• محاضرة في الأردن
  • 2020-09-28
  • عمان
  • الأردن

علاج الهزيمة النفسية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلّي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، مجلسٌ مباركٌ إن شاء الله أسأل الله عزَّ وجلَّ أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل ما نتعلمه حجةً لنا لا حجةً علينا.
أيها الإخوة الأحباب: في لقاءٍ سابق تحدثنا عن الهزيمة النفسية، تحدثنا عن أعراض الهزيمة، وعن أسباب الهزيمة، وقلنا: إن أخطر هزيمة يُهزمها المرء أن يهزم من الداخل، هناك هزائمُ سياسيةٌ واقتصاديةٌ وعسكرية، لكن أقسى الهزائم هزيمة النفس، فالمهزوم أمام نفسه لا يستطيع ولا يقوى أن يواجه شهوته، أمَّا المهزوم في ساحة المعركة فقد يُعَدِّل، قال تعالى:

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
(سورة آل عمران: الآية 140)

لكن الهزيمة النفسية تعني شقاوة الأبد، تعني خسارة الأبد، تعني أن الإنسان ربما لا يستطيع أن ينتصر في معركةٍ بعد ذلك لأنه هُزم أمام نفسه، قالوا: المهزوم أمام نفسه لا يستطيع أن يواجه نملةً، لا جيشاً، نريد في هذا العصر الذي أصبح فيه من الإحباط والسوداوية والكآبة والخوف من المستقبل الذي سيطر على قلوب كثيرٍ من الناس، أن نُنعش في داخل الناس الأمل والتفاؤل، ليس التفاؤل الساذج وليس الأمل غير المبني على أسباب وعلى بذل، وإنما التفاؤل المدروس والأمل المبني على أسباب، ينبغي أن نزرعه في نفوسنا ونفوس أبنائنا ونفوس الناس من حولنا.
وقلت لكم: إننا سنفرد لقاءً إن شاء الله للحديث عن علاج الهزيمة النفسية، كيف نعالج الهزيمة النفسية؟ هذه العلاجات التي سأذكرها هي وقايةٌ وعلاجٌ معاً؛ يقي الإنسان نفسه من أن يُهزم من داخله، ويعالج نفسه إن شعر يوماً باليأس أو القنوط من حاله أو من حال الأمة أو من حال المسلمين عموماً.

1. تقوية الإيمان
شهواتٌ وشبهاتٌ كثيرة تعصف بالعقول
أيها الكرام: أول ما نواجه به هزيمة الداخل تقوية الإيمان، الإيمان قوةٌ، الهزيمة ضعفٌ، ولا يواجه الضعف إلا بقوة، وقوة الإيمان أعظم قوة، المؤمن عندما يكون قوياً بإيمانه لا تثنيه سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينه، لا الشهوات ولا الشبهات تتمكن منه، الشهوة: مالٌ من حرام، امرأةٌ لا تحل له، هذه شهوة، الشبهة: يفتح صفحات التواصل الاجتماعي أو يفتح الشاشة (التلفاز) فيسمع حديثاً عن دينه، يتهمون دينه، تارةً بالتخلف، وتارةً بالإرهاب، وتارةً بالظلم، وتارةً بالقتل، وتارةً بأنه انتشر بالسيف، هذه شبهات، الشبهات تهدف للوصول إلى العقول وتدميرها، واليوم شباب المسلمين مهددون بعقولهم قبل تهديد نفوسهم بالشهوات، الاثنان معاً، لكن اليوم الشبهات كثيرة تعصف بالأذهان والعقول، والشهوات موجودة، الشهوات تدخل إلى القلوب، والشبهات تدخل إلى العقول، فقوة الإيمان هي التي تواجه هذه الشهوات وتلك الشبهات.
هل الإيمان في مرتبة واحدة؟ الجواب، لا، هذا من بدهيات علم العقيدة؛ أنَّ الإيمان يزيد وينقص، حتى الإنسان نفسه تارةً يكون إيمانه في مستوى عالٍ، وتارةً يشعر بهبوط إيماني إن صح التعبير، يرتفع ويهبط في داخله، والناس يتفاوتون في إيمانهم، هناك إنسانٌ مهما عُرض عليه من الدنيا لا يبيع دينه، وهناك إنسانٌ بمبلغٍ زهيدٍ يبيع دينه، ما الفرق بينهما؟ قوة الإيمان، فهناك إيمان قوي وهناك إيمان ضعيف، فينبغي أن يحرص الإنسان أن يقوي إيمانه، هذه الجلسة الإيمانية من جلسات تقوية الإيمان، الإنسان عندما يحضر خطبة الجمعة هذه تقوية للإيمان، مجلس العلم قوة إيمان، قراءة صفحات من كتاب الله يومياً قوةٌ في الإيمان، ذكر الله قوةٌ في الإيمان، الصحبة الصالحة قوةٌ في الإيمان، قيام الليل قوةٌ في الإيمان، الفرائض في المسجد قوةٌ في الإيمان، فكل هذه الأمور التي يبذلها الإنسان هو في الحقيقة يقوِّي إيمانه بها، يرفع من إيمانه ليواجه الشهوات والشبهات، انظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم:

{ مَا مِنَ الْقُلُوبِ قَلْبٌ إِلَّا وَلَهُ سَحَابَةٌ كَسَحَابَةِ الْقَمَرِ، بَيْنَمَا الْقَمَرُ مُضِيءٌ إِذْ عَلَتْهُ سَحَابَةٌ فَأَظْلَمَ، إِذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَأَضَاءَ }

(أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح)

القلب كالقمر يُظلم ويضيء
كيف تنظر إلى القمر في ليلة البدر ويكون هناك سحب كثيرة في ليلة شتوية؟ تأتي السحابة فيذهب ضوء القمر، ثم تتجلى عنه فيظهر ضوء القمر، هذا القلب الإيمان فيه كالقمر؛ إذا جاءت سحابة الشهوات والشبهات والمعاصي فوقه يُظلم، تدفع هذه السحابة بذكر الله بقوة الإيمان فتنزاح السحابة، فيعود القلب إلى ضوئه وإلى عطائه، هذا تشيبه نبوي بليغ: القلب كالقمر والمعاصي والشهوات والشبهات كالسحابة التي تغطيه أحياناً فيُظلِم القلب، أو تتجلَّى عنه فيضيء، وكل القلوب تتعرض لهذه الأمور، لكن المؤمن القوي بإيمانه ربما تأتيه السحابة في العام مرَّةً أو في الشهر مرَّةً، والبعيد ربما في كل يوم يُظلِمُ قلبه لأنه لا يوجد تغذية إيمانية مستمرة، لا يوجد شحن مستمر.
إخواننا الكرام: إذاً أول ما نواجه به الهزيمة النفسية هو قوة الإيمان، الإيمان قوة مطلقة، الإيمان مع التوحيد قوة، لا أبالغ هي أقوى من كل المعدات العسكرية، هذا ليس تخفيفاً أو تقليلاً من شأن المادة، المادة لها قيمة، العتاد له قيمة، لكن قيمته ليست شيئاً أمام قيمة الإيمان، قوة الإيمان أقوى من كل المعدات العسكرية وغيرها، وهذا واضح في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، في فتوحات المسلمين، في معارك المسلمين الفاصلة، ما الذي تميزوا به على عدوهم؟ هل كان العدد والعدة أم القوة الإيمانية؟ القوة الإيمانية، والدليل أن سيدنا عمر عندما أوصى أبا عبيدة ابن الجراح قال له: "إنما تنتصرون على عدوكم بإيمانكم فإذا استويتم معه في المعصية كانت الغلبة له عليكم بالقوة" .

أنواع النصر
بالعدد والعتاد الأقوى هو الذي ينتصر، لذلك قالوا: "هناك نصرٌ كونيٌّ"، النصر الكوني: أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينصر الأقوى، إذا اقتتل فريقان وكلاهما دون إيمان فمن الذي ينتصر؟ الأقوى، هذا نصرٌ كوني، ربنا عزَّ وجلَّ وضع سنناً؛ عندما يتقاتل فريقان فالمنتصر هو الأقوى الذي يملك العتاد الأقوى والعدد الأكبر، هذا النصر الكوني.
لكن النصر الإيماني: النصر فيه ليس للأقوى عتادًا وعدةً وإنما للأقوى إيماناً، قال تعالى:

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(سورة آل عمران: الآية 173-174)

النصر المبدئي يكون بالثبات على المبادئ
وهناك نصر مبدئي، النصر المبدئي: أن يموت الإنسان وهو ثابتٌ على مبدئه، القوى الشريرة كبيرة جداً ومواجهتها تحتاج إلى جيل جديد، وهو مستضعف، لكنه مات ولم يغير ولم يبدِّل ولم يداهن ولم يطأطئ الرأس هذا انتصر، الدليل: قال تعالى:

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ
(سورة البروج: الآية 4)

أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ بالعرف الدنيوي لم ينتصروا، قالوا: ربنا الله، فحُفر لهم أُخدود وأُلقوا فيه وأُحرقوا لكن ربنا عزَّ وجلَّ يمدحهم في القرآن:

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
(سورة البروج: الآية 4 - 5 - 6 - 7 - 8)

فامتدحهم لأنهم ماتوا ثابتين على المبدأ فهم انتصروا، لكنهم لم ينتصروا في العرف البشري لكن في العرف الإلهي نصرُهم مبدئيٌ، وهو أن يموت الإنسان ثابتاً على مبدئه، هذا نصر، نوع من أنواع النصر.

