منهج الإصلاح في القرآن والسنة

  • محاضرة في الأردن
  • 2020-08-31
  • عمان
  • الأردن

منهج الإصلاح في القرآن والسنة

السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بيته الطيبين الطاهرين وعلى صحابته الغر الميامين أمناء دعوته وقادة ألويته وارضَ عنا وعنهم يارب العالمين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً متقبلاً صالحاً يارب العالمين.
عنوان لقائنا اليوم منهج الإصلاح، كلمة الإصلاح راقية يحبها كُلُّ مصلح ويخشى منها كُلُّ مفسد، من لا يحب أن يصلح؟ أن يصلح نفسه وأن يصلح أهل بيته، بل يطمح أحياناً أن يصلح العالم كلَّه، فالأرض خُلِقَت من أجل أن تَصلُح لا من أجل أن يُفسَد فيها

وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ
(سورة البقرة: الآية 205)


تعريف الإصلاح
الفساد هو أن تُخرِج الشيء عن طبيعته
فالإصلاح أن تضع كُلَّ شيءٍ في موضعه، فالمرأة تكون صالحةً حين تكون زوجةً، وتكون صالحةً حين تكون أُمَّاً رؤوماً، وتكون صالحةً حين تكون جدةً مقدرةً في بيتها، أما عندما تخرج المرأة عن الهدف الذي خُلِقَت من أجله تصبح سلعةً ينظر إليها كُلُّ إنسان بعين الشهوة، هذا شأن المفسدين يريدون الإفساد، فالفساد ليس من شأن المؤمن، والإفساد هو أن تضع الشيء في غير موضعه فيفسد، السكر مادة مفيدة ولذيدة والملح مادة مفيدة، لكن الملح يوضع في الطبخ والسكر يوضع مع الحلويات، فمن الفساد أن تضع السكر في الطعام المطبوخ وأن تضع الملح في الحلوى المعدة للضيوف، هذا فساد، فالفساد هو أن تُخرِج الشيء عن طبيعته، الله تعالى خلق المرأة أمَّاً وزوجةً وأختاً وجدةً وامرأةً مصانةً في المجتمع، فلما أُخرِجت عن وظيفتها وأمرت بالتبرج وأمرت بمزاحمة الرجال في أماكنهم أُفسدت، هذا هو الفساد أُخرِجت عن طبيعتها، وليس المرأة فقط كل شيء يَفسُد عندما تستخدمه في غير ما خُلِقَ له، الله تعالى خلق العقل ليصل إلى خالق السماوات والأرض فيسعد في الدنيا والآخرة، لكن عندما نستخدم العقل لغير ما خلق له فنحكِّمه في شرع الله عَزَّ وجَلَّ ونقول: هذا أعجبنا وذاك الحديث لم يُعجبنا وتلك الآية لهذا العصر وتلك الآية لعصرٍ آخرٍ، الآن العقل أُخرِج عن وظيفته، خلقه الله لوظيفة أن يصل إلى الله وأن يفهم الشرع فجعله بعض الناس حكماً على الشرع فأفسدوا العقل!
القلب في أصل خلقه
والقلب يَفسُد؛ القلب في الأصل خلقه الله ليحب الحبَّ الطاهر البريء، ليحب الله، ليحب رسل الله، ليحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحب الخير، ليحب الزوجة، ليحب الولد، ليحب أهل بيته، ليحب المؤمنين، فلما أُخرج القلب عن طبيعته وجعلوا للحب يوماً ترتكب فيه الموبقات وتنتهك فيه الحرمات باسم عيد الحب فالقلب أُفسِد، لم يُخلَق القلب لذلك ، كل شيء يمكن أن يفسد عندما يخرج عن طبيعته (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) الله يحب الصلاح، يحب الإصلاح، قال تعالى:

وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
(سورة الأعراف: الآية 170)

كن مصلحاً والله يتولاك، قال تعالى:

وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
(سورة الأعراف: الآية 142)

قال تعالى:

وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
(سورة القصص: الآية 77)

قال تعالى:

إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
(سورة يونس: الآية 81)

مهما رأيت من المُفسِد أنه انتفش وأخذ قوةً وبدا لك أنه في وضع كبير وفي وضع يهابه ويخشاه الناس مهما بدا لك من فورته قل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا بد أن يُفسِد الله عليه خطته التي يريد بها إفساد الآخرين (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) هذا قانون لا يتخلف ولا يتغير.

