اعرف رسولك

  • 2018-11-23
  • عمان
  • مسجد الصالحين

اعرف رسولك


الخطبة الأولى

ياربنا لك الحمد مِلء السماوات والأرض ومِلء ما بينهما ومِلء ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد أحقُّ ما قال العبد وكُلُّنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنَى كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هداك، وكيف نَذِلُّ في عزك، وكيف نُضامُ في سلطانك، وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك، وأشهدُ أن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسلتهُ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كيثراً، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأحثكم على طاعته، واستفتح بالذي هو خير؛ يقول تعالى في سورة المؤمنون:

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ
(سورة المؤمنون: الآية 69)

إن الله تعالى أيها الأحباب؛ يستنكر على أمةٍ لا تعرف رسولها، يستنكر على أمةٍ تجهل سيرة نبيها وتجهل سنَّة نبيها.

وجوب معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عظمة الرسول من عظمة المرسل
الله تعالى أيها الأحباب؛ يأمرنا في هذه الآية عن طريق الاستفهام والعتاب، فكأنه يقول لكل مسلم أيها المسلم اعرف رسولك، لا بد أن تتعرف إلى رسولك، فعظمة الرسول من عظمة المرسل، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو أن واحداً منا أرسل له حاكمٌ أو قويٌّ أو غنيٌّ رسولاً فكيف يتعامل مع هذا الرسول؟ هذا في دنيا البشر، لا شك أنه يتأدب، لا شك أنه يستمع له بكل جوارحه فهو رسول الحاكم الفلاني، فإن كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله العظيم، والغني، والقوي جلَّ جلاله، أرسله لنا رسولاً فما عسانا أن يكون تعاملنا معه؟!
أيها الإخوة الكرام: لماذا يجب أن نعرف رسول الله؟ يجب أن نعرفه لأننا أمرنا بالاستجابة له، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
(سورة الأنفال: الآية 24)

وكيف نستجيب له إن لم نعرفه؟! يجب أن نعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأننا أمرنا نحن المسلمين بأخذ ما أمر وترك ما عنه نهى وزجر، قال تعالى:

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
(سورة الحشر: الآية 7)

وكيف نأخذ ما أمر، وكيف ننتهي عما عنه نهى وزجر إن لم نعرف رسولنا، يجب أن نعرف رسول الله لأننا أيها الأحباب؛ أمرنا بأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أسوةً لنا، قال تعالى:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
(سورة الأحزاب: الآية 21)

(لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ) لكم أنتم أيها المسلمون (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وكيف نتأسى برسول الله وكيف نقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم إن لم نعرفه ولم نقرأ سنته ولم نقرأ سيرته.
أيها الأحباب: يجب أن نعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله حذرنا من مغبة مخالفة أمره، قال تعالى:

فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(سورة النور: الآية 63)


أمر رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الصحابة وعند التابعين وعند السلف
تعظيم الصحابة والتابعين لأمر رسول الله
أيها الأحباب: لقد كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظُم عند الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من السلف الصالح، روى أبو أسيد رضي الله عنه، وكل هذه الأحاديث في الصحاح:

{ عن أَبِى أُسَيْدٍ الأَنْصَارِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ» فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ }

(رواه أبو داود)

(اسْتَأْخِرْنَ) اسْتَأْخِرْنَ أيتها النساء، (فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ) لا تمشين في وسط الطريق، (فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ) كل ذلك تنفيذاً لأمر رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رضِي اللهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ، فَصَنَعَ النَّاسُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ، فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَدً، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. }

(صحيح مسلم)

والخاتم كان يستخدم لختم الكتب الصادرة والواردة، فَصَنَعَ النَّاسُ مثله، (فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ) امتثالاً لأمر رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أيها الإخوة الأحباب:

{ وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ جِبْرِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا، أَوْ قَالَ: أَذًى، وَقَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا }

(رواه أبو داود)

