هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

  • الحلقة التاسعة عشرة
  • 2021-05-01

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم


مقدمة :
الدكتور بلال نور الدين :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخوتي الأكارم ؛ أخواتي الكريمات ؛ أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، في مستهل حلقة جديدة من برنامجنا : "مع الرسول صلى الله عليه وسلم" .
قــــــــــــــد طال شوقي للنبي محمدٍ فمتى إلى ذاك المقامِ وصولُ ؟ أتُرى أمرغ وجنتي فــــــــــــــي تربهِ وألوذ من فرحٍ بـــــــــــــــــه وأقولُ هذا النبي الهاشمـي المصطفى هذا لــــــــــــــــه كل القلوبِ تميلُ
أسعدكم الله أخوتي الأكارم في كل مكان ، رحبوا معي بفضيلة شيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي .
السلام عليكم .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته دكتور بلال .

الدكتور بلال نور الدين :
أكرمكم الله .
سيدي نتحدث اليوم عن ومضة من سيرته العطرة ، وعن هجرته صلى الله عليه وسلم ، هجرته إلى المدينة المنورة صلى الله عليه وسلم ، التي نورت به ، سيدي لو بدأنا بالهجرة، الهجرة في الأصل من مكة إلى المدينة ، أي مغادرة مكان إلى مكان ، مفهوم الهجرة بشكل عام مفهوم نبوي ؟

العبادة علة وجودنا :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
لابد من مقدمة أبعد من ذلك ؛ الله عز وجل الذات الكاملة واجب الوجود ، وما سواه ممكن الوجود ، معنى ممكن أن يكون أو ألا يكون ، أو إذا كان على ما هو كائن أو على خلاف ما يكون ، ألم يكن من الممكن في أصل وجود الأرض أن يجمع المؤمنين في مكان واحد؟ لو مكة كلها مؤمنون لا يوجد هجرة ، ما من داع للهجرة ، لحكمة بالغةٍ بالغة ، ولعلم الله بما سيكون من تقصير ، فجعل في مكة من يناوئ النبي ، ويعارضه ، فإنقاذاً لدينه ، أي المكان الذي يحول بينك وبين أن تعبد الله فيه ينبغي أن تغادره ، لأنه علة وجودك .
إنسان أرسل ابنه إلى باريس لينال الدكتوراه من السوربون ، لم يقبل في هذه الجامعة لا معنى لبقائه في باريس .

الدكتور بلال نور الدين :
فليعد ، ويغادر .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
فنحن علة وجودنا العبادة ، فإذا حال مكان ما ، في ظرف ما ، من جهة ما بيني وبين علة وجودي لا معنى لوجودي في هذا المكان ، أنا وجودي مهم جداً ، وجودي أن أعبد الله فلابد من مغادرتي ، هذا في الأساس تشريع الهجرة ، كان من الممكن أن تكون مكة كلها مؤمنين ، ما هاجر ، يأتي بعد حين قادة أقوياء جداً ، ظروف صعبة جداً تقتضي أن يهاجر، فالنبي أوجده الله بمكان يوجد فيه مناوئون للدين ، أقوياء ، يتمتعون بعبادة الأصنام .

الدكتور بلال نور الدين :
صراع بين الحق والباطل .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
فهذا الصراع علة وجودنا ، كان من الممكن أن يجعل الله الكوكب كله يوجد فيه مؤمنون ، وكوكب آخر كله كفار ، لم يعد هناك مشكلة إطلاقاً ، لكن أُلغي الامتحان ، أُلغي الابتلاء ، لماذا الله عز وجل أوجدنا مع الآخر في مكان واحد ؟ لأن الإنسان لا يرقى إلا بالجهاد ، بالبذل والتضحية .

الدكتور بلال نور الدين :
لكن :

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
[ سورة محمد]


هجرة النبي منهج لكل مسلم :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الابتلاء علة وجودنا ، غاية وجودنا ، فالنبي هاجر ، وهجرته منهج لكل مسلم ، عفواً ؛ إذا منعت أن تصلي في بيتك .