2. الاعتزاز بالله وبدين الله
أحبابنا الكرام: إذاً أول ما نعالج به الهزيمة النفسية: قوة الإيمان، وثانياً: الاعتزاز بالله وبدين الله، كثير من الناس اليوم يعتزُّون بالمادة، معظم الناس يعتزُّون بالمادة، بالشيء المادي؛ بما يملكه من رصيد في البنك أو بما يملكه من قصرٍ فخمٍ أو من سيارةٍ فارهةٍ، يستمد عزته من الممتلكات، من الأشياء، لكن المؤمن يعتز بالله ويعتز بدينه الذي يدين به الله، ربنا عزَّ وجلَّ قال:

وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
(سورة المنافقون: الآية 8)

فمصدر العزة هو الله جلَّ جلاله، قال تعالى:

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ
(سورة آل عمران: الآية 26)

فالعزة بيده والإذلال بيده، الإعزاز بيده والإذلال بيده جلَّ جلاله، أيضاً قال تعالى:

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
(سورة آل عمران: الآية 139)

العزة بيد الله والإذلال بيده
لم يقل: وأنتم الأعلون إن كنتم منتصرين، بل أنت الأعلى بمجرد إيمانك فقط، أتمنى أن نرى جميعاً نصر المسلمين، وينبغي أن نتخذ الأسباب لذلك، وأن نكون جنداً لدين الله عزَّ وجلَّ، لكن أقول: يكفي أن تكون مؤمناً حتى تكون الأعلى، ويكفيك نصراً على عدوك أنه في معصية الله وأنك في طاعة الله، يكفيك نصراً على عدوك أنك تطيع الله وهو يعصي الله، هذا نصر، قال تعالى: (وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) هذه الآية نزلت في غزوة أُحُد، المسلمون ذاقوا ما ذاقوا في أُحُد، لكن الله تعالى يقول لهم: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

الاعتزاز بالإسلام عند الصحابي خُبَيْبِ بن عَدِيّ
إخواننا الكرام: حتى أبيِّن ما معنى الاعتزاز بالله وبدين الله: خُبَيْبُ بن عَدِيّ هذا الرجل كان أول من صُلِبَ في سبيل الله، قُتِلَ صلباً في سبيل الله تعالى، خرج به قومه إلى خارج مكة إلى منطقة التنعيم، يعني خرجوا به من الحرم إلى الحِل ليقتلوه هناك، كانوا يعظمون الحرم فخرجوا به إلى التنعيم ليقتلوه خارج الحرم، تجمعت الألوف المؤلفة ليشهدوا مصرع هذا البطل خُبَيْب بن عَدِيّ، خُبَيْب ضعيفٌ مستضعفٌ وقتها لا يجد أحداً يمكن أن ينصره من هؤلاء، تجمَّعوا عليه فوقف عزيز النفس شامخاً، يريد أن يُصلب.
الآن سيُصلب خُبَيْب، وقف عزيز النفس شامخاً، قالوا له: ماذا تريد قبل أن تموت؟ قال: لو شئتم أن تدعوني أركع ركعتين فافعلوا، أريد أن أركع ركعتين لله، أجمل ما في حياته دقائق يقفها بين يدي الله، فقالوا له: افعل، فصلى ركعتين وتجوَّز فيهما، أسرع فيهما، ثم قال: والله لولا أني خشيت أن تقولوا إنما به جزعٌ لأطلت، انظر إلى العزة، هذا الرجل سيصلب بعد دقائق، لكنه معتزٌّ بدينه إلى أبعد حد ومعتزٌّ بربه فقال: لولا أن تقولوا: إنما خشي الموت أو به جزعٌ من الموت لأطلت، كيلا يظنوا أنه يطيل في الصلاة من أجل أن يؤخِّر ساعة الموت، ثم دعا عليهم فقال: اللهم اقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، وأنشد البيتين اللذين أصبحا شعاراً على مر التاريخ:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا علَى أيِّ شِقٍّ كانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي وَذلكَ في ذَاتِ الإلَهِ وإنْ يَشَـــأْ يُبَارِكْ علَى أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
{ خبيب بن عدي }
وقضى خُبَيْب رضي الله عنه، الشيء الذي يلفت النظر هو هذه العزة التي يمتلكها بين جوانحه في لحظة الموت.
المؤمن معتزٌ بدينه
نحن اليوم لا نتعرَّض لمثل ما تعرَّض له خُبَيْب، ولا لمعشار ما تعرَّض ولا لواحد بالألف مما تعرَّض له، فما بال بعض المسلمين لمجرد شبهةٍ أو شهوةٍ تعصف بدينه يهتزُّ كيانه ويخاف من دينه وكأنه متهم ويضع إسلامه في قفص الاتهام ويحاول أن يجابه به ويقول لك: تضعضعت، ممَّ تضعضعت! من خمس دقائق على الفيس بوك من شخص بعيد بعد الأرض عن السماء عن العلم وعن الدين، يتحدث بشيء فيه مساسٌ بديننا أو اتهامٌ لديننا فتَرتَعِدُ فَرائِصُهُ ويقول لك: ضَعُفت! ما هذا البناء؟! هذا البناء ضعيف جداً، المؤمن معتزٌ بدينه، يرفع رأسه بدينه عالياً لأن هذا الدين هو دين الله، ولأن هذا الدين هو الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمسلم لا يتضعضع أمام شهوات ولا شبهات، هذا الذي نريد أن نقوله في الاعتزاز بدين الله.

وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا
(سورة مريم: الآية 81)

قال تعالى:

كَلَّا ۚ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا
(سورة مريم: الآية 82)

فالعزة ليست إلا لله جلَّ جلاله، قال تعالى:

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
(سورة النساء: الآية 139)

فإذاً البند الثاني من علاج الهزيمة النفسية أو الوقاية من الهزيمة النفسية: أن تعتز بدينك إلى أبعد حدٍّ ممكن، ليس في ديننا شيءٌ نخشى منه ولا نخشى بحثه، والحق أبلج واضح ناصع، ومن يسيئون لديننا في تاريخهم ما يندى له الجبين، وما يجب أن يطأطئوا له الرأس إلى قيام الساعة، أما دينك أيها المسلم فدين العزة ودين القوة ودين المحبة ودين الخير الذي نشر الخير في العالم كله، فلا تنظر إلى ما يتهمونه به وما يشككون به ليل نهار.

3. توطين النفس على الصبر وتحمل المشاق
الأمر الثالث من علاج الهزيمة أيها الأحباب؛ توطين النفس على الصبر وتحمل المشاق، بعبارة أُخرى: معرفة طبيعة الطريق.
معرفة الطريق تُسهل السير فيه
تريد أن تذهب في نزهة أو في سفر عمل من مكان إلى مكان، عندك طريق هذا الطريق اليوم حسب Google تفتح فتعرف طبيعة الطريق، يقول لك: يحتاج إلى ساعتين وعشر دقائق، يعطيك أماكن حمراء على الطريق تشير إلى أنها طرق مزدحمة جداً، يعطيك محطات الوقود الموجودة على الطريق، أنت تدرس طبيعة الطريق قبل أن تسلكه، فالآن عندما تسير تسير على نورٍ، وأنت تعرف طبيعة الطريق الذي ينتظرك.
ابنك يريد أن يدخل إلى الجامعة؛ تعرِّفه بطبيعة الطريق تقول له: هذا الفرع يا بني فرع الطب يحتاج إلى تفرغٍ كامل، يحتاج إلى دراسةٍ مستمرة، يحتاج إلى تكاليفٍ عالية، يحتاج منك إلى صحبةٍ صالحةٍ، إلى لغةٍ أجنبيةٍ قويةٍ، تنير له الطريق، تعرِّف له طبيعة الطريق.
حُفَّت الجنة بالشهوات
نحن الآن في الدنيا من الآن حتى نلقى الله كلٌّ منا بقي له مع الله سنوات أو أشهر أو دقائق أو ثوان، الله أعلم متى ينقضي الأجل، هذه طريق نسلكها جميعاً وفي كل لحظة نقترب جميعاً من آجالنا هذا الطريق الذي نسلكه لنصل إلى لقاء الله بسلام ما طبيعته؟ هل قال لك الله عزَّ جلَّ: الدنيا ورود ورياحين وخيرات فقط، وليس فيها امتحانات ولا ابتلاءات؟ أبداً، هو وصف لك الطريق بأنه طريق صعب، طريق الجنة ليس طريقاً محفوفاً بالورود والرياحين وإنما محفوف بالشهوات، حُفَّت الجنة بالشهوات، فأنت عندما تعرف طبيعة الطريق فهذه طبيعة الحياة، هكذا هي الحياة، الحياة فيها ابتلاءات تحتاج إلى صبر (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) فيومٌ لنا ويومٌ علينا، ويومٌ نُساءُ ويومٌ نُسَر، هذه هي الحياة، فعندما يفهم الإنسان طبيعة الطريق فهذا يمكِّنه ألا ييأس أو يندم أو ينكسر، لأنه يعلم أنَّ ما أصابه في الدنيا لم يكن ليخطئه وكله بقدرٍ من الله، قال تعالى:

أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
(سورة العنكبوت: الآية 2)

ما الفتنة؟ الفتنة أن تعرِّض الذهب للنار حتى تُخرِج منه العناصر الرخيصة العالقة ويصبح ذهباً خالصاً، هذا أصل الفتنة في اللغة العربية، تفتن الذهب، تعرِّضه للنار فتفصل عنه العناصر الرخيصة العالقة التي لا قيمة لها، ويبقى الذهب الخالص، وتلك هي الحياة، قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ستفتن في الدنيا يا عبدي، الفتنة موجودة، الفتنة بمعنى الامتحان والابتلاء

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
(سورة العنكبوت: الآية 3)

هذه طبيعة الحياة.
أيضاً أيها الكرام: لا يمكن أن تُنال الإمامة في الدين إلا بالصبر مع اليقين، قال تعالى:

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
(سورة السجدة: الآية 24)

التمكين لا يأتي إلا بعد الامتحان
فقالوا: الإمامة في الدين تتولد من الصبر واليقين، التمكين لا يأتي إلا بعد الامتحان، من هنا ذكرت لكم أنهم قالوا للشافعي رضي الله عنه: يا أبا عبد الله الأفضل أن يُمَكَّنَ الإنسان أم أن يبتلى؟ فقال الشافعي: "لن تُمَكَّنَ قبل أن تبتلى"، ليس هناك أفضل، كإنسان قال لك: الأفضل أن أدخل الامتحان في الجامعة أم أن أنال الشهادة؟ فتقول له: لن تنال الشهادة حتى تدخل الامتحان، هي طبيعة الجامعة تدخل إلى الامتحان، ثم تمتحن، تنجح، ثم تأخذ الشهادة، هل أمكَّن في الأرض ويكون كل شيء ميسراً، والأمور سهلة جداً ولا يكون هناك شهوات ولا شبهات أم أُبتلى؟ أقول لك: الأمر واضح هو تسلسل: يُبتلى الإنسان، يصبر، يُمَكَّن، هذه طبيعة الحياة، فلذلك أيها الأحباب: الأمر الثالث من علاج الهزيمة: توطين النفس على الصبر وتحمل المشاق.

4. التفاؤل والاستبشار
الأمر الرابع: التفاؤل والاستبشار، النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ }

(أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح)

بث التفاؤل والأمل في قلوب الناس
(مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ) أي منطقة فيها ليلٌ ونهارٌ سيصلها الإسلام يوماً من الأيام، النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث بهذا الحديث، ربما قاله مثلاً في مكة أو في المدينة، والإسلام كان عبارة عن عدد محدود من الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ"، هذا التفاؤل، فقال: (وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ) يعني ربنا عزَّ وجلَّ إذا أراد أن ينصر دينه هيأ له النصر والتمكين بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، لكن يتحقق النصر والتمكين، فينبغي أن نبث التفاؤل في قلوب الناس، الأمل، الاستبشار، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما في لحظات الإحباط.

{ وعنْ أبي عبدِاللَّهِ خَبَّابِ بْن الأَرتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رسولِ اللَّهِ ﷺ وَهُو مُتَوسِّدٌ بُردةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبةِ، فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ فيجْعلُ فِيهَا، ثمَّ يُؤْتِى بالْمِنْشارِ فَيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجعلُ نصْفَيْن، ويُمْشطُ بِأَمْشاطِ الْحديدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر حتَّى يسِير الرَّاكِبُ مِنْ صنْعاءَ إِلَى حَضْرمْوتَ لاَ يخافُ إِلاَّ اللهَ والذِّئْبَ عَلَى غنَمِهِ، ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ }

(رواه البخاري)

أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ هنا شعر النبي صلى الله عليه وسلم أن اليأس بدأ يتسلل إلى بعض النفوس، لأنهم من قسوة ما يعامل المشركون به المسلمين ومن قسوة المشهد لجؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟
"واللَّه ليتِمنَّ اللَّهُ هَذا الأَمْر"، هذا أمل يبثه النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه لكنه ما أراد منهم أن يتسلل اليأس إلى نفوسهم.

5. الرضا بالقدر
أيها الكرام: أيضاً مما تعالج به الهزيمة النفسية: الرضا بالقدر، من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم يوم قال لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

{ يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإن اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ }

(رواه الترمذي)

الرضا بالقدر يُذهِبُ الهم والحزن
قالوا: "الإيمان بالقدر يُذهِبُ الهم والحزن"، ما دام الذي وقع وقع بأمر الله والله تعالى يحبك، والله تعالى يحب أهل الخير ويحب أهل الإسلام وشاءت حكمته أن يقع الذي وقع، فما دام قد وقع فنحن نرضى بقضاء الله وقدره، هذا يدخل إلى النفس من السكينة والاطمئنان، ويبعد عنها اليأس ويبعد عنها التشاؤم ويبعد عنها الإحباط ويبعد عنها السوداوية لأن الله تعالى أراد وقوع هذا الأمر لحكمةٍ بالغةٍ علمها من علمها وجهلها من جهلها.
الرضا بالقدر أيها الكرام؛ كما قلنا: يُذهِبُ الهم والحزن، النبي صلى الله عليه وسلم له حديث أصل في هذا الموضوع يقول:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ ‏صلى الله عليه وسلم ‏{اَلْمُؤْمِنُ اَلْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اَللَّهِ مِنْ اَلْمُؤْمِنِ اَلضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ اَلشَّيْطَانِ }

(أخرجه مسلم)

لا يُحتجُّ بالقدر على التقصير
هذا يطمئن النفس، يريح النفس، ليس في الإسلام ( لو )، أن تقول: لو فعلت كذا لحصل كذا، لا، لا تقل: لو، انتهى الأمر، وقع قضاء الله، هذا لا يعني أن الإنسان لا يحاسب نفسه على تقصيره، انتبهوا، يفهم البعض الحديث خطأً أن الإنسان لا ينبغي أن يحاسب نفسه على تقصيره، الطالب إذا لم يدرس فرسب نقول له: رسوبك بسبب تقصيرك في الدراسة، لكن لو أنه درس ثم جاءه عارضٌ سماويٌّ، فمرض فما استطاع أن يقدم الامتحان، أو قدمه وهو لا يقوى على الكتابة فرسب، نقول له: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، ولا تقل: لو أني لم أمرض لنجحت، انتهى الأمر، أنت بذلت ما عليك، لذلك قالوا: "لا يُحتجُّ بالقدر على التقصير"، حتى ننتبه للمعنى.
أنا عندما أقول الرضا بالقدر أقصد أن الإنسان يستفرغ وسعه ثم يقول: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، أما الإنسان الذي لا يبذل جهده ثم يقول: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فهو يحتج بالقدر ويقول كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطلٌ، كل شيء: قَدَّرَ اَللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، لكن لا نحتج بالقدر على تقصيرنا، فإذاً ( لو ) ليست موجودة في قاموس المسلم لانه يبذل الأسباب ثم يترك الأمر لله تعالى وما يأتي من الله يرضى به.

6. حسن الظن بالله
أيها الكرام؛ أيضاً مما تعالج به الهزيمة النفسية: حسن الظن بالله، قال تعالى:

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ
(سورة الصافات: الآية 171-172-173)

لا تقلقوا على هذا الدين إنه دين الله، ولكن ليقلق كل واحدٍ منَّا على نفسه، فيما إذا سمح الله له أو لم يسمح أن يكون جندياً لنصرة هذا الدين، أحسِنوا الظن بالله

{ يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ }

(أخرجه أحمد)

نحن نظن بالله أنه ينصر الإسلام والمسلمين، ونظن بالله أن هذه المحنة وراءها منحة، وأن هذه البليَّة وراءها عطيَّة، هذا ظننا بالله تعالى، لا نظنُّ بالله إلا خيراً

وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا
(سورة الأحزاب: الآية 10-11)

مصيبة الدين أعظم مصيبة
أن يصل الإنسان إلى مرحلة يظن بها بالله والعياذ بالله ظن السوء فهذا أعظم مصيبةٍ له، هذا أعظم من مصيبته في الهزيمة، لذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أصابته مصيبةٌ قال: الحمد لله إذ لم تكن في ديني، لأن مصيبة الدين أعظم مصيبة، أن يسيء الظن بربه، أن يظن أن الله تعالى لا ينصر دينه، ولا يحق الحق، قد يؤخر الله عزَّ وجلَّ نصر أوليائه وأحبابه، ليتحقق لهم التمكين الذي يريده ولكي يعودوا إلى خالقهم ومولاهم، فهناك حكمة في تأخير النصر، لكن ليست أبداً أن الله عزَّ وجلَّ لا يريد أن ينصر أهل الحق، فحسن الظن بالله أيها الأحباب؛ أيضاً مما تعالج به الهزيمة النفسية.

7. التوقف عن جلد الذات
العلاج السابع مهم جداً أسميه التوقف عن جلد الذات، نريد أن نتوقف عن جلد الذات، ما جلد الذات؟ جلد الذات هو أن الإنسان دائماً يُكبِّرُ أخطاءه وأخطاء المسلمين من حوله، ويصغر طامات أعدائه، هذا اسمه جلد الذات.
كل يوم كلما جلس في مجلسٍ ديدنه أن يقول: يا أخي نحن مقصرون، نحن حالنا سيئةٌ جداً، نحن ليس عندنا أي شيء، لا صناعة ولا زراعة ولا تطور ولا أسرة، خسرنا الدنيا والآخرة، لا ربحنا الغرب ولا ربحنا الشرق، حالنا يرثى له وضعنا انتهى، لن تقوم لنا قائمة، هذا جلد الذات، تقول لهم: هم عندهم تفكك أسري، لا يا أخي أنت لا تعرف، الغرب متفوق متقدم متطور، هؤلاء بكفرهم وصلوا إلى ما وصلوا، وأنت بإيمانك ما وص لت إلى شيء!! الله أكبر، ديدنه أن يجلد ذاته، ويجلد بني جلدته ويكبِّر أخطاءنا.
يقول لك: والله يا أخي رأيت على إشارة المرور شخصاً قطع الإشارة، ورأيته ألقى ورقة من نافذة السيارة، والله عشت في بلد غربي لسنواتٍ، ولا يوجد شخص يلقي القمامة من السيارة، هذا صحيح وجميل جداً ويجب ألا يلقي أحدنا القمامة من نافذة السيارة، وهذا عيب، لكن هل المسألة تنحصر كلها في هذه المدنيّة فقط.
المحبة والتلاحم الأسري في المجتمع الإسلامي
نحن عندنا تلاحمٌ أسري، الأب أب والأم أم، إلى اليوم عندنا الحرام حرام والحلال حلال، نحن نحافظ على عفة نسائنا، نحن لا نضع أباءنا ولا أجدادنا ولا أمهاتنا في دور العجزة، يضحي الأب في بلادنا من أجل أبنائه، يضحي الأبناء من أجل والدهم، نحتفل بأمنا في كل يوم؛ إن لم نحصل على رضاها في كل يوم نشعر وكأن هناك ثقلاً على قلوبنا، وليس يوماً في السنة، نحن عندنا طهارة، عندنا وضوء خمس مرات، نطهر أجسامنا، دائماً نعتني بطهارتنا، بنظافتنا، ببيوتنا، عندنا مجتمع طيب متماسك حتى الآن رغم كل التراجع، رغم كل البعد عن الدين، ما زلنا نتمتع بهذا التلاحم الأسري والحب بيننا، رغم تخلينا عن كثيرٍ من ديننا فكيف لو طبقناه كاملاً؟! فعندنا تقصير، ثم اذكر التقصير وحاول أن تتجنبه، لكن جلد الذات هو حالةٌ تؤدي إلى سوداوية وكآبة، تجلس في مجلس تقوم لا تستطيع أن تقف على قدميك من شدة ما يصفون لك من بؤس حالنا، نعم عندنا مشكلات، لكن المشكلات ليست كلها لدينا، وهم لا يوجد عندهم مشكلات، أبداً، عندنا إيجابيات نعززها وعندنا سلبيات نسعى إلى تلافيها، هذا اسمه جلد الذات، وهذا ينبغي أن نعرض عنه إذا أردنا أن نعالج الهزيمة.
في مقابله هناك النقد الإيجابي، النقد مطلوب هذا ليس جلداً للذات، تقوم بنقد إيجابي بنَّاء: ما رأيكم أن نتعاون على أن نفعل هذا الأمر أو أن نعدل هذا السلوك، الله أكبر جميل جداً، هذا نقد إيجابي نظهر الخطأ بحجمه الطبيعي ونعمل على تجاوزه ونضع خطة لتجاوزه هذا أمر مهم جداً، لكن أن نجلد ذواتنا دائماً ونتهم أنفسنا دائماً بأننا أسوأ خلق الله وبأنهم رغم بعدهم عن الدين قد أصبحوا في الأعالي ونحن لا نعلم ما عندهم من الطامات والمشكلات التي يندى لها الجبين فهذه مشكلة، هذا جلد للذات.

8. قراءة التاريخ
أيها الإخوة الكرام: أيضاً مما تعالج به الهزيمة النفسية: قراءة التاريخ، ربنا عزَّ وجلَّ لمَّا خاطب نبيه ماذا قال له؟ قال:

وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
(سورة هود: الآية 120)

أهمية قراءة الماضي والتاريخ وقصص الأنبياء
أنت عندما تقرأ القرآن وقصص الأنبياء في القرآن هذه كانت تتنزَّل؛ معظمها قصص الأنبياء، سورة هود، سورة القصص، سورة يوسف، تنزلت في مكة، حيث كان الصحابة الكرام يعيشون واقعاً أشبه بواقعنا اليوم، مستضعفون يسامون سوء العذاب، تكالب عليهم الشرق والغرب، تآمر عليهم القاصي والداني، فكانت تتنزَّل عليهم سور القرآن تروي لهم كيف نجَّى الله موسى، وكيف حفظ الله يوسف في الجب ثم حفظه في قصر العزيز ثم أعزه ومكنه في الأرض، الآن نحن بحاجة أن نقرأ هذه السور، وأن نقرأ أخبار السابقين لنقوى بها بأنَّ الله عزَّ وجلَّ موجود في كل زمان وفي كل مكان، نعم شاء الله أن نكون في عصر فيه ضعفٌ للمسلمين، ولكن التاريخ شاهدٌ على أن العزة للإسلام والمسلمين، وأن الوقت مهما طال فإن النصر قادم، فإذاً قراءة الماضي والتاريخ وقصص الأنبياء مهمةٌ جداً.

9. الاستعانة بالوسائل التي ترفع الهمم في القرآن الكريم
آخر شيء في علاج الهزيمة: الاستعانة بالوسائل التي ترفع الهمم التي جاءت في القرآن الكريم أولها:

الصبر والصلاة
قال تعالى:

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ
(سورة البقرة: الآية 45)

{ انَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى }

(أخرجه أبو داود بسند حسن)

(إذا حزبَهُ أمرٌ) يعني أهمَّه أمرٌ، فمما يعينك ويقويك الصلاة، أيضاً كان يقول:

{ يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها }

(صحيح أبي داود)

فالصلاة تريح النفس.

التسبيح
قال تعالى:

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ
(سورة الحجر: الآية 97-98)

أي إذا شعرت بضيق الصدر فالجأ إلى التسبيح، سبحان الله.
أيضاً ذكر الله وقراءة القرآن، قال تعالى:

أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
(سورة الرعد: الآية 28)


الدعاء
الالتجاء إلى الله والدعاء، وأجمل ما في هذا الدعاء قوله صلى الله عليه وسلم:

{ ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حزَنٌ فقال: اللَّهمَّ إنِّي عبدُك، ابنُ عبدِك، ابنُ أمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدْلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سمَّيْتَ به نفسَك، أو علَّمْتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندك، أن تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حَزَني، وذهابَ همِّي، إلَّا أذهب اللهُ همَّه وحَزَنَه وأبدله مكانَه فرحًا، فقيل: يا رسولَ اللهِ، أفلا نتعلَّمُها؟ فقال: بلَى ينبغي لمن سمِعها أن يتعلَّمَها }

(أخرجه أحمد)

فالمؤمن عندما يناجي الله ويتصل بالله ويصبر ويعتصم بالله ويُكثر من التسبيح ومن قراءة القرآن ومن ذكر الله، فهذه كلها وسائلٌ معينةٌ على أن يقوِّي نفسه، هذه علاجٍ فوريٍ آني، إنسان شعر بالإحباط من الأخبار، انزعج مما يجري في الأرض، انزعج مما يفعله من هم من أبناء جلدتنا، يخونون دينهم وأوطانهم فشعر بالإحباط، يلجأ فوراً إلى التسبيح والاستغفار والدعاء والله عزَّ وجلَّ يجعل له إن شاء الله مخرجاً وفرجاً.
والحمد لله رب العالمين.