حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومكرها بهن

  • الدرس السابع : شرح الآيات 30 - 34
  • 2020-10-31

حادثة مكر النسوة بامرأة العزيز ومكرها بهن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيِمِ، الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وبعد مع اللقاء السابع من لقاءات سورة يوسف، ومع الآية الثلاثين من السورة، وهي قوله تعالى:

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
(سورة يوسف: الآية 30)

ما زلنا في الامتحان الثاني، يوسف عليه السلام كانت له امتحانات؛ امتُحن بالشدة ثلاثة امتحانات، ثم امتُحن بالرخاء امتحانات أخرى.

أنواع امتحانات الإنسان
الإنسان يُمتحن بالشدة ويُمتحن بالرخاء، يُمتحن بالشر ويُمتحن بالخير:

وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
(سورة الأنبياء: الآية 35)

الامتحان سنة الحياة
فالإنسان يُفتن، ومادة فتنته أو مادة امتحانه تكون حيناً شدةً وحيناً يسراً، قد تكون عسراً وقد تكون يسراً، وقد تكون شدةً وقد تكون رخاءً، هذه سنَّة الحياة، فالغني مُمتحنٌ بالغنى، والفقير مُمتحنٌ بالفقر، بعض الناس تعارفوا أن الفقير أو الضعيف أو المريض ممتحن، لكنهم لم ينتبهوا أن الصحيح أو الغني أو القوي ممتحنٌ أيضاً، وقد يكون امتحانه أصعب، لأن الإنسان في حالة الفقر والضعف كثيراً ما يتوجه إلى الله، لكنه في حالة الغنى والقوة والصحة كثيراً ما يظن نفسه مستغنياً عن الله، قال تعالى:

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ
(سورة العلق: الآية 6-7)

هو يشعر باِسْتِغْنَائِهِ عن الله في زعمه، رغم أن الإنسان في كل لمحةٍ، وفي كل طرفة عينٍ، مفتقرٌ إلى الله عزَّ وجلّ في أبسط شيء، في شربة ماءٍ يشربها، أو في شربة ماءٍ يُخرجها، لكن الإنسان ينسى (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) يظن نفسه مستغنياً عن الله، لكنه في قبضة الله عزَّ وجلّ، فالامتحانات متنوعة.

امتحانات الأنبياء كثيرة
يوسف عليه السلام عنده امتحاناتٌ في الرخاء، وامتحاناتٌ في الشدة، والأنبياء غالباً ما يمتحنون بكثيرٍ من الامتحانات بخلاف عموم البشر، لأنهم أسوة، والأسوة لا تتحقق إلا عندما يكون للنبي مواقفُ متعددةٌ في الحياة، بحيث يجد الفقيرُ في سيرته ما يتأسى به، ويجد الغنيُّ في سيرته ما يتأسى به، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أعظم أسوة:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
(سورة الأحزاب: الآية 21)

امتحانات الإنسان محدودة
لأنه افتقر واغتنى، ضَعُفَ وقّوِيَ، كان صحيحاً وأصابته الحمى وسَقِم، فقد ولده ورُزِقَ بالولد، عاش عِيشَةً هَنِيَّئةً مع زوجاته، وكان هناك ما يُعكِّر صَفَاءهُ، واتهموا زوجته الطاهرة الْبَرِيئَة الْمُبَرَّأَةَ بأشرف ما تُتهم به امرأة، هذه السيرة بكل ما فيها من تفاصيل، هاجر واستقر، اضطر للهجرة واضطر للاستقرار، حارب وسالم، نحن لا يمر في حياتنا كل هذه الابتلاءات، ابتلاءاتنا من نوعٍ واحد غالباً، الإنسان قد يعيش فقيراً، وقد يعيش غنياً، وقد يُزاوج بينهما قليلاً، قد يمرض وقد لا يمرض، امتحانات الإنسان خياراتها أقل من امتحانات الأنبياء، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:

{ عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ }

(رواه الترمذي)

(أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ)، لأنهم قدوة، والقدوة يبتلى بكل أنواع الابتلاءات.

امتحانات سيدنا يوسف
يوسف عليه السلام مرَّ بامتحاناتٍ ثلاث قبل أن يُمكَّن في الأرض، ويمتحن بالتمكين، قبل أن يُمتحن بالتمكين مرَّ بامتحاناتٍ ثلاث، ما هي؟
الامتحان الأول: كان امتحان الجب، يوم ألقاهُ إخوته في الجب، وقد مررنا على هذا الامتحان، وكان امتحاناً قاسياً، وقد قالوا:
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ
{ طَرَفة بن العبد }
عندما يكون من يظلمك قريباً منك، أخٌ لك، فظلمه أشد وقعاً على نفسك من ظلم الغريب، هذا امتحان ابتليَ به، وهو امتحان الجب، وكانت مادته أن أقرب الناس إليه قد أراد أن يتخلص منه.
الامتحان الثاني: والذي نَحْنُ بِصَدَدِهِ، والذي تحدثنا عنه، وهو امتحان العفة والطهارة:

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ
(سورة يوسف: الآية 23)

ثم سيُمتحن في السجن، امتحان الجب، وامتحان القصر، وامتحان السجن، وفي جميع الأحوال نجح في الامتحان، فمُكِّن له في الأرض، وخرج من السجن إلى القصر بامتحانٍ جديد، وهو امتحان التمكين، فكان في العسر وفي اليسر، وفي الفرج وفي الشدة، ناجحاً في الامتحان، الامتحان الثاني هو امتحان القصر، كيف انتهى امتحان القصر؟ بعد أن جاء الشهود كما أسلفنا، وتبين من خلال الشهادة أن قميصه قد (قُدَّ مِن دُبُرٍ)، فهي التي كانت تُرَاوِدهُ عَنْ نَفْسِهِ، وهي التي كانت تمنعه من الخروج، وهو الذي كان يفرُّ منها هارباً، فتبين ذلك.

خروج الحديث من القصر
الآن بدأ هذا الحديث يُدار في المدينة، كيف خرج الحديث من القصر؟ لا نعلم، لم يُخبرنا القرآن كيف خرج، لكن ظاهر الأمر أن الذين علموا هم أربعة؛ عزيز مصر، وزوجته التي راودت، ويوسف، والشاهد الذي من أهلها، لعله الشاهد، لأنها هي ليست لها مصلحةٌ بخروج الخبر، زوجها ليس له مصلحةٌ بخروج الخبر، فكما قلنا: إن أصحاب القصور لا يخافون من الفعل بحد ذاته غالباً، وإنما يخافون من انتشار الفضيحة، لذلك طَوَوْا الموضوع، وقال:

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
(سورة يوسف: الآية 29)

لكن الأمر لم ينتهِ هنا، لعل هذا الشاهد كلَّم امرأته فرضاً، والسر إذا أعطيَ للمرأة غالباً ما ينتشر، أخبرها بما حصل في القصر، فخرج السرُّ وشاع، طبعاً نحن لا نجزم بهذا، لكن لعله كذلك كما قال بعض المفسرين، المهم أن الخبر بدأ ينتشر، وبدأت نسوة المدينة يتناقلن خبر امرأة العزيز مع فتاها يوسف.
انتشار الخبر في المدينة ومن قام بنشره
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ): (نِسْوَةٌ) هو من الأسماء التي ليس لها مفردٌ من لفظها، أنت تقول: رجلٌ وجمعها رجال، كتابٌ كتب، أما نساء فما مفردها ؟ امرأة، ليس لكلمة نساء مفردٌ من لفظها، فهنا يُذكَّر الفعل معها ويؤنث، فيقال لغةً: قالت نِسْوَةٌ، (وَقَالَ نِسْوَةٌ)، وقال بعضهم: عندما يكون الجمع جمعَ قلةٍ نُذكر الفعل، لأن التأنيث غالباً لجمع الكثرة، فيبدو أن النِسْوَة لسنَ كثراً، لذلك ذَكَّر الفعل معهنَ ليوحي بقلتهن، ولو قال: قالت نِسْوَةٌ، لظهر أن الخبر قد انتشر وذاع في المدينة، لكن هؤلاء النِسْوَة اللواتي يتحدثن بهذا الأمر؛ هم خاصة النساء المعروفات في القصر من الطبقة الراقية كما تسمى في عصرنا، والدليل: أنها دعتهنَّ إلى قصرها، ولو كُنَّ من عوام الناس لما دعتهن إلى القصر، لكن يبدو أنهن من صويحباتها المعروفات، تلك زوجة فلان، وتلك زوجة فلان، من الوزراء المعروفين في قصر العزيز، لذلك هذا سر (وَقَالَ نِسْوَةٌ)، لغةً يصح (وَقَالَ نِسْوَةٌ) وقالت نِسْوَةٌ، لكن لماذا اختار التذكير هنا؟ للإشارة إلى قلة النسوة اللواتي تحدثنَ.
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ):(الْمَدِينَةِ) كما قلنا توجد بها الوزارة، هناك قرية وهناك مدينة، (الْمَدِينَةِ) هنا بال التعريف للإشارة إلى المدينة المعهودة في ذاك الزمن، مدينة في مصر.

بداية الحديث عن العزيز في القصة
(امْرَأَتُ الْعَزِيزِ): الآن أول مرَّة نعرف أين يوسف، نحن حتى الآن وفق سياق القصة لا نعرف أين يوسف، يوسف في مكانٍ ما:

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ
(سورة يوسف: الآية 21)

من الذي اشتراه من مصر؟ ومن امرأته؟ لا نعرف، الآن أول إشارة، وهذا من باب التشويق في القصة، الآن مع انتشار الفضيحة ينشُر لك اسم القصر، ومن هو في هذا القصر.
ما من إنسانٍ إلا ويُغلَب
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ): إذاً هي امرأة العزيز، إذاً هو في قصر العزيز، من عزيز مصر؟ عزيز مصر هو رئيس وزرائها كما أسلفنا، رئيس وزرائها بالعرف الحديث، وقالوا: قائد جيشها، لكن الأصح والأوضح مما سيأتي من أنه اعتنى بتأمين الطعام وكذا، بأنه رئيس الوزارة في عرفنا اليوم، فهو رئيس وزرائها، والعزيز: هو الغالب الذي لا يُغلَب، والله تعالى هو العزيز وحده، لأنه ما من إنسانٍ إلا ويُغلَب، لكن قد يقال لإنسانٍ ما عزيزُ مصر، يعني نسبةً إلى أنه في مصر حتى الآن هو غالبٌ لا يُغلَب، لكن رأينا من كان عزيزاً وغُلِب، فالعزة لله وحده، لكن يقال للإنسان: عزيز تجاوزاً عندما يكون في مكانةٍ بحيث يأمرُ ويَنهى، طبعاً من أين جاءت كلمة العزيز؟ يقال: الأرض العَزاز، وهي الأرض الصخرية التي يصعب أن تطأها، أو أن تمشي عليها، فيقال لها: أرضٌ عَزاز، يعني تكون الأرض صخرية يصعب أن يطأها الإنسان برجله، أو أن يمشي بها، فيقال لها: أرضٌ عَزاز، والعزيز لا يستطيع أحدٌ أن ينال منه فيقال له: العزيز.

الحب يكون في طاعة الله عز وجل
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ): وقد بينا معنى المراودة من المفاعلة، وهي أنها تطلب منه بلطفٍ أن يواقعها، أو أن يقع معها في الفاحشة، والعياذ بالله.
الحب يمر بمراحل
(امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا): شَغَافَ القلب هو غشاء القلب الرقيق الذي يُحيط به، وهذا يعني أن الحب قد وصل إلى شغافِ قلبها، فاخترق الفكرة ومن ثم وصل إلى أعماق أعماقها فيقال: (شَغَفَهَا حُبًّا) وكأن الحب وصل إلى شغاف قلبها فملأه، والحب يمر بمراحلٍ؛ أوله الهوى، عندما ينظر الإنسان فيحب شيئاً يهواه، ثم يتعلق به، ثم يعشقه ويَكلَف به، ويُدلَّه، ويهيم بعد ذلك على وجهه كمجنون ليلى، فالحب له مراحل، والحب جميلٌ عندما يكون في الطاعة، لكن لا يُقيَّد إلا في طاعة الرحمن، فالذي يحب في الله، وفي طاعة الله عزَّ وجلّ، لا يصل إلى الهُيام، لأنه لا يجد حبيباً يُحَب حب الهيام إلا خالق السماوات والأرض، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول:

{ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا }

(صحيح مسلم)

الخليل هو الله.
مرَّ رجلٌ على رجلٍ قد جلس بجوار قبرٍ، وهو يبكي ويبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: مات حبيبي، فقال له: لو أحببت حبيباً لا يموت؟ فإذا أحب الإنسان حبيباً لا يموت، فلا يحتاج إلى البكاء، وهذا لا يعني أن المؤمن لا يبكي على فقد الأحباب، فكلنا كذلك، وهذا رسول الله سيد الخلق بكى على فراق ابنه وقال:

{ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ }

(رواه البخاري)

وما كان من القلب والعين فمن الله، رحمةٌ من الله، وما كان من اليد كمن يضرب نفسه، أو اللسان من يعترض ويَتسخَّط، فمن الشيطان، عند الحزن ما يكون من اليد واللسان فهو من الشيطان، وما يكون من حزن القلب ودمع العين فهو من الرحمن، هذا هو المقياس، فالإنسان يحزن لفقد الأحباب ويُحب، وقد يُبالغ أحياناً في حبه لوالده، أو لوالدته، أو لزوجه، أو لأولاده، ولكنه لا يتعلَّق إلا بالله عزَّ وجلّ، وهذا يعقوب خير درسٍ لنا؛ لما تعلق بيوسف عليه السلام أذهب الله يوسف، فتعلَّق بأخيه، فأذهبه الله أيضاً، لا تُعلِّق القلب إلا بالله، احزن لكن ضمن الحدود، هكذا يعلمنا القرآن الكريم.

الضلال المبين والضلال البعيد
هنا قال: (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) لم يقل: إنا لنظنُّ أنها، قال: (إِنَّا لَنَرَاهَا) فالرؤيا دليل، وكأنهم يشاهدون ضلالها بأم أعينهم، للمبالغة في ضلالها.
الضَلَال: هو البعد عن الطريق المستقيم.
الضلال هو البعد عن الطريق المستقيم
المبين: هو الشيء الواضح، وقد يكون الضلال مبيناً عندما يكون الحق واضحاً، ويضل الإنسان عنه، متى يكون الضلال مبيناً؟ عندما يكون الحق واضحاً، هناك ضلالٌ بعيد، وهناك ضلالٌ مُّبِين، الضَلَال المبين؛ كأن تكون مسافراً إلى بلدةٍ من البلاد، وقبل كيلومتر بدأت الإشارات والشاخصات ترشدك إلى أنه للوصول إلى البلدة التي تريدها يجب أن تذهب على اليمين بعد ألف متر، ثم بعد تسعمئة متر، ثم بعد ثمانمئة، إلى أن قالوا لك: بعد مئة، ووضعوا لك شاخصاتٍ مضيئة، اذهب إلى اليمين، ثم لم تلتفت وبقيت مستمراً في طريقك، فهذا ضَلَالٌ مُّبِين، الحق واضح، أما الضلال البعيد؛ فهو أن تستمر في هذا الطريق الخطأ حتى تقطع به عشرات الكيلومترات، ثم تعرف أنك قد ضللت الطريق، فهذا ضلالٌ بعيد، فهناك ضلالٌ بعيد، وضلالٌ مبين، هنا قالوا: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، السؤال هنا، امرأة العزيز (فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) تراود فتاها، هي تتبع شهوتها وهي امرأةٌ متزوجة فهي تعصي الله، وتخون الله، وتخون زوجها، وتخون قصرها، يعني هي ضلالها مبينٌ في كل الأعراف، سواءً بالعرف الديني أو بعرف القصور.

الغاية الحقيقة للنسوة من الحديث عن القصة
هل هؤلاء النسوة فعلاً كُنَّ غيورات عليها؟ الجواب جاء في الآية التي بعدها كشفهن المولى جلَّ جلاله:

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 31)

المكر في الأصل هو ستر شيء خلف شيء
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) هذا كان مكراً، ليس انتصاراً للفضيلة، وليس حباً بالخير، وليس رغبةً بإصلاح سوء نفس امرأة العزيز، أبداً، ولكن هي الغيرة التي تنتاب النساء، لا سيما في تلك المجتمعات فأَردنَ فضيحتها، وبيان ضلالها، وأنها تراود فتاها الذي يخدم في قصرها عن نفسه، وهي امرأةٌ لها تلك المكانة، أردنَ أن ينزلن من مكانتها في المجتمع، ولعلها في السهرات التي كانت تجريها معهن تظهر بمظهر الناصح، وبمظهر المرأة الجيدة، والمرأة التي تعيش في القصر مع زوجها بأبهى وأحسن حال، وتباهي بحبها لزوجها، وبحُب زوجها لها كما تفعل النساء، الآن أردن أن ينتقمن منها، ولكن لم يكن ذلك انتصاراً للفضيلة، ففضحهنَّ المولى جل جلاله قال: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) هذا مكرٌ وليس انتصاراً للفضيلة، والمكر في الأصل هو ستر شيء خلف شيء، يعني أنت تُظهر شيئاً، وتريد شيئاً آخر، فتستر ما تريده بما لا تريده، فهن يَسترن رغبتهن بفضيحتها بقولهن: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) لم يقولوا: نريد أن نفضحها، قالوا: نريد أن نصلحها، ونصلح ضلالها، وهنَّ في الحقيقة يمكرن به.
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) وهي كانت أمكر منهنَّ، وأقدر على إيقاف هذا المكر.
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ): أي أرسلت في طلبهنَّ، وهنا يتضح أنهنَّ النسوة القريبات من القصر، صديقات وصويحبات امرأة العزيز، ولسن نساءً غريبات، وإلا كيف ترسل في طلبهن؟

أحكام تتعلق بالاتكاء
(أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً): (أَعْتَدَتْ) أي هيأت، (مُتَّكَأً) هو ما يُتَّكَأُ عليه من الوسائد ونحوها، شيء وثير، وفراش وثير، ومُتَّكَأ وثير ليجلسنَ عليه، ويبدو أن حياة القصور كانت كذلك، في كل عصر هناك طريقة لإظهار الفخامة، فوضعت لهن المُتَّكَأ من أجل أن يجلسن عليه، (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) والشيء بالشيء يذكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري قَالَ:

{ عن أَبي جُحَيْفَةَ وهبِ بنِ عبد اللَّه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: إِنِّي لَا آكُلُ مُتَّكِئًا }

(رواه البخاري)

يُكره للإنسان أن يأكل مُتَّكِئاً
فقال العلماء: بكراهة الأكل مُتَّكِئاً، يُكره للإنسان أن يأكل مُتَّكِئاً، ويُقصد بالمُتَّكِئ هنا شيئان اثنان، الشيء الأول: هو ما يُعهد اليوم بالعامية، وهو أن يميل الإنسان على أحد جنبيه، طبعاً قد يميل الإنسان على أحد جنبيه بعد الطعام لراحته، لا حرج في ذلك، لكن أثناء الطعام يميل على أحد جنبيه، فكانت هذه الجلسة أثناء الطعام ليست جلسةً مؤدبة، فيها كبر وغرور، والنبي صلى الله عليه وسلم لما خُيْرَ بَينَ أن يَكُونَ نَبيّاً مَلكاً أو نبيّاً عَبْداً، فقال:

{ عَنْ أَبِي هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَلسَ جِبْريْلُ إِلَى النبيِّ صلى الله عليه و سلم فَنَظَر إِلى السَّماءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ لَهُ جِبْريلُ: هَذا المَلَكُ مَا نَزلَ مُنْذُ خُلِقَ قَبْلَ هَذِهِ السَّاعةِ. فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحمَّدُ! أَرْسَلَنِي إِليْكَ رَبُّكَ؛ أَمَلِكًا أَجْعَلُكَ، أَمْ عَبْدًا رسولاً؟ فَقَالَ لَه جِبْرِيلُ: تَواضعْ لِرَبِّكَ يَا محمَّدُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا بَلْ عَبْدًا رَسُولاً" }

(رواهُ ابنُ حبَّان)

اختار العبودية لم يرد أن يكون ملكاً، اختار عبوديته لله عزَّ وجلّ، فالأكل مُتَّكِئاً يناقض العبودية، لأن فيه من الكبر ما فيه، أحد وجوه الكبر اليوم الذي يُظهره من يقود مركبة فارهة جداً، أن يقودها مُتَّكِئاً هذا أحد أنواع الكبر فالاتكاء أثناء عمل معين، أو في حضرة أحد، أو أثناء الطعام دلالةٌ على الكبر.
وأيضاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا آكُلُ مُتَّكِئًا) يعني لا أضعُ الوسائد والمتكأ تحتي، وأمامي، وعلى يميني، وعلى يساري، لو لم يمِل في جلسته، لأن ذلك يؤدي إلى أن يأكل الطعام الكثير، لكنه كما ورد في بعض الروايات يأكل مُسْتَوْفِزاً يعني جالساً جلسة من يريد أن يُنهي طعامه على عجل، حتى لا يأكل كثيراً، وهذا من القواعد الصحيحة التي تُفيد الإنسان.
(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا): إذا رجعت إلى هذا العصر تستدل على أنه كان فيه من الفخامة ما فيه، السكاكين كناية عن وجود نوعٍ من أنواع الحضارة الإنسانية في هذا العصر، بطريقةٍ أو بأخرى والله أعلم، مُتَّكَآت وسكاكين، ولعلها قدمت الفاكهة واللحم فهناك شيءٌ يحتاج إلى تقطيع.
(وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا): فلما بَدأن باستخدام السكاكين، وهي تمكُر بهنَّ وترد على مكرهن.
(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) ليوسف عليه السلام (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فاجئهنَّ (اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فجأةً بهذا المعنى.

معنى أَكْبَرْنَهُ
اكتشاف أن الشيء في حقيقته مخالفٌ لوصفه
(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ): ما معنى (أَكْبَرْنَهُ)؟ هذه تشير إلى شيءٍ مهم؛ أحياناً تسمع عن إنسان لا تعرف عنه شيئاً، لكن تسمع به كثيراً، يُحدثك عنه والدك، ويُحدثك عنه صديقك، وتسمع عنه في وسائل الإعلام، لكنك لم تلتقِ به، حدثوك عن كرمه، وعن شجاعته، وعن هيبته، وعن جمال صورته، وعن أخلاقه الحميدة، وعن خصاله الفريدة لكنك لم تلتقِ به في حياتك، ثم شاء الله أن تسافر فإذا صديقٌ لك يقول لك: آخذك إلى الشيخ الفلاني، فلما التقيته وجدت أن كل ما حدثوك به أقلُّ مما هو عليه، فتُكبِره، يعني الكلام كان دون الحقيقة، وهذا يحصل أحياناً مع الإنسان يحدثونه عن شيء، أو يحدثونه عن جمال مكانٍ ما، ثم تقول: فلما سافرت إلى هذا المكان ورأيته، كان الواقع أجملَ من الوصف، وقد يكون العكس، فيُبالغ الناس في وصف شخصٍ ما، ثم تلتقي به، فتجده أقلَّ مما وُصِف لك بكثير، وأنا قد حصل معي الأمران؛ أشخاصٌ كنت أقرأ لهم في الكتب، وأسمع عنهم، وكنت أظن أنني سألتقي بقطب الزمان، فلما التقيته وجدته أقلَّ بكثيرٍ مما قرأت وسمعت، وقلت في نفسي: ليتني لم ألتقه، وأبقيت تلك الصورة الذهنية العظيمة في داخلي.
واليوم أحياناً نُحدِّث بعض الإخوة الذين يعيشون في دمشق، وكلنا شوقٌ إلى دمشق، فيقول لك قائلهم: يا أخي دع دمشق جميلةً في ذهنك كما تركتها، ولا تأتِ لترى ما حل بها، دعها في صفائك، في فكرك يوم تركتها، حتى لا ترى اليوم الواقع المأساوي الذي فيها، لذلك كان عند العرب مثلٌ يقول: "أن تَسمعَ بالمُعَيدي خَيرٌ مِن أن تَراه".
وفي المقابل أحد الأعراب لما سمع عن حلم الأحنف بن قيس قال: فلما رأيته صَغّرَ الخُبرُ الخَبَرَ، الخُبرُ هو المعاينة، خبرته عاينته، صَغّرَ الخُبرُ الخَبَرَ، الخَبَر ظهر صغير جداً أمام المعاينة، فالناس صنفان؛ صنفٌ تسمع عنه ثم تراه فتجده أقل مما وصِف، والعكس صحيح.
ومن الطُرف التي أرويها أنني مرَّةً كنت مع شيخنا الدكتور راتب النابلسي حفظه الله في نزهة في الساحل السوري، فحدثونا عن نبعٍ في الساحل في أعلى الجبال، نبعٌ عظيم جداً، فحدثْنا الشيخ عنه وأنه جميلٌ جداً، وينبغي أن نزوره، بالفعل النبع في جبالٍ عالية، وقطعنا له مسافات، ليست مسافات طويلة، لكن وعورة الجبال حتى وصلنا إليه، في أعالي جبال كسب، فلما وصلنا إليه فإذا هو كأنك قد فتحت صنبور ماء، وأقل من صنبور، ينزل منه قليلٌ من الماء، هذا هو النبع كله، ليس هناك شيءٌ آخر، فلما رآه الشيخ تكلم بحديثٍ شريفٍ وأنا فهمت مقصوده، تكلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى زيد الخير، فقال له: ما وصِف لي رجل قط فرأيتُه إلا كان دون ما وصف به، إلا أنت يا زيد الخير.

الجمال جزءٌ يسيرٌ من الرجل
جمال الرجل ليس بصورته فقط
فهنا (أَكْبَرْنَهُ) وجدن الخُبرَ أعظم من الخَبَرَ، أكثر من كل ما حدثوهم عن جمال يوسف، أريد هنا أن أعلق على شيء؛ لا أعتقد أن القضية قضية جمال صورة فقط، جمال الصورة موجود مئة بالمئة، لكن لا أعتقد أنه جمال الصورة فقط، لأن النساء غالباً لا يتعلقن بجمال صورة الرجل فقط، الجمال جزءٌ يسيرٌ من الرجل، بينما هو جزءٌ كبيرٌ من المرأة، هذا واقع، وهذا موجودٌ في علم النفس، الجمال ليس حسياً عند المرأة بالنسبة للرجل في الأعم الأغلب، هي تعتني بشهامته، برجولته، بمُرُوءَتِهِ، بهيبته، فهنا الجمال أعتقد أن مفهومه أعمّ مما ذكره بعض المفسرين، من أنه صورة بهية فقط، جمال الشكل موجودٌ مئة بالمئة، لكن مع جمال الشكل هناك هيبة، هناك وقار، هناك أخلاقٌ حميدة، ربما في غض بصره عنهن، في تعففه عن مطامحهن ،كل هذا جمال معنوي مهم جداً، فهم رَأْيَنَ جمالاً مختلفاً عن الذي يعرفنه.
(وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ): (حَاشَ لِلَّهِ) أصلها حاشا لله، وحُذفت الألف للتخفيف، وتقال هذه الكلمة لتنزيه الله تعالى، فيقال: (حَاشَ لِلَّهِ)، تنزيهاً لله عزَّ وجلّ عن شيءٍ يصفه به الجاهلون، فيقال: (حَاشَ لِلَّهِ)، وهنا المراد منها التعجب من جمال يوسف.

الملَك صورة مُتخيلة في الذهن
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا) أي ليس يوسفُ بشراً، هذه (مَا) تعمل عمل ليس، (مَا هَٰذَا بَشَرًا) أي ليس هذا بشراً، إذاً ما هذا؟ هو بشر طبعاً، الأنبياء بشرٌ ولولا أنهم بشر لما كانوا سادة البشر، ولكنهم انتصروا على بشريتهم، فكانوا سادة البشر.
كريم أي لا يشبهه شيء
(مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) الملَك صورة مُتخيلة في الذهن، هل رأى أحدٌ منكم مَلَكاً من ملائكة الله؟ وهُنَّ لَمْ يَرَيْنَ، طبعاً هذا دليل على وجود بقايا من ديانة سماوية، لأن الملائكة غيب، فهذا دليل أن الديانة السماوية موجودةٌ عندهم، وإلا من أين جئن بلفظ المَلَك؟ ما خلا زمنٌ من وجود الحق، فهم قد سمعوا عن وجود الملائكة، فلما قالوا: مَلَك، لأن الإنسان دائماً عندما يرى شيئاً بخلاف توقعاته، ينسبه إلى شيءٍ متخيلٍ في ذهنه ولو كان غير موجود، فنحن اليوم إذا رأينا منظراً بشعاً نقول: كأنه شيطان، وما أحد رأى الشيطان، لكن أصبح الشيطان غاية القبح، والمَلَك غاية الجمال، فلذلك قلن: (مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) والكرم هنا ليس الكرم المادي أنه يعطي، ولكن كريم النفس، يقال: حجرٌ كريم، ما معنى حجر كريم؟ نادر، حجر من الأحجار الكريمة، أي النادرة، فهنا كريم بمعنى مَلَكٌ لا يشبهه شيء (مَلَكٌ كَرِيمٌ).
الآن تحصَّل المقصود الذي أرادته امرأة العزيز بمكرها؛ وهو إخضاعهن.
إذاً (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) لا تعني أنهنَّ قطعن اليد بشكل كامل، ولكن هذا على لغة العرب بمعنى جرحن (أَيْدِيَهُنَّ)، لأنهن أُصِبن بالصدمة والذهول، فلما يذهل الإنسان أول ما يذهل لا يعلم كيف يحرك يديه وهذا يحصل، يحصل أن تكون امرأةٌ تُقطع الخضار أو الفواكه، ثم تشرد في فكرةٍ ما فتتفاجأ وقد جرحت يدها، فهنا (قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي جرحنها، والدليل لم يقل: فقطعن أو جرحن، قال: (قَطَّعْنَ) دلالة على أن الأمر تكرر من شدة الذهول، (وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ
(سورة يوسف: الآية 32)

هنا استغلت الموقف (قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ): (ذَٰا) ليوسف و(كُنَّ) لخطابهن، (فَذَٰلِكُنَّ) أي فهذا يوسف (الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أيتها النسوة (فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي ألحقتُن بي اللوم لأنني شُغِفت به حباً، و(رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) هذا الذي حصل.

استمراء المعصية
(وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) تظهر الآن مكابرة المعصية والجهر بها:

{ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ }

(صحيح البخاري)

المجاهر والعياذ بالله عندما يجاهر بمعصيته فقد بلغ حد المبالغة في المعصية، واستمراء المعصية، وكأنه لم يعد يجدها شيئاً يستحق اللوم، الإنسان قد يعصي الله عزَّ وجلّ، لكن إذا وصل لمرحلة قال لك: وما الذي فعلته؟! هنا المصيبة، أنا أريد أن أفعل ذلك ماذا تريد مني؟ هذه مصيبةٌ اسمها استمراء المعصية.
قالت: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ): أي بالغ في طلب العصمة، امتنع عني مع المبالغة، يريد أن يعصم نفسه مني، أن يحفظ نفسه من الوقوع معي في الحرام والعياذ بالله، ثم تتابع مكابرةً معاندةً بهيبة امرأة العزيز وهي من هي، وتقول: (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ) إذاً مازالت مُصرةً على أمره بالوقوع معها في المعصية، وإلا فالسجن يكون له.
السجن هو حجز حرية الفرد
(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ): السجن هو حبس حرية الفرد ومنعه من الاِلْتِقاء بالآخرين، أو بممارسة حريته في مكانٍ ما وحيداً أو مع مجموعةٍ من الناس، والسجن الانفرادي أشد والعياذ بالله من السجن الذي فيه أناس لأن الوحدة أمرٌ خطيرٌ جداً، فهذا هو السجن، وقد يكون معه ذلٌ، ومهانةٌ، وضربٌ، وتقريعٌ، فيكون (مِّنَ الصَّاغِرِينَ) يحاولون تصغيره في السجن.

تعامل النبي محمد مع الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا
عقوبة السجن في عصر النبي الكريم
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سجن ثلاثة أشخاص، لكن بعكس السجن المعروف، سجن ليس له نظير في تاريخ البشرية، الأصل أنك تسجن إنساناً فتضعه وحده في السجن، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا كَعْبُ بنُ مَالِكٍ، وهِلَالُ بنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، ومُرَارَةُ بنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ، هؤلاء الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا واعترفوا بذنبهم وأرجئ أمرهم، خُلِّفُوا: أي أُرْجِئ أمرهم إلى الله، وهم تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر، فالنبي صلى الله عليه وسلم سجنهم، فأمر الناس بعدم الحديث معهم، ولا البيع، ولا التجارة، ولا الشراء منهم، ثم أمر نساءهم باعتزالهم، خمسون ليلة وهم في السجن، سجن انفرادي من الطراز الأول، دون أن يضعهم في السجن، هذا سجن بعكس السجن المعروف، لم يحبس حريتهم، ينطلقون أين ما شاؤوا، لكن لا أحد يكلمهم حتى تاب الله عليهم:

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ
(سورة التوبة: الآية 118)

هذا من أعظم أنواع السجون، ولما حصل التأديب، ونزل الوحي يتوب عليهم، عادوا إلى المجتمع، وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه درساً في قضية المقاطعة التي تجدي، المقاطعة في الله.

امتحان القصر فيه صبر اختيار
(لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ): الآن بدأ الدخول في الامتحان الثالث وهو امتحان السجن.
الصبر في القصر كان صبر اختيار
في الجب، ثم في القصر، ثم في السجن، امتحاناتٌ ثلاث، قلت لكم: إنني أعتقد أن أصعب الامتحانات هو امتحان القصر، لأن صبر يوسف فيه لم يكن صبر اضطرار، وإنما كان صبر اختيار، في السجن لا بديل، في الجب لا بديل، أما في القصر كان بإمكانه أن ينجو في الظاهر، بأن يستجيب لأمرها وانتهى الأمر، ويُعزُّ في القصر أكثر وأكثر، ويكرم أكثر وأكثر، وتنتهي الأمور، وليس لأحدٍ مصلحةٌ في نشر الفضيحة، لكنه صبر في القصر صبر اختيار، بينما صبر في السجن وفي الجب من قبله صبر اضطرار، كلها امتحانات، وكلها قاسيةٌ على النفس، لكن أشدها فيما أعتقد امتحان القصر.
الآن سينتقل إلى امتحان السجن:

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ
(سورة يوسف: الآية 33)

(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لم يقل: لما تدعوني إليه، قال: (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إذاً هؤلاء النسوة اللواتي كنَّ يتظاهرن بالصلاح، بدأن بحركاتٍ، وبغمزاتٍ، وبهمزاتٍ، وبلمزاتٍ، يراودن يوسف عن نفسه فقال: (مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) لم تعد وحدها، يبدو أنه تعرض لمراودةٍ من غيرها، لا سيما بعد أن رأينهُ، (أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إنسان مُخيَّر بين أن يقع في حرامٍ مع امرأة العزيز، أو أن يسجن، فيختار السجن، هذه الرؤية الصحيحة، أنت من خلال علاقتك بالله ترى:

وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ
(سورة الحديد: الآية 28)

هذا نور.

الوقوع في المعاصي شقاءُ الأبد
إذا جئت اليوم بمئة شابٍ، وخيرتهم بين الوقوع في معصية، وبين السجن، كم شخصاً منهم يختار السجن؟ الذي يرى بنور الله يختار السجن، لأن السجن وإن كان حبساً للحرية، لكن الوقوع في الحرام هو انطلاقٌ بغير ضوابط، يؤدي إلى شقاء الأبد، أما السجن فهو حبسٌ مؤقت، لكنه لا يحبس نفسه بنار الشهوة إلى الأبد، هذه هي المقارنة والمقاربة.
الوقوع في المعصية جهل
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ): (أَصْبُ): أي أميل (إِلَيْهِنَّ)، هنا يوسف عليه السلام يعود إلى الأصل، وهو أن عصمته لم تكن من نفسه، وإنما كانت من معونة الله عزَّ وجلّ له (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أخاف أن تميل نفسي إِلَيْهِنَّ، وأنت وحدك من تستطيع أن تصرف عني كيد هؤلاء النسوة اللواتي يتربصن بي، (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) لأن من يقع في المعصية جاهل، جاهلٌ بالله، جاهلٌ بما أعده الله من ثوابٍ لمن أطاعه، وجاهلٌ بما أعد الله من عقابٍ لمن عصاه (وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)، ولأنه نبي، ولأن الدعوة خرجت من أعماق أعماقه مفتقراً إلى الله في ذل، قال تعالى:

فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(سورة يوسف: الآية 34)

(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) كيف صرف؟ لا ندري، ربما مللن منه، ربما شيوع الأمر جعلهن يخفن من الامتداد في هذا الأمر، حماه الله من الكيد (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ).
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) سمع دعاءه، وعلم حاله، سمع دعاءه في أن يصرف عنه كيد النساء اللواتي يردن به الشر، وعلم حاله في الافتقار إلى الله، والاسْتِعْصَامِ بِاللهِ، وطلب العصمة من الله تعالى وحده (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
الآن بدء الامتحان الثالث، وهو امتحان السجن، وهذا ما نُرجِئُ الحديث عنه إن شاء الله إلى لقاءٍ آخر.
والحمد لله رب العالمين.