الدكتور بلال نور الدين :
تهاجر .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
ببيتك ، أن تحجب ابنتك ، وهذا منع كلي كما صار في الأندلس ، شيء لا يصدق، ساعتئذٍ الهجرة واجبة .

الدكتور بلال نور الدين :

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97)
[ سورة النساء]


الإنسان يرقى بالاختيار :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
( فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) .
هناك تخطيط إلهي دقيق جداً ، وخُلِق الإنسان مكلفاً ، والمكلف يتكلف أو لا يتكلف، مخير ، والاختيار علة وجودنا في الدنيا .

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
[ سورة الكهف]

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
[ سورة الإنسان]

فالإنسان يرقى بالاختيار ، لو فرضنا طريقاً على عرض كتفي الإنسان وهو يمشي قلنا له : خذ اليمين ، أي يمين ؟ التغى الأمر والنهي كلياً ، لو كان هناك تسيير كامل يوجد أمر ونهي ، أما الإنسان فمخير ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) لأنك مخير عملك مثمن ، الاختيار يثمن العمل ، والإنسان مخلوق أول سيدي، هو قبِل حمل الأمانة في عالم الأزل ، فلما قبِل حمل الأمانة أعطاه الاختيار ، الاختيار يثمن عمله ، أعطاه الشهوة ، قوة دافعة ، لكن هي قوة دافعة ممكن أن تكون في شيء لا يرضي الله ، شهوة معينة مئة وثمانون درجة ، مسموح بمئة وعشرين ، الزنا محرم ، لكن يوجد زواج يقابله ، السرقة محرمة لكن يوجد كسب مال مشروع .

الدكتور بلال نور الدين :
تجارة .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
التفوق ، هناك أشياء تؤذي العباد ، لكن يوجد تفوق محمود أن تكون عالماً كبيراً مثلاً ، تاجراً كبيراً ، محسناً كبيراً ، فما من شهوة أودعت في الإنسان إلا جعل الله لها قناة نظيفة طاهرة تسري خلالها ، لا يوجد حرمان قطعاً .
صفيحة البنزين تمثل الشهوة ، سائل متفجر إذا وضع في المستودع المحكم ، وسال هذا البنزين في الأنابيب المحكمة ، وانفجر في الوقت المناسب ، والمكان المناسب ، ولّد حركة نافعة أقلته ، نحن بالأردن إلى العقبة ، نزهة جميلة ، الصفيحة نفسها إن صبت على السيارة أحرقت المركبة ومن فيها ، فالشهوة قوة دافعة ، أو قوة مدمرة .

الدكتور بلال نور الدين :
هنا سيدي النبي صلى الله عليه وسلم بدأ هجرته ، وكما تفضلتم مفهوم الهجرة في العمق أن الله تعالى جعل الحق والباطل في مكان واحد ، يتم الصراع ، ويهجر الإنسان المكان الذي لا يستطيع أن يقيم فيه دينه ، بدأ بترتيبات الهجرة .

بطولة الإنسان أن يأخذ بالأسباب ثم يتوكل على الله :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
قبلها ، نحن عندنا رحلة المقدس ، والهجرة .

الدكتور بلال نور الدين :
الإسراء والمعراج ، والهجرة .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
في رحلة المقدس في الإسراء ألغيت الأسباب كلياً .

الدكتور بلال نور الدين :
على البراق .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
كن فيكون ، الله أعطاه رحلتين ، رحلة الإسراء إلغاء الأسباب ، بيان قدرة الله عز وجل ، عظمة الله عز وجل ، وأعطاك الهجرة يستنبط منها أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، قد يقول أحدهم : الغرب أخذ بالأسباب ، أنا أقول : أخذ بالأسباب أخذاً مذهلاً ، واعتمد عليها ، وألهها.

الدكتور بلال نور الدين :
نسي الخالق .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
وقع بالشرك ، المسلمون لم يأخذوا بها أصلاً وقعوا في المعصية ، أما البطولة فأن نأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، والجمع بينهما يحتاج إلى حنكة ، وإلى قوة .

