رؤيا سيدنا يوسف وعداوة الشيطان للإنسان

  • الدرس الثاني: شرح الآيات 4-6
  • 2020-07-25

رؤيا سيدنا يوسف وعداوة الشيطان للإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
مع اللقاء الثاني من لقاءات سورة يوسف ومع الآية الرابعة وهي قوله تعالى:

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
(سورة يوسف: الآية 4)

في اللغة العربية (إِذْ) ظرف، ظرف زمان، بماذا يُعَلَّق؟ الظرف يحتاج إلى تعليق بما قبله، يعلق بفعل محذوف تقديره (وَاذْكُرِ)، أي وَاذْكُر يا محمد - صلى الله عليه وسلم - لقومك (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) أينما تقرؤون شيء يشبه هذه الآية (إِذْ) أي: وَاذْكُرِ إِذْ، يعني وَاذْكُرِ يا محمد لقومك (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) إذاً هذه القصة تستدعي أن يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكرها لقومه.
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ): أبوه هو يعقوب، وهو نبي، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيح:

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الكَرِيمُ ابْنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ }

(صحيح البخاري)

(يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) جده هو إِبْرَاهِيمَ عليه السلام الذي كان حنيفاً مسلماً.

رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) أي ليعقوب عليه السلام (يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا)

{ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ }

(صحيح البخاري)

والدليل على ذلك أن إبراهيم عليه السلام جد يوسف البعيد رأى في المنام أنه يذبح ابنه

قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
(سورة الصافات: الآية 102)

(قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ففهم ابنه فوراً أن هذه الرؤيا وحيٌ من الله تقتضي التنفيذ، أما رؤيا غير الأنبياء فليست وحياً، بل ليست حكماً شرعياً، بل لا يُؤخذ منها حكمٌ شرعيٌّ، بل لا ينبغي أن نبالغ بها إلى أن نأخذ منها أحكاماً كما يحلو للناس أن يفعلوا.
رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ
(إِنِّي رَأَيْتُ) أي رأيت في المنام (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا)، بينما لمَّا قال إبراهيم لإسماعيل قال: (إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، (أَرَىٰ) ما معناها؟ (أَرَىٰ) فعل مضارع، (رَأَيْتُ) فعل ماضي، فالماضي يعني رأى الرؤيا مرة واحدة يوسف فقصَّها على أبيه فوراً، أما إبراهيم أبٌ عليه السلام فلما رآها المرة الأولى لم يذكرها لابنه لكنها تكررت فقال: (إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) تكررت الرؤيا فقال: (إِنِّي أَرَىٰ) أما يوسف فرأى مرةً واحدةً فقال: (إِنِّي رَأَيْتُ)، هذه دقة اللفظ القرآني، فيوسف طفل، رؤيا جميلة رآها سُرَّ بها فرواها لوالده فوراً، إبراهيم أبٌ رأى أنه يذبح ابنه فلم يخبره فوراً، رؤيا ثقيلة، فلما تكررت علم أنه لا بد أن يخبر ابنه بها وأن يتصرف بناءً عليها لأنه نبيٌّ ولأن رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.
فقال: (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) أما ال(أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) فكما روي عن جمعٍ من السلف: هم إخوته، هم عشرة، وأخوه من أمه الذي كان أحب إلى قلب أبيه مع يوسف من باقي الإخوة، فهم عشرةٌ كبار، وأخوه هذا، ويوسف عليه السلام، (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) فإخوته أَحَدَ عَشَرَ رجلاً غيره (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أبوه وأمه (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ).

ماهية الرؤيا
مفهوم الحلم أو المنام
الآن يوسف عليه السلام رأى رؤيا، في شرعنا ينبغي أن نفهم الرؤى، في علم النفس يقولون: الحلم أو المنام كما يسمونه، يعني ما يراه الإنسان في نومه، يقولون: هو تعبيرٌ عن رغباتٍ مكبوتةٍ في داخل الإنسان تخرج في حالة اللاوعي على شكل أحلام، هذا الكلام صحيح إلى حد كبير في موضوع المنامات، كثير من الناس يرى بعض الأحلام بناءً على حاجاته المكبوتة في داخله، فهو على سبيل المثال فقير يعاني ما يعاني ولديه طموح أن يجد يوماً ما مالاً أو كنزاً، فيرى في المنام، ونام على هذه الأفكار، فرأى في منامه أنه يخرج كنزاً من مكانٍ ما.
للفكاهة: أكل طعاماً يستدعي ماءً ونام ولم يكتفِ من الماء فيجد في نومه الشلالات والماء من حوله، رغبة مكبوتة من الداخل هو يريد أن يشرب، هذه عبر عنها القرآن:

