• محاضرة في الأردن
  • 2020-07-13
  • عمان
  • الأردن

في معيَّة الله

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من منا لا يحب أن يكون مع الله
أيها الإخوة الأحباب: موضوعنا اليوم بعنوان في معيَّة الله، من منا لا يحب أن يكون مع الله، وأن يكون الله معه! ربنا عز وجل في قرآنه، وعن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم في سنّته له قوانين للمعية، أهل الأرض من الأقوياء والأغنياء ربما لا تجد قانوناً للتعامل معهم لتكون معهم، فهم يقرّبون من يحبون ويبعدون من يكرهون دون قوانين أو ضوابط، دون سنن، يحب فلاناً لأنه من طرف زوجته فيقربه، ويبغض فلاناً لأنه من طرف شخصٍ لا يحبه فيبعده، فلا تجد طريقةً لتكون معه إلا العشوائية والمزاجية، لكن ربنا عز وجل رسم لنا طريق معيته في كتابه، فإذا أردت أن تكون مع الله وأن يكون الله معك فاقرأ في كتابه تجد قوله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(سورة البقرة: الآية 153)

أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
(سورة البقرة: الآية 194)

وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
(سورة الأنفال: الآية 19)

وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
(سورة العنكبوت: الآية 69)

فالله عز وجل يرسم لنا الطريق لنكون في معيته.

معية الله العامة
بادئ ذي بدء؛ معية الله نوعان: هناك معية عامة، وهناك معية خاصة.
المعية العامة: لجميع البشر بل لجميع المخلوقات، قال تعالى:

وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
(سورة الحديد: الآية 4)

هذه المعية العامة للمؤمن ولغير المؤمن، للإنسان ولغير الإنسان، فهو مع مخلوقاته جميعاً بالعلم

وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
(سورة الأنعام: الآية 59)

كل شيءٍ يجري بقدر الله
فهو جلَّ جلاله معنا بعلمه، ومعنا بقدرته، فأي حركة في الكون تجري؛ تجري بعلم الله فاطمئن، كله يجري بقدر الله، حتى الفيروسات التي لا ترى بالعين المجردة هي بعلمه جلَّ جلاله، لا يجري شيءٌ في الكون لا يعلمه الله، بل إنه لا يليق بألوهية الإله أن يجري في ملكه شيءٌ لا يريده، حتى لو وقع شرٌّ في ظاهره، في نظرنا هو شر، فهو في علم الله، ولكن الله عز وجل أراد أن يقع هذا الشر لحكمةٍ عَلِمَها من عَلِمَها وَجَهِلَها من جَهِلَها، فهذه المعية العامة، هذه ليست مدار حديثنا، فكلنا في معية الله بهذا المعنى، بل نشترك مع جميع المخلوقات بأن الله عز وجل معهم جميعهم بعلمه وبقدرته، هذه المعية العامة.

معية الله الخاصة
لكن حديثنا عن المعية الخاصة: متى يكون الله مع الإنسان معيَّةً خاصةً؟ ما معنى معية خاصة؟ هي معية تأييد، حفظ، نصر، توفيق، تأييد، هذه معيةٌ خاصةٌ، هذه لها قوانين ليست لكل البشر فالله تعالى مع الكل بعلمه لكنه مع فئةٍ من خلقه بتأييده ونصره وتثبيته وتمكينه وتوفيقه وتحبيب الخلق به، فإذا كان الله معك فمن عليك! وإذا كان عليك فمن معك! ويا رب ماذا فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ وَماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ.
مَـن فاتهُ مِنـك وَصلٌ حظـهُ النّـــــــدم ومَـن تـَكـُن هَـمّـه تـسمـو بـه الهِـِـمَـــمُ وناظـرٍ في ســـوى مَعـناك حُـقّ لـــــه يُــقـتـصّ مِـن جَــفنه بالدمـع وهـو دمُ في كـُـل جارحة عـيـنٌ أراك بـهـــــــــــــا مِـنـّى وفـى كـُـل عـضـو للثـنـاء فـَـــــــمُ فـإن تكلـمـت لـم أنـطِـق بغيركــــــــــــــــم وإن ســـكتُّ فـشغـلـي عنـكـمُ بكــــــــــــــمُ أخذتـُـم الروح مـني في مُـلاطــفــــــــــة فـَـلستُ أعـرف غـَــيراً مُـذ عَـرفتكـــــــــمُ تركـتُ كـل طريـقٍ في محبتـكــــــــــــــــــم إلا طـريـقـــاً تــُودي بي لِـرَبــعِـكـُـــــــــــــمُ
{ علي بن وفا }
هذه المعية الخاصة، معية التأييد والحفظ والنصر، هذه لها قوانين في كتاب الله:

1. الله مع الصابرين

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(سورة البقرة: الآية 153)

الصبر علامة معرفة الله
الصبر علامة معرفة بالله، لذلك الله تعالى (مَعَ الصَّابِرِينَ) لأن الصابر يعرف ربه، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالْصَّبْرِ) وكان يقول: (الصَّبرُ مَطِيَّةٌ لا تَكْبُو)، ما معنى ذلك؟ كنت أفكر بهذا المعنى الذي يقوله عمر رضي الله عنه؛ كيف "وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالْصَّبْرِ"؟ الإنسان يجد خير عيشه في الشكر، النِعم موجودة؛ الأولاد حوله، الطعام موجود، الشراب موجود، فيجد خير عيشه بالشكر، لكن أن يجد خير عيشه بالصبر فهذا أمر عجيب، حتى قرأت قولاً آخر: (لَوْ كَانَ الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ بَعِيرَيْنِ ، مَا بَالَيْتُ أَيُّهُمَا رَكِبْتُ)، بمعنى: أنت لك هدف، هدفك أن تصل إلى الله فإذا كان الصبر يوصلك إلى الله فنِعمَّ الصبر، وإذا كان الشكر يوصلك إلى الله فنِعمَّ الشكر، فمهمتك أن تصل إلى الله وأن تخرج من دار الدنيا بسلام، فما الذي يوصلك؟ قد يوصلك الصبر وقد يوصلك الشكر، فما اختاره الله لك فهو الخيار الذي ينبغي أن تحمد الله عليه، بعض الناس؛ الله عزَّ وجلَّ يبتليهم بالنِعَم، يختبرهم بها، فيشكرون الله عليها وينفقون منها لإطعام المساكين والمحتاجين فيصلون إلى الجنة من خلال باب الشكر، وبعض الناس يبتليهم الله عزَّ وجلَّ ببعض الشر؛ بصرف النِعَم عنهم، أيضاً يبتليهم، فيصبرون، فيصلون إلى دار الجنة بصبرهم، ففي المحصلة يصل الاثنان إلى الله، بعضهم يصل بالصبر وبعضهم يصل بالشكر، وكلنا في محصلة الأمر نمرُّ في حياتنا بين صبرٍ وشكرٍ

{ عَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ، وليس ذلك لغير المؤمن }

(أخرجه مسلم)

المؤمن فقط في حال السَرَّاء يصل إلى الله وفي حال الضَرَّاء يصل إلى الله، في الحالتين يحقق مبتغاه، إذاً أول معية لله عزَّ وجلَّ هي معية الصابرين، فالله مع الصابرين، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(سورة البقرة: الآية 153)


الصبر والصلاة
الصبر جزء من الصلاة
ما معنى (بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)؟ الصبر قدَّمه على الصلاة من تقديم العام على الخاص، الصبر أعم من الصلاة، لأن الصلاة فيها صبر، ألا تصبر نفسك وأنت تقف بين يدي الله! هذا صبر، فالصلاة جزءٌ منها صبرٌ، فقدَّم العامَّ على الخاص قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وكما قلت لكم: الصبر علامة المعرفة، سأضرب مثالاً: لو أن إنساناً ذهب إلى طبيب أسنان وهو رجل كبير في السن، رجل وقور، وقال له طبيب الإنسان: لن أستطيع أن أخدرك، يوجد لديك مشكلة لا ينفع معها التخدير، سأجري هذه العملية الإصلاحية لأسنانك وستؤلمك قليلاً لكن تحمل لأن النتيجة لخير، فهذا الرجل يجلس على الكرسي ويتشبَّث به وينتظر حتى ينتهي الطبيب من عمله ولا ينبس ببنت شفة، بل إذا فرغ الطبيب من عمله قام إليه وتشكره وأعطاه أجره، لو جاء طفلٌ صغير وجلس على كرسي طبيب الأسنان ما الذي يصنعه؟ يقيم الدنيا ولا يقعدها، وقد يشتم الطبيب، لماذا لم يصبر؟ لأنه لم يدرك أن الطبيب يقوم بعمل من أجله، الكبير صبر لأنه أدرك أن الطبيب صاحب خبرة، وصاحب علم، وصاحب حكمة، وما يقوم به إنما يقوم به لمصلحته، هذا المؤمن وغير المؤمن، المؤمن يدرك أن الله عزَّ وجلَّ لا يسوق له إلا الخير؛ وإن كان مرضاً لكنه يتلمس حكمة الله فيه، فيقول: لعل الله يرفعني به درجة أو يكفر عني به خطيئة.

{ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ وَهُوَ وَجِعٌ بِهِ الْحُمَّى .... فقال: لَا تَلْعَنِيهَا فَإِنَّهَا تَغْسِلُ - أَوْ تُذْهِبُ - ذُنُوبَ بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ }

(أخرجه الحاكم في المستدرك)

الصابر يعرف ربه
فيدرك أن كل ما يصيبه هو خيرٌ له فيصبر لأنه يعلم حكمة الله تعالى جلَّ جلاله فيما يسوقه له، بينما غير المؤمن يتأفف من أي شيء يصيبه؛ لمَ حصل معي هذا؟ ما الذي فعلته؟ دائماً في حالة سخط مستمر لأنه لا يدرك حكمة العظيم جلَّ جلاله فيما يسوقه له، هذا المؤمن وغير المؤمن، فالصابر يعرف ربه، ويدرك أن الله عزَّ وجلَّ ساق له من الشدائد ما يؤهله ليكون في جنان الخلد، فهي مصائب مؤقتة لكن بعدها خيراً كثيراً فيصبر، هذا الصبر.

أنواع الصبر
والصبر إخواننا الكرام؛ كما تعلمون جميعاً ثلاثة أنواع:

صبرٌ على الطاعة:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
(سورة طه: الآية 132)

المؤمن يصبر على طاعة الله
(اصْطَبِرْ) مبالغة من الصبر لأن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) يعني أكثر من الصبر على الصلاة، فالصلاة تحتاج صبراً، والصيام يحتاج صبراً، بل إن الصيام عبادة الصبر؛ نصبر عن الطعام والشراب ابتغاء مرضاة الله، والزكاة تحتاج صبراً، والحج يحتاج صبراً، وكل عبادة وكل خلق يحتاج إلى الصبر، فالصبر على الطاعة هو أول أنواع الصبر، أن تصبر على طاعة الله، غيرك قد لا يصبر، فيترك الصلاة، وغيرك قد لا يصبر فلا يصوم، فالمؤمن يصبر على طاعة الله.

صبرٌ عن معصية الله
الصبر عن المعصية
لو كنت تمشي في الشارع وظهرت امرأةٌ متبرجة لا يحل لك النظر إليها، فغضضت البصر عنها، هذا صبر، تصبر عن الشهوة فلا تطلق بصرك في الحرام، ولو كنت في مركزٍ مرموق وحساس وجاءك مبلغٌ مالي لا ينبغي أن تأخذه، رشوة، فتصبر عن المعصية وترفضه، هذا صبر، صبرٌ عن المعصية، فيصبر على الطاعة ويصبر عن المعصية.

صبرٌ على قضاء الله وقدره
مهما يكن القضاء، ما دام قضاءً من الله عزَّ وجلَّ فيتلقاه بالصبر، قال تعالى يصف أيوب في آية تثلج الصدر؛ يقول تعالى عنه:

إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
(سورة ص: الآية 44)

ألا تحب أن يجدك الله صابراً؟ يجدك صابراً يعني يعلم منك هذا الصبر على قضائه وقدره؛ يارب ما دام هذا قرارك وما دام هذا قضاؤك وقدرك فأنا أتلقاه بالقبول، سواءً أسعدني أو أحزنني، انتبه، عندما كان الإمام الشافعي يطوف بالبيت فسمع رجلاً يقول: يارب ارضَ عني، قال له: "وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟ قال: يا هذا يرحمك الله ومن أنت؟ قال: أنا محمد بن إدريس الشافعي، قال: وكيف أرضى عنه وأنا أطلب رضاه؟ قال: يا هذا إذا كان رضاك بالنقمة كرضاك بالنعمة فقد رضيت عن الله".
طبعاً الإنسان يحزن للنقمة، يعني إذا جاءه المرض، وهو لا يطلب المرض أصلاً ولا يحبه لكنه يصبر عليه، يرضى به، يارب أنا راضٍ بقضائك وقدرك، يحمد الله على ما جاءه من الله، سواءً هذا أدخل السرور إلى قلبه أو أدخل الحزن إلى قلبه لكنه يرضى به، هذا هو مقام الرضا، فالصبر يكون على الطاعة وعن المعصية وعلى قضاء الله تعالى وقدره.

2. الله مع المتقين
قال تعالى:

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
(سورة البقرة: الآية 194)

الرضا بقضاء الله وقدره
إذا كنت متقياً كان الله معك، تخيل هذه المعية، إن قال لك رجل ذو شأن في الدولة: اذهب أنا معك، قد لا ينام الليل لأيام وهو يترنم بهذه الكلمة، لا ينام الليل من الفرحة، يقول لك: أستطيع الآن المشي كما أريد، فالمؤمن إذا شعر أن الله معه؛ قال له الله: أنا معك، فكيف ينام الليل؟ بسعادة، نهاره بسعادة، لأن الله معه، فالله تعالى (مَعَ الْمُتَّقِينَ) قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) التقوى مأخوذة من الفعل وقى، من الوقاية.
التقوى اختيار ما يرضي الله
سُئل أبو هريرة يوماً ما التقوى؟ قال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ يعني مشيت في طريق فيه أشواك، قال: نعم، قال: فماذا صنعت؟ قال: كنت إذا مررت به أبعدته أو جاوزته، يعني أبتعد عنه أو أتجاوزه المهم ألا يؤذيني الشوك، قال: فذلك التقوى، أفهمه التقوى من مثال عملي، فالتقوى أنك إذا أخذت طريقاً فيه معصية فإنك تتقي الوقوع فيها فتكون متقياً لله، هذا الطريق لا يرضي الله لا أدخله، هذه الصفقة فيها شبهة تؤدي إلى دخل من مال لا يرضي الله إذاً أتقيها.
قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
(سورة آل عمران: الآية 102)

سئل ابن مسعود رضي الله عنه: ما (حَقَّ تُقَاتِهِ)؟ قال: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكُرَ فَلَا يُكْفَرَ) أن تطيعه فلا تعصيه، ولكنه تعالى يقول:

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ
(سورة الأعراف: الآية 201)

المتقي يمسه طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَان لكنه يتذكر فوراً، لا يستمر في المعصية، لا يستمرئها، لا يداوم عليها، يمسه طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَان، لن ينقضي العمر ويذهب الشيطان، أبداً.
القصة تروى عن الإمام أحمد ولها رمزية: أنه لما كان على فراش الموت كان يقول: لمَّا، لمَّا فلما صحا قليلاً وهو في النزع قالوا له: لماذا تقول: لمَّا؟ قال: جاءني الشيطان فكان يقول لي: نجوت يا أحمد، نجوت مني، فكنت أقول: لمَّا. مادام هناك نفس يخرج ويدخل فما زال هناك طريق للشيطان إلي. (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) تذكروا بمعرفتهم بالله، تذكروا بإيمانهم بالله، تذكروا بأيامهم مع الله، (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) لا يعني مبصرون أنهم ذو بصر، لكن يعني أنهم ذو بصيرة، البصيرة في القلب (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) رأوا الحقائق، رأوا أن هذا الطريق إذا استمرينا به نتيجته الهلاك (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)

وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ
(سورة الأعراف: الآية 198)

المؤمن يبصر نهاية الطريق
فأحياناً الإنسان ينظر ولا يبصر، لكن المؤمن يبصر، يبصر نهاية الطريق، يعلم أن طريق المعصية نهايته الهلاك فيتذكر، فأَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكُرَ فَلَا يُكْفَرَ، لأن من مضادات الشكر الكفر، ليس الكفر الأكبر الذي هو عدم الإيمان بالله، لكن عندما تأتيك النِعَمُ من الله عزَّ وجلَّ؛ ولا يشكرها الإنسان فقد كفرها، قال تعالى:

لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ
(سورة إبراهيم: الآية 7)

إذاً مضاد الشكر هو الكفر، والعياذ بالله، كفر النعمة.

3. الله مع المحسنين
إخواننا الكرام: (اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ثم (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) قال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
(سورة النحل: الآية 128)

فالله تعالى مع المحسن، المحسن في معية الله.

المعنى اللغوي والشرعي للإحسان
إخواننا الكرام: أولاً: الإحسان له معنى لغوي وله معنى شرعي والمعنيان يتكاملان.
المعنى اللغوي: الإحسان هو الإتقان، قال تعالى:

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
(سورة السجدة: الآية 7)

يعني أتقنه، يعني خلقه على أفضل صورة.

{ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ ما الإحْسَانُ؟ قالَ: الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ }

(صحيح البخاري)

المعنى الشرعي من حديث جبريل عندما سأله: (أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ) يعني كأنهما مرتبتان، المؤمن يعبد الله كأنه يراه (أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ) يصل إلى مرحلة يراقب الله وكأنه يراه بأم عينه، مع أن الإنسان لا يرى الله في الدنيا، لكن سيراه المؤمن يوم القيامة؛ لكن يعبد الله كأنه يراه، (فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ) يعني على الأقل أن تدرك أنه يراقبك، فهما مرتبتان.
إتقان العمل من الإحسان
الآن كيف يلتقي المعنيان اللغوي مع الشرعي؟ الإنسان الذي يعبد الله كأن الله يراه لا يمكن إلا أن يتقن عبادته وأعماله لأن الله مطلعٌ عليه، فإذا صلى يعلم بين يدي من يقف فيحسن صلاته، وإذا عامل زوجته يعلم أن الله تعالى يراقبه إن ظلمها فيحسن معاملتها، وإذا عامل أولاده يعلم أن الله تعالى رقيبٌ عليه فيحسن تربيتهم، والمعلم في صفه إذا وقف بين طلابه يعلم أن الله يراه فيحسن تعليمهم وتربيتهم وتأديبهم بما يرضي الله، والموظف في مكتبه إذا جلس خلف طاولته وجاءه المراجعون يدرك أن الله يراه فيحسن التعامل مع مراجعيه، بهذا المعنى يكتمل اللغوي مع الشرعي.

أنواع الإحسان
فالإحسان بابه واسع، من الإحسان:

الإحسان بين الزوجين
الإحسان إلى الزوجة، وإحسان الزوجة إلى الزوج، بعض النساء يَكْفُرْنَ العَشِيرَ

{ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ، يَكْفُرْنَ قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ }

(صحيح البخاري)

وأيضاً هناك رجال لا يحسنون إلى زوجاتهم، والله تعالى يقول:

فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا
(سورة النساء: الآية 34)

الله يراقبك في تعاملك مع زوجتك، ويراقبها في تعاملها مع زوجها، فهذا الإحسان إلى الزوجة.

الإحسان إلى الأولاد
أيضاً هناك الإحسان إلى الأولاد، ذكر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح:

{ عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ }

(صحيح مسلم)

السيدة عَائِشَةَ قَالَتْ: (فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ) إخواننا الكرام؛ هذا بيت سيد الخلق وحبيب الحق، السيدة عائشة عندها تمرة واحدة لا يوجد غيرها.
الإحسان إلى البنات في الإسلام
(مَنِ ابْتُلِيَ) يعني أن البنات بلاء؟! ابتلي يعني اختبر، هذا المعنى اللغوي وليس معنى الناس، اختبر بهنَّ، وقد يختبر بالذكر أيضاً، لكن الاختبار بالإناث عند العرب أشد لأن البنت تحتاج إلى إحسان أكثر، الشاب كان في وقت مبكِّر جداً يقف مع والده وفي الحروب، فكانت البنت تحتاج إلى إحسان أكثر، فلذلك سماه ابتلاء؛ هو اختبار وليس بلاء من الله، لا، كما يفهمه الناس أنه بلاء من الله، لا، معاذ الله، من ابتلي يعني من اختبر، اختبره الله بأن أرسل له بنات (فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) فالإحسان يكون إلى الأولاد، وعلى وجه الخصوص إلى البنات، يعني خصَّها النبي بالإحسان زيادة لأنها بنت، كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ريحانةٌ أشمها وعلى الله رزقها).

الإحسان إلى الضعفاء
وأيضاً من الإحسان، الإحسان إلى الضعفاء:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ }

(رواه البخاري)

هذا إحسان، بل هو من أعظم أنواع الإحسان.
إخواننا الكرام: أحياناً الإحسان للضعفاء يكون بالمال وأحياناً يكون بالكلمة الطيبة،

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ }

(رواه البيهقي)

فأحياناً تسع الناس بوجهك السعيد وبخلقك الحسن.