الدكتور بلال نور الدين :
سيدي ؛ ومن فقه المسلمين أن عمراً رضي الله عنه لما أراد أن يؤرخ للمسلمين جعل الهجرة مبدأ ، لأنها رحلة الأسباب ، ومن السنن الكونية .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
عفواً ؛ لماذا صنعت السيارة ؟ كي تسير ، والمكبح ؟ إيديولوجياً يتناقض مع علة السيارة ، يوقفها ، لكن ضمان لسلامتها .

الدكتور بلال نور الدين :
سيدي ؛ النبي صلى الله عليه وسلم كما تفضلتم أخذ بالأسباب في الهجرة ، لو عددنا بعضها ، جهز راحلتين ، استأجر خبيراً بالطريق ، عبد الله بن أريقيم ، حدد موعد اللقاء بعد ثلاثة أيام .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
ولم يكن مسلماً ، يمكن أن تأخذ خبرة من الآخر .

الدكتور بلال نور الدين :
استعان به ، ما دام خارج الدين ، حدد موعد اللقاء بعد ثلاثة أيام حتى يهدأ الطلب، جعل من يأتي بالطعام عائشة وأسماء رضي الله عنهما ، علي في فراشه ، غيّر الطريق ، أخذ طريقاً آخر .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
أخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم توكل على الله وكأنها ليست بشيء .

الدكتور بلال نور الدين :
ظهر هذا التوكل سيدي لما وصلوا إليه في الغار ، أراد الله أن يصلوا إليه ، قال أبو بكر :

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه : قال أبو بكر : نظرتُ إِلى أقدام المشركين ونحن في الغار على رؤوسنا . فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إِلى قَدَمْيه أبْصَرَنَا تحت قدميه . فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

ومما يلفت النظر في الهجرة أن قريشاً جعلت مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، فتبعه سراقة ، كيف نفسر موقف سراقة مع النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الهجرة ؟

موقف سراقة مع النبي على طريق الهجرة :
الدكتور محمد راتب النابلسي :
الحقيقة ؛ إنسان مهدور دمه ، مئة ناقة ، مئة ناقة أي مرسيدس .

الدكتور بلال نور الدين :
سيارات حديثة .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
أحدث شيء ، لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، شخص خائف - إن صح التعبير - مهدور دمه ، مطارد ، أكبر جائزة تتصور لمن يأتي به حياً أو ميتاً ، يقول له : كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟ شيء لا يصدق ! أنا سأصل ، وسأنشئ دولة ، وسأنشئ جيشاً، وسأحارب أكبر دولة في ذلك الوقت ، دولة فارس ، وسأنتصر ، وسوف تأتي الغنائم إلى هنا ، ولك منها يا سراقة سوار كسرى ، عندما جاءت الغنائم وقف صحابي مع رمحه كان ارتفاع الغنائم مترين ونصف ، ومترين ونصف من الطرف الآخر لم يتراء الرمحان من حجم الغنائم ، أين سراقة ؟ جاء سراقة ، أعطاه سوار كسرى ، ملك الفرس ، قال : بخ بخ ، أعيرابي من بني مدلج يلبس سوار كسرى .

بطولة الإنسان أن يصطلح مع الله وينتصر له :
زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، لا يوجد كم ، ولا يوجد سلاح ، لكن يوجد :

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
[ سورة محمد]

ويوجد :

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
[ سورة البقرة]

فالكرة بملعبنا دائماً ، والبطولة أن نصطلح مع الله ، وأن ننتصر له ، كي نستحق نصره .

الدكتور بلال نور الدين :
النبي صلى الله عليه وسلم كان متفائلاً في طريق الهجرة ، لكن كان معداً العدة التي يستطيعها .

الدكتور محمد راتب النابلسي :
التفاؤل من صفات المؤمن .

خاتمة وتوديع :
الدكتور بلال نور الدين :
جزاكم الله خيراً سيدي ، وأحسن إليكم .
أخوتي الأكارم ؛ لم يبقَ لي في نهاية هذا اللقاء الذي طاب بحضوركم وقبلاً طاب بكلمات شيخنا جزاه الله عنا خير الجزاء ، إلا أن أشكر له ما تفضل به ، وأن أشكر لكم حسن المتابعة ، سائلاً المولى جلّ جلاله أن نلتقيكم دائماً على خير، إلى الملتقى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته