أنت تحكم بأمر الله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فالحاكمية لله تعالى، نحن ليس لنا حكمٌ في الأرض، بل نُنفذ مرادَ الله تعالى قدر المستطاع في الأرض، فلما قال لهم قبل قليل: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الآن بإشارةٍ خفيَّة قال: يسقي ربه خمراً، لأنه يتخذه رباً، عندما يتوجه إليه وعندما يرى أن الحكم له وأنه لا بد من طاعته لأنه هو الحاكم، وهو المتصرف، وهو السيد، وهو المُطاع، فهو يتخذه رباً:

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ (31)
(سورة التوبة)

الرب هو الله
لا ينبغي أن تتخذ حاكماً، ولا شيخاً، ولا عالماً، ولا راهباً، رباً من دون الله، الرب هو الله، هو الحاكم، وهو السيد، وهو الذي يُطاع، والناس في الأرض تُطيعهم بقدر التزامهم بأمر الله، لذلك لا يجوز للإنسان أن يُطيع والديه اللذين كانا سبباً في وجوده في الأرض، وهما أحق الناس ببره وطاعته، لا يجوز أن يُطيعهما في معصية:

وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (15)
(سورة لقمان)

لأن الحكم لله، ونحن نُنفذ حكم الله في الأرض، فنُطيع الآخرين بقدر ما يلتزمون بحكم الله تعالى فينا، ومن هنا فهم سيدنا أبو بكر هذا المعادلة وهو الصديق رضي الله عنه فلما ولي الخلافة قال:
"وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ فِيكُمْ، فَإِنْ عَصيتُهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ"
{ أبو بكر الصديق }
هذا معنى أن الحكم لله، وأن الحاكم سواءً كان له ولايةٌ عامةٌ في البلد أو كان حاكماً على أسرةٍ أو على مجتمعٍ صغيرٍ أو على شركةٍ فإنما مهمته أن يحكم بحكم الله تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، فهذا الرجل سينجو وسيخرج من السجن وسيعود إلى سقاية سيده الخمر، (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ) سيُقتل(فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) كما رأى في منامه أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه.

بين القضاء والقدر
ثم يقول يوسف عليه السلام:(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) أي هذا هو الحق الذي تأتي به هذه الرؤيا (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)، لكن لو ذهبنا إلى معنى القضاء، القضاء في الأصل له عدة معانٍ لكن من أشهر معاني القضاء الحكم:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (23)
(سورة الإسراء)

فقضاء الله هو حكمه، يقضي الله في الأمر أي يحكم فيه، والقاضي سمي قاضياً لأنه يحكم بين المتخاصمين، فالقضاء هو الحكم، ما الفرق بين القضاء والقدر؟ بعض العلماء قالوا: هما مترادفان لكن أنا لا أؤيد الترادف لا سيما أن لهما جذرين مختلفين:

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
(سورة القمر)

القضاء قضاء الله تعالى يردُّه الدعاء
هناك قدرٌ وهناك قضاء، والبعض ميَّز بينهما، أرجح تمييزٍ بينهما وأراه هو الأنسب والذي يتناسب مع هذه الآية وغيرها من الآيات هو أن القضاء ما كان في علم الله تعالى، ما قضاه الله تعالى سابقاً في علمه الغيبي، في علمه الكشفي جلَّ جلاله، والقدر هو تحقق هذا القضاء في تفاصيله على الأرض، فلما قال لهما هنا:
(قُضِيَ الْأَمْرُ) أي هذا في قضاء الله أصبح حكماً لكن بقي تنفيذه على الأرض وهو القدر، بقي وقوعه وهو القدر، متى أصبح هذا القضاء قدراً؟ عندما نجا الأول وعاد إلى القصر يسقي ربه خمراً، وعندما قتل الثاني فأصبحت الطير تأكل رأسه وقع القدر، والقدر لا يرد، لا راد لقدر الله، لكن القضاء قضاء الله تعالى يردُّه الدعاء كما صحَّ في الأحاديث، فإذا كان هناك قضاءٌ قضاه الله عليك أنك ستمرض لا قدر الله، ثم دعوت الله عزَّ وجلَّ بالشفاء، فقضى الله قضاءً جديداً جلَّ جلاله أن يُبعد عنك هذا المرض، قضاء الله قد يرده قضاءٌ آخر.. قضى الله على فلانٍ من الناس أن يقع معه حادث سير في اليوم الفلاني، هذا الرجل تعلم آداب الخروج من البيت وآداب الدعاء فخرج من البيت ودعا الله عزَّ وجلَّ أن يصرف عنه السوء، فقضى الله عزَّ وجلَّ صرفَ هذا السوء عنه، أما القدر فإذا وقع قد انتهى الأمر لأنه وقع، فهذا هو القضاء والقدر، والله أعلم، طبعاً هناك تحليلاتٌ كثيرةٌ للعلماء في المسألة لكن أنا اخترت ما أجده أقرب إلى الفهم البسيط،
(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) يعني هذا الأمر أصبح قضاءً، وقضاء الله لازمٌ إلا أن قضاء الله اللازم قد يرده قضاء لازمٌ آخر، هذا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم قال له أبو عبيدة: أتفرُّ من قضاء الله؟ - الطاعون- ما أراد عمر أن يدخل بلدةً فيها طاعون، قال: أتفرُّ من قضاء الله؟ قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنما نفرُّ من قضاء الله إلى قضاء الله، نحن لن نخرج عن قضائه جلَّ جلاله لكن كما أنه قضى المرض قضى الشفاء، فالشفاء قضاؤه والمرض قضاؤه، فنحن نفر من قضاءٍ إلى قضاء، لا نخرج عن قضاء الله، لكن متى وقع الأمر أصبح قدراً وانتهى الأمر، فهنا قال:
(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ).

