أمن الإيمان

  • 2018-12-21
  • عمان
  • مسجد أحد

أمن الإيمان


الخطبة الأولى

ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحقُّ ما قال العبد وكُلُّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كيثراً، وبعد فيا أيها الإخوة الكرام أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته.


نعمة الأمن
أيها الكرام: الأمن كلمةٌ برَّاقة، تتوق لها النفوس السليمة ويرجوها أصحاب الفِطَر الصافية، فمن منا لا يتمنى أن يكون آمناً، وادعاً، في ماله وأهله وولده، كلنا يحب الأمن، فالأمن نعمةٌ كبرى من نِعَمِ الله تعالى، قال تعالى ممتنَّاً على قريش:

الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
(سورة قريش: الآية 4)

وحين أراد الله إحلال العذاب بقريةٍ كفرت بأنعم الله، قال:

فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
(سورة النحل: الآية 112)

ثقة المسلم بالمستقبل
جوعٌ وخوف، أمنٌ وشِبَع، نعمتان متكاملتان، الأمن والشِبع، فالأمن أيها الأحباب يرجوه كل إنسان، ويطلبه كل إنسان، والأمن ليس ألَّا تقع في المصيبة أو في المشكلة فهذه سلامة، لكن الأمن ألَّا تتوقع الوقوع في المصيبة، ومن أكثر من المسلم ثقةً بالمستقبل، ومن أكثر من المسلم ثقةً بقضاء الله تعالى وقدره، وهو يعلم أنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ كل شيءٍ يقع إنما يقع له، قال تعالى:

قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا
(سورة التوبة: الآية 51)

ولم يقل علينا، لأن قضاء الله خير، لأن قضاء الله تعالى خير، قال تعالى:

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ
(سورة آل عمران: الآية 26)

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) لأنَّ نزع الملك قد يكون خيراً، ولأن الله عزَّ وجل عندما يُفقر إنساناً فَيُلْجِئُهُ إلى بابه فهذا قد يكون خيراً له، هو في ظاهره شر لكنه في حقيقته خيرٌ له.

الأمن النفسي يتحقق بالإيمان والتوحيد
إذاً أيها الأحباب: المؤمن آمِن، المؤمن يتمتع بأَمْنٍ لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، الأصل في هذا المعنى قوله تعالى:

فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ
(سورة الأنعام: الآية 81-82)

الإيمان أمْنٌ، بل هو مشتقٌّ من الأمْن، مِن آمَنَ بمعنى صدَّق، ومن أَمِنَ بمعنى لم يخف المستقبل، لأنه مؤمنٌ بوعد الله عزَّ وجل، ومؤمنٌ بقضاء الله وقدره، فهو يعيش حالةً من الأَمْن.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) ما هو الظلم؟ الشرك، كما صحَّ في الحديث، الظلم هنا هو الشرك.
قال تعالى في وصية لقمان لابنه :

يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
(سورة لقمان: الآية 13)

فأعظم أنواع الظلم أن يشرك الإنسان بالله.
الشرك أعظم أنواع الظلم
فالمؤمن حين يكون مؤمناً أولاً، وموحداً ثانياً، يتمتع بنعمة الأَمْن، قال تعالى: (أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) ولمَّا قال: (لَهُمُ الْأَمْنُ) ولم يقل: الأمن لهم، فهذا في اللغة العربية يعني (أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) أي لهم وحدهم وليس لغيرهم، ومهما رأيت من كافرٍ مشرك ظاهراً أنه يتمتع بالأمن ففي قلبه خوفٌ ووَجَلٌ من المستقبل لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، فالمؤمن وحده يتمتع بالأمن، لأنه يثق بالمستقبل، لأنه يعلم أنَّ الله عزَّ وجل لا يقضي له إلا كل خير، ولأنه يعلم أنَّ قضاء الله عزَّ وجل سيكون له العاقبة في الدنيا أو في الآخرة.
متطلبات تحقيق الأمن النفسي
إذاً أيها الأحباب الكرام: الأمن النفسي، أي الأمن في داخلك، يحتاج إلى إيمانٍ ويحتاج إلى توحيد، معادلة رياضية (إيمان + توحيد = أمْن)، إيمان مع توحيد، أن لا يتعلق القلب إلا بالله، كل من تراهم بعينيك إنما هم بيد الله عزَّ وجلَّ وحده.
بربكم أيها الأحباب؛ لو أنَّ وحوشاً ضاريةً متَّجهةً نحوك وهناك من يمسك بزمامها، فإن شاء أرخى لها الحبل فوصلت إليك، وإن شاء شدَّ الحبل فلم تصل إليك، فعلاقتك مع الوحوش أم مع من يمسك بالوحوش؟! لله المثل الأعلى، إنَّ كلَّ من تراهم بعينيك إنما هم بيد الله عزَّ وجلَّ وحده إن شاء سلَّطهم وإن شاء كفَّهم، هذا هو الأمن أن تعلم أنَّ كلَّ شيءٍ إنما يقع بأمر الله وبإرادة الله.

