• محاضرة في الأردن
  • 2018-12-15
  • عمان
  • دائرة المكتبات

اعرف رسولك


معرفة رسول الله واجبٌ على كل مسلم :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بادئ ذي بدء أشكر لكم هذه الدعوة الطيبة التي إن دلت على شيء فعلى حسن ظنكم بي، وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنكم.
أيها الأخوة الأحباب؛ أحمدُ الله تعالى، وأصلي وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد، عنوان لقائنا اليوم: اعرف رسولك، هذا العنوان مستمدٌّ من قوله تعالى في سورة المؤمنون:

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
(سورة المؤمنون: الآية 69)

لكأن الله عز وجل يعتب على أمةٍ لم تعرف رسولها، يعتب على أمةٍ يرسل لها رسولاً من رب البشرية فلم تتعرف إلى سنته، ولم تقرأ سيرته، هذه الآية كأنها تقول: أيها المسلم يجب عليك أن تعرف رسولك لأنه كما تعلمون هذا استفهامٌ إنكاري (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) أي اعرفوا رسولكم، تماماً كما يقول الأب لابنه: ألم تدرس؟ يريد بذلك ادرس، (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) أي اعرفوا رسولكم .
أيها الأحباب؛ معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبٌ على كل مسلم، لماذا؟ لأن الله تعالى أمرنا فقال:

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
(سورة الحشر: الآية 7)

معرفة النبي واجبٌ على كل مسلم
كيف نأخذ ما أمرنا به وكيف ننتهي عما نهانا عنه إن لم نعرفه أصلاً؟ ثم إن الله تعالى يقول:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
(سورة الأحزاب: الآية 21)

فكيف نتخذه أسوةً ونحن لا نعرفه؟ وهل يقتدي الإنسان إلا بمن يعرف معرفةً يقينية؟ ينبغي أن نعرف القدوة والأسوة صلى الله عليه وسلم.

محبة رسول الله و اتباع أوامره فرض على كل مسلم :
أيها الأخوة الكرام؛ هذه خمسة أمور تكسبك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يسعى إلى هذه المحبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ) قال العلماء: الإيمان الكامل (حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ) فهل نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ولدنا ووالدنا والناس أجمعين؟

{ لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ }

(صحيح البخاري)

والله لو سألنا هذا السؤال لمليار ونصف مليار مسلم لقالوا جميعاً: بلى نحب رسول الله أكثر من ولدنا ووالدنا، لكن المحك على التطبيق عندما يتعارض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصلحتنا المتوهمة، فهل نقدم محبة رسول الله أم نقدم محبة الولد والوالد والناس؟
محبة الآخر اختيار
عمر رضي الله عنه عملاق الإسلام، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صريحاً، غايةً في الصراحة، ويبدو أن هذا كان في بداية إسلامه، قال: يا رسول الله لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلَّا نَفْسِي، كان صادقاً رضي الله عنه، محبة النفس طبع، محبة الآخر اختيار، فكل إنسان يحب نفسه بطبعه، إذا كان يعبر الشارع وجاءت سيارة مسرعة يعود فوراً، لماذا يعود إلى الوراء؟ لأنه يحب نفسه ويخشى على نفسه، لكن محبة الآخر اختيار، فبإمكانك أن تحب أو لا تحب، فقال: إلَّا مِن نَفْسِي، بعد حين جاءه فقال: لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كل شيءٍ حتى من نَفْسِي التي بين جنبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر، أي الآن اكتمل الإيمان، لأن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض، ولا يمكن أن تتبعه حق الاتباع إلا إن عرفته حق المعرفة.

{ كُنَّا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شيءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الآنَ يا عُمَرُ }

(صحيح البخاري)


خمسة أمور تكسب الإنسان محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1 ـ اتباع سنته :
أيها الأخوة؛ خمسةٌ تزيد محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسة أمور، الأمر الأول: اتباع سنته، مما يزيد المحبة اتباع سنته، قال الله تعالى في كتابه الكريم:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ
(سورة الأحزاب : الآية 36)

قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
(سورة آل عمران: الآية 31)

محبة رسول الله مرتبطةٌ باتباعه
فإذا كانت محبة الله مرتبطةً باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أن محبة رسول الله مرتبطةٌ أيضاً باتباعه، كان الصحابة الكرام يضربون مثلاً فريداً في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، كان عبد الله بن مسعود داخلاً إلى المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على المنبر ويقول للناس الواقفين: اجلسوا مكانكم- والحديث في الصحيح- ابن مسعود مازال خارج المسجد، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اجلسوا مكانكم، فجلس مكانه خارج المسجد، فضحك رسول الله، قال: تعالَ يا بن مسعود، ابن مسعود يعلم أن الخطاب ليس موجهاً له لأنه لم يدخل المسجد بعد، يدخل ثم يجلس، ولكنه عود أذنه ألا تسمع أمراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بادرت إلى تطبيقه فوراً.

{ لمَّا استوى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ الجمعةِ قالَ: اجلسوا. فسمعَ ذلِكَ ابنُ مسعودٍ فجلسَ على بابِ المسجدِ فرآهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: تعالَ يا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ }

(صحيح أبي داود)

كانَ النَّاسُ إذا نزلوا منزلاً كما يقول راوي الحديث أبو ثعلبة الخشني تفرَّقوا، انتشروا، كل إنسان يمشي في طريقه وهم في سفر، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: " إنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعابِ وَالأَوْدِية إِنَّما ذلكُمْ منَ الشَّيْطَان، اجتمعوا لا تتفرقوا، فكان الناس بعد ذلك- كما يقول راوي الحديث- إذا نزلوا منزلاً تجمعوا على بعضهم حتَّى يقالَ: لو بُسِطَ عليْهم ثوبٌ لعمَّهم، أي إن ألقيت عليهم ثوباً فإنه يجمعهم جميعاً من شدة تجمعهم مع بعضهم.

{ كانَ النَّاسُ إذا نزلوا منزلا تفرَّقوا في الشِّعابِ والأوديةِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: "إنَّ تفرُّقَكم في هذِهِ الشِّعابِ والأوديةِ إنَّما ذلِكم منَ الشَّيطان"، فلم ينزل بعدَ ذلِكَ منزلًا إلَّا انضمَّ بعضُهم إلى بعضٍ حتَّى يقالَ لو بُسِطَ عليْهم ثوبٌ لعمَّهم }

(أخرجه أبو داود)

كان صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب فقال: إني اتخذت هذا الخاتم- وكان قد اتخذ خاتماً من ذهب، وجعل فصه إلى الباطن - إلى الداخل - ليختم به الكتب، فلما صنعوا له خاتماً لختم الكتب الصادرة والواردة كما تعلمون نزعه فنبذه وقال: والله لا ألبسه أبداً، فنزع الناس خواتمهم فوراً، وقالوا: ونحن لا نلبس الخواتم، عندما نزل تحريم الذهب للرجال.

{ كان لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاتَمٌ من ذَهَبٍ، وكان يَجعَلُ فَصَّه في باطِنِ يَدِه، فطَرَحَه ذاتَ يَومٍ، فطَرَحَ النَّاسُ خَواتيمَهم، ثُمَّ اتَّخَذَ خاتَمًا من فِضَّةٍ، فكان يَخْتِمُ به، ولا يَلْبَسُه }

(إسناده صحيح على شرط الشيخين)

كان يصلي صلى الله عليه وسلم في الناس، وأثناء الصلاة خلع نعليه ووضعهما عن يساره، فخلع الناس نعالهم ووضعوها عن يسارهم فوراً، مباشرةً، فلما قضى صلاته قال: ما حملكم على ما فعلتم؟ قالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، نحن نقتدي بك، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً فإذا دخل أحدكم المسجد فلينظر إلى نعليه فإن وجد بهما أذى فليمسحه ثم ليصلي فيهما، يوم كانت المساجد مفروشةً بالحصى وليس كأيامنا بالسجاد.

{ عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: بينما رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصلِّي بأصحابِه إذ خَلَعَ نَعليهِ فوضَعَهما عن يَسارِه، فلمَّا رأى ذلك القومُ ألْقَوْا نِعالَهم، فلمَّا قضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاتَه، قال: "ما حمَلَكم على إلقاءِ نِعالِكم؟"، قالوا: رَأيناكَ ألقيتَ نَعليكَ فأَلْقَيْنا نِعالَنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ جِبريلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاني فَأخبَرنِي أنَّ فيهما قَذرًا - أو قال: أذًى - وقال: إذا جاءَ أحدُكم إلى المسجدِ، فلينظرْ؛ فإنْ رأى في نَعليه قذرًا أو أذًى فلْيَمْسَحْه، ولْيُصلِّ فيهما" }

(أخرجه أبو داود وأحمد)

أمر رسول الله يجب تطبيقه فوراً
أيها الأخوة الأحباب؛ إذاً صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعوا أمراً من رسول الله إلا بادروا إلى تطبيقه فوراً، بعض المسلمين اليوم- نسأل الله أن نكون من أتباع رسول الله ومن أتباع سنته- تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تشعر أنه شعر بشيء عظيم ينبغي أن يطبقه، ولو قلت له: قال رسول الحاكم الفلاني، لقال لك: سمعاً وطاعة، ولو قلت له: قال رسول الغني الفلاني، لقال: سمعاً وطاعة، ولو قلت له: قال رسول القوي الفلاني، لقال: سمعاً وطاعة، تقول: قال رسول الله الذي أرسله الله رحمةً للبشرية جمعاء، يقول لك: لكن الزمان تغير وتحول، واليوم الأوضاع مختلفة وينبغي أن نلين قليلاً، والأوضاع صعبة، ويتحجج من أجل أن يترك تنفيذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا بعدٌ عن الحق والله.

2 ـ قراءة سيرته :
إذاً خمسةٌ تزيد محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أولاً: اتباع سنته، تقفّي سنته، إن وجدت شيئاً كان عليه رسول الله فكن عليه.
ما عند رسول الله إلا الموقف الجميل
ثانياً: قراءة سيرته، النفوس أخواننا الكرام جُبِلَت على حب الجمال والكمال والنوال، منظر جميل كل الناس تحبه، الآن آتيكم بورود جميلة جداً، مزرعة، كل الناس تقول: ما أجمل هذا المكان! لا أحد لا يحب الجمال، جبلت النفوس على حب الجمال، وجبلت على حب الكمال، كيف الكمال؟ أي رويت لك موقفاً عن إنسانٍ وجد مئة ألف دينار، وكان بإمكانه أن يأخذها، ثم ذهب وبحث عن صاحبها أسبوعاً حتى وجده، وأعطاه إياها كاملةً، كلنا نُعجب بهذا الموقف لأنه موقف كامل، الجمال والكمال، والثالثة النوال: الإنسان الذي يعطيك تحبه، العطاء محبب إلى النفوس، لذلك الأطفال تحببهم إليك بالعطاء، فجبلت النفوس على حب الجمال والكمال والنوال، فإذا نظرت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت الجمال والكمال والنوال، هذه قراءة سيرته، موقف جميل، ما عند رسول الله إلا الموقف الجميل، وما عند من معه إلا المواقف الجميلة.
السيدة عائشة وليلتها، قال لها: يا عائشة أتأذنين لي أتعبّد ربّي؟ بربكم أيتها الأخوات الفاضلات وأيها الأخوة الفضلاء هل هناك أعظم من أن يذهب الإنسان لعبادة ربه؟! انظروا إلى الموقف الجميل، لم ينهض من غير أن يستأذنها، يستأذنها ليعبد ربه، طبعاً ليس الفروض، بل النوافل، يريد أن يقوم الليل صلى الله عليه وسلم، فقال: أَتَأْذَنِينَ لِي أَتَعَبَّدَ لِرَبِّي؟ الآن كيف تجيبه عائشة؟ والله إن قالت: آذن لك فقد جفته، وإن قالت له: لا آذن لك فقد منعته مما يحب، فقالت له: والله يا رسول الله إني لأحب قربك ولكني أؤثر ما يسرك، هذا موقف جميل نحبه جميعاً.

مواقف النبي في كل الأحوال تدفع الإنسان إلى محبته قطعاً :
الرسول قدوة لنا في الفقر و الغنى
مواقف النبي صلى الله عليه وسلم في الجمال وفي الكمال وفي النوال تدفعك إلى محبته قطعاً، لذلك قراءة سيرته أيها الأحباب واجبة، لابد أن نقرأها وأن نعلمها لأبنائنا، والملاحظ أيها الأحباب أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ في سيرته العطرة بكل ما يمر به إنسان ليجعلها الله أسوةً لنا، ذاق الفقر وذاق الغنى، ذاق القوة وذاق الضعف، ذاق أن يموت ابنه، وذاق أن يُتكلم في عرض زوجته، كل ما يصيب الإنسان، ذاق الحصار، عندما ذاق الفقر دخل إلى بيته قال: هل عندكم من طعام؟ قالت: لا شيء؟ كيف لا شيء أخواننا الكرام؟! نحن اليوم ممكن أن يدخل أحدنا البيت ويقول: هل طبختم؟ يقولون له: لا، لا يوجد شيء في البيت، لكن عملياً إذا فتح الخزن في المطبخ سيجد طعاماً يكفي لشهر، لكن لا يوجد طعام جاهز، أما عندما سأل: هل عندكم من شيء؟ قالوا: لا، فكان لا يوجد كِسرة خبز تُؤكل أبداً!

{ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاتَ يَوْمٍ يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ }

(صحيح مسلم)

فلما ذاق الغنى، بعد أن دانت له البلاد، وفتحت الفتوحات، ورجع إلى مكة فاتحاً، وغير ذلك في المدينة أيضاً عندما ذاق الغنى، مَلَكَ وادياً من غنم، واد كبير من غنم، فجاءه أعرابيٌ قال: لمن هذا الوادي؟ نظر رسول الله في عينيه، الأعرابي غير مسلم، فقال: هو لك، قال: أتهزأ بي يا رسول الله؟ قال: لا والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ثم رجع إلى قومه فقال: أسلموا مع محمد فإن يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، أي الفقر.

{ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ }

(رواه مسلم)

فلما ذاق الفقر وقف الموقف الكامل تجمل بالصبر وصبر، وفي حصار الشِّعب يقول:

{ قد أُخِفْتُ في اللهِ؛ وما يَخافُ أحدٌ، ولقد أُوذِيتُ في اللهِ؛ وما يُؤْذَى أحدٌ، ولقد أَتَتْ عليَّ ثلاثونَ من بينِ ليلةٍ ويومٍ؛ وما لِي ولبلالٍ طعامٌ يأكلُهُ ذو كَبِدٍ؛ إلا شيءٌ يُوارِيهِ إِبِطُ بلالٍ }

(أخرجه الترمذي)

النبي كان رحيماً بمن آذاه
فذاق الفقر وذاق الغنى، فوقف في الفقر الموقف الأكمل، ووقف في الغنى الموقف الأكمل، ثم ذاق الضعف، ذهب إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، يلتمس عندهم النصرة بعد أن آذته قريش، ونكّلت بأصحابه، لعله يجد في الطائف من ينصر دعوته، فما كان منهم إلا أن ضربوه، ورموه بالحجارة، وأغروا صبيانهم وسفهاءهم به حتى أوى إلى خلف حائط يحتمي به من بطشهم، قمة الضعف، جلس خلف حائط يحتمي صلى الله عليه وسلم، فجاءه ملك الجبال، قال: يا محمد، إن الله أرسلني لأكون طوع أمرك، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين- أي الجبلين- فلا يبقى مدينة اسمها الطائف أصلاً، ومكنه الله من الانتقام منهم فماذا صنع؟ قال: لا يا أخي عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحده ويعبده، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لا يعْلَمُونَ، اعتذر عنهم، إنَّهُمْ لا يعْلَمُونَ، يعتذر عنهم بعد أن أذوه، ودعا لهم، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، ورجا الله لهم أن يكون من أصلابهم من يوحد الله، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويعبده.

{ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً" }

(أخرجه البخاري ومسلم)

{ لمَّا كُسِرتْ رُباعيَّةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشُجَّ في جبهتِه فجعلت الدِّماءُ تسيلُ على وجهِه قيل: يا رسولَ اللهِ، ادعُ اللهَ عليهم فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّ اللهَ تعالَى لم يبعثْني طعَّانًا ولا لعَّانًا، ولكن بعثني داعيةً ورحمةً، اللَّهمَّ اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون" }

(رواه البيهقي)

إذاً أخواني الكرام؛ أخواتي الفاضلات؛ ذاق الفقر ذاق الغنى، ذاق الضعف وقف الموقف الأمثل، الآن ذاق القوة، دخل مكة فاتحاً، فدخل وكادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره تواضعاً لله تعالى، اليوم يوم الملحمة، قال: بل يوم المرحمة، عفا عنهم وأطلق سراحهم، مع أن السيوف كانت تنتظر إشارةً منه صلى الله عليه وسلم لتهوي على رقاب من نكّلوا به وبأصحابه، واحتلوا بيوتهم، وأخذوا ممتلكاتهم، في الضعف وفي القوة.
في حزنة انتصر للتوحيد
ذاق فقد الولد، وشاء الله تعالى أن تخسف الشمس يوم فقد ولده، وكانوا يتوهمون أن خسوفها يكون لموت عظيم، فكانت هذه المناسبة ليثبت للناس أنه عظيمٌ من العظماء، وهو عظيمٌ من العظماء بأبي هو وأمي، لكنه وقف الموقف الأكمل وهو في أشد الحزن صعد المنبر وقال: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيتان من آيات الله لَا تنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ".

{ عَنِ الـمُغيرةِ بن شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: انْكسَفتِ الشَّمسُ يومَ ماتَ إبراهيمُ، فقال الناسُ: انكسَفتْ لِموتِ إبراهيمَ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الشَّمسَ والقَمرَ آيتانِ من آياتِ الله، لا يَنكسِفانِ لِموتِ أحدٍ ولا لِحَياتِه؛ فإذا رأيتُموهما فادْعُوا اللهَ وصَلُّوا، حتَّى يَنجليَ }

(رواه البخاري ومسلم)

{ فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم على موت ابنه إبراهيم وقال: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ }

(رواه البخاري)

صبر وتجلد وأعطى التفسير العلمي للظاهرة الكونية دون أن يربطها بوفاة ابنه.
فلما تكلموا في عرض زوجته وما أعظم ذلك! تكلموا في عرضها فماذا صنع رسول الله؟ هل قام إليها وفعل وفعل وهو الزوج الذي هو خير خلق الله؟ صبر حتى نزل الوحي يبرئها من فوق سبع سماوات، قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله فاشكريه، فقالت: والله لا أشكر إلا الله فهو الذي أنزل براءتي، فصمت رسول الله وأقرها على ذلك لأنها وحّدت الله في هذا الموقف.

{ فَلَمَّا سُرِّيَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَضْحَكُ، فَكانَ أوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا، أنْ قَالَ لِي: يا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ، فَقَالَتْ لي أُمِّي: قُومِي إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: لا واللَّهِ، لا أقُومُ إلَيْهِ، ولَا أحْمَدُ إلَّا اللَّهَ }

(رواه البخاري)

النبي تجري عليه خصائص البشر
إذاً أيها الأحباب؛ عندما نتحدث عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نتحدث عن كل ما يمكن أن يصيب الإنسان في حياته، جوع، فقر، غنى، ضعف، قوة، موت الأقارب، موت الأحباب، انتصار، هزيمة، كل ما حصل في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن نجعله نبراساً في حياتنا، أراد الله أن تكون سيرته متنوعةً شاملةً حتى يكون أُسوةً لنا حقاً، وإلا لو ما جاع النبي صلى الله عليه وسلم وواحد منا جاع يقول: النبي ما جاع، جعله الله بشراً ولم يجعله مَلَكَاً، فانتصر على بشريته فكان سيد البشر، ولولا أنه بشرٌ تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر.

3 ـ استشعار فضله :
أيها الأخوة الأحباب؛ خمسةٌ تزيد محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، اتباع سنته، وقراءة سيرته، واستشعار فضله عليك، هل تشعر بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً علينا؟ كلنا نشعر بأن لأبينا وأمنا فضلاً علينا، ورسول الله خيرٌ من أبينا وأمنا لنا في الفضل، ينبغي أن نستشعر فضله علينا، يقول تعالى:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
(سورة التوبة: الآية 128)

من المؤمنون؟ نحن، هو رَؤوفٌ رحيمٌ بنا، حريصٌ علينا، يخشى علينا العنت - الشدة- فكان ييسر علينا، ويقول: إن الدين يسر، ولن يُشادَّ الدِّين أحداً إلّا غلبه.

{ إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ أَحَداً إلاَّ غَلَبه، فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجةِ }

(رواه البخاري ومسلم)

إذاً أيها الأحباب؛ استشعار فضله علينا مهمٌ جداً، يقول تعالى مخاطباً نبيه:

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
(سورة الكهف: الآية 6)

استشعار فضله يكسبنا محبته
ما معنى (بَاخِعٌ)؟ مُهْلِك، (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ) إن لم يكونوا مؤمنين، أي لعلك يا محمد تهلك نفسك خوفاً عليهم ألا يؤمنوا، انظر إلى حرص رسول الله عليك، يريد منك أن تؤمن.
يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح:

{ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ- ودعا بها - وإنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتي شَفاعَةً لِأُمَّتي يَومَ القِيامَةِ، فَهي نائِلَةٌ إنْ شاءَ اللَّهُ مَن ماتَ مِن أُمَّتي لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا }

(أخرجه البخاري ومسلم)

هذا أليس فضلاً عظيماً أن يُخبِّئ لك رسول الله دعوةً ليشفع لك يوم القيامة؟! فأنت عندما تستشعر فضله عليك تزيد محبتك له صلى الله عليه وسلم.

قصة من السيرة تتعلق باستشعار فضل رسول الله :
أيها الأخوة الكرام؛ من استشعار الفضل أن أروي لكم هذه القصة من السيرة.
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روى ابن إسحاق عن أبي سعيدٍ الخدري قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من العطايا في قريش - أعطى بعض الغنائم، ما جاءه من أموال لقريش- وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء - ما أعطى الأنصار شيئاً، أهل المدينة الذين نصروه يوم جاء المدينة- فوجد الأنصار في أنفسهم على رسول الله - مثلما قلت لكم: العطاء ممتع ثم العطاء ليس في قيمته فقط لكن أيضاً في قيمة من يعطي، فالهدية من قيمة مهديها- فوجد الأنصار في أنفسهم - لماذا لم يعطنا رسول الله؟ هل جفانا؟ هل فعلنا شيئاً منعه من عطائنا؟- فوجد الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة – أي الكلام صار كثيراً كما يقولون في العاميّة- حتى قال قائلهم - أحدهم-: لقد لقي رسول الله قومه، - يحب قومه قريشاً وأعطاهم، نحن لسنا قومه فما أعطانا- لقد لقي رسول الله قومه، فدخل عليه سعد- سعد بن عبادة من الأنصار- فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك من أنفسهم - منزعجون- لما صنعت في هذا الفيء - الغنائم التي جاءتك، فلم تعطهم شيئاً فوجدوا في أنفسهم عليك- قال: وأين أنت من قومك يا سعد؟ -هل أنت ناقل خبر أم أنت متبني الخبر؟- هناك فرق، انظروا إلى صدق سيدنا سعد- قال: ما أنا إلا من قومي يا رسول الله، - صدق مع أدب، أنا من قومي - أي واحد منهم- ووجدت في نفسي ما وجدوا- قال: ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك يا سعد - رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد في المدينة أي هو غير مضطر أن يبرر أفعاله، القائد العظيم بِعُرْفِنَا البشري غير مضطر أن يبرر كل فعل يفعله، أنا لي عذري وينساهم- قال: اجمع لي قومك يا سعد، فجمعهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: يا معشر الأنصار مقالةٌ سمعتها عنكم، وَجِدَةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم، - ما الخبر؟- ألم آتيكم ضُلَّالاً فهداكم الله بي؟ - انظروا إلى التوحيد، ما قال: فهديتكم، قال: فهداكم الله بي، أنا السبب- ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي، عالةً - فقراء- فأغْناكمُ اللهُ بي، وأعداءً فألَّفَ اللهُ بَينَ قُلوبِكم - هذه نِعَمْ- قالوا: بلى، الله ورسوله المن والفضل، ثم قال: ألَا تُجِيبونَي يا مَعشَرَ الأنصارِ؟ - تكلموا أي أنا أسمع منكم- قالوا: وبما نُجيبُكَ يا رسول الله؟ - لا يريدون أن يتكلموا، الآن سيتكلم عنهم رسول الله، سيتكلم بلسانهم، اسمعوا ماذا يقول- قال: أما والله لو شئتم لقلتم فَلَصَدَقْتُم ولَصُدِّقْتُم، - قولوا، سيقول لهم ماذا يقولون- أَتَيتَنا مُكَذَّبًا فصَدَّقناكَ، ومخذولًا فنَصَرناكَ، وطَريدًا فآوَيْناكَ، ومعذباً فآسَيْناكَ، - وقفنا معك في محنتك، الآن يذكرهم بفضلهم عليه، هو بنفسه، هم لا يتكلمون، معاذ الله أن يكون لإنسان فضل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هو يقول لهم: قولوا ما تريدون، أنتم أنصار، أنتم فعلتم ما فعلتم- ثم قال لهم: أوَجَدتُم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لُعاعةٍ مِنَ الدُّنيا - شيء تافه، ما هي الدنيا؟- في لُعاعةٍ مِنَ الدُّنيا تَألَّفتُ بها قَومًا ليسلَموا - بيَّن لهم عذره- تَألَّفتُ بها قَومًا ليسلَموا، ووَكَلْتُكم إلى إسلامِكم - أنت أصبحتم متقدمين، أنتم لا تحتاجون إلى عطيةٍ لتسلموا- ووَكَلْتُكم إلى إسلامِكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا أنتم إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَوَالَّذي نفس محمدٍ بيده لَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ، اللَّهمَّ ارحَمْ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ، قال: فبكَى القَومُ حتَّى أَخْضَلُوا لِحاهُم بالدموع، وقالوا: رضينا برسول الله قِسماً وحظاً، -هذا فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت عندما تستشعر فضله، هو كان بإمكانه أن يلغي كل مشكلته من دون أن يسمع لهم، سمع لهم، وقال عنهم، ودعا لهم، وانتسب إليهم، ولم يتبرأ منهم،- وقال: "والله لَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ، ولو سلك الناس شِعباً وسلك الأنصار شِعباً لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ".

{ لمَّا أعطى رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - ما أعطى مِن تلك العطايا في قُرَيشٍ، وفي قبائلِ العرَبِ، ولم يكُنْ في الأنصارِ منها شيءٌ، وجَد هذا الحيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهم حتى كثُرتْ فيهم القالَةُ، حتى قال قائلُهم: لَقِي واللهِ رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - قومَهُ، فدخَل عليه سعدُ بنُ عُبادةَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا الحيَّ مِن الأنصارِ قد وجَدوا عليك في أنفسِهم لِمَا صنَعْتَ في هذا الفَيْءِ الذي أصَبْتَ، قسَمْتَ في قومِك، وأعطَيْتَ عطايَا عِظامًا في قبائلِ العرَبِ، ولم يكُنْ في هذا الحيِّ مِن الأنصارِ منها شيءٌ، قال: فأين أنتَ مِن ذلك يا سعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلا مِن قَوْمي، قال: فاجمَعْ لي قومَك في هذه الحظيرةِ، قال: فجاء رجالٌ مِن المهاجِرِينَ، فترَكهم فدخَلوا، وجاء آخَرون فرَدَّهم، فلمَّا اجتمَعوا أتى سعدٌ، فقال: قد اجتمَع لك هذا الحيُّ مِن الأنصارِ، فأتاهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه بما هو أهلُهُ، ثم قال: يا مَعشَرَ الأنصارِ، ما قالَةٌ بلَغَتْني عنكم، وجِدَةٌ وجَدْتُموها في أنفسِكم؟ ألم آتِكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي، وعالةً فأغناكم اللهُ بي، وأعداءً فألَّف اللهُ بين قلوبِكم؟ قالوا: اللهُ ورسولُهُ أمَنُّ وأفضَلُ، ثم قال: ألَا تُجِيبوني يا مَعشَرَ الأنصارِ؟ قالوا: بماذا نُجِيبُك يا رسولَ اللهِ؟ للهِ ولرسولِهِ المَنُّ والفضلُ، قال: أمَا واللهِ لو شِئْتُم لقُلْتُم، فلَصدَقْتُم ولَصُدِّقْتُم: أتَيْتَنا مكذَّبًا فصدَّقْناك، ومخذولًا فنصَرْناك، وطريدًا فآوَيْناك، وعائلًا فآسَيْناك، أوجَدْتُم عليَّ يا مَعشَرَ الأنصارِ في أنفسِكم في لُعَاعةٍ مِن الدُّنيا، تألَّفْتُ بها قومًا ليُسلِموا، ووكَلْتُكم إلى إسلامِكم؟ ألَا تَرضَوْنَ يا مَعشَرَ الأنصارِ أن يَذهَبَ الناسُ بالشاءِ والبعيرِ، وتَرجِعون برسولِ اللهِ إلى رحالِكم؟! فوالذي نفسُ محمَّدٍ بيدِهِ، لَمَا تنقلِبون به خيرٌ ممَّا ينقلِبون به، ولولا الهجرةُ لكنتُ امرأً مِن الأنصارِ، ولو سلَك الناسُ شِعْبًا وواديًا، وسلَكتِ الأنصارُ شِعْبًا وواديًا، لسلَكْتُ شِعْبَ الأنصارِ وواديَها، الأنصارُ شِعارٌ، والناسُ دِثارٌ، اللهمَّ ارحَمِ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ، قال: فبكى القومُ حتى أخضَلُوا لِحاهم، وقالوا: رَضِينا برسولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - قِسْمًا وحظًّا، ثم انصرَف رسولُ اللهِ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ - وتفرَّقوا }

(إسناده صحيح)


4 ـ الصلاة و السلام عليه :
أيها الأحباب؛ خمسةٌ تُزيد محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، اتباع سنته، قراءة سيرته، استشعار فضله عليك، الصلاة والسلام عليه، صلى الله وسلم وبارك على رسول الله:

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
(سورة الأحزاب: الآية 56)

الصلاة والسلام عليه
ما أمرك بالصلاة عليه إلا بعد أن صلّى عليه، وبعد أن أمر ملائكته بالصلاة عليه، فقالوا: أمرٌ بدأ فيه بنفسه وثنّى بملائكة قدسه، ثم أمرك بالصلاة عليه، صلى الله عليه وسلم، الله تعالى يصلّي على نبيه بمعنى أنه يثني عليه، صلاته على نبيه عندما قال:

مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
(سورة الفتح: الآية 29)

هذه صلاته عليه:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
(سورة الأحزاب: الآية 45)

يصلي عليه، الصلاة هي الثناء من الله، والملائكة أيضاً يصلون على رسول الله فيدعون له، يدعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نصلي على رسول الله بمعنى أننا نُثني عليه، عندما تقول: صلى الله على محمد، فأنت تثني على رسول الله، ثم أنت تعقد صلةً بينك وبين هذا النبي لأنه رسول الله.
يقول صلى الله عليه وسلم:

{ الْبخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فَلَم يُصَلِّ علَيَّ }

(رواهُ الترمذي)

اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، يقول:

{ أكثِرُوا عليَّ من الصلاةِ يومَ الجمعةِ، فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ، قالوا: كيف تُعْرَضُ عليك وقد أَرِمْتَ؟ قال: إنَّ اللهَ تعالَى حرَّمَ على الأرضِ أن تأكلَ أجسادَ الأنبياءِ }

(صحيح أبي داود)

{ إنَّ للَّهِ ملائِكةً سيَّاحينَ في الأرضِ، يُبلِّغوني من أُمَّتي السَّلامَ }

(صحيح أبي داود)

أنت عندما تستشعر الآن أنك تقول: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله فيذهب ملكٌ من الملائكة السياحين في الأردن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فيبلغه إن فلاناً بن فلان يقرئك السلام يا رسول الله، يوصل سلامك إليه، فعندها تكثر من الصلاة والسلام عليه.

5 ـ تذكّره دائماً ورجاء رؤيته :
أيها الأخوة الكرام؛ إذاً خمسةٌ تزيد محبتك لرسول الله: اتباع سنته، وقراءة سيرته، واستشعار فضله عليك، والصلاة والسلام عليه، والأخيرة: تذكّره دائماً ورجاء رؤيته.
تذكّره دائماً ورجاء رؤيته
أن ترجو أن تراه، في الدنيا في المنام، ويوم القيامة الرؤية العظيمة، بعد رؤية الله تعالى:

وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ
(سورة التوبة: الآية 72)

أن ترى رسول الله وأن تكون معه:

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
(سورة القمر: الآية 55)

يقول صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي - نحن أنا وأنتم- يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ". يقدم أهله وماله أمامه ليراني.

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ }

(رواه مسلم)

وعن أنسٍ رضي الله عنه يقول: يقدم عليكم غداً- النبي يخاطبهم- قال: يقدم عليكم غداً أقوامٌ هم أرق قلوباً للإسلام منكم، أرق قلوباً للإسلام منكم، وهم يعيشون مع رسول الله وهؤلاء الأقوام سيأتون وهم أرق قلوباً للإسلام منكم، فقدم الأشعريون على رسول الله - قوم أبي موسى الأشعري- قدموا على رسول الله وفيهم أبو موسى الأشعري، فلما دنوا من المدينة جعلوا يرتجزون: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. فتمني رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم والعيش على ذلك يجعلك دائم الصلة به، والمحبة له، ومحبة رسول الله فرعٌ عن محبة الله، ولن يكتمل الإيمان إلا بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يقدُم عليكم غدًا أقوامٌ هم أرَقُّ قلوبًا للإسلامِ منكم، قال: فقدِم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعريُّ، فلما دنَوا من المدينةِ جعلوا يرتجِزون يقولون: غدًا نلقى الأحِبَّة محمدًا وحزبَه، فلما أن قدِموا تصافَحوا فكانوا هم أولُ من أحدثَ المُصافحةَ }

(أخرجه أبو داود وأحمد)

خمسةً تزيد محبتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، اتباع سنته، وقراءة سيرته، واستشعار فضله عليك، والصلاة والسلام عليه، وتذكره وتمني رؤيته، ونعود لما بدأنا به:

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
(سورة المؤمنون: الآية 69)

أيها المسلم اعرف رسولك، فمعرفته فرض عين، ومعرفته نجاةٌ لك في الدنيا والآخرة.
أشكر لكم حسن الاستماع والإنصات، راجياً من الله تعالى أن تكونوا أنتم ومن تحبون دائماً في أحسن حالٍ مع الله، ومع خلقه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.