شرح معنى الظن

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
(سورة يوسف)

(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا) أي الساقي، كما نفهم من سياق الآيات، الساقي هو الذي سينجو، (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ) ظَنَّ هل هي للظن أم لليقين؟ الظن يأتي في اللغة بمعنى اليقين كقوله تعالى:

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ (46)
(سورة البقرة)

أصل الظن هو شيءٌ فوق الشك
أي يتيقنون (أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ) لكن أصل الظن هو شيءٌ فوق الشك، الشك خمسون بالمئة يستوي فيه الطرفان، خمسون بالمئة وقوع، وخمسون بالمئة عدم وقوع، يستوي الطرفان في الشك، الظن يأتي بعد الشك، عندما يظن الإنسان نقول: إن ظنه تقريباً سبعون بالمئة، فإذا أصبح غلبة ظنٍّ أصبح تسعين بالمئة، اليقين مئة بالمئة، هنا هل جاء الظن على حقيقته أم على اليقين؟ قال بعض العلماء: بل على اليقين لأنه كان متيقناً وقال: (قُضِيَ الْأَمْرُ) يعني هو متيقنٌ من وقوع هذا الأمر، وقال بعضهم: بل على حقيقته وهو الظن، والذي يترجح والله أعلم أنه على حقيقته، لأن يوسف عليه السلام ينطق بما علَّمه الله إياه لكنه لا يتيقن من وقوع الأمر لأن هذا الشيء في علم الله عزَّ وجلَّ، وهذا من أدب الأنبياء، (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا) يعني هو مازال في مرحلة الظن لعل الله عزَّ وجلَّ يقضي شيئاً آخر، وكما قلنا: الله تعالى يقضي ما يشاء ويحكم ما يشاء جلَّ جلاله، (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا) إذاً مازلنا في الظن هي رؤيا وأوَّلَها يوسف، أوَّلَها بما علَّمه الله إياه، لكنها تبقى في الظن حتى تقع فتصبح قدراً وهو القطع الذي لا رادَّ له.

الذكر في الأصل هو حضور شيءٍ موجودٌ في البال أصلاً
إذاً: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) عِندَ رَبِّكَ أي عند سيدك، (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) الذكر في الأصل هو حضور شيءٍ موجودٍ في البال أصلاً، فعندما تتذكر شيئاً هو يكون موجوداً في الأصل في ذاكرتك، تذكره بمعنى أنك تستحضره، تأتي به من مكانٍ بعيدٍ إلى بؤرة الاهتمام، هذا الذكر هو تذكُّر شيءٍ موجود، من هنا نقول: ذكر الله، الله عزَّ وجلَّ موجودٌ في قلب كل مسلم في فطرة كل مسلم، في عقيدة كل إنسانٍ موجود، حتى غير المسلم، لأن الله عزَّ وجلَّ هو الخالق جلَّ جلاله فهو موجودٌ في داخل كل إنسانٍ، أن الله موجودٌ وواحدٌ وكامل، فعندما نقول: يذكر الله وكأنه يستحضر هذا الأمر ويُحضره إلى بؤرة اهتمامه، هذا معنى الذكر.
سأضرب مثلاً: بحيرة ماءٍ راكد، ألقيت فيها حجراً صغيراً ما الذي يحصل؟ دوائر، دوائر، الحجر في البؤرة والدوائر تتباعد إلى الحواشي، فأنت عندما يأتيك خاطرٌ جديدٌ تبدأ الخواطر القديمة بشكلٍ طبيعيٍ تذهب إلى الحواشي، والذكر يعني أن تستحضر هذه الخواطر القديمة وتُعيدها إلى بؤرة الشعور، هذا الذكر، فقال: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) يعني اجعل الأمر في البؤرة، لا تَنْسَني، تذكرني، لأن الأيام تُنْسِي، سيخرج بعد حين وسيفرح بالخروج ويفرح بأهله وبيدأ بعمله وينسى يوسف (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ).
المؤمن يبقى قلبه معلقاً بالله
قال: (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) هنا البعض قال (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ) أي أنسى الشيطان يوسف ذِكْر الله لأنه ذَكَر غير الله، الذي يترجح والله أعلم من سياق الكلام (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي فأنْسَى الشيطان الساقي أن يذكُر يوسف عند ربه (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، الآن هناك شيءٌ أدق وأعمق؛ لو أن فلاناً من الناس كان في السجن، وحصل معه هذا الموقف وهو بريءٌ لكنه أُودِعَ في السجن ظلماً وعدواناً وحصل معه هذا الموقف إنسانٌ سيخرج من السجن، فقال له: يا فلان اذكر ما رأيت من إحساني ومن الخير الذي عندي عند القاضي لعله يُعيد النظر في مسألتي ويخرجني من السجن، هل هذا حرام؟ ليس حراماً، هذا من اتخاذ الأسباب، الإنسان يتعلَّق بالأسباب لكن المؤمن يبقى قلبه معلقاً بالله، لا ينظر إلى أن الإفراج عنه سيتم عن طريق فلان وإنما الله هو الذي سيتولى الأمر، لكن هو اتخذ سبباً من الأسباب هذا ليس فيه حرمة، لكن يوسف عليه السلام تحديداً هو نبيٌّ من أنبياء الله يتلقى عن الله فوراً:

ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (37)
(سورة يوسف)

فقط في مقام النبوة لا يليق أو لا ينبغي أن يتوجه الإنسان إلى غير الله، حتى عن طريق الأسباب، فالآن قال:(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) بعض المفسرين قالوا: كان ذلك عقوبةً له لأنه أراد من الساقي أن يذكره عند الملك، ربما، معنى جميل، لكن ما نقول (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) يعني الشيطان أنسى يوسف ذكر الله لأن ذلك لا يليق بالأنبياء، أن ينسيهم الشيطان ذكر الله عزَّ وجلَّ.
(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ) أي يوسف (بِضْعَ سِنِينَ) والبضع من ثلاث إلى عشر سنوات وحددها البعض بسبعٍ والله أعلم، ربما لبث في السجن سبع سنوات، مدةٌ طويلة (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
(سورة يوسف)


أحداث القصة تجري في زمن الهكسوس
الآن: (وَقَالَ الْمَلِكُ) نحن لم نسمع بالملك الآن سمعنا به، نحن سمعنا بالعزيز، وعرفنا أن مسرح الأحداث هو مصر، وعرفنا أن العزيز هو رئيس وزراء مصر، بما يعادل اليوم رئيس الحكومة الذي يُدير الأمور، لكن الآن نسمع بالملك، وهل كان في مصر ملوك؟ مصر فيها فراعنة، هذا العصر الذي كان فيه يوسف وهذا من الإعجاز الإخباري في القرآن الكريم، هي الفترة التي حكم به ملوك الرعاة المعروفون تاريخياً بالهكسوس، هؤلاء حكموا مصر في فترةٍ معينةٍ أخذوا الحكم من الفراعنة ثم عاد الفراعنة واستردوا الحكم في مصر فكان اسمهم الملوك وليس الفراعنة، مصر فيها فراعنة لكن في عصر الهكسوس الذي كان فيه يوسف عليه السلام في مصر كان يوجد ملوك، فهذا الملك، إذاً مصر فيها ملكٌ وفيها عزيز، الآن الحديث عن الملك.
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ) إِنِّي أَرَىٰ هذا فعل مضارع يشير إلى أن الرؤيا تتكرر، أحياناً الإنسان يرى الرؤيا في منامه مرَّةً فلا يلتفت لها ثم تُكرر مرَّة، اثنتين، ثلاث، فيقول: (إِنِّي أَرَىٰ) يبحث الآن عن التأويل لأن الرؤيا تكررت فلما قال: (إِنِّي أَرَىٰ) إذاً كانت الرؤيا تتكرر، وهذا شبيهٌ بما قال إبراهيم:

إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (102)
(سورة الصافات)

تكررت عليه الرؤيا فما أخبره بالمرة الأولى إنما بعد تكرر الرؤيا (إِنِّي أَرَىٰ) ، (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ): سِمَانٍ أي ممتلئةٌ باللحم وبالعافية، صحيحة، معافاة، (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ): عِجَافٌ أي هزيلة لا امتلاء فيها ولا عافية، لو كانت السمان تأكل العجاف لكانت الرؤيا متسقة مع الواقع، لكن غرابتها أن العجاف تأكل السمان (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ).
(وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ): سنابل القمح، (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ): يتحدث الملك في ملأٍ من قومه، في مجموعةٍ من الناس ممن حوله، من الحاشية، (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ): أعطوني الفُتيا، الجواب عن هذه الرؤيا التي أراها.

