• 2019-02-15
  • عمان
  • مسجد زياد العساف

الثقة بالله

ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكُلّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد وسلم تسليماً كيثراً، وبعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوا الله وأحثكم على طاعته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).


الخطبة الاولى :
الثقة مبدأٌ عظيم
أيها الأخوة الكرام؛ قد يذهب مريضٌ إلى طبيبٍ فيجلس بين يديه بكل رضا، يستقبل تعليماته بآذانٍ صاغية ويطبقها بحذافيرها لماذا؟ لأنه واثقٌ من علم الطبيب، قد يجلس طالب علمٍ بين يدي معلمه فيستمع إليه بإنصات ويسجل كل كلمةٍ يقولها، لماذا؟ لأنه واثق من علم المعلم، قد تُلقي ابنك في الهواء، ابنك ذا السنتين تلقيه في الهواء فيضحك ويبتسم لأنه يعلم أن يديك تنتظرانه فهو واثقٌ بأبيه وهو في عمر سنة واحدة، الثقة أيها الكرام؛ مبدأٌ عظيم من مبادئ الإسلام، لماذا يثق أحدنا بعلم الطبيب وبعلم المعلم؟ لماذا إن وقع في حَرَجٍ أو مصيبةٍ لا قدّر الله، فقال له أحد المتمكنين في الأرض ممن لهم سطوة ونفوذ مشكلتك عندي، فلماذا ينام قرير العين؟ لأنه واثقٌ من هذا المنصب ومن هذا الإنسان الذي بإمكانه أن يحل مشكلته، أتكون ثقتنا ببني البشر أعظم من ثقتنا بخالق البشر؟ هذه هي المشكلة أيها الأحباب التي نعمل لها في هذه الخطبة.

الثقة بموعود الله
الثقة بموعود الله في أحلك الظروف
النبي صلى الله عليه وسلم علَّمنا الثقة بالله، علمنا أن نثق بموعود الله، في أحلك الظروف وهو في طريق الهجرة، تعالوا نبدأ بطريق الهجرة من أوله: دخل الغار ووصل إليه المشركون ووقفوا فوق الغار، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لقد رأونا، وفي روايةٍ لو نظر أحدهم إلى موطئ قدميه لرآنا، فقال: "يا أبَا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".

{ أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، حَدَّثَهُ قالَ: نَظَرْتُ إلى أَقْدَامِ المُشْرِكِينَ علَى رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ في الغَارِ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، لو أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقالَ: يا أَبَا بَكْرٍ ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا }

(صحيح مسلم)

هذه هي الثقة، تابع طريقه، أرسلت قريشٌ في طلبه من يأتي به حياً أو ميتاً وله مئة ناقة، أصبح مهدور الدم، تبعه سراقة ليفوز بالجائزة صوّب سهمه اتجاهه فساخت قوائم فرسه في الرمل، مرةً ومرتين، فانقلب من مطاردٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منافحٍ عنه، قال له صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟، يعني بذلك أنني يا سراقة سأصل المدينة كما أمرنا الله تعالى وسأنشئ فيها دولة الإسلام، وسأنشئ للدولة جيشاً يحميها وسيغزوا هذا الجيش كسرى الفرس أعظم دولة في وقتها، سيغزوها في عقر دارها وستأتي الغنائم إلى ديار المسلمين ومن هذه الغنائم سوار كسرى وستلبسه أنت يا سراقة، وهذا ما كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، هذه هي الثقة.
أخطر هزيمةٍ يمكن أن يصاب بها الإنسان
تابع طريقه التقى ببريدة الأسلمي فدعاه إلى الإسلام فأسلم مع قومه، هو في طريق الهجرة يريد أن يصل بأسرع وقتٍ ممكن لم يتخلى عن الدعوة إلى الله، وقف يدعو الناس إلى الله عز وجل، وأسلم معه بريدة، قبل أن يصل المدينة بساعات التقى بلِصين لا يُلقي لهما الناس بالاً، قال: من أنتما؟ قالا: نحن المهانان، قال: بل أنتما المكرمان، شدّ من أزرهما وجعل الثقة في داخلهما ثم دعاهم إلى الإسلام فأسلما، هذه ومضاتٌ من طريق هجرته صلى الله عليه وسلم، اخترتها لأنه وهو في طريق الهجرة كان في أصعب الحالات، كان الإسلام قاب قوسين أو أدنى، أن يكون أو لا يكون، لأن قريشاً قد أعدت كل ما بوسعها من أجل اللحاق به والإمساك به، لكنه صلى الله عليه وسلم في أشد ساعات العسرة كان واثقاً بربه أعظم الثقة، ولو استعرضتُ الغزوات من بدر إلى الخندق إلى إلى إلخ، لضاق المقام عن ذكر مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثقته بربه، أخطر هزيمةٍ يمكن أن يصاب بها الإنسان أن يهزم من الداخل،

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
(سورة آل عمران: الآية 140)


هزيمة الإنسان من الداخل
هذه سنّة الله، لكن إيانا أن نهزم من داخلنا، فالمهزوم من داخله لا يستطيع أن يواجه نملةً لا جيشاً عرمرماً، المهزوم من داخله الذي ينظر إلى دينه على أنه إسلامٌ في قفص الاتهام هذا الإنسان لا يستطيع أن يواجه عدواً، ولا يستطيع أن يقيم للإسلام دولةً، فالقوة من الداخل في ثقتنا بربنا وفي ثقتنا في ديننا وفي عزتنا بكتاب ربنا وسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم.

اليأس أول أسباب الهزيمة النفسية
الصراع بين الحق والباطل مستمر
أيها الكرام: الهزيمة النفسية وضعف الثقة بالله تظهر في أمور عديدة أولها اليأس، الصراع بين الحق والباطل مستمرٌ إلى قيام الساعة، هذه سنّة من سنن الله في الأرض، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا ينبغي لليأس أن يتسلل إلى نفوسنا إنها سنَّة الحياة في الصراع بين الحق والباطل، المهم أن نلقى الله تعالى ونحن جنودٌ للحق ننصره وندافع عنه بأموالنا وبأرواحنا إن اضطر الأمر، هذا ما ينبغي أن يكون حالنا عليه، أما الأيام فدولٌ بين الناس، في الحديث الشريف (إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ)

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ }

(صحيح مسلم)

قال النووي: فَهو أهْلَكُهُمْ وهو أَهلَكَهُم، روايتان أشهرهما الرفع، فهو أهلكُهم أي هو أهلكُ الناس لأنه زعم أن الناس قد هلكوا، ما تسمعونه اليوم الأمة قد انتهت لن تقوم لنا بعد اليوم قائمة، أعداءٌ شرسون ينفذون ما يريدون، صفقة القرن ماضيةٌ ماضية سيحصل ما يريدون، أملوا إرادتهم على الشعوب، هم القوة العظمى في الأرض، هذه كلمات الانهزام من الداخل هذه كلمات اليأس والقنوط لا تنبغي لمؤمن، فهو يعمل إلى آخر لحظة من حياته، (إذا قالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهو أهْلَكُهُمْ) أي هو أهلكُ واحد فيهم، أو هو أهلكَهم أي هو جعلهم هالكين بقوله لكنهم في الحقيقة ليسوا هالكين، فما يزال في الأمة بذور خيرٍ،
لَئِنْ عَرَفَ التَّاريخُ أَوْساً وخَزْرَجاً فَلِلَّهِ أَوْسٌ قادِمُونَ وخَزْرَجُ وإنَّ كُنوزِ الغيْبِ لَتُخْفِي طَلَائِعـاً حُـرَةٍ رَغْـمَ المـكائِـــدِ تـَـخْـــــرُجُ
{ من الشعر القديم المنقول }
اليأس القاتل أول أعراض الهزيمة النفسية.

الدفاع عن الإسلام وكأنه في قفص الاتهام
لا تجعل إسلامك في قفص الاتهام
ثانياً: الدفاع عن الإسلام وكأنه في قفص الاتهام، انظروا إلى ربعي بن عامر يوم دخل على رستم قائد جيش الفرس، قال له: من أنتم؟ قال: نحن قومٌ ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَور الأديان إلى سعة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، أعرابيٌ بسيط يركب دابته ويدخل بها على رستم قائد جيش كسرى ويكلِّمه بهذه الطريقة، هذه العزة في الإسلام، أمّا مسلمو أو بعض مسلمي اليوم الذي ما إن يسمع شبهة في وسائل الإعلام حول دينه حتى ينتفض ويبدأ بالضعف يبدأ باتصالاته يسأل قالوا كذا عن الإسلام، هل إسلامنا دين الإرهاب؟ هل هذا صحيح؟ هل أمرنا بقتل الناس؟ هل الإسلام ظلم المرأة؟ هل الإسلام يمنع المباحات؟ هل هل إلخ، وفي كل يوم شبهة ونحن في عصر الشبهات يهتز كيانه لأدنى شبهة، هذا ليس إسلاماً هذا ليس اعتزازاً بدين الله عز وجل، لا تجعل إسلامك في قفص الاتهام.
اقرأ التاريخ الإسلام لا ينتج إرهاباً، يوم كان المسلمون متمسكين بدينهم بنوا حضارةً عجزت الدنيا اليوم عن بنائها، فالحضارة ليست في ناطحات السحاب ولكنها في قيمٍ وأخلاق، بنوا أمةً تعجز الأمم اليوم عن أن تتمثل بها أو تتشبّه بها، تشبُّهاً، يوم كان يطبق الإسلام، أيوم تخلينا عنه أصبح دين إرهاب؟! لو كان يريد أن ينتج إرهاباً لأنتجه في عصوره الزاهرة، لكنه لم ينتج إرهاباً يوم كان قوياً عزيزاً متمكناً، لكن لما ضعف أهله وهانوا اُتُّهِمَ بالإرهاب فأصبحنا بدلاً من أن ندافع عنه ونزيد من تمسكنا به أصبحنا نتنازل عن شيءٍ منه لعله يرضي الغرب، وهذه هزيمةٌ كبرى.

السلبية القاتلة
إذاً اليأس القاتل أحد أعراض الهزيمة النفسية، الدفاع عن الإسلام وكأنه في قفص الاتهام أحد أسباب الهزيمة النفسية، دافعوا عن الإسلام لكن لا بنفسيةِ المنهزم وإنما بنفسيةِ القوي، لا بنفسيةِ الضعيف الذي يخشى على دينه من هؤلاء ولكن بنفسيةِ القوي الذي يعتز بدينه ويفخر به ويباهي به الدنيا، من أعراض الهزيمة النفسية التي أصابت بعض المسلمين اليوم السلبية القاتلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)

{ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ) }

(رواه البخاري)

{ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ }

(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

التغيير وعدم الاستسلام للسلبية
بعض الناس سلبيون إلى درجة أنه يرى المنكر بعينيه فيقول لك لا شأن لي به، يراه في أهل بيته ويقول لك لا شأن لي به، لا يريد أن يغيِّر، سلبيةٌ قاتلة، يقول لك دعني بتجارتي وبمالي لا أريد أن أقحم نفسي في شيء لا دخل لي به، سليبةٌ قاتلة تلك التي يتفوه بها بعض الناس، نحن في قاربٍ واحد أليس كذلك ألا تسمعون هذه العبارة؟ بالمناسبة هذه عبارة سبق بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم ضرب مثلاً إلى قومٍ استهموا على سفينةٍ فكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أدناها، الطابق العلوي والطابق السفلي، فجعل الذين في أسفلها ينقبون في السفينة، يحفرونها، ماذا تفعلون؟ قالوا: نحفر في قسمنا، هذا القسم لنا نحن نحفر به، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا، هلك الجميع، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعاً.

{ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً" }

(صحيح البخاري)

هذه قصة نبوية رواها صلى الله عليه وسلم في الصحيح، لأننا في قاربٍ واحدٍ جميعاً، فعندما نترك المنكر ليستشري ونقول لا دخل لنا به ولسنا مسؤولين عنه، في عملك في بيتك هذا أقل القليل، في أهل بيتك، ابنة أخيك، أهل بيتك، أسرتك الكبيرة، عملك الذي تعمل به، الموظفون الذين عندك، لابد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أعراض الهزيمة النفسية السلبية القاتلة.

التقليد الأعمى
نحن مفتونون بالغرب
ومن أعراض الهزيمة النفسية التقليد الأعمى، أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه، لكن ألوم المسلم المفتون الذي فتن بالغرب وفتن بما يسمى حضارة الغرب أو مدنّية الغرب، فاتجهنا نحوهم نترك ديننا ونتّبعهم ونقلدهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلنا ورائهم، نحن ينبغي أن نأخذ ما في رؤوسهم، لكن أن ندع ما في نفوسهم من إباحيةٍ ومن تفلتٍ ومن تفكك أسرةٍ ومن شيوع جريمةٍ ومن ثقافةٍ بعيدةٍ كل البعد عن القيم والأخلاق قبل أن تكون بعيدة عن الدين، لا يقولنَّ قائلاً الآن في نفسه أن هذا الخطيب يهاجم الغرب لكنه لا يعرفهم ولا يعرف حضارتهم، أعرفهم وأعرف ما عندهم من فضل وأعرف ما عندهم من خير، ولكن لا أريد لمسلم اليوم أن يفتن بهم فينجرَّ ورائهم ويقلدهم، فنحن لنا هوية، نحن أصحاب رسالة، نحن من أمةٍ كانت (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يوم اعتزت بدينها وبأخلاقها،

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
(سورة آل عمران: الآية 110)

بنى الإسلام حضارة لم يبنِها أحد، لأن الحضارة لا تكون بالبناء ولا تكون بتشييد المصانع، هذا جزءٌ من المدنية لكن الحضارة تكون بالقيم وبالأخلاق، هذه هي الحضارة.
لذلك أيها الكرام: الغرب بنى مواطناً صالحاً لكنه لم يبني إنساناً صالحاً، ومن ذهب إلى هناك يعلم ذلك، فالمواطن الصالح لا يلقي قشرةً من نافذة السيارة، نعم وينبغي أن نكون كذلك، ونشدُ من أزركم أن نكون كذلك، والمواطن الصالح لا يقطع إشارة المرور، لكن الإنسان الصالح الذي بناه الإسلام لا يؤذي مخلوقاً من مخلوقات الله لا في بلده ولا خارج بلده، لا يقصف الناس بالمتفجرات ولا يبني مجده على أنقاض الشعوب ولا يحتل أراضي الشعوب، هذا هو الإنسان الصالح، فرقٌ كبير بين أن تبني مواطناً صالحاً يعيش في وطنه لخدمة وطنه وأن تبنيَ إنساناً صالحاً همه الإنسان يعيش للإنسان.

النظرة الضيقة للزمان وللمكان
لا تنظر للزمان والمكان نظرةً ضيقة
أيها الكرام: هذه بعض السلبيات القاتلة من أعراض الهزيمة النفسية ومن أعراض ضعف الثقة بالله، من أسباب هذه الهزيمة النظرة الضيقة للزمان وللمكان، كثيرٌ منا ينظرون للزمان والمكان نظرةً ضيقة، يظن أن الحياة كلها هي سبعون سنة التي سيعيشها فقط أو ثمانون أو تسعون أو مئة، هكذا يظن أن الدنيا، الدنيا أكبر من ذلك، التاريخ طويل، فاقرأ التاريخ من أوله ولا تنظر للزمان والمكان نظرةً ضيقة.
هجم التتار على المسلمين، لم تقم صلاة واحد في بغداد أربعين يوماً، لم تقم صلاة جماعة في بغداد، فرَّج الله عن العراق، لم تقم صلاة واحدة لأربعين يوماً، بلغ من حجم الهزيمة النفسية أن المسلم كان يقف أمام التتاري حتى يذهب ويحضر سلاحه ليقتله ومع ذلك غيّر الله الواقع وبدّل الحال، ثقوا بالله.
الصليبيون واحدٌ وتسعون عاماً منعوا الصلاة في المسجد الأقصى، مع الصهاينة أعداء الحق والخير والإنسانية حتى الآن لم تمنع الصلاة واحدٌ وتسعين عاماً، في جمعة يمنعون دخول الكبار وهذا ظلمٌ لا أخفف منه لكن أقصد أن النظرة الواسعة للزمان والمكان تعطينا أفقاً واسعاً، واحداً وتسعين عاماً لم تقم صلاةً في المسجد الأقصى، ثم غير الله الواقع وبدل الحال وسلط على الصليبين من هزمهم شر هزيمة.
القرامطة هجموا على بيت الله الحرام والمسلمون بملابس الإحرام وانطلق المجرم أبو طاهر القرمطي وانتزع الحجر الأسود من مكانه ورفع رأسه إلى السماء وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ يتحدى خالق السماوات والأرض في جوف الكعبة، عشرون عاماً بقي الحجر الأسود بعيداً عن الكعبة المشرفة، ثم هُزِم القرامطة وبدَّل الله الواقع وغير الله الحال، إذاً الكرة في ملعبنا ثقوا بالله، لكن الكرة في ملعبنا نحن الذين ينبغي أن نسعى وأن نعمل وسيغيُّر الله الواقع وسيبدِّل الله الحال لا محال.
لابد أن نعتز بديننا
أيها الكرام: لابد أن نتخلص من الوهن من حب الدنيا وكراهية الموت، لابد أن نعتز بديننا، لابد أن نعتز بموعود ربنا، لابد من عودةٍ صادقة لديننا ولكتاب ربنا حتى تتعزز الثقة بديننا وبربنا وبنبينا في داخلنا، فالثقة أساسٌ أيها الأحباب؛ الثقة والتفاؤل بموعود الله عز وجل.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسيَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله.

الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعليّ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لدينك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم فرج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوي غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اجعل اللهم هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر أخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يارب العالمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.