الاتباع يعني عدم التأخر عن الأمر
يُصَلِّي في نَعْلَيْهِ يوم كان المسجد مفروشاً بالحصى والرمال، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي بنَعْلَيْهِ، (إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ) إِذْ خَلَعَهما في الصلاة، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أصحابه خلعوا نِعَالَهُمْ ووضعوها عن يسارهم، (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟) لما فعلتم؟، (قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا) رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا هذا هو الاتباع أيها الأحباب، رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا، ما يكون لنا أن نتأخر عن أمرك، (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا) أي إن هذا الحكم خاصٌّ بي، فخلعتهما لقذرٍ فيهما، وبيَّن لهم الحكم العام.
أيها الإخوة الكرام، وهذا حديثٌ من أغرب الأحاديث وهو في الصحيح:

{ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا اسْتَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ: اجْلِسُوا، فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَجَلَسَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ }

(رواه أَبُو دَاوُدَ)

إن ابن مسعود أيها الأحباب؛ عوَّد أذنه ألا تسمع أمراً من رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بادرت إلى تنفيذه فوراً، فلما سمعه يقول: اجْلِسُوا، وهو غير معنيٍّ بالخطاب لأنه لم يدخل المسجد بعد، لكن هيهات لابن مسعود ولصحابة رسول الله أن يسمعوا أمراً من رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يتريثوا في تنفيذه.
أيها الإخوة الأحباب:

{ وعَنْ أَبي ثَعْلَبةَ الخُشَنِي رضي الله عنه قَالَ: كانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزلًا تَفَرَّقُوا في الشِّعابِ والأَوْدِيةِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: "إنَّ تفرُّقَكم في هذِهِ الشِّعابِ والأوديةِ إنَّما ذلِكم منَ الشَّيطان"، فلم ينزل بعدَ ذلِكَ منزلًا إلَّا انضمَّ بعضُهم إلى بعضٍ حتَّى يقالَ لو بُسِطَ عليْهم ثوبٌ لعمَّهم }

(أخرجه أبو داود)

يقول راوي الحديث: (لو بُسِطَ عليْهم ثوبٌ لعمَّهم) لجمعهم من شدة تجمعهم على بعضهم تنفيذاً لأمر رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أيها الإخوة الكرام: هذا أمر رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الصحابة وعند التابعين وعند السلف الصالح، هكذا كانوا يتعاملون مع سنّة رسولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أهمية السنة النبوية
تعامل الإمام مالك مع من يطرق بابه
انظروا إلى الإمام مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه، الإمام مالك كان يأتيه من يسأله فيطرقون الباب فتخرج إليهم الجارية فتقول لهم: إن الإمام يسألكم تريدون الحديث أم المسائل؟ مسائل فقهية، فتوى، جئتم تستفتون بها أم تريدون سماع حديث رسولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن قالوا: نريد المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا: نريد الحديث أدخلهم إلى الغرفة ثم دخل إلى مغتسله فاغتسل، يغتسل، ثم تطيب، وضع الطيب، ثم وضع أمامه عوداً، عطراً، فمازال يبخر، يخرج الريح الطيبة، ثم جلس في مجلسه بخشوعٍ وأدبٍ وبدأ يحدث الناس بحديث رسولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما سُئل عن ذلك قال: أيها الناس إني أحب أن أُعَظِّم حديث رسولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{ عن المقدام بن معدي كرب، أن رسولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يوشِكُ أنْ يقعُدَ الرجلُ مُتَّكِئًا على أَرِيكَتِهِ، يُحَدِّثُ بحديثٍ مِنْ حديثي، فيقولُ: بينَنَا وبينَكُمْ كتابُ اللهِ، فما وجدْنا فيه مِنْ حلالٍ اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجدَنا فيه مِنْ حرامٍ حرَّمْناهُ، ألَا وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ مثلَ ما حرَّمَ اللهُ }

(رواه أحمد وأبو داود والحاكم)

واليوم يخرج عليك من الناس ممن يسمون أنفسهم القرآنيون ليقولوا لك: ما وجدْنا في كتاب الله مِنْ حلالٍ اسْتَحْلَلْناهُ، وما وجدَنا فيه مِنْ حرامٍ حرَّمْناهُ، هذه صيحةٌ وموضةٌ نسمعها في هذا القرن، أناسٌ من بني جلدتنا من المسلمين وربما يرتاد بعضهم بيوت الله، يقول لك: نحن مع كتاب الله فقط، وقد أخبر بهم المصطفى المعصوم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته الصحيحة؛ فقال: (يوشِكُ أنْ يقعُدَ الرجلُ مُتَّكِئًا على أَرِيكَتِهِ) يشير إلى أن هؤلاء مرتاحون، يعني بالمعنى العامي: مرتاح تماماً، (فيقولُ: بينَنَا وبينَكُمْ كتابُ اللهِ، ما وجدْنا فيه مِنْ حلالٍ حللناه، وما وجدَنا فيه مِنْ حرامٍ حرَّمْناهُ)، ثم يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألَا وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ مثلَ ما حرَّمَ اللهُ).
السنَّة وحيٌ غير متلو
أيها الإخوة الكرام: هذا حديث رَسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند السلف الصالح كان يَعْظُم فهم يحدثون الناس بالوحي، فالسنَّة وحيٌ غير متلو، والقرآن الكريم وحيٌ متلو، والقرآن الكريم جاء عامَّاً شاملاً، وجاءت السنَّة شارحةً مفصلةً، فكيف يعرف المؤمن أوقات الصلاة إن لم يقرأ في سنَّة رَسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وكيف يعلم عدد الصلوات؟ ثم كيف يعلم طريقة الصلاة؟ ثم كيف يعلم أوقات الصيام؟ ثم كيف يعلم مناسك الحج؟ لا بد من قراءة سنَّة رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تولى الله حفظها، لأنه عندما حفظ القرآن حفظ السنّة الشارحة والمبينة له، فجاء علماءُ أفذاذٌ أفنوا حياتهم لتمحيص سنّة رَسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه معجزةٌ لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فأعطوني رجلاً في التاريخ حُفظت سنَّته وسيرته وحركاته بل حتى حُفِظَ سكوته وإقراره كما حُفظت سنّة رَسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

النبي صلى الله عليه وسلم قدوةٌ لنا
النبي الكريم أسوةٌ لنا
أيها الإخوة الكرام: هذه طريقة تعامل السلف الصالح مع سنّة رَسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع أحاديثه، لماذا ينبغي أن نعرف رسولنا؟ لأن الله أيها الأحباب؛ في ثلاثٍ وعشرين سنة أذاقه من كل الصنوف من الابتلاءات حتى يكون لنا أُسْوَةً حَسَنَةً، وحتى لا يقول قائلٌ: بعد ألفٍ وأربعمئة عام نحن نعاني اليوم ما نعانيه، فقد عانى رَسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر مما عانيت.

{ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، جاءَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يومًا، فقالَ: هل عِندَكُم مِن طعامٍ؟ قلتُ: لا! قالَ: إذًا أصومُ }

(صحيح النسائي)

أذاقه الله الفقر حتى دخل بيته فسأل (هل عِندَكُم مِن طعامٍ؟) (مِن) يعني كسرة خبز تكفي، قليلٌ من الخل؟ (نِعْمَ الإِدامُ الخَلُّ) أي شيء من طعام؟ (قالوا: لا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ).

{ قال رَسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الإِدامُ الخَلُّ }

(رواه مسلم)

{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقَدْ أُوذِيتُ في اللهِ ومَا يؤذَى أَحَدٌ وأُخِفْتُ في اللهِ ومَا يُخَافُ أحَدٌ ولقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ مِن بَينِ يَومٍ ولَيلَةٍ ومَا لِيْ ولِبِلالٍ طَعَامٌ يَأكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إلا شَىءٌ يُوارِيْهِ إبْطُ بِلالٍ }

(رواه أحمد والترمذي)

مرَّت عليه أربعون لم يدخل جوفه إلا ما يُوارِيْهِ إبْطُ بِلالٍ، حُصر في الشِّعب ثلاثاً لا يجد ما يأكله، هذا فقر، من منا اليوم لا يجد في بيته طعاماً؟! فإذا كان الإنسان فقيراً فله في رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
ثم أذاقه الله الغنى، حتى ملك وادياً من غنم، وادٍ كامل من الغنم، قيل له: لمن هذه الوادي؟ أعرابيٌّ يقول: لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى (الْفَاقَةَ) أي الفقر.

{ مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ }

(صحيح مسلم)

تسامح الرسول ﷺ مع أهل الطائف
ثم إن الله تعالى أذاقه الضعف، فأي ضعفٍ أشد من أن يذهب رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قومه بني جلدته في الطائف، يلتمس عندهم نصرةً بعد أن خذلته قريش، يقول لهم ويدعوهم إلى الله عز وجل، جاءهم بدعوة الحق والخير والهدى، فما كان منهم إلا أن أغروا سفهاءهم وصبيانهم به حتى ضربوه بالحجارة، ثم أوى إلى حائطٍ هرباً من بطشهم وظلمهم، وجاءه ملك الجبال قال: يا محمد إن الله أمرني أن أكون طوع أمرك لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين، الانتقام الساحق لكي لا يكون هناك طائفٌ بعد اليوم وكي لا يكون هناك أناسٌ مكذبون في هذه المدينة إلى الأبد، يُطبق عليهم الجبلان، يقول له: لا يا أخي، اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لا يعْلَمُونَ، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله.

{ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً" }

(أخرجه البخاري ومسلم)

ثم أذاقه الله القوة، وأية قوةٍ أعظم من أن يدخل مكة فاتحاً بعد أن آذته ونكلت بأصحابه وسرقت أموالهم وبيوتهم، دخل مكة فاتحاً وآلاف السيوف المتوهجة تنتظر إشارةً منه لتهوي على رقاب هؤلاء الذين ساموه سوء العذاب فما كان منه إلا أن عفا عنهم، اليوم يوم المرحمة.

{ ما ترون أني فاعل بكم ؟، قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (سورة يوسف: الآية 92) اذهبوا فأنتم الطلقاء }

(رواه البيهقي)

{ إنَّما أنا رحمةٌ مهداةٌ }

(رواه البخاري)


صبر النبي الكريم على مصابه
أذاقه الله فقد الولد، ففقد ابنه وجادت نفسه بين يديه، وانْكسَفتِ الشَّمسُ عند وفاة ابنه، فما كان منه إلا أن انتصر للحق وقال: وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، ثم خطب بالناس وقال: إنَّ الشَّمسَ والقَمرَ آيتانِ من آياتِ الله لا يَنكسِفانِ لِموتِ أحدٍ ولا لِحَياتِه، أزال الخرافة وأزال الوهم.

{ دَخَلْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وكانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ، فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ }

(رواه البخاري)

{ عَنِ الـمُغيرةِ بن شُعبةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: انْكسَفتِ الشَّمسُ يومَ ماتَ إبراهيمُ، فقال الناسُ: انكسَفتْ لِموتِ إبراهيمَ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الشَّمسَ والقَمرَ آيتانِ من آياتِ الله، لا يَنكسِفانِ لِموتِ أحدٍ ولا لِحَياتِه؛ فإذا رأيتُموهما فادْعُوا اللهَ وصَلُّوا، حتَّى يَنجليَ) }

(رواه البخاري ومسلم)

وأذاقه الله أعظم من ذلك، فتكلم الناس المنافقون في المدينة في عرض زوجته الطاهرة التي برأها الله عائشة أم المؤمنين تكلم الناس في عرضها وما أعظم ذلك لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبر أربعين يوماً ينتظر الوحي مؤمناً بقوله تعالى:

لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
(سورة النور: الآية 11)

في سيرة النبي ﷺ قدوةٌ لكل مسلم
أيها الإخوة الكرام: إن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سيرته ليعطي لكل إنسانٍ قدوةٌ وأسوةٌ، فما أصابك من شيءٍ في الحياة فعد إلى سيرته تجد أسوةً في تعاملك مع الحدث الذي أصابك بدءاً من العلاقات الزوجية وانتهاءً بالعلاقات الدولية.
أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمین وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

الدعاء
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سمیعٌ قریبٌ مجیبٌ للدعوات، اللهم برحمتك أعمنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل معصيتك ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم بفضلك ورحمتك فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عریانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غریبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم انصر المستضعفين في كل مكان، انصرنا اللهم على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد.