الوحدة ونبذ التفرقة

  • اللقاء الثالث والعشرون من تفسير سورة الأنعام | شرح الآيات 158 - 163
  • 2024-06-08

الوحدة ونبذ التفرقة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
هذا هو اللقاء الثالث والعشرون من لقاءات سورة الأنعام، وهو اللقاء الأخير من هذه السورة، ومبدأُه الآية الثامنة والخمسون بعد المائة وهي قوله تعالى:
ومع الآية الثانية والخمسين بعد المائة، وهي قوله تعالى:

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158)
(سورة الأنعام)

وقبل أن أبدأ الكلام، فدائماً الأخبار تضّغط على المُتكلِّم وعلى المُستمِع، وقبل حضوركم الكريم، وأنا أُحضِّر لهذا اللقاء، بدأت أقرأ على مواقع التواصل تلك المجزرة الأخيرة الآثمة التي راح ضحيتها أكثر من مائتي شهيد، والتي ارتكبها هؤلاء الذين

لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ(10)
(سورة التوبة)

والذين تجرّدوا من كل قيمةٍ ومن كل مبدأ، وداسوا بحوافرهم على ما يُسمّى حقوق الإنسان، وللأسف الشديد لا يدري الإنسان يُعزّي بماذا، أيُعزّي نفسه بتقصيره في عونهم، وهو غير قادرٍ على فعل شيء، أم يُعزّيهم فيمن فَقدوا، أم يُعزّي الأُمة في تلك الأوهام التي تعلّقوا بها، والتي ضحكوا علينا بها ردحاً من الزمن، فتارةً يتحدثون عن حقوق الإنسان، وتارةً عن محكمةٍ فيها العدل، وهُم يدرسون فرض عقوباتٍ عليها، وتارةً وتارة فما يجد الإنسان نفسه إلا قائلاً حسبُنا الله ونِعم الوكيل، ويسأل الله تعالى الرحمة لمن قضى، ويسأل الله تعالى أن يتقبلهم في الشهداء.

هناك قرارات مصيرية لا ينبغي للإنسان أن ينتظر فيها ومنها قضية الإيمان:
وبعد أيُّها الكرام: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) الحديث عن المُكذّبين، فالآية التي سبقت هذه الآية خُتِمت بقوله تعالى:

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
(سورة الأنعام)

فالحديث عن المُكذّبين، وهذا استفهامٌ يُفيد الإنكار، ومعناه الإنكار عليهم في انتظارِهم وعدم إيمانهم بالله تعالى، هناك قرارات مصيرية ليس من شأن الإنسان أن ينتظر فيها، يعني إذا كان الامتحان بعد شهر والطالب مازال سادراً في غيّه، بعيداً عن دراسته، مستغرقاً في ملذاته، فماذا ينتظر؟! الامتحان بقي له شهر، فهذه الأمور لا تحتمل التأخير، والإيمان لا يحتمل التأخير، لأنَّ مسألة الإيمان ليست أن يؤمن الإنسان أو لا يؤمن فكل الناس سيؤمنون، ولكنها مسألة وقت، هل يؤمن في الوقت المناسب فينجو أم يؤمن بعد فوات الأوان فيخسر؟ ومثال ذلك فرعون، وقد كان أكفر كفّار الأرض على الإطلاق، فهو الذي قال:

فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)
(سورة النازعات)

وهو الذي قال:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ(38)
(سورة القصص)

وبعد ذلك لمَّا أدركه الغرق قال:

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
(سورة يونس)

فإذاً الإيمان حاصل، لأنَّ الإنسان عندما يصل إلى الشهادة ويرى العذاب بأُمِّ عينه، سينطق بالإيمان، ولأنه سيعود إلى فطرته التي فطره الله عليها، لكن هناك قضايا لا تحتمل التأخير، فهؤلاء (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا )، يعني ماذا تنتظر؟ هذه المسألة لا تحتمل الانتظار، فالوقت يمضي، وكل لحظةٍ تمضي فأنت تقترب من أجلك الذي أجّله الله لك، فإذاً القضية لا تحتمل الانتظار، لذلك يُنكِر الله تعالى عليهم فيقول:(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ) يعني الموت، فيأتي ملَك الموت ومعه أعوانه لقبض روحهم، فعندها يرون الحقيقة.

لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
(سورة ق)

لكن لا يُقبل الإيمان، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إنَّ اللهَ يَقبَلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ }

(أخرجه الترمذي وأحمد)

يعني في النَزع ليس هناك توبة، انتهى الوقت، مثل طالب يكتب الورقة، وجاء المراقب ليسحب الورقة قال له: عرفت الإجابة، في هذه اللحظة لا ينفعك معرفتك الإجابة، كان ينبغي أن تعرفها قبل أن ينتهي الوقت.

سيأتي ربنا ليقضي بين الخلائق إتياناً يليق بكماله وجلاله:
(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) أي يأتي ربك عند الحساب ليقضي بين الخلائق.

وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)
(سورة الفجر)

إمّا أن نقول كما عن الضحَّاك وابن عباس وغيره.