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ
(سورة يوسف: الآية 44)

هذه أضغاث، يعني الإنسان عندما يرى منام غير واضح ينهض من نومه يقول لك: رأيت أشياء وخرجنا ودخلنا ولا يذكر تفصيلاً له، فنقول: هذه أضغاث أحلام، دعك منها ولا تأبه لها، أو عندما ينام وهو يفكر في امتحان الغد، عنده امتحان رياضيات غداً وقد أمضى النهار كله وهو يدرس له فيرى نفسه في الليل يحل المسائل كلها، وهذه كانت تحدث معي أنا أعرفها، أو حتى في الموضوعات الأدبية يراجع ما حفظه في النوم لأنه نام على ذلك، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يختم نهاره بالأذكار، ولمَّا قرأ:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(سورة البقرة: الآية 285-286)

الآيتان الآخيرتان من سورة البقرة، قال: واجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَقُول، يعني نم عليهنَّ وأنت تتلو هذه الآيات حتى يكون ليلك مع القرآن.
فهذه أضغاث أحلام، لكن هناك أحياناً ما يرى النائم في منامه من رؤيا من الرحمن واضحة جداً يرى نفسه في مكان جميل مع أشخاصٍ يحبهم ينهض وهو مستبشرٌ خيراً هذه رؤيا من الرحمن، وأحياناً يكون ذا معصيةٍ أو بُعدٍ عن الله فيرى في نومه مناماً يزعجه فيقوم من نومه ويقول لك أشعر بانقباضٍ شديدٍ، ويسميه العوام كابوس، جاءني كابوس، فينهض منزعجاً من هذا المنام، هذه مجموع المنامات، فالذي يرويه علماء النفس هو حالة من المنامات، وهي حالة ربما تكون متعددة وليست وحيدة، أنها رغبات مكبوتة تخرج في حالة اللاوعي، لا، لا بد أن نوقن أن هناك رؤىً تنبؤيةً، سيحصل الشيء الذي رأيته في المنام، هذا يحدث، وهذا يؤيده الواقع.

الرؤيا التنبؤية
رؤيا سيدنا يوسف رؤيا تنبؤية
لكن لا نريد الواقع أن يؤيده فقط، نريد النص قبل الواقع، النص يؤيده، النصوص تؤيد أن الإنسان قد يرى رؤيا تنبؤية، وهذا ما حصل مع يوسف وأثبته الله في قرآنه إلى يوم القيامة، فيوسف عليه السلام رأى رؤيا وتحققت بعد أربعين سنة كما في بعض المصادر، وبعد ثمانين سنة كما في مصادر أخرى، وربما الأقرب إلى الواقع أنها بعد أربعين سنة، فرأى هذه الرؤيا ثم تحققت هذه الرؤيا، فهي كانت تنبؤ.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:

{ الرُّؤيا مُعلَّقةٌ برِجْلِ طائِرٍ، ما لم يُحدِّثْ بها صاحِبُها، فإذا حدَّثَ بها؛ وقَعَتْ، ولا تُحدِّثوا بها إلَّا عالِمًا، أو ناصِحًا، أو لَبيبًا، والرُّؤيا الصَّالِحةُ جُزءٌ مِن أربعين جُزءًا مِنَ النُّبوَّةِ. }

(أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد)