أنواع الإصلاح
الإصلاح أيها الأحباب؛ هنا دخلنا في صلب الموضوع بعد هذه المقدمة، الإصلاح نوعان: أن يُصلَح الفرد وأن يُصلَح المجتمع، ما منا واحدٌ إلا ويملك أن يُصلِحَ نفسه وأن يبذل جهده في إصلاح من يعولهم ويقوتهم من أبناء بيته وأهل بيته وأسرته وربما عائلته وربما ينتقل إلى إصلاح المجتمع لكن يجب أن يبدأ الإنسان بإصلاح نفسه فإصلاح الفرد هو الأساس، كيف يصلح الفرد؟
جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال:
"لا يَصْلُحَ آخِرُ هذه الأمة إلاّ بما صَلُحَ به أوّلُها"
{ الإمام مالك }
إصلاح الأمة بالقرآن الكريم
كيف صلح أول هذه الأمة؟ بالقرآن الكريم، بشكل رئيسي صلحت هذه الأمة بالقرآن الكريم، أمة الإسلام أكبر من العروبة، الأمة التي بلغها وحي السماء أمة التبليغ، الأمة نوعان: أُمَّةُ استجابة، وأُمَّةُ تبليغ، نحن إن شاء الله من أمة الاستجابة، بُلِّغنا واستجبنا، أُمرنا فصلينا، نُهينا فاجتنبنا، نحن من أمة الاستجابة، لكن أمة التبليغ اليوم مليار ونصف مليار مسلم على سطح الأرض هذه كلها بُلِّغَت وصلتها دعوة الإسلام، لكن الأمة التي نُعَوِّلُ عليها هي أمة الاستجابة، فكيف صلح أمر هذه الأمة أمة التبليغ؟ كل من بُلِّغَ برسالة الإسلام كيف صلح أمرهم؟ بالقرآن الكريم، العرب كانت قبائل منهم تئد البنات وكانوا يقيمون حروباً تمتد لأربعين سنة من أجل ناقة، وكان عندهم من مساوئ الأخلاق ما عندهم، وعندهم من مكارمها للأمانة، عندهم من مكارم الأخلاق، فقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{ إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ }

(أخرجه البخاري)

لأن عندهم بعض الصفات لكن رشَّدها الإسلام، فهذه الأمة كيف صلحت؟ صلحت بالقرآن الكريم، صلحت بسنَّة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أردنا أن نصلح الفرد في آخر الزمان فينبغي أن ننظر في صلاحه في أول الزمن
"لا يَصْلُحَ آخِرُ هذه الأمة إلاّ بما صَلُحَ به أوّلُها"
{ الإمام مالك }

الفرق بين المواطن الصالح والعبد الصالح
القوانين الرَّادعة قد تُصلح بعض الأفراد لكن هذا الصلح ليس صلحاً عاماً وإنما صلح جزئي مادامت القوانين منفذةً وكاميرات المراقبة تعمل فقد تصلح الأفراد بكاميرات المراقبة، لكن هل هذا هو العبد الصالح الذي يسعى الإسلام إليه؟! بعض المفكرين كان يقول: "إنَّ الغرب أنشأ المواطن الصالح لكن الإسلام أراد أن يُنشئ الإنسان الصالح"، كيف؟.
المبادئ لا تتجزأ
المواطن الصالح لا يرمي القمامة في الطريق، والمواطن الصالح في بلده لا يتجاوز إشارة المرور، والمواطن الصالح لا يرفع صوت التلفاز فيؤذي جاره، لكن المواطن الصالح قد يرتكب الزنا، والمواطن الصالح قد يقوم بكل الموبقات في بيته وقد يشرب الخمور ويذهب عقله وقد يؤدي به ذلك إلى أشياء وأشياء لا ترضي الله لكنه مواطن صالح! في المجتمع الغربي هو مواطن ومواطنته صالحة، المواطن الصالح يخشى على قطة من القطط أن يصيبها مكروه لكنه لا يلتفت إذا كانت شعوب في الأرض تُقصف بالقنابل الفسفورية وبالقنابل الفراغية وتنزل البراميل المتفجرة فوق رؤوسها لا يهمه ذلك ولا يعنيه وينتخب من يدعمون ذلك لأنه مواطن صالح! هو داخل وطنه مواطن صالح، لكن الإسلام ما أراد مواطناً صالحاً أراد عبداً صالحاً، الصلاح لا يتجزأ، المبادئ لا تتجزأ، أنت صالح في كل زمان وفي كل مكان، اتَّقِ الله حيثما كنت، الإنسان الصالح لا يسرق ولو كان من غير المسلم