معنى تَعْبُرُونَ
العِبرة من القصة أن تأخذ درساً منها

(إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)
: ما معنى التعبير؟
(تَعْبُرُونَ)
من عَبَرَ، عَبَرَ النهر أي تجاوز من ضفة إلى ضفة، عبرتُ الشارع: تجاوزت من الرصيف الأيمن إلى الرصيف الأيسر، العِبرة من القصة أن تأخذ درساً منها، يعني أن تتجاوز القصة من منطوقها إلى مفهومها إلى الدروس المستفادة منها، العَبْرة: الدمعة التي تنزل على الخد، لما تنزل العَبْرة على الخد تشير إلى مكنون نفسك إما أنه حزنٌ أو فرح، فتُعبر عما في داخلك بالعَبْرة، العِبارة: لما تنطق بالكلام تُعبر عما في نفسك فتنتقل من مجهولٍ إلى معلوم، لماذا سميت العِبارة عِبارة؟ لأنها تُعبِّر عما في النفس، العَبَّارة: التي ينتقل الناس فيها بالبحر من مكانٍ إلى مكانٍ تعبُر بالناس فهي عَبَّارة تنقلهم من مكانٍ إلى مكان، ففي الأصل العبور هو الانتقال من مكانٍ إلى مكان، هذا عبورٌ حقيقيٌّ مكاني.
هناك عبورٌ مجازيٌّ أن تنتقل من شيءٍ مجهولٍ إلى شيءٍ معلومٍ هذا يدخل تحته العَبْرة والعِبرة والعِبارة ويدخل تحته تعبير الرؤى، (إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) أي إن كنتم تستطيعون أن تنقلوني من حالة المجهول -لا أدري ماذا أرى- (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ) و(سَبْعٌ عِجَافٌ) (وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) شيءٌ غير مفهوم، فهل يمكن أن تنقلوني من المجهول إلى المعلوم؟ أن تعبُروا بي من حالة الترقب والتخوف إلى حالة الاطمئنان، هذا هو العبور، انظروا إلى دقة اللغة العربية، هذا عبور، سيعبرون به، فسمي تعبير الرؤى تعبيراً، لكن يوسف عليه السلام سماه تأويلاً، التأويل أعمق من التعبير، لأن التأويل يعطيهم ما سيقع، ما سيؤول إليه الأمر، ما سينهي إليه الأمر فيوسف سماها تأويلاً، الملك سماها تعبيراً، اعبروا بي من المجهول إلى المعلوم، (إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ).

أضغاث الأحلام هي الأشياء المتداخلة

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
(سورة يوسف)

(قَالُوا) الملأ الذين حوله، (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) أَضْغَاثُ أي أخلاط، شيءٌ مختلطٌ من الأحلام، وهو ما يراه الإنسان في نومه، (أَضْغَاثُ) مفردها ضغث، قال تعالى:

وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ (44)
(سورة ص)

الضِغث: هو حزمةٌ من الحشائش المختلفة،فلما اختلطت أصبحت أضغاثاً، أضغاث أحلامٍ يعني أمورٌ مختلطةٌ لا علم لنا بها، والإنسان عندما يرى في منامه قد يرى الرؤيا التي تأتي واضحةً فيحدثك عنها، شيءٌ واضحٌ جداً يرى رؤيا، يقول لك: رأيت فلاناً يفعل كذا، كذا، وتشعر أن هذه الرؤيا هي رسالةٌ لها معنى، وقد يرى أشياءً متداخلةً تسمى (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) اختلطت علي الأمور، وجدت نفسي أصعد في الهواء وأنزل إلى الأرض، وأحياناً يكون ما يراه الإنسان في المنام حديث النفس، فيكون في المساء يدرس للامتحان وينام على ذلك فيرى نفسه في قاعة الامتحان هذا حديث نفس، أو يكون عطشان وينام فيرى نفسه في شلالات المياه العذبة والأنهار هذا بسبب شدة عطشه، فهناك حديث نفس، وهناك (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) يعني استعذ بالله منها واتركها، وهناك رؤيا واضحةٌ من الله أسأل عن تعبيرها أهل العلم والفضل أو ما يقع في قلبك أنه تعبيرٌ لها ولا تبني عليها حكماً، إذ ليس عندك يوسف ليبني لك أحكاماً! أنت إنسانٌ عاديٌّ خذ الرؤيا واستبشر بها خيراً دون أن تبنيَ عليها أحكاماً.
نصف العلم لا أدري
(قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) جميل جداً، موقفهم جميل أنهم قالوا: لا ندري، وقد قيل: "من قال لا أدري فقد أفتى"، لماذا أفتى؟ لأنك لما سألته فقال لك: لا أدري، وكأنه يقول لك ضمناً: اذهب إلى غيري فاسأله، لكن لو أنه أجابك بغير علمٍ لأغلق عليك الباب وأصبح الجهل عندك جهلاً مركباً فأنت تعلم بخلاف الحق، فالذي يقول لا أدري يخدمك لأنه يُفتيك، لأنه حولَّك إلى غيره ليفتيك، فقالوا: "من قال لا أدري فقد أفتى"، والإمام مالك لما جاؤوه بمجموعة أسئلةٍ أجاب عن بعضها واعتذر عن الآخر، قالوا: الإمام مالك لا يدري! قال: ارجعوا لهم فقولوا الإمام مالك لا يدري، وقالوا: نصف العلم لا أدري، فمن قال لا أعلم فهذا من العلم، ومن قال أعلم كل شيءٍ فهذا من الجهل، (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ).

لكل عصرٍ لغته ولسانه والرسول يأتي بلسان قومه
الآن: أريد أن أعقِّبَ على شيء، يبدو أن هذا العصر هو عصرٌ له علاقةٌ كبيرةٌ بموضوع الرؤى والأحلام، أولاً يوسف في بداية القصة رأى رؤيا فقصَّها على والديه فكانت سبب إلقائه في الجب، ثم صاحبا السجن رأيا رؤيا وقصَّاها على يوسف فأولها لهما، والآن الملك يرى رؤيا ويطلب تعبيرها، هذا يذكرنا بقوله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ (4)
(سورة إبراهيم)

فصاحة القرآن الكريم وبلاغته
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى قومه كانوا يُقيمون الأسواق للشعر العربي وللبلاغة وللفصاحة، فسمعوا القرآن فذهلوا بما سمعوا من فصاحة القرآن وبلاغته، فأصبح الواحد منهم يترصد ليسمع كلام الله، فجاءهم بمعجزةٍ من جنس ما تفوقوا به، في عصر موسى عليه السلام تفوقوا بالسحر فجاءهم بالعصا وجاءهم بيده التي يسلُكُها في جيبه فتخرج بيضاء للناظرين، وفي عصر عيسى عليه السلام تفوقوا بالطب فجعل يُحيي لهم الموتى ويُبرئ الأكمه والأبرص، بيدو أنه في عصر يوسف كان موضوع الأحلام والمنامات والرؤى شائعاً، فيوسف عليه السلام آتاه الله هذه المَلَكَة إن شئت فقل هي فك شيفرة الأحلام، يعطيهم الشيفرة الرئيسية في الحلم، فلكل عصرٍ لغته ولسانه والرسول بلسان قومه.

ادَّكَرَ بمعنى ذَكَرَ

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
(سورة يوسف)

(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا): الساقي، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ): ادَّكَرَ من دَكَرَ وذَكَرَ بمعنى واحد، دَكَرَ، وذَكَرَ:

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ (22)
(سورة القمر)

ادَّكَرَ: أصلها ادْتَكَرَ، افتعل، ادتكر، مثل اكتتب، اعتمر، لكن الدال والتاء مخرجهما قريبان هذا اسمه الإبدال في الصرف، أُبدلت التاء دالاً، فأصبحت ادْتَكَرَ (ادَّكَرَ)، مثل ادْخَرَ و(ادَّكَرَ) أصلها ادْتَكَرَ، لكن هذه التاء تاء الافتعال من افتعل قريبة جداً من مخرج الدال فادغموها في الدال بعد أن حولت إلى دال، (ادَّكَرَ).

الأمة في القرآن الكريم
(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ): بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد حينٍ من الزمن، وهذا يشبه قوله تعالى:

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ (8)
(سورة هود)

يعني إلى أجلٍ محدد، والأمة تأتي في القرآن بمعنى المجموعة من الناس:

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ (34)
(سورة الأعراف)

بمعنى المجموعة من الناس، وتأتي بمعنى الإمام في الخير والفضائل والأخلاق، أيضاً الجذر نفسه:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً (120)
(سورة النحل)

أي أمةً في الخير، تجتمع فيه خصال الخير جميعها فيقتدي الناس به، فيكون أمةً، يقود أمةً بأكملها، تلتقي المعاني مع بعضها، لكن هنا (أُمَّةٍ) بمعنى حين من الزمن (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) هنا (ادَّكَرَ) تشير إلى أنه بذل جهداً في التذكُّر، لم يقل وذكَرَ بعد أمة (ادَّكَرَ) للإشارة إلى أنه أخذ جهداً جعل يقول: يربط الأمور (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) هنا أيضاً نعود إلى الذِكْر تكلمنا أن الذِكْر هو استحضار شيءٍ موجودٌ في البال.