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33)
(سورة النحل)

يعني يأتي أمر ربك بحسابهم، أو أن نقول: يأتي أمر ربك إتياناً يليق به ويليق بجلاله، ولا ينبغي أن نقف عند الإتيان فنُكيفه لأنّ الكيف غير معقولٍ لنا، فأنت تقول جاء الطفل، وجاء الرجل، وجاء الشاب، فمجيء هذا غير مجيء هذا، غير مجيء هذا، وكلهم قد جاؤوا، فالطفل جاء يحبو، والشاب جاء يركض، والشيخ جاء بعُرجته، فكل مجيءٍ مختلف عن الآخر، أمّا مجيء الله تعالى فلا ندركه لأننا لا نُدرك الذات، فكيف لنا أن نُدرك الكيف، فالكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فنؤمن بأنَّ الله سيأتي إتياناً يليق بكماله ليس إتياناً كإتيان البشر، وهو خلو مكانٍ وشغلُ مكانٍ آخر، ينتقل من مكانٍ إلى مكان لأنَّ هذا متعلقٌ بالأجسام، والله تعالى مُنزَّهٌ عن الجسم، فلذلك يأتي وينزل نزولاً يليق بكماله، وإتياناً ومجيئاً يليق بكماله، نؤمن به ولا نُكيّفه.
أيضاً عندما قال تعالى:

وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19)
(سورة ق)

الموت مخلوق من مخلوقات الله، ونحن لا ندرك كيفية مجيئه، وهو مخلوق، فكيف ندرك مجيء الخالق؟! مخلوق لم ندرك مجيئه لأننا لا نراه، فكيف ندرك مجيء الخالق؟ نُفسِّر كل الآيات التي تتحدث عن صفات الله عزَّ وجل في ضوء قوله تعالى:

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(11)
(سورة الشورى)

فنثبت له ما أثبته لنفسه ونتوقف هنا.
(أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) للفصل بين الخلائق يوم القيامة والقضاء بينهم.

الله لا يقبل توبة العبد عندما تأتي العلامات الدالة على يوم القيامة:
(أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) ومن أعظمها طلوع الشمس من مغربها، فإن الله تعالى يقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ بادِرُوا بالأعْمالِ سِتًّا : طُلُوعَ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، أوِ الدُّخانَ، أوِ الدَّجَّالَ، أوِ الدَّابَّةَ، أوْ خاصَّةَ أحَدِكُمْ، أوْ أمْرَ العامَّةِ. }

(صحيح مسلم)

يعني لا تنتظروا، بادروا قبل أن تأتي ست، وذكر منها طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وذكر منها الدجّال وذكر منها الموت، وذكر منها يوم القيامة، فكل هذه الأمور ينبغي أن نبادر قبل أن تأتي.
(أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أي العلامات الدالة على قيامة القيامة، لماذا لا يقبل الله تعالى توبة عبده وإيمانه عندما يأتي بعض آيات ربك؟ باختصار لأنَّ الموضوع انتقل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، والإيمان مُتعلِّق بالغيب، فليس هناك إيمان في الشهادة بل لا يُسمّى إيماناً، فلا يقول أحدكم الآن إنني مؤمنٌ بأنك تتكلم، لأنك تسمع فتقول أنا أسمعك، لا تقول أنا مؤمنٌ أنني أسمعك، لا يوجد إيمان بالقضية، ولا تقول أنا مؤمن أنني أراك الآن لأنك تراني فلا داعي للإيمان، الإيمان مُتعلِّق بالغيب، لكن لمّا تأتي الآيات التي أخبر الله تعالى بها، فيوقن العبد أنَّ الله تعالى موجود، وأنَّ الله تعالى صاحب القدرة المُطلقة فيؤمن، لكن هذا ليس إيماناً، هذا إخبار بما شاهده، لا يُسمّى إيماناً، هو الآن يُخبِر بشيءٍ رآه بعينه، فليس مؤمناً، فلذلك الإيمان قبل الآيات، قبل خروج الروح، قبل الموت، قبل قيامة القيامة، عندما يأتي انتهى لأنه لم يعد إيماناً أصلاً، فالإيمان بالغيب.
(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ) طبعاً قدَّم المفعول به على الفاعل يعني لا ينفع إيمان النفس، (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان كما قلنا لأنه أصبح من عالم الشهادة، إلا أن تكون قد آمنت من قبل أن تأتي الملائكة أو يأتي بعض آيات ربك.
(أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) يعني جعلت إيمانها يؤدي إلى خيرٍ تفعله.
(قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ) مادمتم لا تريدون الإيمان في الوقت المناسب انتظروا ونحن معكم منتظرون، فأنتم تنتظرون الشقاء ونحن ننتظر الفلاح.

الدين وجِد ليجمع لا ليُفرِّق:

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)
(سورة الأنعام)

الدين يا أحبابنا الكرام وجِد ليجمع، وأيُّ دينٍ يُفرِّق فهو ليس من عند الله، هناك خلل يجب مراجعته، إذا فرَّقنَا الدين شيعاً، يعني طوائف وفِرق فهو ليس الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده حتماً، لأنَّ الله تعالى يقول:

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ(13)
(سورة الشورى)

فإذا فرَّقنَا الدين فهو ليس دين الله تعالى وإنما هو من صُنع البشر، الدين الذي يُفرِّق هو صناعةٌ بشرية، أو هو فهمٌ مغلوطٌ لدين الله تعالى، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو

{ كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ. }

(صحيح مسلم)

لأنَّ التديُّن أحياناً يحتاج إلى إصلاح، الدين من عند الله لا يحتاج إلى إصلاح، لكن تديننا، ديننا يحتاج إلى إصلاح، من أحد أهم أسباب حاجتنا إلى إصلاحه أن يكون مصدراً لفرقتنا لا باعثاً لوحدتنا.
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) طبعاً أهل الكتاب فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً، لكن أيضاً المسلمون للأسف بعد ذلك فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتنطبق عليهم هذه الآية، وحديث الافتراق معروف:

{ افترقتِ اليهودُ على إحدى أو اثنَتَينِ وسَبعينَ فِرْقةً، وتفرَّقتِ النَّصارى على إحدى أو اثنَتَينِ وسَبعينَ فِرْقةً، وتَفترِقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسَبعينَ فِرْقةً] "كُلُّهم في النَّارِ إلَّا مِلَّةٌ واحدةٌ"، قيلَ: مَن هُم يا رسولَ اللهِ؟ قال: "ما أنا عليه وأصْحابي". }

(أخرجه أبو داوود والترمذي وأحمد)

وحديث الافتراق يفهمه البعض فهماً مغلوطاً، فيظن أنها كلها في النار إلا واحدة، فيُخرج من يشاء من المِلَّة، من إخوته في الطريق، في العقيدة بعض الأشعرية والمترُدية يُخرجون أهل الحديث، وأهل الحديث يُخرجون الأشعرية والمترُدية، السلوك أهل التصوُّف يُخرجون أهل السلف، وأهل السلف يُخرجون أهل التصوُّف، و أهل التصوُّف ربما فِرق وشيع وكذلك غيرهم، الحقيقة أنَّ أهل السُنَّة أمةٌ واحدة هكذا ينبغي أن نكون، نحن أمةٌ واحدة، والاختلاف بيننا في الفرعيات والجزئيات والفروع، لا يعني فرقةً، فهذا الحديث حديث الافتراق يتحدث عن الفِرق الضالة، يتحدث عن مُنكري السُنَّة، الذين ينكرون السُنَّة ويدَّعون أننا نكتفي بالقرآن فقط، فهنا أُمتي بمعنى أُمة الدعوة وليس أُمة الإجابة، فكل من استجاب لله ولرسوله بغض النظر عن طريقته في التزكيّة أو طريقته في الفقه، مادام ملتزماً بضوابط الشرع فهو من الفرقة الناجية إن شاء الله، هكذا ينبغي أن يُفهم الحديث، وأمّا أُمة الدعوة فمن بلغته الدعوة فاليوم يوجد البعض ممن يشتمون الصحابة، والبعض ممن يُحرِّفون القرآن، والبعض ممن يقولوا نحن المدرسة العقلانية، فالحسَن ما حسَّنه العقل، والقبيح ما قبَّحه العقل، فيُنكرون ما صحَّ من الأحاديث، ويتأولون ما كان واضحاً من الآيات القرآنية إرضاءً لعقولهم القاصرة، هؤلاء الذين تفترق الأُمة عليهم، وهؤلاء الذين نسأل الله السلامة في النار، وأمّا أهل السُنَّة فهم من كان القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة مصدرَي التشريع الأساسييَّن عندهم، واتبعوهم، قد نختلف في الفروع الفقهية بين مذهبٍ شافعيٍ وحنفي، وأمور بسيطة جداً في العقيدة وربما في السلوك، فالبعض يُغلِّب جانب التزكية والروح على جانب الفكر، والبعض يعكس الآية، هذا كله مما تتسع دائرة الإسلام له.
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) يعني هذا من أعظم الوعيد، يعني لست منهم يا محمد في شيء، هؤلاء أنت بريءٌ منهم، أنت بريءٌ من ضلالهم، وليس عليك إلا إنذارهم، لكنهم لا ينتسبون إليك، (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) فأنت تُنذرهم والله تعالى يُحاسبهم.

من رحمة الله تعالى أنه يُجازي على الحسنات بالأضعاف والسيئة بمثلها:
(ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) فيُثيبهم عليه ويُجازيهم عليه، ولمّا كانت الآية قد خُتمت (يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) بيَّنت نتيجة هذا الإنباء والإخبار فقال تعالى:

مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(160)
(سورة الأنعام)

وهذه الآية ميزان دقيق للتعامل بالحسنات والسيئات، وهي من رحمة الله تعالى، فلا يوجد في الأرض قانون يقول الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، يعني بأحسن الأحوال يُجازي بالحسنة مثلها وبالسيئة مثلها، وأكثر القوانين لا تُجازي بالحسنة شيئاً وتُجازي بالسيئة عشرة أمثالها، هذه قوانين الأرض لكن عند الله تعالى الأمر مختلف، يعني قوانين السير، مَن لا يضع حزام الأمان يُجازى بالسيئة عشرة أمثالها فيدفع غرامة كبيرة، والذي يضعه لا أحد يقول له شكراً لك، فقوانين الأرض لا يوجد فيها جزاء على الحسنة، وإن جازت على الحسنة فبمثلها، أمَّا القوانين عند الله (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) فقط عشر أمثالها؟ نعم هذا القانون، الحسنة عشر أمثالها قانون، حسناً إلى سبعمائة ضعف.

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
(سورة البقرة)

مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)
(سورة البقرة)

هذه بالنيَّات، قانون واحد تأخذ عشرة، بنيَّتك، بإخلاصك لله تعالى، بإخفائك للحسنة التي جئت بها، بصبرك على شيءٍ أتاك:

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)
(سورة الزمر)

بالظرف الذي أنت فيه، بإنفاقك وأنت في شِدّة مثلاً، بالظروف المُلابسة والنوايا ينتقل العشرة أضعاف إلى أضعاف مضاعفة إلى سبعمائة ضعف، لكن في الأصل الحسنة بعشر أمثالها.
(وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا) السيئة بالسيئة، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) والله تعالى وضَّح ذلك مُجملاً، والنبي صلى الله عليه وسلم فصَّله فقال:

{ مَن هَمَّ بِحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها؛ كُتِبتْ له حَسَنةً، فإنْ عَمِلَها؛ كُتِبتْ له عَشْرَ حَسَناتٍ، ومَن هَمَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها؛ لم تُكتَبْ عليه، فإنْ عَمِلَها؛ كُتِبتْ عليه سَيِّئةً واحِدةً. }

(أخرجه مسلم)

فهذا ميزان الحسنات والسيئات عند الله تعالى.

الدين قيّم لأنه تقوم به حياة الناس في الدنيا والآخرة:
قل أيُّها الرسول، صلى الله على محمد:

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
(سورة الأنعام)

ما هو الصراط المستقيم؟ هو الدين، وهذا الدين هو الدين القيّم، يعني القائم على مصالح الناس في الدنيا والآخرة، هو دين القيّمة التي تقوم به حياة الناس.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا(1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2)
( سورة الكهف)

فالقرآن قيَّم، والدين قيَّم بمعنى أنه تقوم به حياة الناس ومصالحهم في الدنيا والآخرة.
(دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) مِلَّة إبراهيم، أي شريعة إبراهيم عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكثيراً ما يذكر القرآن مِلَّة إبراهيم، لأنَّ إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء، ولارتباط شريعته بشريعة الإسلام، ولأنَّ أهل الكتاب كلٌ منهم، من اليهود والنصارى ادَعَوا أنَّ إبراهيم كان يهودياً أو كان نصرانياً

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(65)
(سورة آل عمران)

لم يكن هناك يهودية ولا نصرانية كشريعة عندما كان إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم مسلم، وموسى مسلم، وعيسى مسلم، وتلك شرائع، لكن أن تُنسب شريعةٌ إلى نبيٍ قبل أن تأتي الشريعة فهذا من ضعف العقل، فإبراهيم عليه السلام كان مسلماً.
(دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) الحنيف هو المائل، رجلٌ أحنف أي في قدمه ميل، فالحنيف هو المائل وما ذكر مائل عن أي شيء إلى أي شيء لأنَّ هذا مما يُعرف بداهةً، والبلاغة في الإيجاز، فهو حنيفٌ بمعنى أنه مائلٌ عن الباطل وأهله، إلى الحقّ وأهله، فدينه دين الحنيفيَّة، (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163)
(سورة الأنعام)

وهذا من أدعية الاستفتاح في الصلاة، التي شُرِّعت لنا سُنَّةً عن نبينا صلى الله عليه وسلم (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) وهاتان الآيتان أصلٌ في التوحيد.

الصلاة هي الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال:
(وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي)، الصلاة هي الفرض الذي لا يسقط بحال المتكرر، فكما تعلمون الصوم يسقط عن المسافر وعن المريض ويقضي، ويسقط عن المريض مرضاً مُزمناً ويفدي، الزكاة تسقط عن مَن لا يملك النِصاب، الحج يسقط عن غير المستطيع، سواءً كان عدم الاستطاعة مالاً أو موافقةً أو قدرةً بدنيةً فتسقط، فيسقط هذا الفرض، وشهادة التوحيد، يعني إن نطقها الإنسان مرةً في عمره فقد أسلم، لكن الصلاة هي الفرض الوحيد المُتكرر الذي لا يسقط بحال، فمهما كان الإنسان مريضاً فيجب أن يُصلّي ولو إيماءً بعينيه، فلا تسقط عنه الصلاة إلا إذا سقط عنه التكليف بزوال العقل، أمّا مادام مُكلَّفاً فهو مكلَّفٌ بالصلاة، فلذلك بدأ بها، أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة صلاته

{ أولُ ما يحاسبُ بهِ العبدُ يومَ القيامةِ الصَّلاةُ، فإنْ صَلَحَتْ، صَلَحَ سائِرُ عَمَلِه، و إنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سائِرُ عَمَلِه }

(الألباني صحيح الترغيب)

(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) والنُسُك، جاء من النسيكة، وهي سبيكة الفضة التي تُعرض على النار لتُنقّى من شوائبها وتصبح خالصةً من الشوائب، فالنُسُك أيضاً يجب أن يكون خالصاً لوجه الله فسُمّيَ نُسُكاً، والنُسُك في الأصل يشمل كل عبادة، فالصلاة نُسُك، والصيام نُسُك، ولكن بالاصطلاح أصبح يُطلَق على مناسك الحج أو النُسُك بمعنى الذبح، يعني الحج وما فيه من الذبح والأُضحية يُطلق عليها النُسُك، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي).
ولمّا جاء الحديث عن إبراهيم عليه السلام فناسب ذكر النُسُك، لأنَّ المناسك هي مناسك إبراهيم عليه السلام من السعيّ والطواف، هو الذي رفع القواعد من البيت فناسب ذلك ذكر المناسك.
(وَنُسُكِي) وهذان الشيئان الإنسان مُخيَّرٌ فيهما، فله أن يُصلّي أو أن لا يُصلّي، وله أن يحج أو لا يحج، وأن يذبح لله أو لا يذبح أو يذبح لغير الله، فالإنسان مُخيرٌ فيه، وأمَّا محياه ومماته، فهما أمران فيهما شيءٌ كثيرٌ من التسيير، فالله تعالى أحياه في الوقت الذي يُريده، وفي الزمن الذي يُريده، وفي المكان الذي يُريده، ويُميته في الوقت الذي يُريده، وفي المكان الذي يُريده.

إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(34)
(سورة لقمان)


كل شيء يوصلك إلى الله فهو حقّ وكل ما يبعدك عن الله باطل:
والإنسان ينبغي أن يجعل كل عبادته وكل حياته لله تعالى، كل ما في حياته، فالصلاة لله، والنُسُك لله، لكن هل الحياة لله؟ بمعنى أنه يعمل إرضاءً لوجه الله؟ يتزوج لله، يُنجِب لله، يُربّي أولاده لله، يذهب إلى عمله لله، يدرس لله، ينال الشهادة العليا لله، هل هذا هو واقع الحال؟ كلما اقترب الإنسان من أن تكون حياته، وأن يكون مماته لله تعالى، فقد اقترب من الحقّ، ما كان لله تعالى فهو المتصل، فكل شيءٍ يوصلك إلى الله فهو حقّ، وكل شيءٍ يُبعدك عن الله فهو باطل.
(وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ) وهذا هو الإخلاص والتوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
(وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ) وهذا للقصر والحصر، ما قال وأمرت بذلك بل قال: (وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ) أي أُمرت أن أوَحِّد الله تعالى، أن أعبُده لا أُشرك به شيئاً.
(وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول المسلمين باعتبار شريعة الإسلام، لأنه أسلم قبل أن يدعو الناس إلى الإسلام، فهو أول مسلم، نحن نقول من أول من أسلم مع رسول الله من الرجال؟ أبو بكر الصديق، من النساء مع رسول الله، أمّا أول مسلم فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن نحن عندما نقول أنا أول المسلمين فهل أنا أول المسلمين؟ عندما أقول في صلاتي وأنا أول المسلمين، هذه الأولية ليست هنا أوليةً زمانية، وإنما أوليةٌ رُتبية، بمعنى إنني أُسارع إلى ديني، أُسارع إلى تنفيذ أمر ربي، أُسارع إلى الاستسلام له لا أتلكأ، هذه الأولية المقصودة، ودائماً الفرق بين النجاة والخسران، أو بين الربح والخسارة، بين الفوز والشقاء، الفرق دائماً هو شيءٌ بسيطٌ من الوقت، هي فرصة.

المسلم دوماً يطمح بالوصول إلى المراتب العليا في الدنيا والآخرة:
النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يدخل من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنَّة من غير حسابٍ ولا عذاب، فسألوا مَن هُم؟ فقال: هُم الذين لا يسترقون أي لا يطلبون الرُقية، الرُقية غير الشرعية، ولا يتطيرون، يعني يتشاءمون، وعلى ربهم يتوكلون، يعني الذين عندهم توحيد فلا يتشاءم من شيء، ولا يذهب إلى المشعوذين وغير ذلك ويتوكل على الله في كل شؤونه، المستسلم لربه، فقام رجُل واقتنص الفرصة، وهو عُكاشة فقال: يا رسول الله ادعو الله لي أن أكون منهم، فرصة عظيمة سبعون ألف، يا رسول الله أريد أن أكون منهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت منهم، هذا أخذ شيك خمس نجوم، فقام رجلٌ آخر وقال: يا رسول الله وأنا، فقال: سبقك بها عكاشة، هي فرصة اقتنصها عكاشة في اللحظة المناسبة، أنت رقم اثنان، لو قال له: وأنت منهم، والثالث والرابع لكانوا وقفوا عنده كل يوم، عُكاشة نال هذه الدعوة من رسول الله وهذه البشارة، اقتنص الفرصة.

{ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي سَبْعُونَ ألْفًا بغيرِ حِسابٍ، قالوا: ومَن هُمْ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَكْتَوُونَ ولا يَسْتَرْقُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقامَ عُكّاشَةُ، فقالَ: ادْعُ اللَّهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، قالَ: أنْتَ منهمْ، قالَ: فَقامَ رَجُلٌ، فقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ، ادْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي منهمْ، قالَ: سَبَقَكَ بها عُكّاشَةُ. }

(صحيح مسلم)

خادم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ربيعة، النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يردّ له جميله إن صحَّ التعبير ولا جميل مع رسول الله، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده شفافية عالية، يريد أن يردّ له شيء، فقال له: سلني حاجتك فقال له: أريد مرافقتك في الجنَّة، في لحظة واحدة، يعني لم يُفكر زوجة، بيت، أولاد، النبي صلى الله عليه وسلم قال: أو غير ذلك، قال: لا شيء، قال: فأعنّي على نفسك بكثرة السجود، ساعدني بالإكثار من النوافل حتى تكون رفيقي في الجنَّة.

{ كانَ شابٌّ يخدُمُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ويخفُّ في حوائجِهِ فقالَ سلني حاجتَكَ فقالَ ادعُ اللَّهَ تعالى لي بالجنَّةِ قالَ فرفعَ رأسَهُ فتنفَّسَ فقالَ نعم ولكن أعنِّي بكثرةِ السُّجودِ }

(أخرجه الطبراني وابن عدي وهو حديث ضعيف)

دائماً الفرص ينالها الإنسان بلحظةٍ مُعيّنة، فكلمة (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) كلمة تعني أنه ينبغي أن تسعى للأوليّة، ما الذي يمنع أن تكون الأول في عملك، على سبيل المثال، في هذا الشهر، الأول في عمله إتقاناً والتزاماً في الوقت هو فلان، فينظر الناس إلى أنَّ هذا المسلم المحافظ على صلاته، الذي إذا سمع منّا كلاماً سيّئاً في العمل، ينصرف ولا يسمعه، مُتفوِّق فيكبر في نظرهم، دائماً الأول له نظرة مختلفة عن الثاني وعن الثالث وهكذا، فالأولية هي أولية بمعنى الرُتبة، بمعنى أن تكون دائماً مُبادراً، أولاً، لا أن تكتفي بالمراتب المُتدنية، يعني كثيرٌ من الناس يسعى كل السعي ليُحقق أكبر قدرٍ ممكن من المال، إذا قلت له: الفردوس الأعلى من الجنَّة، يقول لك: لو خلف الباب في الجنَّة أنا موافق، لماذا؟ كُن أولاً، خُذ الفردوس الأعلى، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:

{ مَن صَلَّى الصَّلَواتِ الخَمسَ، وحَجَّ البَيتَ، وصام رَمضانَ -ولا أدري أذَكَرَ الزَّكاةَ أم لا؟- كان حَقًّا على اللهِ أنْ يَغفِرَ له إنْ هاجَرَ في سَبيلِه، أو مَكَثَ بأرضِه التي وُلِدَ بها، فقال مُعاذٌ: يا رسولَ اللهِ، أفأُخبِرُ النَّاسَ؟ قال: ذَرِ النَّاسَ يا مُعاذُ، في الجنَّةِ مِئةُ دَرَجةٍ، ما بيْنَ كلِّ دَرَجتَينِ مِئةُ سَنةٍ، والفِردَوسُ أعلى الجنَّةِ وأَوسطُها، ومنها تَفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ، فإذا سَأَلتُم اللهَ فاسأَلوه الفِردَوسَ. }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه)

لا تطمح في الجنَّة فقط، اطمح للمرتبة العُليا، كُن أولاً في كل شيء، فقال: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164)
(سورة الأنعام)


الله يُربينا فهو ربّ كل شيء ومليكه:
بغى الشيء أي طلبه، (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) استفهام إنكاري، يعني لا أبغي غير الله ربّاً، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الربوبية من التربية، الله تعالى هو السيّد، الرب هو السيّد، المُربّي الذي يُربّي مخلوقاته، جسدياً ونفسياً، فيُمدّهم بما يحتاجون، طعام، شراب، ماء، أولاد، زوجة، أب وأُم ، إمداد، ويُربّيهم نفسياً، فيُكافئهم إن أحسنوا فيُلقي في قلوبهم السكينة، ويعاقبهم إن أساؤوا، وأول ما يبدأ في العقوبة أن يُلقي في قلبهم شيئاً من الحزن والضيق فيرجعهم إليه، فالله يُربّينا، فهو ربّ كل شيءٍ، ومليكه، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) على الإطلاق، الله تعالى ربّك وربُّ النملة التي في جُحرها، وربُّ الحجر، وربُّ الورقة التي تسقط الآن في مجاهل إفريقيا، كله بإمداد الله.
(وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) في الأصل الكسب يكون للحسنات والاكتساب للسيئات.

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)
(سورة البقرة)

لكن عندما يُبالغ الإنسان في كسب السيئات يُسمّى فعله كسباً لا اكتساباً لأنه استسهل السيئة، في الأصل السيئة اكتساب لأنك تُحمِّل نفسك شيئاً فوق طاقتك، والحسنة كَسب لأنه شيءٌ ضمن وسعك وفيه خيرٌ لك، لكن لمّا يستسهل بعض الناس والعياذ بالله المعاصي والآثام، يُطلَق على فعلهم كسب.
(وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) الوزِر هو الثِقَل

وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(5)
(سورة الشرح)

أي الثِقَل الشديد، ومنه الوزير.

وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي(29) هَارُونَ أَخِي(30)
(سورة طه)


لا ينبغي لنفس أن تحمل وزر نفسٍ أُخرى:
لأنه يحمل ثِقلاً في مساعدة المَلِك، الوزير بالمُصطلح الحديث، ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) أي لا تحمل نفسٌ مثقلةٌ حِمل نفسٍ أُخرى، يعني هذا الجزء من الآية مُكرر في كتاب الله تعالى في أكثر من موضع، قاعدة عظيمة جداً في تعاملنا مع الناس

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ(79)
(سورة يوسف)

فلا ينبغي أن نُحمِّل نفساً وِزر نفسٍ أُخرى، فيُقال هذه الفتاة جيدة ولكن لا أتزوجها أو لا أدعو لزواجها أو لا أنصح بالزواج منها، لأن والديها سيئان، ويستشهدونها بحديثٍ في هذا المضمار، لا أصل له (إياكم وخضراء الدمن المرأة الصالحة في منبت السوء) فيُحمِّلون البنت الصالحة وِزر أبويها، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) وأحياناً المُعلم في الصف، يصدُر صوت من طالب مُسيء، فيُعاقب الصف بأكمله، إمّا أنك قادرٌ على معرفة المُسيء فتعاقبه، أو أن لا تعاقب أحداً، لكن لا ينبغي أن تُحمِّل أحداً وِزر أحد، فهذا مبدأ، والأب في بيته مع أولاده، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) فالله تعالى يعاملنا بذلك، فلا تحمِل نفسٌ عن نفس، ولا يحمل ابنٌ عن أبيه، وقد ورَد في تفسير القرطبي أنَّ الفضيل بن عياض قال: << تقول الأم: يا بني، لقد جعلت لك صدري سقاءً، وحجري وطاءً، وبطني وعاءً، فهل من حسنةٍ يعود عليّ خيرها اليوم؟ يجيبها ابنها يوم القيامة: ليتني أستطيع ذلك يا أُمَّاه، إنني أشكو مما أنت منه تشكين >>. شكوى واحدة

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)
(سورة عبس)


النبأ هو الإخبار عن الأشياء العظيمة:
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المرجع إلى الله، والله تعالى ينبئكم، والنبأ هو الإخبار عن الأشياء العظيمة.

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ (1) عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ (2)
(سورة النبأ)

بخلاف الخبر، الذي هو الإخبار عن أشياء عادية، فلا يقول قائل: أُنبئك أني أكلت اليوم طعاماً كذا وكذا، فهذا ليس نبأً، هذا خبر، لكن يقول أُنبئك بأنه قد جرى اليوم حادث أليم جداً على الطريق الفلاني، فالنبأ للأشياء العظيمة أو المُستغربة

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
(سورة الكهف)

هذا نبأ عظيم، ويوم القيامة هو النبأ العظيم، (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وهذه الآية مُريحة للنفس، فالناس يختلفون فيما بينهم في قضايا دين ودنيوية وأُخروية، لكن عند الله تعالى الإنباء بالحقّ، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو في سجوده في الليل، فيقول:

{ اللَّهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ عالِمَ الغيبِ والشَّهادةِ أنتَ تحكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيهِ يختلِفونَ اهدِني لما اختُلِفَ فيهِ منَ الحقِّ بإذنِكَ إنَّكَ تهدي من تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيمٍ }

(أخرجه مسلم)


من حكمة الله أن لا نكون على سوية واحدة بل جعلنا درجات مختلفة:
ويختم ربنا جلَّ جلاله سورة الأنعام بقوله عزَّ من قائل:

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(165)
(سورة الأنعام)

خلائف: أي يخلِف بعضكم بعضاً، في الزمان والمكان، فهذا المكان الذي نجلس نحن الآن فيه، وبعد ساعة سيخلفنا غيرنا وبعد مائة عام لا ندري من يكون في هذه الغرفة، إن كانت موجودةً أصلاً، ونحن أيضاً موجودون الآن وسيخلفنا أولادنا وأصدقاؤنا وجيلٌ آخر بعدنا، فنحن خلائف، لسنا مُعمرين في هذه الأرض لا زماناً ولا مكاناً، فكل شيءٍ فيها إمّا أن نغادره أو أن يُغادرنا، فنحن خلائف، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) لو شاء الله لجعلنا في مرتبةٍ واحدةٍ في المال، يعني كل الناس بمرتبة مالية مُعيّنة، كلهم يملكون نفس المال، نفس القدرة المالية، ليس هناك شخص راكب سيارة وشخصٌ آخر لا يستطيع أن يشتري سيارة، ولا شخص راكب سيارة حديثة وآخر راكب سيارة قديمة، كان ألغى قضية الفروق المالية، ولو شاء لألغى المناصب بيننا، فكلنا لنا منصِب، ولو شاء لألغى الجمال والوسامة، فكلنا على مرتبة واحدة من الجمال، لا يوجد أبيض وأسود، كل الناس هناك أسمر أو أبيض، وليس هناك عيون ملوّنة وعيون غير ملوّنة، وليس هناك طويل أو قصير، ولا بدين ونحيف، كل ذلك كان ممكناً، ولو شاء الله تعالى لجعلنا في مرتبة مُعينّة من الإمكانيات، بمعنى أنَّ كل الناس ينالوا شهادات عُليا، قادرين على ذلك، كل ذلك كان ممكناً لأن الله تعالى واجب الوجود، بينما نحن ممكنو الوجود، فكل ما نحن عليه كان ممكن أن يكون على خلاف ما نحن عليه، هذه حقيقة مُسلَّم بها، لكن الله تعالى شاء أن يرفع بعضنا فوق بعضٍ درجات، والبعض المرفوع في شيء، قد يكون منخفضاً في شيءٍ آخر، ويكون البعض المنخفض عنه في الشيء الأول مرتفعاً عنه في الشيء الآخر، فقد يكون هناك مَن هو مرفوعٌ عنّي في المال، وأنا مرفوعٌ عنه في الإمكانيات، وهو مرفوعٌ عنّي في الزوجة التي يُريدها، وأنا مرفوعٌ عنه في صلاح أولادي، وآخر زوجته لا تُنجِب، وثانٍ عنده أولاد كُثُر، وهكذا، (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) شاءت حكمة الله أن لا نكون بسويةٍ واحدة، قال تعالى:

انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا(21)
(سورة الإسراء )

هناك شخص مُدرِّس بمدرسة ابتدائية بأطراف المدينة بقرية نائية، وهناك أستاذ جامعي ذو كرسي، هناك شخص لا يملك قوت يومه، وآخر لا يعرف ماذا يفعل بالمال الذي في أرصدته، وهناك شخص لا يستطيع أن يمون على شيء، وآخر بيده أمور البلد كلها، يفعل ما يشاء في الظاهر، ( انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) كل هذه الدرجات التي تراها في الدنيا لا قيمة لها، الآخرة ستجد فيها التفضيل، والدرجات، ستجد من هو في الفردوس الأعلى، وستجد من هو في قعر جهنم، هناك التفضيل، (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).

كل ما هو آتٍ قريب:
(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) لماذا هذا الرفع؟ لماذا لا نعيش معاً بسويةٍ واحدة؟ لأنه لو عشنا معاً بسويةٍ واحدة لالتغى الاختبار، أين مادة الامتحان؟ إذا المال متوفر مع الجميع، لماذا يسرق السارق؟ ولماذا يتعفَّف العفيف؟ لم يعد هناك معنى للعفّة، ولا هناك سبب للسرقة، إذا جميع الناس أُمراء، فأين الخفير الذي يُبتلى بالأمير، والأمير الذي يُبتلى بالخفير، إذا جميع الناس أقوياء، فأين الضعيف الذي يُبتلى بالقوي؟ والقوي الذي يُبتلى بالضعيف؟ قال تعالى: (لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) يعني حقيقة ما آتاك الله إياه، ضعفاً أو قوّةً، فقراً أو غنى، منصِباً أو بُعداً عن المنصِب، وسامةً أو خلافها، هذا كله في جوهره (لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) أي ليختبركم، فالفقير هل يتجمَّل والغني هل يُنفق؟ والضعيف هل يسكت عن حقه والقوي هل يظلم الضعيف أم يُنصفه؟ وهكذا في كل شيء.
(لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) أكدّ جلَّ جلاله أنه سريع العقاب، وكل آتٍ قريب، فما نشاهده اليوم من ظلمٍ عظيم، تُريحنا به هذه الآية، (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ)، (وإنه) أكدها بمؤكِد آخر وهو اللام (لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) فالمغفرة أُكدَّت بمؤكدين، والعقاب أُكدَّ بمؤكدٍ واحد، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) يغفر الذنوب ويرحم عباده.
وبذلك تنتهي سورة الأنعام، المُفتتحة بقوله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)
(سورة الأنعام)

والمُختتمة بمغفرته ورحمته جلَّ جلاله، والحمد لله رب العالمين.