إذاً ليس كل ما يراه الإنسان في نومه هو رغباتٌ مكبوتةٌ تخرج أو أضغاث أحلام وإنما هناك رؤىً من الرحمن يبشر الله بها عباده، لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن هذه الرؤى هي مبشرات يبشر الله بها عباده المؤمنين ومحذرات يحذر بها بعض عباده العاصين أو المنحرفين ولكنها ليست أحكاماً شرعيةً، فالأحكام الشرعية موجودةٌ في كتاب الله تعالى وفي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نراه في منامنا نستبشر به أو نحذر منه، لكننا لا نعتمد عليه في بعض الأحكام، أو نقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: افعل كذا أو لا تفعل كذا ويمضي بذلك ويبني عليه أحكاماً هذا لا ينبغي بحال.
بداية القصة ببشرى ونهايتها ببشرى
إذا عدنا إلى القصة، هذه القصة كما قلنا (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) كما سماها القرآن الكريم وكما سماها الله تعالى، فبدأها بهذه الرؤيا، رؤيا تنبؤية لشيء سيحدث، لبشرى بشَّر الله بها يوسف عليه السلام وهو النبي وبشَّر بها والده يعقوب عليهما السلام، بدأها ببشرى وأنهى القصة تقريباً بتفسير هذه البشرى، فهذا من روائع القصص القرآنية، يعني بدأ القصة مباشرةً بأن يوسف رأى الرؤيا ثم قصَّ عليك القصة من أولها إلى مختتمها لتتحقق تلك الرؤيا حقيقةً لما (رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) أي على سريره (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
(سورة يوسف: الآية 100)

انقلبت من رؤيا تنبؤية إلى حقٍّ وواقعٍ على الأرض (قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا) فهذا أيضاً من جميل القصص القرآنية.

سجود في رؤيا سيدنا يوسف سجود خضوع
جميع الشرائع واحدة
(إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا) كما قلنا إخوته (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) والسجود هنا ليس سجود العبادة، وهم سيسجدون له في آخر القصة، لكن سجود الخضوع، الآن هل يجوز في ديننا السجود لمخلوق، لبشر، في شرعنا؟ لا، لا يجوز، لا عبادةً ولا خضوعاً، لا لنبيٍّ ولا لغيره، فليس كل ما شرع لمن قبلنا هو شرعٌ لنا، لا شك أن معظم التشريعات في جميع الشرائع واحدة، لأن الدين عند الله واحد، فالتوحيد واحد، والعبادة واحدة، لكن قد تختلف بعض التفاصيل من شريعةٍ إلى شريعةٍ، لكن على جميع الأحوال لا يسجد إنسانٌ لإنسانٍ، ولو في شرع من قبلنا، لا يسجد إنسانٌ لإنسانٍ سجود عبادة، فالعبادة لا تكون إلا لله وحده، والأنبياء كلهم جاءوا بالتوحيد

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
(سورة الأنبياء: الآية 25)

فسجود العبادة لا يكون إلا لله، أما هذا السجود فهو الخضوع له بعد أن رأوا من كماله وعفته وطهارته وصبره وتقواه، فهنا السجود بمعنى الخضوع وليس بمعنى العبادة، فينبغي الانتباه.

ضوابط التحدُّث بالنعم
الآن يعقوب عليه السلام أُوتِيَ من العلم ما أُوتي وهو نبيٌّ من الأنبياء

قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
(سورة يوسف: الآية 5)

(قَالَ يَا بُنَيَّ) وهذا نداء تحبُّب (يَا بُنَيَّ) كان يحبه، (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ)، نحن إذا رأى أحدنا رؤيا في منامه فماذا يفعل بها؟ إذا رأى شيئاً يحبه فليحدِّث بها، طبعاً يحدِّث بها من يحب لا يحدِّث بها من يحسده، ولا يحدِّث بها من يكرهه ويبغضه وإنما يحدِّث بها أحبابه، يحدِّث بها والديه، يحدِّث بها إخوته، يحدِّث بها أصدقاءه المقربين، هذا توجيه النبي صلى الله عليه وسلم، يحدث بها، فليحدِّث بها، وإن رأى شيئاً يكرهه فلا يحدِّث به أحداً فإنه لا يضره، هذا توجيه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: (وَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا)

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يَكْرَهُهَا فَلْيَتَحَوَّلْ وَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَسْأَلِ اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا }

(صحيح ابن ماجه)

