• لقاء قناة إتقان لتعلم القرآن
  • 2020-05-22

أسأل عن الله

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
وبعد فيا أيها الإخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء، كل عامٍ وأنتم الخير، أعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركات والطاعات.

آيات الصيام
السياق القرآني لآيات الصيام
أيها الإخوة الأحباب: إن القارئ لآيات الصيام في سورة البقرة ليلفت نظره شيءٌ، آيةٌ مرت في سياق آيات الصيام يظنها القارئ للوهلة الأولى ألا علاقة لها بالسياق القرآني في موضوع الصيام، ثم إذا أمعن النظر وتأمل فيها تبين له أن هذه الآية من صلب آيات الصيام، وكذلك هو السياق القرآني كلُّه، كلُّ آيةٍ تنثني على أختها فتبين مقصدها، الآية هي قوله تعالى:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
(سورة البقرة: الآية 186)

فإذا بدأنا بالآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
(سورة البقرة: الآية 183-184-185-186)

ثم يتابع السياق القرآني الحديث عن الصيام:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ
(سورة البقرة: الآية187)

السؤال عن الله من مقاصد الصيام
فيظن القارئ للوهلة الأولى أن هذه الآية (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) جاءت ضمن السياق دون أن يكون لها مناسبة، لكنها في الحقيقة من صلب آيات الصيام، بل يمكن أن نقول: إن من مقاصد الصيام الكبرى أن تسأل عن الله، فإذا انقضى رمضان وقد قضيت نهاره صائماً إيماناً واحتساباً، وقضيت ليله قائماً إيماناً واحتساباً فنعمت بالقرب وشعرت بالأنس بالله، ناجيته فأحسست بقربه منك، طلبت منه فأحسست بأنه يحبك ويجيبك، فإذا انقضى رمضان فلا بد أن تسأل عن الله، وفي صبيحة العيد (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) فلا بد للصائم أن يسأل عن الله، كيف لا يسأل عن الله وقد نعم بقربه ثلاثين يوماً، رأى فيها من تجلياته، وشعر بالسكينة تملأ قلبه، وشعر بالحب والخير يفيض، كيف لا يسأل عن الله؟!

درجات السؤال في الدينا
السؤال مفتاح العلم
أيها الأحباب: كلٌّ منَّا يسأل، ومن ذا الذي لا يسأل، لولا السؤال لما تعلمنا، فالسؤال مفتاح العلم، لكن لا يتفاوت الناس في أنهم يسألون أو لا يسألون، فكلنا يسأل، ولكنهم يتفاوتون في عمَّ يسألون، ففرقٌ بين من يسأل عن الدنيا، وقد يكون السؤال مباحاً وقد يكون محرماً في الدنيا، فلو فرضنا أنه سأل عن المباح، كأن يسأل عن أسعار العملات والبورصة والأوضاع المالية والاقتصادية والسياسية، هذا سؤالٌ عن الدنيا وهو سؤالٌ مشروع ولا حرج فيه وقد نكون بحاجة _نحن المسلمين_ اليوم أن نسأل عن الدنيا لنعمُرها بالخير والبركة، فلسنا مطالبين بالتخلي عنها، لكن أن يكتفي الإنسان بالسؤال عن الدنيا فيصبح وقد أصبحت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، والدعاء النبوي:

{ وَلا تَجْعلِ الدُّنْيَا أكبَرَ همِّنا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمٍنَا، وَلا تُسَلِّط عَلَيَنَا مَنْ لاَ يْرْحَمُناَ }

(رواه الترمذي)

حاجة المسلمين للعلوم التجريبية
هي همٌّ من الهموم ولكنها ليست أكبر همٍّ، وهي علمٌ من العلوم ولكنها ليست مبلغ العلم، فهناك من يسأل عن الدنيا، وهناك من يرتقي أكثر فيسأل عن العلم، فيسأل عن معادلةٍ في الرياضيات وعن تركيبٍ في الكيمياء وعن مسألةٍ في الفيزياء، وهذا شيءٌ مهمٌّ جداً، ونحن المسلمين بحاجةٍ إليه اليوم كثيراً أن نسأل عن علوم الأرض لأن الله تعالى انتدبنا إلى البحث عن الكيفية قال:

أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
(سورة الغاشية: الآية 17)

الشريعة طريقٌ إلى الله
فالعلوم التجريبية مطالبون بها في صميم ديننا، ولكن يبقى هذا السؤال ضمن مجموعةٍ من الأسئلة يسأل عنها كثيرٌ من الناس، فهناك من يرتقي أكثر ويبدأ بالسؤال عن أمر دينه، عن الحلال والحرام، فيسألك: ماذا أفعل؟ وما الذي لا يجوز أن أفعله؟ وهل هذا حلالٌ أم حرام؟ وما أحكام الصيام؟ وهل يشترط الطهارة لكذا؟ فهذا بدأ يرتقي في السؤال، لأنه يسأل عن أحكام دينه، يسأل عن الشريعة التي هي طريقه إلى الله تعالى، ولكن هناك سؤالٌ أهم من هذه الأسئلة كلِّها، هذا السؤال: أن تسأل عن الله، ليس عن أمر الله فحسب، ولكن أن تسأل مع أمر الله عن الله، أن تسأل عن الآمر، أن تسأل عن الخالق، كيف أحبه؟ كيف يرضى عني؟ كيف أتعلم طرفاً من أسمائه الحسنى وصفاته العلا؟ كيف أصل إليه فأتنعم بقربه؟ هذا سؤالٌ عن الله، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) اسـأل عن الله في رمضان، واسأل عن الله في العشر الأخير من رمضان، واسـأل عن الله في صبيحة العيد، واسـأل عن الله في كل أشهر العام، اسـأل عن ربك فإن أعظم صلةٍ يمكن أن تحصل لك أن تتصل بخالقك ومولاك، فهو أصل الجمال والكمال والنوال، ألا تحب الجمال؟ إن الكون بكل ما فيه من جمال ما هو إلا مسحةٌ من جمال الله تعالى، ألا تحب الكمال؟ إن كل ما في الوجود ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، ألا تحب العطاء، النوال؟ إن الله عزَّ وجلَّ عنده كل شيء، فهو الذي يعطيك بلا حد ويرزقك من غير طلب ويبتدئك بالإحسان جلَّ جلاله، فهو أصل الكمال والجمال والنوال، فاسأل عن خالقك ومولاك.

إجابة الله تتحقق بعلمه وبحكمته
أيها الإخوة الأحباب: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) في آياتٍ عشرٍ أو أكثر في كتاب الله تعالى يقول تعالى:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ
(سورة البقرة: الآية 189)

يثبت السؤال، الإنسان بحاجة أن يسأل، يسـأل عن أحكام شرعية:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
(سورة البقرة: الآية 189)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
(سورة البقرة: الآية 217)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ
(سورة البقرة: الآية 222)

الاستمرار في السؤال عن الله
لكن في هذه الآية قال: (وَإِذَا سَأَلَكَ) لأن (إِذَا) تفيد تحقق الوقوع، فلا بد أن يسألك عبادي عني في رمضان وعقب رمضان وما قال: فقل إني قريب ليعلمك بأنه أقرب إليك من حبل الوريد وأنك إذا أردت أن تناجيه وأن تقف بين يديه فليس بين الخلق وخالقهم واسطةٌ أبداً (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) لكن إجابة الدعوة من الله عزَّ وجلَّ ليست كإجابة البشر بعضهم بعضاً، تذهب إلى مكتب فلانٍ من الناس فتجلس في مكتبه وتطلب منه طلباً فإما أن يجيبك ويوقع المعاملة وإما أن يرفض ولا يوقع، هناك احتمالان، أما عند الله عزَّ وجلَّ فإن أراد أن يجيبك وهو سيجيبك لكن الإجابة تتحقق بعلمه وبحكمته وبالوقت الذي يريد وبالطريقة التي يريد لأنه الخالق جلَّ جلاله، وهو يعلم ونحن لا نعلم.

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‏"‏ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدُعَاءٍ إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلُ ‏"‏‏ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ: ‏"‏ يَقُولُ دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي ‏"‏ }

(صحيح الترمذي)

إجابة الدعاء محققة
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:‏ - مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدُعَاءٍ إِلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ - فالدعاء إجابته محققة، - فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا - وهذا ما يحبه أكثر الناس أن يطلب فيعطى في الدنيا، لكن ليست هذه الطريقة الوحيدة للإجابة - وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ - فيؤخر الله تعالى بعلمه وبحكمته فيجيب دعوته في الآخرة بأضعاف ما دعا في الدنيا - وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا - فيكون عنده معاصٍ وآثام فالله تعالى يجيبه إلى دعائه بمغفرة الذنوب، قال: - مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلُ - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ:‏ - يَقُولُ دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي- فاصبر ولا تكن عجولاً واعلم أن الإجابة قادمةٌ بحكمة الله وبعلم الله وفي الوقت الذي يريده الله وبالطريقة التي يرتضيها الله تعالى وفق علمه وحكمته، ولكنك مجابٌ إلى دعوتك ومجابٌ إلى وقوفك بين يدي الله.

الله جل جلاله واعد عباده كل ليلة في ثلث الليل الآخر
قدرة البشر محدودة
بربكم أيها الأحباب؛ لو أن ملِكاً من ملوك الأرض واعد الناس ليلةً من الليالي فقال: سأكون في الساحة الفلانية عند الساعة الثالثة فجراً لألبي حاجات الناس فمن أراد فليأت إلى الساحة وليعرض شكواه وليعرض حاجته وأنا سألبيه، بربكم كم إنساناً سيأتي هذه الليلة ليقف بين يدي ملكٍ من ملوك الأرض؟ لو كان في المدينة مليون ساكن لأتوا جميعهم، بل إني أقول: ربما يبيت كثيرٌ من الناس في المكان قبل ليالٍ ليحجزوا مكاناً في الصفوف الأولى قريباً من ملكٍ من ملوك الأرض، فهذا الملك هل يأتي أو لا يأتي؟ لا نعلم، مجيئه محتمل وليس مؤكداً، قد يموت فلا يأتي، وقد يمرض فلا يأتي، وقد يمنعه الحراس فلا يأتي، إذاً مجيئه محتمل وليس مؤكداً، الآن لو أنه جاء وأتى إلى المكان وإلى الساحة المقررة وفي الوقت المقرر، هل يستطيع أن يسمع كل هؤلاء الناس في الوقت نفسِه؟ مستحيل، لو فرضنا أنه سمعهم، هل يستطيع أن يلبي حاجاتهم؟ هل يقدر على تلبية كل الحاجات؟ هذا مستحيل، أما ملك الملوك جلَّ جلاله فقد واعد عباده كل ليلة في ثلث الليل الآخر، فقال: ينزل ربكم إلى السماء الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: إذا كان ثلث الليل الآخر، نزولاً يليق بعظمته نكل أمره إلى الله :

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ }

(رواه البخاري ومسلم)

فمجيئه مؤكد، وسماعه لك مؤكد، وإجابته مؤكدة، فلماذا لا يأتي الناس على الموعد؟.

مراقبة الله والخشية منه
أيها الإخوة الكرام أيها الأحباب: أن تسأل عن الله يعني أن تراقب الله وأن تخشى الله.
صيام الراعي رغم شدة الحرارة
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، خرج يوماً مع بعض أصحابه حول المدينة، فجاء وقت طعامهم فوضعوا سفرة الطعام وجلسوا، فإذا براعٍ يمر من أمامهم يرعى شياهاً له في شغف الجبال، فقال له عبد الله بن عمر: هلمَّ يا راع، كُل معنا، دعاه إلى الطعام، فقال الراعي: إني صائم، فقال عبد الله بن عمر: أتصوم في هذا اليوم شديد الحر؟ يوم حار تصوم فيه؟ فقال له بإجابةٍ فيها فقهٌ عجيب وهو راعٍ من رعاة الغنم، قال: أصومه ليومٍ أشد منه حراً، أبادر أيامي، فأنا أقدم لأيامي التي سوف تأتي ما ينفعني في الوقوف بين يدي الله، فأتحمل الجوع والعطش في سبيل الله، فقال له عبد الله بن عمر وكأني به أراد أن يمتحنه وهو لا يعرفه وأراد أن ينظر هل صيامه انعكس إلى سلوكٍ بالتزام أمر الله أم أنه صيامٌ شعائريٌّ فقط لم يفقه حقيقته، فقال له: أيها الراعي أعطنا غنمةً من الغنم، بعنا غنمةً نذبحها ونأكل منها ونهدي لك فتفطر معنا، عرض جميل، فقال الراعي: ليست لي، هي لسيدي، فقال له: أوما ينفعك أن تقول لصاحبها أكلها الذئب؟ قال: والله إنِّي لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادقٌ أمين، ثم ولَّى الرجل يرفع إصبعه إلى السماء ويقول: فأين الله؟ فأين الله؟ فأين الله؟ هذا الرجل كان يراقب الله، يسأل عن الله، وهذا جوهر الصيام، وجوهر الطاعة، وجوهر العبادة.
يوم كنا صغاراً كانت المعلمة تروي لنا قصة بائعة الحليب وكلكم تعرفونها
قالــت بنيّـة قومـي فامـذقِ اللبنـــــا الماء سوف يزيد الوزن والثمنــــا قالت لها البـنت: يا أمّــــــاه معـذرةً لقـد نهى عـُمـر أن نخـلط اللّبــنـــا قـالت لها الأم: أنّــــــى يــرى عــمــر صنيعنا إنّـما الفـاروق ليـس هنـا قــالت لهـا البنت: لا تفعــلي أبــــداً الـلّه يـعــلم مـنّـــا السـرَّ والعـلـنــــــــا إن لم يكن عمر الفاروق يبصرنا فـإنّ ربّ أبي حفـص هنـا معـــنــا
{ بائعة اللبن - جدة عمر بن عبد العزيز }
العلم هو الخشية
كان عمر يتفقد رعيته فسمع تلك الفتاة تقول لأمها أو لجدتها: إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر يرانا، فذهب في الصباح إلى أولاده وقال: والله لو كان لي حركةٌ إلى النساء لتزوجتها، أما إني لأزوجنها لأحدكم، فقال عبد الله: لي زوجة، وقال عاصم: أنا ليس لي زوجة فزوجني، فزوجها لعاصم، فمن كانت هذه الفتاة؟ كانت أم عمارة جدة عمر بن عبد العزيز الذي أعاد للخلافة راشديتها، جدة حفيد الفاروق، لقد علم عمر أن الفتاة التي تسأل عن الله، وتسأل أين الله، وتراقب الله، وتعلم أن الله ناظرٌ إليها مطلعٌ عليها في كل آن، علم أنها لا بد أن تربي جيلاً مختلفاً يخاف الله ويخشى الله، فالعلم هو الخشية

إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
(سورة فاطر: الآية 28)

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة الزمر: الآية 9)

فسمى الله تعالى من يقوم بالليل يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ويدعو الله سماه عالماً وربما لا يملك شهادةً من شهادات الأرض ولكنه يملك شهادةً من شهادات السماء عنوانها: اسأل عن الله، عنوانها: أين الله؟.
أسأل الله العلي القدير أن نخرج من رمضان بهذا السؤال العظيم، السؤال عن الله في كل تصرفٍ من تصرفاتنا، وفي كل حركةٍ من حركاتنا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أعتقنا في هذه العشر من النار وتقبل منا صلاتنا وصيامنا وركوعنا وسجودنا.
إلى الملتقى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.