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عَنْهُ قَالَ: أنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ المَسْجِدَ، أَوْ شَابًّا، فَفَقَدَهَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عَنْهَا، أَوْ عنْه، فَقالوا: مَاتَ، قالَ: أَفلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي قالَ: فَكَأنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أَوْ أَمْرَهُ، فَقالَ: دُلُّونِي علَى قَبْرِهِ فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قالَ: إنَّ هذِه القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً علَى أَهْلِهَا، وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لهمْ بصَلَاتي عليهم }

(صحيح مسلم)

نصرة الضعيف مطلوبة
(تَقُمُّ المَسْجِدَ) يعني تجمع قمامة المسجد، فالصحابة؛ هل يوقظون رسول الله من أجل الصلاة عليها؟ اجتهدوا ألا يوقظوه، فلما استيقظ سأل عنها فقالوا: ماتت، قال: (ألا آذَنْتُمُونِي) لما لم تُعلِموني؟! فقام على قبرها فوقف فصلى عليها، طبعاً لا صلاة بعد الدفن، هذا استثناء من الحكم العام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلِّم الأمة أن نصرة الضعيف مطلوبة، وأن نصرة الضعيف لا ينبغي أن يتجاوز الإنسان في شيءٍ منها، فحتى صلاته عليها صلى الله عليه وسلم أدركها (قالَ: إنَّ هذِه القُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً علَى أَهْلِهَا، وإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لهمْ بصَلَاتي عليهم) فوقف فصلى عليها لكي لا يحرمها أجر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه نصرة للضعفاء.
الطفيل بن عمرو الدوسي، هذا الصحابي في معركة اليمامة خلَّف ابنه ويده، استشهد ابنه وقطعت يده، فجلس في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوضعوا الطعام، فأقبل الناس ليأكلوا، فتأخر الطفيل عن الطعام، فلاحظ عمر، انظروا إلى عمر كيف يلاحظ، فلاحظه، قال: لم لم تأكل معنا؟ فخجل، قال: لعلك تأخرت عن الطعام خجلاً من يدك المقطوعة، والله لا آكل من هذا الطعام حتى تخلطه بيدك، والله ما فينا واحدٌ بعضه في الجنة إلا أنت.
نصرة الضعيف تكون بالكلمة أحياناً؛ السائق، الخادم، قد تتهاون بكلمة تقولها له: الله يعطيك العافية، كلمة، لكن هو في نفسه تعطيه مكانة، أنه والله لم يتجاوزني مرَّ من أمامي وأنا أكنس الكراج وكأنني لست موجوداً، السلام عليكم، الله يعطيك العافية، جزاك الله خيراً، فيشعر بقيمته في المجتمع، هذا التقدير.

الإحسان إلى الخدم
فأحبابنا الكرام: نصرة الضعفاء مطلوبة، أيضاً الخدم، وهم من الضعفاء غالباً، لكن خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان

{ عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ }

(متفق عليه)

تشجيع الناس على الإنفاق
كيف جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ؟ مرَّةً أقاموا حفل تبرع خيري، فهناك شخص تبرع بمبلغ كبير، فأقاموا له حفلاً جزاء ما فعل، وهذا شيء مطلوب شرعاً أن تقول للمحسن: يا محسن، حتى تشجع الناس، لكن هذا الرجل مدحوه زيادة، فقام أحد الخطباء قال: أنا سأتكلم بكلمتين، يا أبا فلان، كان من الممكن أن تكون واحداً ممن يقف على الدور على باب جمعيتنا ليأخذ قسيمة طعام ولكن الله تعالى أرادك أن تكون في موطن الإحسان فاحمد الله على هذه النعمة والسلام عليكم، فقط، لأن الله جعلك معطياً، قال: (جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ) وكان من الممكن أن يجعلك الله تحت يده، فالله هو الخافض وهو الرافع جلَّ جلاله وهو المعطي وهو المانع، فشاء الله عزَّ وجلَّ أن يكون تحت يدك وقد يكون عند الله خيراً مني ومنك، الله أعلم، فقال: (ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ) لا تكلفه شيئاً فوق طاقته، (فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ) قم وساعده، إذا كان لا يستطيعه وحده.

تعامل الإسلام مع العبودية
بعض الناس من المستغربين والمستشرقين يلمزون من شأن الإسلام في تعامله في موضوع العبودية، الإسلام يا أحبابنا لم يضع نظام عبودية ولا جاء بالعبودية، الإسلام جاء بالحرية، بل إن الحرية من مقاصد الشريعة الكبرى، الإسلام جاء لحرية الإنسان، لإعتاقه:
"نحن قومٌ ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"
{ ربعي بن عامر }
تعامل الإسلام مع العبيد
وأي حريةٍ أعظم من ألا تكون تبعاً لأحدٍ من الخلق وأن تكون فقط عبداً لله الذي خلقك، هذه هي الحرية، لكن لما جاء الإسلام وجد نظاماً قائماً موجوداً لا دخل له به، عمر يقول: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، وجد نظاماً لا علاقة له به، موجود، فالإسلام كان أمامه من أجل حل هذه المشكلة خياران: الخيار الأول: أن يعتق العبيد، كيف حرمت الخمر؛ يقول: يحرم أن يكون عندك عبد، أعتقوا العبيد، ما الذي سيحدث؟ فوضى لا قِبَلَ لأحدٍ بها في المدينة، لأن هؤلاء لا يستهان بعددهم فإذا أُطلقوا من غير عمل ومن غير كفيل فأنت أمام مشكلة اقتصادية، من يطعمهم؟ من يلبسهم؟ من يكسوهم؟ فإما أن يكون أحدهم صالحاً فيتحول إلى متسول يتسول الناس، وإما أن يكون طالحاً سيئاً فيصبح قاطع طريق ومجرماً، فما كان من الإسلام إلا أن اتخذ أعظم تشريع وهو أن يضيِّق المداخل ويوسِّع المخارج، حتى يقضي على هذه الظاهرة في زمن ربما يطول قليلاً لكن نتيجته جيدة لصالح المجتمع المسلم، فمنع أن تتخذ عبداً جديداً، ثم ضيق المداخل فلم يعد هناك مدخل للعبيد إلا الحروب والفتوحات، ثم وسع المخارج فكلما حلف مسلم يميناً أمره أن يعتق عبداً، وإذا ظاهر امرأته؛ أعتق عبداً، وإن جامع زوجته في نهار رمضان؛ أعتق عبداً، فجعل الناس يعتقون، ثم جعل أيضاً الإعتاق من غير سبب؛ سبباً لدخول الجنة

{ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ. }

(صحيح مسلم)

قضاء الإسلام على العبودية
فالإسلام جاء لتحرير العبيد، ومن يهمز ويلمز لا يدرك ما الذي حصل، العبودية كانت موجودة في المجتمع، وليس في المجتمع العربي فقط وإنما في كل المجتمعات، فجاء الإسلام وقضى عليها، وحتى الذين بقوا عبيداً في الإسلام لفترة ريثما تم القضاء عليها عاشوا أحراراً في المجتمع المسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يعاملوا معاملة الأحرار، فأصبح الواحد منهم، في قصص كثيرة، يعتقه سيده فيقول: لا أريد بل أبقى عندك، لأنه يعيش أجمل عيشة، أصبحت العبودية اسماً بلا مسمى، فقط اسمه عبد لكن في الحقيقة يعامل أفضل معاملة في الإسلام، فهذا من أجل من يقول: إن الإسلام شرع العبودية أو أعان عليها معاذ الله.

الإحسان إلى الحيوان
أحبابنا الكرام: أيضاً من الإحسان؛ الإحسان إلى الحيوان:

{ عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" }

(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)

الإحسان إلى الذبيحة
كن محسناً، لو أن الإنسان يريد أن يقتل حشرة في البيت، كن محسناً بضربة واحدة انتهى، فلا تعذبها، سمح الله لك أن تقتلها لكن بضربة واحدة، ولا تتركها تتعذب حتى تموت، (فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ)، وفي ذبح الخروف أو الناقة (وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ).

{ ولما رأى النبي شخصاً يذبح شاة أمام أختها فغضب وقال له: ((أتريد أن تميتها مرتين؟ هلا حجبتها عن أختها؟ قال: إذا قَتلتُم فأحسِنُوا القِتلة، وَإِذا ذَبحتُم فأحْسِنُوا الذَّبحَ، وليُحدَّ أحدُكم شَفرَته، ولْيُرِحْ ذبيحَته)) }

(أخرجه مسلم)

فهذا من الإحسان.

4. الله مع المؤمنين
إخواننا الكرام: أيضاً الله تعالى (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)، قال تعالى:

وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
(سورة الأنفال: الآية 19)

صار عندنا (مَعَ الصَّابِرِينَ) و(مَعَ الْمُتَّقِينَ) و(مَعَ الْمُحْسِنِينَ) و(مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)، (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الإيمان مرتبة فوق الإسلام، الإسلام: إعلان دخول في دين الله،

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ
(سورة الحجرات: الآية 14)

الإيمان هو مرتبة راقية جداً
فالإيمان: هو مرتبة علمية أخلاقية راقية جداً، المؤمن يؤمن بالله، بملائكة الله، بكتب الله، برسل الله، يؤمن إيماناً يحمله على طاعة الله، ينجيه من عذاب الله، وأحياناً هناك إيمان بسيط جداً لا يحمل على طاعة الله، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
(سورة النساء: الآية 136)

هم آمنوا فلماذا يأمرهم أن يؤمنوا؟! قال بعض المفسرين: لأن إيمانهم لم يحملهم على طاعة الله، فهناك إيمان هو مجرد إعلان يشبه الحالة الأولى الإسلام، أما الإيمان لمَّا يدخل في القلب فيحمل الإنسان على أن يكون مطيعاً لله تعالى قال: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

5. الله مع الملتزمين بشرعه المؤدِّين لحقوق أموالهم
آخر معية في هذا اللقاء الطيب، قال تعالى:

وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
(سورة المائدة: الآية 12)

إقامة الصلاة هي صلة دائمةٌ مع الله
إخواننا هذه الآية مهمة جداً؛ سألخصها بدقائق: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ) الشرط: (أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) إقامة الصلاة تعبير عن الحركة العامودية مع الخالق، يعني صلتك بالله قائمة، طبعاً إقامة الصلاة: هناك الصلوات الخمس وهناك إقامة صلاة بالدعاء، وهناك إقامة صلاة بالذكر، يعني إقامة الصلة بالله، وهناك إقامة صلاة بالتفكر في خلق السموات والأرض، بالمعنى العام كلها صلاة ما دام لك صلة بالله، وانظروا لم يقل: وقال الله إني معكم لئن صلَّيتم، لأن الإنسان قد يصلي ولا يقيم الصلاة، عندما لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر فهو قد صلَّى لكنه لم يقم الصلاة، فإقامة الصلاة تعني أن تحقق الصلاة مقصدها الشرعي ومقصد الصلاة الشرعي أن تنهى عن الفحشاء في القول وعن المنكر في الفعل، فالمصلي لا يخرج منه فحشٌ في الكلام ولا منكرٌ في الأفعال.
الآن الحركة الأفقية (وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) الإحسان إلى المخلوق أن تدفع الزكاة، زكاة مالك، (وَآمَنتُم بِرُسُلِي) والإيمان بالرسل يقتضي الإيمان بالرسالة بالقرآن الكريم، (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) يعني أعطيتموهم قدرهم ومكانتهم، عظمتموهم، فالمؤمن يعظم رسل الله، فإذا ذكر أمامه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليه كما فعلتم، صلى الله عليه وسلم، له مقام في قلبه، له مقام في داخله، ليس كأحدٍ من الناس

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
(سورة الحجرات: الآية 4)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
(سورة الحجرات: الآية 2)

رفع الصوت فوق صوت النبي اليوم
اليوم هل هناك من يرفع صوته فوق صوت النبي؟ موجود ولكن بطريقة أخرى، اليوم يرفع صوته فوق صوت النبي؛ تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك: انتظر قليلاً، هذا الحديث والله ليس وقته الآن نحن زماننا صعب، تقصد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم أنه سيأتي هذا الزمان الصعب؟! هو يوحى إليه وما أعلمه الله بالزمن الصعب وجاء بشريعةٍ لا تناسبك ولا تناسب زمانك، يا أخي قل: أنا استغفر الله، عصيت الله، لكن لا تقل: هذا لا يناسب هذا الزمان، إن عصيت واستغفرت تاب الله عليك، لكن إن قلت: هذا الحديث ليس لهذا الزمان فقد وقعت والعياذ بالله في إنكار سنَّةٍ صحيحةٍ عن رسول الله، فينبغي الانتباه إلى ذلك، فهذا يرفع صوته فوق صوت النبي ولا يعزر النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أي قدمت لله شيئاً يكافئك عليه فيما بعد، سواءً كان مالاً، لذلك قالوا: في المال حقٌّ سوى الزكاة، (وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) والآن (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) إيتاء الزكاة لا بد منه، اثنان ونصف بالمئة، ولكن لا بد مع الزكاة أن تقرض الله قرضاً حسناً، تخيل أن ربنا عزَّ وجلَّ يقول لك: أقرضني يا عبدي، قال: (لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) إذاً الله تعالى مع الملتزمين بشرعه، المؤدِّين لحق أموالهم، المؤمنين برسل الله تعالى.
الله تعالى (مَعَ الصَّابِرِينَ) (مَعَ الْمُتَّقِينَ) (مَعَ الْمُحْسِنِينَ) (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) مع الملتزمين بشرعه المؤدِّين لحقوق أموالهم.
والحمد لله رب العالمين وبارك الله بكم وأعلى قدركم جميعاً إن شاء الله.