{ مَن غشَّ فليسَ مِنَّا }

(صحيح الترغيب)

النبي صلى الله عليه وسلم يوم هاجر ترك عليَّاً في فراشه كما في الرواية الصحيحة ليؤدي الودائع إلى أهلها لأنه إنسان صالح، فالإنسان الصالح غير المواطن الصالح، نحن نسعى إلى الإنسان الصالح، المسلم يبني الصلاح في الفرد بحيث يلتزم هذا الفرد بالمبادئ ويلتزم بالقيم ويلتزم بالدين في أي مكان وفي أي زمان ولا يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قليل.

إصلاح الفرد في القرآن الكريم
إقامة الصلاة إصلاحٌ للعلاقة مع الله
فإصلاح الفرد في القرآن الكريم ينطلق من مبدئين: قد تنتبهون في القرآن الكريم إلى أنه يتكرر دائماً: (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) (يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) تكرر تلازم هذين الفرضين من فروض الإسلام والركنين من أركان الإسلام؛ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بينما الحج مثلاً والصيام وردا في آيات أخرى، لماذا شدد القرآن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ لأن إقامة الصلاة هي تعبيرٌ عن إصلاح الفرد بعلاقته بربه، وإيتاء الزكاة هي تعبيرٌ عن إصلاح الفرد من خلال علاقته مع الآخرين

فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ
(سورة الكوثر: الآية 2)

الزكاة تعبيرٌ عن العطاء
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ) هذه العلاقة العمودية، (وَانْحَرْ) لإطعام المساكين هذه العلاقة الأفقية مع الآخرين، فتكرر هذان الركنان من أركان الإسلام لأنهما يشكلان علاقة الإصلاح الحقيقة، فيُصلح الإنسان علاقته بربه بالصلاة ويُصلح علاقته بالآخرين بالزكاة، فالزكاة تعبير عن العطاء، والصلاة تعبير عن حسن الصلة بالله، فأنت تقف بين يدي الله فتُصلح نفسك ثم تنطلق إلى الآخرين فتعطيهم وتهبهم فيؤدي ذلك أيضاً إلى صلاح نفسك، فتصلح نفسك من خلال علاقتك بالله وعلاقتك بالناس (أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ).
سيدنا محمد صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إمام المصلحين أصلح الدنيا كلها يوم أن صلحت علاقته بربه.

{ عَن عائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْها، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتى تَتَفطَّر قَدَمَاه، فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رسُول اللَّهِ وَقد غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّم مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ:"أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا }

(متفقٌ عَلَيْهِ)

لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟! نحن نقف بين يدي الله لأن لنا ذنوباً نقول: يارب اغفر لنا، لعل الله يغفر لنا السيئات بالحسنات

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
(سورة هود: الآية 114)


الإصلاح يكون ببناء علاقة صحيحة مع الله تعالى
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح علاقته بربه ويقف بين يديه الساعات الطِوال وليس له ذنوب فقد قال له الله تعالى:

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا
(سورة الفتح: الآية 1-2-3)

(وَمَا تَأَخَّرَ) يعني وما سيأتي، ماذا كان جواب محمدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم؟ (قَالَ: أَفَلا أُحبُ أن أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
القضية قضية إصلاح نفوس، أنا أحب أن أقف بين يدي الله لأشكره على نعمائه، فالوقوف بين يدي الله ليس دائماً استغفاراً من ذنب وإنما هو بناء علاقة صحيحة مع الله يَصلُح بها الإنسان ويُصلِحُ بها الآخرين، قال تعالى:

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
(سورة النساء: الآية 146)

التوبة تحتاج إلى إصلاح
(تَابُوا وَأَصْلَحُوا) يأتي الإصلاح بعد التوبة، بمعنى أن التوبة أحياناً تحتاج إلى إصلاح، لأن الذنوب نوعان: هناك ذنوب بينك وبين الله تكفيها التوبة، والصلحة بلمحة، وهناك ذنوبٌ بينك وبين عباد الله، (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا)، فلا بد أن تصلح بعد أن تتوب، كأن يكون إنسانٌ قد استغل إنساناً وأخذ منه مالاً بغير وجه حق فيتوب إلى الله ثم يصلح ما بينه وبين عباد الله (تَابُوا وَأَصْلَحُوا).
فالفرد أحبابنا الكرام؛ لا تصلح علاقته بنفسه إلا إذا عرف ربه ووقف بين يديه وأحسن الصلة به، هذا إصلاح الفرد، لا يوجد طريق آخر حتى تصلح النفس إلا بمناجاة الله عَزَّ وجَلَّ، القوانين تُصلحها بشكل جزئي، تضبطها لكن لا تصلحها، النفوس تصلح بالعلاقة مع الخالق جَلَّ جَلالُه، بالمدد من الله عَزَّ وجَلَّ.

إصلاح ذات البين
أما إصلاح الآخرين فهذا يسمى في الدين: إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ.

{ قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البيِّن، فإن فساد ذات البيِّن هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّين " }

(رواه أبو داود والترمذي وأحمد)

فالإسلام يحض على الإصلاح، أن تصلح كل علاقة بينيَّة بينك وبين الآخرين أو بين اثنين من الآخرين، هذا (ذَاتِ الْبَيْنِ) إما بينك وبين الآخرين أو بين اثنين تُصلِح العلاقة بينهما، هذا دعوة لإصلاح ذَاتِ الْبَيْنِ ألا يكون هناك مشاحنات ولا بغض ولا كره بين خلق الله عَزَّ وجَلَّ، هذا (إصلاح ذات البيِّن، فإن فساد ذات البيِّن هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدِّين) نسأل الله السلامة.
المجتمع لا يَصلُح إلا بالعدل
الآن من بنود الإصلاح أو من منهج الإصلاح القرآني أن المجتمع لا يَصلُح إلا بالعدل؛ قد تقول لي: ما علاقتنا بالمجتمع الكبير! نحن ليس لنا سلطة على المجتمع؟ المجتمع ليس معناه كل المجتمع، إذا كان هناك بلد فيه ستة ملايين فرد فهل نقصد إصلاح ست ملايين! لا، هناك مجتمعات صغيرة، أنت تُصلح علاقتك بمجتمعك مع أبنائك ومع أسرتك ومع عائلتك ومع العاملين في المعمل عندك، فهناك مجتمع صغير ومجتمع كبير، فالإنسان يملك مجتمعات كثيرة لكن قد لا يملك المجتمع الكبير، فنتحدث عن إصلاح المجتمع، من منهج الإصلاح القرآني أنه لا بد في إصلاح المجتمعات من العدل، المجتمعات لا تصلح إلا بالعدل.

عصر المبادئ
إخواننا الكرام: مالك بن نبي رحمه الله فيلسوف ومفكر جزائري إسلامي كبير، له نظرية جميلة جداً؛ يقول مالك بن نبي: إن العصور التي تمر فيها البشرية ثلاثة عصور: عصرٌ يسمى عصر المبادئ والقيم، وعصرٌ يسمى عصر الأشخاص، وعصرٌ يسمى عصر الأشياء.
الصدق هو السمة الرئيسية لعصر المبادئ
في عصر المبادئ يذوب الأشخاص وتصبح القيمة للمبدأ والقيم، عصر المبادئ عصر الصدق، الأمانة، الحب، الخير، السلام، هذا عصر مبادئ، الأشخاص قيمتهم من قيمة المبدأ الذي يحملونه فإذا أعرضوا عن المبدأ نزلت قيمتهم، يعيش الناس في عصر المبادئ، هذا أعظم العصور، هذا كان في عصور الإسلام الراقية وفي عصر الخلافة الراشدة، كانت القيمة للمبدأ.
يوم مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وانتقل إلى الرفيق الأعلى من حب عمر له رضي الله عن عمر قال: "من قال إن محمداً قد مات قطعت رأسه"، لم يستطع أن يتحمل الصدمة، لأن رسول الله يحمل الرسالة صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ووفاته كانت أعظم مصيبة نزلت بالمسلمين إلى يوم القيامة، وما نزلت مصيبة بمسلم فتذكر مصيبة المسلمين برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إلا هانت عليه مصيبته.
فلما قال عمر ذلك قام أبو بكر رضي الله عنه لينتصر للمبدأ فقال؛ كما في صحيح البخاري:

{ أمَّا بَعْدُ فمَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ }

(صحيح البخاري)

أبو بكر يحب رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كحب عمر لرسول الله أو أشد، لأن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم كان يقول عن أبي بكر:

{ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا }

(صحيح البخاري)

وفي مرضه الذي توفي به كان يقول:

{ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا المَسْجِدِ، غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ }

(صحيح البخاري)

كان يحبه حباً يفوق الخيال، وهو صاحبه في الغار

إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
(سورة التوبة: الآية 40)

عصر المبادئ عند وفاة النبي الكريم
(وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) ولكن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خليله هو الله، أما أبو بكر فصاحبٌ وأخٌ في الله، كل هذه المحبة التي بينهما يقوم أبو بكر ليقول: (مَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ مِنكُم يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ) هذا عصر مبادئ، وقالها باللفظ المجرد، نحب إذا قلنا: محمد أن نقول: سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَسُولُ اللَّهِ، لكنه اختار في هذه اللحظة أن يقول: مَن كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا، حاشاه أن يكون إقلالاً من شأن رَسُولُ اللَّهِ بأبي هو وأمي وإنما أراد أن يتجرد للمبدأ وأن يوقظ الناس من غفلتهم بصدمة، ثم تلا قوله تعالى:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ
(سورة آل عمران: الآية 114)

فيقول عمر رضي الله عنه: (واللَّهِ ما هو إلَّا أنْ سَمِعْتُ أبَا بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ، حتَّى ما تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وحتَّى أهْوَيْتُ إلى الأرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَاتَ) فهذا عصر اسمه عصر المبادئ كما يذكره ابن نبي رحمه الله، عصر المبادئ.

عصر الأشخاص
ثم تأتي عصور أخرى القيمة فيها للشخص، للخليفة، الناس تتعلق بعدل عمر، أو بصلاح الدين الأيوبي الذي فتح القدس وهذا عصر أشخاص وهو عصر جيد عندما يكون الأشخاص جيدين، نحن جميعاً نحب من أبنائنا أن يتعلقوا بالرموز وبالقدوات، فمجتمع بلا قدوات مجتمع هالك، فما المانع من أن نتعلق بالأشخاص؟! لكن على ألا نقدسهم ولا نعظمهم إلى درجة أن يخطئوا ثم نبقى متعلقين بهم على خطئهم فيكون هذا حباً مع الله لا حباً في الله! فعصر أشخاص، ثم ذهب عصر الأشخاص وجاء عصر الأشياء، وفي عصر الأشياء قيمة المرء متاعه، وقيمة المرء ما يملكه ويستمد قيمته من طراز سيارته، وفي أحدث النظريات يستمدها من رقم سيارته الذي يباع بالملايين، ومن مساحة بيته، ومن، ومن، ومن، فتصبح قيمة الإنسان هي أشياؤه وليست ما يحمله من قيم، ويتعامل الناس بهذا المنطق مع الآخرين وهذه المصيبة الكبرى في أن يصبح تعامل المجتمع مع الآخرين هو تعامل بقيمة الأشياء وليس بقيمة المبادئ فينظرون إلى من يملك الأكثر نظرة التعظيم الأكبر وهذا خطأٌ كبيرٌ، وقد ورد في التوراة:
(وَمَنْ جَالَسَ غَنِيًّا فَتَضَعْضَعَ لَهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ)
{ شعب الإيمان }

قصة سيدنا عمر مع جبلة بن الأيهم
تمسك سيدنا عمر بالمبادئ
سيدنا عمر رضي الله عنه، والقصة تعرفونها، لما جاءه جَبَلة بنُ الأيهَمِ ملك الغَسَاسِنة، والغَسَاسِنة كانت تحت سلطة الروم من بلاد الشام، فجاءه مسلماً وكان عمر رضي الله عنه في مكة في موسم الحج، أسلم جَبَلة وإسلامه كان خيراً كبيراً في نظر كل المسلمين، أن يسلم ملك من الملوك ويدخل في دين الله، فأكرمه عمر رضي الله عنه وأدنى مجلسه وحببه في الدين، وهذا مطلوب أن تكرم القدوات وأن تكرم عزيز قوم جاءك طائعاً، تكرمه، وأن تحفظ للناس منازلهم وأن تنزلهم منازلهم هذا مطلوب، فأكرمه أيما إكرام ثم إن جَبَلة أراد أن يطوف بالبيت فبينما هو يطوف بالبيت إذا بدويٌّ من فزارة يدوس على طرف ردائه فيسقطه عن كتفه خطأً فيعظم في نفسه ذلك وهو الملك فيلتفت غاضباً إلى هذا البدوي فيضربه ضربةً تهشم أنفه، فيذهب هذا البدوي من فزارة إلى عمر رضي الله عنه ليشكو له ما فعل هذا الملك، فيستدعي عمر رضي الله عنه ملك الغَسَاسِنة ويجلسه بين يديه أمام رجلٍ من عامة الناس ويسأله أَصحيحٌ مـا ادَّعَى هـذا الفَزَارِيُّ الجَريـحْ؟ فيجيب: نعم، لا أنكر ذلك أنا أدبته لأنه أسقط الرداء عن كتفي، فيقول له: لا بد أن ترضيه أوْ يُهشَمَنَّ الآن أنفُـكْ وتنالَ ما فعَلتَهُ كَفُّـكْ، إما أن ترضيه وإما أن يصنع بك ما صنعت به؟ يستعظم ذلك جَبَلة، يقول له: كيف ذاك؟ هوَ رجلٌ سُوقَهْ وأنا عَرْشٌ وتاجْ، أنا ملك وهو سُوقَهْ، قال له: الإسلام سوى بينكما، هذا عصر المبادئ، الإسلام سوى بينكما، أنت الآن وهو في منزلة واحدة، فيغضب جَبَلة ويقول: كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، كنت متوهماً أنني بمكانةٍ كبيرةٍ عندك! أهكذا يهون عليك الأمر؟ أنا مرتدٌ إذا أكرهتني، سأرتد عن الدين، فيقول له عمر:
عُنُـقُ المُرتـَدِّ بالسَّيـفِ تُحَزُّ عالَم نَبنيهْ كُلُّ صَدعٍ فيهْ يُداوَى وأَعَزُّ الناسِ بالعَبدِ بالصُّعلوكِ تسَاوَى
{ سيدنا عمر رضي الله عنه }
قال: أنظرني حتى الصباح، سآخذ قراري على مهلي، وأراد شيئاً وأضمره في داخله فارتحل ليلاً مع أصحابه ورجع إلى مملكته في الروم وارتد عن دين الله تعالى، وخسر عمر جَبَلة لكنه ربح المبدأ، ولم يقل: لنراضِ الأعرابي بشيءٍ من المال ليسامح ثم نبقيه في الإسلام، المبدأ فوق الشخص، هذا عصر المبادئ، المبادئ فوق الأشخاص، وللفائدة هذا الرجل ذهب وتَنَصَّر وعاد إلى هرقل، وهرقل أدنى مجلسه وجعل له قصراً عظيماً؛ فرح به لأنه عاد إليه، ثم إن عمر رضي الله عنه أرسل رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام فلما عاد من عنده سأله عمر: ألقيت هرقل؟ قال: نعم، قال: وقدمت له الرسالة؟ قال: قدمت الرسالة، هرقل اعتنى بالرسالة وما أجاب إلى الإسلام لكنه احترم أن عمر رضي الله عنه يرسل له رسالة في عصر عظمة الفتوحات الإسلامية، فاحترم الرسالة ولكن لم يجب لا بنفيٍ ولا بإثباتٍ، انظروا عمر، عمر لم ينسى جَبَلة، قال له: ولقيت جَبَلة؟ قال: لقيته، قال: وماذا كان يصنع؟ قال: كان يشرب الخمر، فقال عمر: "أبعده الله، تعجل فانيةً بباقيةً"، أخذ الدنيا وترك الآخرة، قال عمر: فماذا قال لك؟ قال: سمعته ينشد
تَنَصَّرَتْ الْأَشْرَاف مِنْ عَار لَطْمَــة وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرْت لَهَا ضَــرَرْ تَـكَـنَّـفَـنِـي مِـنْهَـا لَـجَـاج وَنَــخْـــــــــوَة وَبِعْت لَهَا الْعَيْن الصَّحِيـحَة بِالْـعَــوَرْ فَيَا ليتَ أمّي لمْ تَلدنِــــي، وَلـيتَنِـي رَجعتُ إلى القَــولِ الذي قالهُ عُمـــر ويا ليتَنِي أرْعَى المَـخاضَ بقَفـــــرةٍ وكنتُ أسيراً في ربيعة أو مُـضَـــــــــر ويا ليتَ لي بالشَّامِ أدنى مَعيشــــةٍ أُجَالِسُ قَومي ذَاهبَ السَّمعِ والبَصـر
{ جَبَلة بنُ الأيهَمِ }
المبادئ فوق الأشخاص
تمنى لو أنه بقي عند عمر رضي الله عنه وقد فقد سمعه وبصره لكنه بقي على الإسلام وما تنصَّر من أجل لطمةٍ، بعد أن فات الأوان ويبدو أنه وجد أن لا رجوع له، إذ تمادى في المعصية والعياذ بالله، فهذا عصر المبادئ، هذا عصر إصلاح لأن المبدأ أساس، المبدأ فوق الشخص ونحن في أمتنا لا بد أن ننتصر للمبادئ على الأشخاص وأن ننتصر للأشخاص المحسنين على الأشياء فنعظِّم صاحب المبدأ والقيمة ولا نعظم صاحب الشيء إلا إن كان على مبدأ وقيمة فلا نعظمه لأشيائه، لا مانع أن تقدره لكن ليس لأشيائه بل لأخلاقه ولقيمه، أما التعظيم للأشياء فالأشياء تفنى وتذهب ولا يبقى منها شيء.

بنود منهج الإصلاح
أيها الكرام: منهج الإصلاح في القرآن ذكرته آيةٌ كريمةٌ واحدةٌ لخَّصت كل المنهج وهذا من إعجاز القرآن الكريم؛ قال شعيب عليه السلام مخاطباً قومه كما في القرآن:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
(سورة هود: الآية 88)

كيف لخَّصت المنهج؟ لخَّصت المنهج بخمسة بنود:
البينة هي الوضوح
1. وضوح المنهج (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) فالإصلاح ينبغي أن يحتاج إلى منهج وهذا المنهج ينبغي أن يكون مستمداً من وحي السماء (إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ) يعني شيء واضح (مِّن رَّبِّي) أما أن يكون الإصلاح على المنهج الغربي فهذا ليس إصلاحاً، أما أن يكون الإصلاح على منهج الإعلام فهذا ليس إصلاحاً، لا أقول: إن كنت على بينةٍ من القنوات الفضائية؛ أنا (عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي)، فالإصلاح ينبغي أن يكون المنهج واضحاً لأن البيِّنة هي الوضوح، شيء بيِّن واضح، ومِمَّن؟ (مِّن رَّبِّي) إذاً الإصلاح ينبغي أن يستند إلى القرآن والسنَّة لا إلى مناهج أهل الأرض، الإصلاح ينبغي أن يستند إلى القرآن والسنَّة فما أحلَّه الشرع حلال وما حرَّمه الشرع حرام، إذاً وضوح المنهج.
القدوة مصلحٌ لمن حوله
2. القدوة: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) فالمُصلِح ينبغي أن يكون قدوةً لمن حوله فيبدأ بنفسه قبل أمر الآخرين بالإصلاح (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) لا أريد أن أترككم وأفعل الشيء الذي نهيتكم عنه فأقول لكم: الربا حرام وأُرابي، وأقول لكم: الزنا حرام وأزني والعياذ بالله، وأقول لكم: السرقة حرام وأسرق والعياذ بالله، (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) هذا ليس إصلاحاً لأنه إن لم يرَ الناس في المُصلح سلوكاً يتوافق مع منهجه فإنهم يكفرون به ويكفرون بكلمته ولا يستجيبون له (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ).
3. الإرادة الصادقة في الإصلاح: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ) فمن لم يملك الإرادة في الإصلاح لن يصلح.
أهمية الحوار في الأسرة
4. استنفاد الجهد: (مَا اسْتَطَعْتُ) يعني أن أستنفد الجهد في الإصلاح، أن أبذل كل ما أستطيع سأبذل كلَّ جُهدٍ ممكن في سبيل الإصلاح، الإنسان في تجارته ألا يستنفد جهوده لتحصيل أكبر مبلغ مالي ممكن؟! إذاً في إصلاح المجتمع أو في إصلاح الزوجة والأبناء ينبغي أن تبذل كل جهد ممكن، تحتاج جلسة يومية مع الأولاد مع الزوجة تسمع ما الذي يحدث حولك، لا بد من أن تستنفد الجهد في الإصلاح.
5. وأخيراً التوكل على الله والإنابة إليه: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) إياك أيها المصلح أن تتكل على نفسك تقول: أنا أصلح أولادي، لا، الله يصلحهم ولعله يجعلني سبباً في إصلاحهم، أما المصلح فهو الله جَلَّ جَلالُه هو الذي يصلح أما أنا سبب؛ أبذل جهدي والأمر لله (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

مفهوم الإصلاح في الحديث الشريف
إخواننا الكرام:

{ عَنْ السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ: أتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ؟!، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا }

(أخرجه مسلم والنسائي)

الإصلاح يشمل الجميع
تروي السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لما سَرَقَتْ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ فاطمة بنت أسد كانت كما في بعض الروايات تستعير الحلي على أنه استعارة ثم تُنكر على من أخذت منهم الحلي، فكانت تسرق، فوصل أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم وأمر بعقوبتها وإقامة الحد عليها، (قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ أمر المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟) نريد واسطة بالعرف الحديث من يتوسَّط؟ (فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ) يحبه حباً جماً فيستطيع أن يكلمه، (فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ) ولربما قال بعدها: ليتني لم أتحدث! وكَلَّم رَسُولَ اللهِ في شأن تلك المرأة فغضب رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ فَقَالَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ خْطَبَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَأيْمُ اللهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) هذا الإصلاح، الإصلاح يشمل الجميع، اليوم يسمونها سيادة القانون، أول من أقرها الإسلام لكن بإصلاح عام وشامل، فقال: (وَأيْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) حاشاها أن تسرق لكن يبين للناس عظمة هذا الدين.
وآخر ما أختم به حديث جميل جداً فيه عبرة كبيرة:

{ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ، قَالَ: أَلا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟ قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا! فَلَمَّا ارْتَفَعَت الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا، فقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ }

(صحيح ابن ماجه)

الحكمة ضالة المؤمن
(مُهَاجِرَةُ الْبَحْرِ) الذي هاجروا في البحر إلى الحبشة، (أَلا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ)؟ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألهم عما رأوا في الْحَبَشَةِ، من فقه الإنسان أن يتعلم من غيره، أن يسمع، رجعت من سفر أسألك ما الذي رأيته؟ شيء حسن آخذ به، شيء سيء أفهم مساوئه، حدثني، ربما أستفيد حتى لو كان من أشخاص غير مسلمين، الحكمة ضالة المؤمن، إن كان شيئاً حسناً أستفيد منه، (قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) عن ماذا سيحدثونه! عن الطعام أو عن الفواكه الغريبة أو عن الأرض أو عن الخيام أو عن العمران؟، (عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ) راهبة، (تَحْمِلُ عَلَى رَأسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ) جرة ماء، (فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ) أي يا غادر، (كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ) كيف يُعلي مكان أُمَّة ويطهرها ويجعلها في مقدمة الأمم وهم لا يأخذون لضعيفهم من شديدهم، هذا الإصلاح في القرآن الكريم وفي السنَّة المطهرة.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا والحمد لله رب العالمين.