وكل ذي نعمةٍ محسودٍ
يتفل: يعني يبصق، وليس البصق مع اخراج شيء، بمجرد التفل من أجل أن يعني حركة تؤدي في داخل الإنسان بشعور بأنه قد أبعد هذا الحلم الشيطاني عنه، فالآن هذا المنهج النبوي وهو منهج القرآن أيضاً في قصة يوسف عليه السلام لأنه قال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ) هي رؤيا طيبة وجميلة وما عاب عليه أنه قصها عليه فهو والده الذي يحب له كل خير، ولكن يعقوب عليه السلام يعلم الحسد الذي في قلوب إخوته، فقال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ) وهذا درسٌ بليغٌ لنا، يا أخي؛ لا تحدِّث بالنِعَم إلا من يحبك، وقد قيل وهو لا يصح حديثاً: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) وإن كان معناه صحيحاً وورد مرفوعاً لكن لا يصح حديثاً فيه ضعف شديد، لكن (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان) لنقل إنها حكمة (وكل ذي نعمةٍ محسودٍ)، الإنسان يحدِّث بالنِعَم، الآن قد يقول لنا قائل:

وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
(سورة الضحى: الآية 11)

يا أخي هذه نعمة الإسلام حدِّث بها، نعمة القرآن حدِّث بها، نعمة الهواء حدِّث بها، نعمة الصحة والعافية حدِّث بها، لكن إن جاءك مبلغٌ من المال فلست ملزماً أن تحدِّث الناس به، وإن تاجرت فربحت فلست ملزماً أن تحدِّث الناس بتجارتك وربحك، فإن كان الذي أمامك فقيراً كسرت قلبه، وإن كان الذي أمامك مبغضاً حسدك، فلا تحدِّث بأمورك الشخصية إلا من يحبك من أهل الإيمان، وكن حكيماً في ذلك فلا تحدِّث بالمال فقيراً ولا تحدِّث بالصحة مريضاً، فتجلس في مجلس فتقول: الحمد لله أمس قمت بتحاليل وكل التحاليل جيدة، صحة مئة في المئة، والذي أمامك عنده عدة أمراض في جسمه، فهذا ليس من الحكمة، فالمؤمن حكيم، يأخذ ويشتق من اسم الله الحكيم.

مبعث الكيد هو الشيطان
فقال: (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ) ما التعليل؟ قال: (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)، الإنسان يكيد، وغالباً الكيد يقوم به الضعفاء ولا يقوم به الأقوياء، الكيد: مؤامرة، تكيد له: تتآمر عليه، تقوم بحيلةٍ للوصول إلى مأربك منه، فالكيد لا يقوم به إلا الضعفاء، الأقوياء يعني يفعلون فوراً يواجهون مباشرةً لا يكيدون، الكيد للضعفاء وليس لأصحاب الحقوق، فإن سألتني إن الله تعالى يقول:

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا
(سورة الطارق: الآية 15-16-17)

قلت لك هذا من باب المشاكلة، فكيد الله ليس كيداً بالمعنى اللغوي والحرفي للكلمة ولكنه ردٌّ على كيدهم فمن باب المشاكلة قال: (يَكِيدُونَ) (وَأَكِيدُ) أي أرد على كيدهم، ومثل ذلك:

وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ
(سورة الأنفال: الآية 30)

نسب الحسد إلى الشيطان
فهو من باب المشاكلة، وليس مكر الله كمكرهم وإنما مكر الله تأديبٌ لهم على مكرهم، كأن تقول: قاتلني فلانٌ فقاتلته، أو عاقبته، هو الذي بدأ القتال لكن أنت من باب المشاكلة تقول قاتلته، وهذا موجود عند أهل العربية، (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) يعني يقومون بمؤامرة من أجل الإيقاع بك، أو الإضرار بك، إذاً علل يعقوب عليه السلام منعه لابنه من أن يقص ما رآه في المنام على إخوته خشية الكيد (لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، مبعث الكيد هو الشيطان، فهنا يعقوب عليه السلام رغم معرفته بما يُكِنُّ هؤلاء في صدورهم من حسدٍ لأخيهم يوسف لكنه لم ينسب الفعل لهم، فلم يقل: إنهم أعداءٌ لك، ولكن قال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) وهذا تأدبٌ وحكمةٌ في التعامل مع الأولاد، فلو قال له: إن إخوتك لك أعداء، فهو يربي بينهم عداوةً لا داعي لها، رغم أن يعقوب يعلم أنهم يعادونه لكنه لم يقل: إنهم أعداءٌ لك، ما نسمعه اليوم من بعض الأمهات والآباء من ايقاع العداوة بين الأبناء بكلام لا مبرر له هذا شيء سيء، أو أحياناً بأفعال لا مبرر لها، كأن يخصوا أحد الأولاد بشيء ولا يعطون الآخر، فقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) فالشيطان قد يفرق بينك وبين إخوتك، تعلّم يوسف عليه السلام هذا الدرس فلما (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) قال: (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فلم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوه بي، بعد كل ما فعلوه به قال: (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) تعلّم الدرس من والده قبل أربعين سنة لمَّا قال له: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) فنسب الفعل للشيطان ولم ينسبه إلى إخوته، وهذه النسبة صحيحة فهو الشيطان يوسوس لكنه تأدب مع إخوته.

أساليب الشيطان في عداوته للإنسان
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، (عَدُوٌّ مُّبِينٌ): أي عداوته ظاهرة لا تخفى على أُولِي الْأَلْبَاب وأُولِي العقول الراجحة، عداوة الشيطان ظاهرة فلماذا يتخذه الإنسان صديقاً؟ قال تعالى:

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا
(سورة فاطر: الآية 6)

أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
(سورة يس: الآية 60-61)

تزيين المعصية للإنسان
يعاتب الله عزَّ وجلَّ من اتخذ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مع أن الله عزَّ وجلَّ قال: هو عَدُوّ، كيف تكون عداوة الشيطان المبينة الظاهرة؟ الآن أول شيء في عداوة الشيطان أنه يُزين المعصية لمرتكبها، هل سمعت بشيطان يوسوس لإنسانٍ فيقول له مثلاً: عن مضار السرقة وعن نتائج السرقة المهلكة ثم يأمره أن يسرق؟ أبداً، الشيطان يقول له: هذه ليست سرقة، هذا حقٌّ لك عند الدولة مثلاً ولكنها لا تعطيك حقك فقم وخذ حقك بيدك، فيزينها له، هو لا يقول له: قم إلى الزنا ولكنه يقول له: إن العلاقة بين الرجل والمرأة لا ينبغي أن تكون دائماً علاقةً محرمةً وليس كل علاقة بين رجلٍ وامرأةٍ هي علاقةٌ محرمةٌ فقد تبني معها صداقةً مشروعةً فتتهذب نفسك وتتهذب نفسها وضمن العفة وضمن الطهارة فيبدأ ويزين له المعصية

وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ
(سورة النمل: الآية 24)

يعني لو جئت بقمامة ووضعتها في علبة وغلفت العلبة بغلاف أنيق جداً ووضعت عليها شريطة حمراء هل تصبح هديةً ثمينةً؟ تبقى قمامة، لكن الشيطان يزين المعصية للإنسان، المعصية معصية ومهلكة ونتائجها مدمرة إلا أن الشيطان يزينها.
الأمر الثاني في عداوة الشيطان وفي أساليبه التي يفعلها أنه يخطو بالإنسان إلى المعصية خطوةً خطوةً، فانتبه، قال تعالى:

لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
(سورة النور: الآية 21)

كيف (خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)؟ لو قال لإنسان مؤمن من أسرة مسلمة يصلي، لو قال له: قم إلى الزنا لنفرت نفسه واستعاذ بالله من الشيطان فوراً، لكنه يقول له: قم إلى الصداقة ثم إلى المصافحة ثم إلى الخلوة ثم يقع بالزنا وحده من غير أن يأمره الشيطان، نظرةٌ، فموعدٌ، فابتسامةٌ، فلقاء.
التراتبية في المعاصي
الإنسان ديناميكي، حركي، يستغل الشيطان هذه الديناميكية في الإنسان لجانب الشر، نحن يجب أن نستغلها لجانب الخير، لأن الإنسان إذا بدأ بمعروف يقوده المعروف إلى معروفٍ آخرٍ، وإذا بدأ بصدقةٍ تقوده الصدقة إلى صدقةٍ أخرى، وهكذا، هذه الديناميكية خلقها الله من أجل أن نرقى إلى الله، لكن الشيطان يستغلها بالمعنى المعاكس فيقود الإنسان إلى النار من خلال تراتبية في المعصية؛ من معصية إلى أكبر إلى أكبر إلى أن يقع المحظور.
من أساليب الشيطان في عداوته الظاهرة للإنسان أنه يتبرأ من الإنسان بعد وقوع المعصية، يتبرأ منه

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ
(سورة إبراهيم: الآية 22)

هذه عداوة الشيطان الظاهرة المبينة للإنسان، وقد وصف الله لنا هذا العدو بكل الصفات وكيف فعل وكيف تكبر وكيف خرج من الجنة وكيف أخرج أبانا من الجنة ثم إن بعض الناس يتخذونه ولياً بدلاً من أن يتخذوه عدواً، عداوته مبينة، ظاهرة، لا تخفى على العقلاء.

النبوة اصطفاءٌ من الله

وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(سورة يوسف: الآية 6)

الاجتباء هو الاصطفاء والاختيار
الاجتباء هو الاصطفاء والاختيار، (وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) (الكاف) هنا للتشبيه (وَكَذَٰلِكَ) كأن هناك شيء قبلها، ما هو الذي قبلها؟ الذي قبلها أن هذه الرؤيا التي قصها يوسف على أبيه كانت بشارةً للاجتباء، يعني بدأ اجتباء يوسف من لحظة هذه الرؤيا وهو طفلٌ صغيرٌ، (وَكَذَٰلِكَ) يعني وكما أن الله تعالى أراك هذه الرؤيا فقد كان ذلك اجتباءً من الله لك.
النبوة أحبابنا؛ اجتباء، أهل السنّة يقولون: النبوة اصطفاءٌ من الله، هبةٌ من الله، وليست كسباً، يعني لا يوجد إنسان يتخلق بالأخلاق العالية ويتصل بالله اتصالاً كبيراً ويقوم الليل فيصبح نبي، لا، مهما فعل لن يصبح نبياً، النبوة اصطفاءٌ من الله، لكن هل هذا الاصطفاء على علم أم على غير علم؟ حاشاه تعالى، هو على علم، حتى نكون متوازنين، يعني بكتب العقيدة تقرأ النبوة كسبٌ أم وهبٌ؟ النبوة وهب، لا نقول غير ذلك، لكن هذه الهبة أليست عن علم؟ بلى، كانت عن علمٍ من الله بهذا النبي الكريم وبما يحمله والله يعلم ما كان وما سيكون، فعلم الله ما في هذا النبي من مؤهلات الاجتباء فاجتباه واختاره، لكن الله عزَّ وجلَّ يصطفي من خلقه، لا يصطفي أنبياء من خلقه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه يصطفي أهل القرآن وهم أهل الله وخاصته يصطفيهم الله تعالى، فالله يصطفي من خلقه من يشاء، بالقرب منه، بقراءة القرآن، بالعلم، بالصدقات، بالحب يصطفي من يشاء من خلقه، لكن اصطفاء النبوة من الله عزَّ وجلَّ انقضى باصطفاء محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

التأويل هو العلم بالنهايات
بيان ما تؤول إليه الأمور
(وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) قالوا (تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ): هو تفسير الرؤى، وهذا ما سنجده في تتمة القصة فقد فسر لصاحبي السجن وتحققت رؤيته التي رآها، وفسر رؤيا الملك وبسببها أصبح عزيز مصر، فقالوا هنا (تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ): أي تبيان الرؤى والأحلام ومآلاتها، ما معنى المآلات، التَأْوِيل)؟ هل يختلف التَأْوِيل عن التفسير؟ يختلفان، التفسير هو بيان المعنى، من فَسَرَ، هو بيان المعنى، أقول لك: فسِّر لي هذه الجملة، تفسرها تبين معناها، التَأْوِيل: بيان ما آلت إليه الأمور فيما بعد، ما تؤول إليه الأمور، نقول في اللغة العربية: آلت الأمور إلى فلان، أي أصبح منتهاها إليه، فأنا عندما أقول لك أَوِّل لي هذه الرؤيا، أي بيِّن لي إلى أين ستنتهي، نهايتها، مقصدها، ما الذي سيتحقق من ورائها؟ فهنا جاء بالتأويل لأن الرؤى والأحلام تأويلها يعني وقوعها.

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
(سورة آل عمران: الآية 7)

تأويل القرآن الكريم
هنا وَقْف، هذا هو الأرجح والصحيح (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) يعني المآلات النهايات لا يعلمها إلا الله (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ ) فالتأويل هو أن تعلم النهايات، لذلك القرآن الكريم له تأويل، من تأويله كما قال العلماء: وقوع الوعد والوعيد، فلما توعد الله أنه يمحق الربا، فإذا رأيت مرابياً قد محق ماله وما أكثرهم هذا تأويل القرآن الكريم، هذا تأويل الآية؛ وقوعها.

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ
(سورة البقرة: الآية 276)

إذا رأيت إنساناً يتصدق الظاهر أنَّ ماله ينقص لكنك تجده تجارته تتنامى وهو في أعلى مكان، كيف حصل ذلك؟ هذا تأويل قوله تعالى: (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ).
إذا قال الله تعالى:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
(سورة طه: الآية 124)

فأنت عندما تنظر إلى إنسان أعرض عن ذكر الله وتجد في قلبه الانقباض، ويكون يملك المليارات ويقول لك: لا أشعر بالسعادة، هذا تأويل قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا).
فإذا وجدت إنساناً فقيراً لا يملك إلا قوت يومه وقال لك: أنا سعيدٌ بالله ورأيته يصلي ويبكي من غمرة السعادة التي تغمره بالاتصال بالله تعالى، هذا تأويل قوله تعالى:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
(سورة النحل: الآية 97)


التأويل والتدبر والتفسير
هذا التأويل، التأويل وقوع الوعد والوعيد، وقوع الآية، وقوع مفهوم الآية، طيب التدبر؟

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
(سورة محمد: الآية 24)

التدبر أن تنظر أين أنت من هذه الآية، هل أنا مطبِّق لما فيها أم لا؟.
أصبح لدينا: تفسير، وتأويل، وتدبر.
- التدبر: أن تعايش الآية وترى ما علاقتك بها، وهل أنت فعلاً مطبقٌ لمضمونها أم لا.
- التأويل: أن تنظر في المآلات.
- التفسير: أن تفهم المعنى .
فهنا قال: (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) فتقول لصاحبي السجن سوف يقع كذا؟ فوقع كذا، وتقول للملك:

تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
(سورة يوسف: الآية 48)

كانت سبعاً

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
(سورة يوسف: الآية 49)

حصل، هذا (تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ).
نعمة الرسالة والنبوة
(وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) النعمة هنا هي نعمة الرسالة والنبوة، والدليل: (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ) الجد يسمى أباً لغةً، فأبويه هما جداه (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ)، (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ) وهما جدا يوسف عليه السلام (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ).

تلازم العلم والحكمة
العلم من غير الحكمة يهلك صاحبه
(إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عَلِيمٌ حيث يضع رسالته، وحَكِيمٌ في وضعها في المكان المناسب، والعلم والحكمة كثيراً ما تأتيان متلازمتان في أسماء الله الحسنى، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) العلم بغير حكمة يهلك صاحبه، لو طبقنا هذه الصفات لله عزَّ وجلَّ على واقع البشر، العلم من غير الحكمة يهلك صاحبه، عنده معلومات لكنه لا يحسن الكلام، ولا يحسن أن يتكلم في الوقت المناسب مع الشخص المناسب في المكان المناسب، فالحكمة أهم من العلم

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
(سورة البقرة: الآية: 269)

(خَيْرًا كَثِيرًا) هذه لم تأتي في العلم لكن جاءت في الحكمة، لأن العلم من غير حكمة يهلك صاحبه، أحياناً تجد من الكبار في السن الذين لم يقرؤوا ولم يتعلموا تجد من حكمتهم ما لا تجده فيمن أخذوا الشهادات العالية، يتكلم بحكمة، يعرف كيف يتصرف، أحياناً تجد من امرأةٍ لا تقرأ ولا تكتب في تعاملها مع زوجات أبنائها وفي محبتهم لها وفي فدائهم لها بأنفسهم وبمالهم من شدة محبتهم لها مالا تجده في امرأةٍ متعلمةٍ تناكف زوجة ابنها وتقلب حياة ابنها وحياة بيتها جحيماً لا يطاق، هذا واقع، الحكمة، اطلبوا من الله الحكمة، قولوا: ربنا آتنا الحكمة، لأن الحكمة أهم من العلم، ربنا عزَّ وجلَّ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) علمه يأتي بحكمة ليضع الأمور في مواضعها (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
والحمد لله رب العالمين