ذاكرة الإنسان نوعان
ذاكرة الإنسان نوعان ذاكرةٌ تعرفيةٌ تحفظ، وذاكرةٌ استرجاعية، الذاكرة التعرفية؛ أنت الآن قد ترى شيئاً تسأل: ما هذا؟ أقول لك: هذا هاتف، تعرفت عليه، فالآن أصبح في الذاكرة، تدرس كتاباً تقرؤه فتتعرف على المعلومات التي فيه فتدخل إلى الحفظ إلى الذاكرة، بعد حينٍ كما قلنا بعد انتهاء الكتاب تخرج هذه المعلومات إلى الحواشي لا تعود في البؤرة.
الذاكرة الاسترجاعية هي استرجاع المعلومة
الآن لما يحصل شيءٌ معينٌ تقوم الذاكرة بدورٍ جديدٍ وهو استرجاع المعلومة السابقة، هذه تسمى الذاكرة الاسترجاعية، من هنا أحياناً بعض الطلاب يقلقون مساءً قبل الامتحان لعلكم جميعاً حصلت معكم هذه القصة في الدراسة، تدرس وتدرس وتكون المادة كبيرةً جداً تقول مساءً: كأني لا أحفظ شيئاً أُحس نفسي غداً على ورقة الامتحان سآخذ علامة الصفر، فلما تجلس وترى الأسئلة تبدأ باسترجاع المعلومات وتكتبها على الورقة، ولو طلبت منك أن تقولها دون أن أُحفِّزَ فيك استرجاعها لما استطعت، فأنت تعرفت عليها وحفظتها لكنها أُودِعَت في ملفاتٍ قديمةٍ فلا تستطيع استرجاعها إلا في أجواءٍ محددةٍ، وفي أسئلةٍ واضحةٍ فتسترجعها هذه اسمها الذاكرة الاسترجاعية، فهنا عند الساقي بدأت الذاكرة الاسترجاعية (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)، قال: (أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ) لم يقل بتعبيره لأنه تعود من يوسف التأويل وهو أعمق من التعبير كما قلنا، فقال: (أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ) يعني بما يؤول إليه الأمر وكيف سيقع، لأنه واثقٌ من تعبير يوسف للرؤى فسماها تأويلاً، قال: (أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) لكن لم يُخبرهم من الذي سيُؤول لكن أرسلوني لآتيكم بالخبر.

الصِّديق مبالغةٌ في الصدق

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
(سورة يوسف)

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) انتقلنا من القصر إلى السجن، الساقي يخاطب يوسف، يقول له: (يُوسُفُ)، يعني يا يوسف وحذفت أداة النداء (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) لماذا سماه صديقاً؟ لأنه رأى من صدقه في الأقوال والأفعال والأحوال ما رأى يوم كان في السجن، صدقه في الأقوال لأنه واضح، كان سيدنا يوسف لا يكذب، صدق القول، القول المطابق للواقع، أما صدقه في الأفعال لأن أفعاله تأتي مطابقةً لأقواله ليس عنده نفاقٌ عملي، الأفعال تطابق الأقوال، وأوضح شيءٍ أنه قال له: إن الرؤيا ستقع ووقعت كما أخبره، فالصدق يكون في القول وفي الفعل وفي الحال، (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) والصِّديق مبالغةٌ في الصدق يعني كثير الصدق.
(أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ): لماذا أعاد القرآن الرؤيا ولم يقل أفتنا في الرؤيا؟ لسببين السبب الأول: ليؤكد لك أن الساقي قد نقل الرؤيا كما حصلت، والسبب الثاني ليأتي الجواب فوراً بعد السؤال لتربط أنت الأمور ببعضها، فالتكرار هنا له معنى، أحياناً يكون الاختصار في ترك الإعادة، لكن هنا الإعادة لها أهمية وهي أنه سيؤول الرؤيا فلا بد أن يكون التأويل بعد الرؤيا مباشرةً حتى تربط أنت كل فقرةٍ بأختها، الأمر الثاني: حتى يؤكد لك أن الساقي قد نقل الرؤيا كما حصلت تماماً (سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ).
(لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ): رجاء أن أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ، (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ): لَعَلَّهُمْ: يرجوا أن يعلموا، لأنه لا يعلم ما تكون ردة فعلهم، قد يُقرِّون بما جاء في التأويل، وقد يحتجون ويجادلون، وقد يُنكرون ويَرفضون التأويل كله (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) يعني رجاء أن يعلموا التأويل، الآن يوسف عليه السلام أجاب فوراً للرؤيا، يوسف محسنٌ لم يقل له: هؤلاء ظلموني وفعلوا الأفاعيل ارجع إليهم وقل لهم: يوسف ليس لكم عنده شيءٌ ولتذهبوا إلى الجحيم، مباشرةً أجابهم هذا الجواب، هذا المحسن، نفسه سخية، كريمة.

سنوات المواظبة والمثابرة في الرؤيا

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47)
(سورة يوسف)

حماية القمح ببقائه داخل سنابله
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) دَأَبًا أي مواظبةً ومثابرةً، يجب أن تكون هذه السنوات السبع الزراعة فيها عملاً متواصلاً لا تكفون عنه، (فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ) اتركوا القمح في السنابل وقت الحصاد لحمايتها من التسوس والعوامل البيئية والقمح لا يُحمى إلا في سنابله، هذه حقيقة يعرفها المزارعون والمهندسون الزراعيون، القمح لا يُحمى إلا أن يبقى في داخل سنابله، والقمح كما تعلمون له قشرةٌ رقيقةٌ تحيط به ومن أعاجيب البشر أنهم يُلقونها للحيوانات أو في القمامة ويأخذون اللب ويصنعون الخبز الأبيض، وإنما الصواب أن يجعلوا القشرة مع اللب ويطحنوه معاً فيخرج الخبز الأسمر الذي فيه كميةٌ كبيرةٌ من الألياف تساعد على الهضم ولا تزعج المعدة، وفيه وعاءٌ آخر يحميه أيضاً له وعاءان فقال: (فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ) أي في أوعيته في حمايته، (فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ) يعني لا تأخذوا منه إلا القليل الذي يكفي لأكلكم والباقي دعوه في سنابله.

السنوات العجاف في الرؤيا

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48)
(سورة يوسف)

كلُّ عملٍ تفعله يرتبط بالزمان والمكان
قال:(ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ): شِدَادٌ: أي قاسية، سبع سنواتٍ قاسية شديدة عليكم، (يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) هذه السنوات ستأكل كل ما تركتم في السنابل لهذه الأعوام، هذه السنوات العجاف هي التي ستأكل بهذا المعنى، كيف العجاف ستأكل السمان؟ السنوات العجاف ستأكل كل (مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ) في سنوات الرخاء، هل السنوات هي التي تأكل أم البشر الذين يأكلون؟ البشر، لكن هذا من المجاز، لأن الفعل الذي تفعله يرتبط دائماً بالزمان والمكان، أنت الآن تكتب الزمان يوم السبت تاريخ كذا، والمكان هو هذه الغرفة، فكلُّ عملٍ تفعله يرتبط بالزمان والمكان، فقد يُنسب الفعل في اللغة العربية للزمان أو للمكان، للمكان كقوله تعالى:

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا (82)
(سورة يوسف)

كما سيأتي بعد قليل في سورة يوسف، قالوا: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) قالوا لأبيهم، إخوة يوسف قالوا: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) القرية لا تُسأل، أي اسأل البشر الموجودين في القرية، البشر الذين يكونون في هذه السنوات هم الذين سيأكلون هذه السنابل وهذا القمح.

أصل الحصن هو المنع
(يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ) تُحْصِنُونَ: أي حتى يبقى شيءٌ تمنعونه، هي سبع سنواتٍ وكلُّ سنةٍ تمنعون شيئاً حتى تكفي للسنوات، فتحصنون أي تمنعون ومنه الحصن لأنه يمنع الأعداء من الوصول إلينا فنقول نحن في حصن، ومنه:

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ(24)
(سورة النساء)

لأنهن يمنعن الآخرين من الوصول إليهن بالسوء فهن محصنات.

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا (91)
(سورة الأنبياء)

أي منعت الزناة والعياذ بالله والمعتدين من أن يطالوا من شرفها وعفتها وطهارتها، فأصل الحصن هو المنع، فقال: (إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ) أي مما تمنعونه عن الناس من أجل أن تحفظوه فما تدرون ما سيكون بعد ذلك.
الآن انتهت الرؤيا، سبع سنواتٍ رخاءٍ تُقدِّم فيها للعجاف التي ستأكل ما قدمته، هذه السنبلات الخضر والسنبلات اليابسات وسبع بقرات سمان وسبع بقرات عجاف، هنا انتهت الرؤيا.

من أدب المسؤول الزيادة على سؤال السائل
لكن يوسف عليه السلام زادهم بما علَّمه الله، زاد السائل على سؤاله وهذا من أدب المسؤول إذا كان يعلم مزيداً أن يزيده، وهذا له في الحديث شاهدٌ عندما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر هل هو طاهر؟

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ }

(رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ)

هم لم يسألوه عن ميتة البحر وإنما سألوه عن طهارة ماء البحر، فزادهم، وهذا من أدب المسؤول إذا سأله الإنسان عن شيءٍ ويعلم غيره.

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
(سورة يوسف)

فزادهم فقال: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ) ولم يقل سنة لأن السنة تأتي غالباً مجدبة، أصابتنا سنةٌ يقولون ويسكتون، أصابتنا سنة، يعني سنةٌ مجدبةٌ صعبة، أما العام فغالباً ما يأتي للخير، فقال: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) أي يأتي الغوث من الله فيُغيثهم بالماء وبالخير وبالبركة.

العَصْرُ يكون في سنوات الجفاف والجدب
والعّصْرُ لا يكون إلا في الرخاء
(وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) الإنسان عندما يكون في سنة جدبٍ وشدةٍ وجفافٍ لا يَعْصِر، بل يستخدم المواد على هيئتها الطبيعية لأن العصر عصر رفاهية، أما إذا كان ثمن كيلو البرتقال ديناراً فأنت لا تعصِره، تقول: هذا للطعام نأكله مع أليافه كاملاً، ربما يأكله مع قشرته من شدة الفقر لا يذهب بشيءٍ منه، أما لما يصبح كيلو البرتقال مثلاً بعشرين قرشاً فيقول: أخذت صندوقاً كبيراً وعصرته للأولاد، رخيص، فعند الرخاء يعصِر الناس، والعّصْرُ لا يكون للفواكه فقط، بل يكون للزيوت، للسمسم، للزيوت التي تُعصر من الذرة ومن غيرها، فالعصر له موادٌ أوليةٌ لصناعاتٍ كثيرة، لكن في سنوات الجفاف دعنا نأكل فقط.
الأكل إخواننا الكرام له فائدتان: القوت والاستمتاع، في الجدب تصبح الفائدة فقط هي القوت: أن تأكل ما يقوم به بدنك، أن تعصم نفسك من الجوع، في الرخاء الطعام يزيد على القوت الاستمتاع، والله عزَّ وجلَّ لأنه ودود أضاف للقوت الاستمتاع لأنه ودود يُحبك، فأنت تأكل الرز لكن اللوز على الأرز هذا ليس قوتاً هذا استمتاع لكن جعله لك استمتاعاً في الطعام، لو أراد ربنا عزَّ وجلَّ أن يُقيتك لجعل المادة الرئيسية في الكون هي القمح وكل خبزاً طول حياتك وتشبع وانتهى الأمر، لكن جعل لك آلافاً مؤلفةً وأنواعاً منوعةً ليست قوتاً بقدر ما هي استمتاع، لذلك قال تعالى:

فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)
(سورة النساء)

(مَّرِيئًا) للقوت ينزل في المري وتقتات به، أما (هَنِيئًا) تستمتع به، (هَنِيئًا) للاستمتاع، فهنا (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يأتي هذا العام الخير فيناسب الغيث من السماء بالماء أن نعصِر الفواكه ونعصِر المواد التي تُعصر ليُستخرج منها الزيوت وغير ذلك فيكون عام خيرٍ وبركة، فزادهم في هذا العام مما علَّمه الله، هذا من إخبار الله له، ومع إخبار الله له هو مقتضى العقل والفهم، يعني ما دام أن السبع المجدبات انتهت، ما دام أن الرؤيا حددت أنها سبعٌ إذاً ماذا سيأتي بعدها؟ الرخاء، يعني مقتضى العقل يقول ذلك لكن يوسف عليه السلام معلم من قبل الله تعالى قال:

ٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (37)
(سورة يوسف)

فهو يتلقى علماً من الله تعالى، بهذا الشكل عَبَّرَ أو أوَّلَ، فهمنا الفرق بين التعبير والتأويل، أوَّلّ يوسف عليه السلام رؤيا الملك وما أراد عليها أجراً ولا حتى خروجه من السجن، لم يطلب شيئاً أعطاهم التعبير لله تعالى رغم ما فعلوا به ورغم ما نكلوا به، والآن القصة ستعود إلى قصر الملك ليسمع الملك بتأويل الرؤيا ويطلب لقاء يوسف، وهذا ما نُؤخر الحديث عنه إن شاء الله إلى لقاءٍ قادم.
والحمد لله رب العالمين.