قصة الحسن البصري مع والي العراقين
نصح الحسن البصري لوالي العراقين
أيها الكرام: ابن هبيرة كان والي العراقين، أي الكوفة والبصرة، في زمن يزيد بن معاوية، فجاءه أمرٌ من يزيد، إن أطاع الأمر عصى الله تعالى، وإن لم يطع أمر يزيد عصى وأغضب يزيد، فماذا يفعل ابن هبيرة؟ جاء بعالمين جليلين من التابعين، الأول اسمه الحسن البصري كبير التابعين، والثاني عامر الشعبي وهو أيضاً من كبار التابعين، جاء بهما يستفتيهما: جاءني أمرٌ من الخليفة هل أنفذه أو لا أنفذه، لأن فيه إغضاباً لله؟ فأما الشعبيُّ: فقال كلاماً فيه ملاطفةٌ وملاينةٌ ومسايرةٌ، يعني بعرف اليوم لا تنفذه ولكنه لم يقل له لا تنفذه، يعني بَيْنَ بين، يعني حاول أن تسترضي الخليفة، نفذ بعض الأمر، واعتذر عن بعضه، كلام فيه ملاطفة، فلما جاء دور الحسن البصري قال له: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟ قال: يا ابن هبيرة إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله، (إن الله يمنعك من يزيد) إذا أراد يزيد بك سوءاً فإن الله يمنع يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله، واعلم أنه يوشك أن ينزل بك ملكان غليظان شديدان فيزيلانك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، وهناك، أي في القبر، لن تجد يزيد ولكن ستجد عملك الذي خالفت فيه ربَّ يزيد، فمال ابن هبيرة عن الشعبي، ترك الشعبي، والتفت إلى البصري وجعل يكرمه ويحدثه.
ثم خرجا إلى الناس فاجتمع الناس إليهم، ما الذي حصل؟ لماذا استدعاكما الوالي؟، فوقف الشعبي موقفاً بطولياً، قال: أيها الناس والله ما قال الحسن لابن هبيرة كلاماً أجهله، أبداً، كل ما قاله أعلمه، كلام توحيد، والشعبي تابعيٌّ جليل، ما قال الحسن لابن هبيرة كلاماً أجهله، ولكنني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن فيما قاله وجه الله، فأقصاني الله منه، أبعدني الله عن ابن هبيرة وأدنى منه الحسن، يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقامٍ فليفعل.
هذه كلمةٌ تكتب بماء الذهب: "أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله على جميع خلقه في كل مقامٍ فليفعل"، هذا هو التوحيد، هذا هو التوحيد أيها الأحباب الذي يشعرك بالأمن، الحسن البصري تكلم في مجلس الوالي ولكنه كان آمناً لأنه مع الله، لأنه في رضا الله، فحوَّل الله قلب ابن هبيرة عليه رحمةً ورأفةً وخيراً.

الرضا نتيجةٌ من نتائج الأمن
أيها الأحباب الكرام: إذاً الأمن في داخلنا يتحقق بالإيمان ثم يتحقق بالتوحيد، فينشأ منهما حالةٌ تسمى الرضا أو القناعة، وهذه سرٌّ من أسرار الأمن، أو نتيجةٌ من نتائج الأمن، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا }

(رواه مسلم)

الرضا وتذوق طعم الإيمان
- ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ - الإيمان له طعم، له حقائق ومنها ما أقوله الآن على المنبر، أتكلم عن الإيمان الآن هذه حقائق، لكن له طعم يذوقه الإنسان بالرضا، - ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورَسُولًا - فالرضا يجعلك تذوق طعماً من الإيمان، فعندها تضحي بالغالي والنفيس في سبيل الله عز وجل، عندها لا تثنيك سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينك وقيمك ومبادئك لأنك ذقت طعم الإيمان فلن تستغني عنه - ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا - أعظم الرضا أن ترضى بالله

رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
(سورة التوبة: الآية 100)

رضا الإنسان عمَّا وهبه الله
هل أنت أخي الحبيب وهل أنا راضون عن الله؟ عجباً أنرضى عن الله ونحن نطلب رضاه؟ نعم، نعم نرضى عن الله عندما نرضى بما قسم الله، والرضا أيها الأحباب؛ ليس معناه القعود عن العمل، أبداً، هذا مفهومٌ سلبيٌّ للرضا، أبداً، لكن الإنسان يرضى عمَّا وهبه الله بعد أن يبذل الأسباب، يعمل يأتيه دخل يرضى عن هذا الدخل يعيش به، رزقه الله شكلاً معيناً هو راضٍ عن الله، رزقه الله أولاداً هو راضٍ عنهم، رزقه بناتاً راضٍ عن البنات، رزقه ذكوراً راضٍ عن الذكور، ذكوراً وإناثاً راضٍ، راضٍ عن الله، لأنَّ الله يقسم له الخير، ولأن المآل إلى الخير.

{ عَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ }

(صحيح مسلم)

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ }

(صحيح مسلم)

وفي حديثٍ آخر: " وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ".

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ }

(أخرجه أحمد والترمذي)

من أغنى الناس؟ الرَّاضي، أغنى الناس هو الرَّاضي لأنه غني النفس، والغنى ليس عن كثرة العَرَض ولكن الغنى من النفس.
إذاً أيها الأحباب الكرام: الأمن في داخلنا، والرضا في داخلنا، يحتاج إلى إيمان وإلى توحيد، عندها يستسلم المسلم لأمر الله عزَّ وجل.

أمن المجتمع يتحقق بالعدل
أمن المجتمع لا يتحقق إلا بالعدل
وإتماماً للفائدة؛ هناك أَمْنٌ حولنا: بينك وبين أولادك، بينك وبين شريكك، بينك وبين الناس في الشارع، بين الراعي والرعية، هذا أمن آخر، ليس أمن داخلي في النفس، الأمن الداخلي متاحٌ لنا جميعاً، بالإيمان والتوحيد، الأمن المجتمعي كيف يتحقق؟ بالعدل، أمن المجتمع لا يتحقق إلا بالعدل، إن أردت أن ينتشر الأمن في بيتك فاعدل بين أولادك.

{ حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ ابْنُ بَشِيرٍ: أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لابْنِهَا، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لابْنِي، فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلامٌ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لابْنِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَلا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ }

(صحيح مسلم)

- عن النُّعْمَانُ ابْنُ بَشِيرٍ: أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لابْنِهَا - أن يعطي لابنها شيئاً - فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لابْنِهَا - وهبت ابنها هبةً فسأشهدك عليها، - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ - عندك أولاد غير هذا؟ - قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ - وهبت للآخر مثلما وهبت الأول؟ - قَالَ: لا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَلا تُشْهِدْنِي إِذًا، فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ - أنا لا أشهد على ظلم، ستنشأ أحقاد في البيت لأنك وهبت ولم تهب، لأنك أعطيت فلاناً ولم تعطِ فلان.
طبعاً إخواننا الكرام للتوضيح: العدل شيء والمساواة شيء، يعني أب عنده طالب في الجامعة وابن في الصف الأول، لم يعطِ طالب الجامعة مثل الأول، هذا يحتاج قسط جامعي، طالب الصف الأول لا يحتاج قسطاً جامعياً، فلا نقول: إنه أعطى الكبير ولم يعطِ الصغير، لكن الهبة شيء آخر، عندما يأتي الأب ويقول سأهب أبنائي، نقول له: الآن تعطي بالسوية، هذا هو العدل.
الحكمة من تحريم الربا
إذاً أيها الأحباب الكرام: النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد على جَور، لأن الأمن المجتمعي لا يتحقق إلا بالعدل، الإسلام حرَّم الربا ما الحكمة؟ الربا يجمع الأموال في أيدٍ قليلة وتحرم منها الكثرة الكثيرة، اليوم عشرة بالمئة من سكان الأرض يتمتعون بتسعين بالمئة من خيرات الأرض، وتسعون بالمئة من سكان الأرض يتمتعون بعشرة بالمئة من خيرات الأرض، ما السبب؟ الربا، الآن صار هناك ظلم في المجتمع نتج عنه ما ترون وما تسمعون، " فإنَّ الظُّلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ "، العدل مطلوب، العدل يصنع أمناً مجتمعياً.

{ عن جابر بن عبد الله قال: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ اتَّقوا الظُّلمَ، فإنَّ الظُّلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ، واتَّقوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءَهم واستحلُّوا محارمَهم }

(صحيح مسلم)


عدل سيدنا عمر بن الخطاب
أيها الإخوة الكرام: لما جاء صاحب كسرى برسالةٍ إلى عمر بن الخطاب، ورآه قد توسَّد أرض المسجد وغطَّ في نومه، في المسجد دون حرسٍ ودون عددٍ وعبيد، فقال له كلمة جوهرية، قال: "عدلت فأمنت فنمت".
كل إنسان فينا إخوانا؛ بمصنعه بمتجره، عدلت فأمنت فنمت، اعدل تأمن، الأمن يحتاج إلى عدل، الأمن المجتمعي، الأمن النفسي تحدثنا عنه، الآن الأمن المجتمعي يحتاج إلى عدل، إذاً المَرْزُبَانْ رسول كسرى فهم المعادلة، إنه العدل.
وراعَ صاحب كسرى أنْ رأى عُمَـــــــراً بين الرَّعيّةِ عُطلاً وهو راعيهــــــــــــا وعَهدُه بمُلوكِ الفُرسِ أنّ لـهــــــــــــــــــــا سُوراً من الجُندِ والأحراسِ يَحميها رآه مُستَغرقاً في نَومِه فَـــــــــــــــــــــــــرأى فيه الجَلالَة في أسمَى مَعانيهـــــــا فوقَ الثَّرَى تحتَ ظِلِّ الدَّوحِ مُشتَمِــلاً بُبردَةٍ كادَ طُولُ العَهدِ يُبليهــــــــــــــــا فهانَ في عَيِنه ما كان يُكبِـــــــــــــــــــــرُه مِنَ الأكاسِرِ والدّنيا بأيديهـــــــــــــــــــا وقال قَوَلَةَ حَقٍّ أصبَحَتْ مَثَــــــــــــــــــــلاً وأصَبَحَ الجيلُ بعدَ الجيلِ يَرويهـــــــا أمِنتَ لمّا أقَمتَ العَدلَ بينهُـــــــــــــــــــــــمُ فنِمتَ نَومَ قَريرِ العَينِ هانيهــــــــــــــا
{ القصيدة العمرية لحافظ إبراهيم }
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا علیك اتكلنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدیر، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها فرجاً عاجلاً يا أكرم الأكرمين، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عریانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غریبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أكرم الأكرمين، اللهم فرج عن المستضعفين في كل مكان، اللهم فرج عن إخواننا في القدس الشريف، وفي المسجد الأقصى المبارك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.