• محاضرة في الأردن
  • 2022-10-03
  • عمان
  • الأردن

خطبة الحاجة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يارب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات. وبعد:


صفات أثبتها القرآن الكريم:
تعرُّض الدعاة إلى الله لما تعرَّضَ له النبي الكريم
أيها الإخوة الأحباب، صحابي جليل اسمه ضماد الأزدي نسبة إلى قبيلة في اليمن اسمها: أزد شنوءة، جاء إلى مكة وكان يرقي من هذه الريح، هذا يسمونه طبيباً عربياً، فسمع الناس يقولون في مكة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم –حاشاه- مجنون، فقال لهم: لو لقيته لعلي أرقيه من هذا الجنون، عرض خدماته ليداويه! وبالمناسبة القرآن الكريم أثبت في آيات كثيرة صفات سيئة جداً، يقشعر الجلد من سوئها يصف بها الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرها في كتابه، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الصفات، إذا اتهمك إنسان بتهمة وأنت منها بريء لا داعي لأن تثبتها في كتاب، فكيف إذا كان في قرآن يتلى إلى يوم القيامةّ! قالوا: ساحر، ومسحور، ومجنون، وشاعر، وكاهن، وصفات كثيرة أثبتها القرآن الكريم، لماذا؟ قال أهل العلم: لأن الدعاة إلى الله على مدار الزمن سيتعرضون لمثل ما تعرض له سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم، فحتى يكون ذلك عزاء لهم، فإذا اتهمك إنسان بشيء ليس فيك، لأنك عملت عملاً صالحاً ما أعجبه، أو دعوته إلى الله فما سرّ بدعوتك، وأنت مخلص فيها فاتهمك باتهامات باطلة، فلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فأثبت القرآن هذه الصفات، فمن الصفات التي كانوا يصفونه بها أنه مجنون- حاشاه صلى الله عليه وسلم- فقال: لعلي أرقيه من هذا الجنون، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: جئت لأرقيك من الجنون الذي بك، هكذا بكل لؤم وبكل وقاحة، كما يقال، النبي صلى الله عليه وسلم ما استفزَّه هذا الكلام، لأنه صاحب رسالة، ما وقف في وجهه: أنت تقول لي أنا مجنون، ما هذا الكلام؟ أبداً، سكت هنيهة ثم قال: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد: فقال الرجل: أعد علي كلماتك هذه، الكلام الذي قلته أعده علي، فأعاده عليه ثلاث مرات، فقال الرجل: والله لقد سمعت قول الكهنة والسحرة والشعراء، ووالله هذا الكلام ما هو بقول كاهن ولا ساحر ولا شاعر، فامدد يدك أبايعك على الإسلام، فمد يده فبايعه، فقال صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك.

{ أنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ، وَكانَ مِن أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكانَ يَرْقِي مِن هذِه الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِن أَهْلِ مَكَّةَ يقولونَ: إنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقالَ: لو أَنِّي رَأَيْتُ هذا الرَّجُلَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ علَى يَدَيَّ، قالَ: فَلَقِيَهُ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، إنِّي أَرْقِي مِن هذِه الرِّيحِ، وإنَّ اللَّهَ يَشْفِي علَى يَدَيَّ مَن شَاءَ، فَهلْ لَكَ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَن يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، وَمَن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وَأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، أَمَّا بَعْدُ، قالَ: فَقالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فأعَادَهُنَّ عليه رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قالَ: فَقالَ: لقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَما سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ البَحْرِ، قالَ: فَقالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ علَى الإسْلَامِ، قالَ: فَبَايَعَهُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: وعلَى قَوْمِكَ؟ قالَ: وعلَى قَوْمِي، قالَ: فَبَعَثَ رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بقَوْمِهِ، فَقالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هلْ أَصَبْتُمْ مِن هَؤُلَاءِ شيئًا؟ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَصَبْتُ منهمْ مِطْهَرَةً، فَقالَ: رُدُّوهَا؛ فإنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ. }

(صحيح مسلم عن عبد الله بن العباس)

استثمار المواقف، استثمار الفرص، رجل سيد في قومه، يقول لك أبايعك، وأنت صاحب رسالة، بايعني عن نفسك وعن قومك، فبايعه عن نفسه وعن قومه فعاد إلى قومه داعية إلى الله، وهدى الله به خلقاً كثيراً، كنت أقرأ هذا الحديث ويلفت نظري هذه الخطبة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم، وأقول في نفسي: ما هذه الكلمات التي استطاعت في دقائق معدودة أن تحول رجلاً من الكفر إلى الإيمان، ما هذه الكلمات؟ نحن نسمعها اليوم في بداية معظم خطب الجمعة، فما عادت تؤثر فينا ذلك التأثير، اعتدناها، ألفنا سماعها، لكن ما الذي تفعله في رجل يسمعها لأول مرة، طبعاً مع إخلاص القلب، رجل لم تغطِّ عينيه غشاوة المصالح، رجل متجرد للحق فلما سمع الكلام دخل إلى قلبه فوراً، وقد يسمعه غيره فلا يتعظ بغشاوة المصالح، بغشاوة الشهوات، هناك غشاوات كثيرة تمنع الإنسان من قَبول الحق، لكن هذا الرجل استجاب في لحظات، كنت أقول ماذا في هذه الكلمات؟ الحقيقة هذه الكلمات هي خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها لأصحابه، وكان يأمر أن يبدأ بها الإنسان أي خطبة حاجة يخطبها، فلو ذهب إلى عقد نكاح وأراد أن يعقد بين اثنين يبدأ: الحمد لله نحمده، وعقد بيع: الحمد لله نحمده، وخطبة جمعة: الحمد لله نحمده، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من هذه الكلمات ويعلمها لأصحابه، فماذا في هذه الكلمات؟

خطبة الحاجة:
طبعاً الخطبة هذه لها روايات عديدة، بالجمع بينها تكون خطبة الحاجة على النحو التالي:
الحمد لله نحمده، نستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هذه خطبة الحاجة بتمامها.

أجر النعمة أفضل منها:
أول ما في خطبة الحاجة هو إعلان الحمد لله
(إن الحمد لله نحمده): أول ما في خطبة الحاجة هو إعلان الحمد لله، وهذه الـ في قولنا الحمد في اللغة العربية لاستغراق الأفراد، إن الحمد: أي إن الحمد كله، لو لم تقل كله فعند قولك الحمد فأنت تعني أن الحمد كله ينصرف إلى الله، إن الحمد لله.
ثم أربعة أفعال مضارعة، والمضارع في اللغة العربية يفيد الاستمرار يعني كل يوم كل يوم كل يوم (نحمده ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره)، أربعة أفعال، هذه لا أبالغ إذا قلت إن المسلم إذا تحقق منها فقد تحقق من دين الله تعالى، أولاً أن يداوم على الحمد لله، قال صلى الله عليه وسلم:

{ ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال الحمدُ للهِ إلا كان الذي أعطاهُ أفضلَ مما أخذ. }

(صحيح ابن ماجه عن أنس بن مالك)

(ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً) ، يعني مال، طعام وشراب، صحبة الإخوان، مركب يركبه، امرأة يتزوجها، ولد يأتيه.
(ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال الحمدُ للهِ) قال: يارب لك الحمد، الحمد لله.
(إلا كان الذي أعطاهُ أفضلَ مما أخذ) يعني أنت أخذت النعمة، النعمة ألف دينار، هذه نعمة من الله جاءك مبلغ مالي، دخلت في صفقة ربحت منها ألف دينار نعمة من الله، هذه النعمة أخذتها، لما قلت: الحمد لله، هذه الكلمة التي أطلقتها أجرها أعظم من أي نعمة وصلتك، لأن الذي وصلك سيفنى، كل النعم مهما كانت إما أن تفارقها أو أن تفارقك، نِعَمُ الله كلها مصيرها إما أن تتركها، أو أن تتركك.

الحمد والنعمة:
الحمد أفضل من النعمة
أما الحمد فهو أفضل من النعمة لأن أجره يدوم إلى يوم القيامة، فالحمد أفضل من النعمة، فالذي يؤتيه الله مئة ويقول الحمد لله هو خير من الذي يُؤتى مليون ولا يقول الحمد لله، لأن الحمد يبقى والمليون والمئة تذهب.
الحمد أحبابنا الكرام هو حالة نفسية، يمتلئ قلب المؤمن بها، فتنطلق على لسانه شكراً، وتنتقل إلى عمله سلوكاً، كيف؟
ربنا عز وجل أنعم عليك بنعمة الهداية، نظرت وجدت أقواماً يعبدون البقر من دون الله، يجلسون تحتها ويتبركون ببولها، وأقواماً يعبدون الجرذان، وأقواماً يعبدون المجسمات الصغيرة يضع إلهه في كراج السيارات، ينزل إليه كل يوم ويضع له طعامه.
فنعمة الهداية نعمة عظيمة اقشعر جلدك، الحمد لله أن جعلتني لك عبداً، امتلاء القلب بالشعور بهذه النعمة وعظمة هذه النعمة عليك هذا أول مرتبة بالحمد، ثم ينطلق اللسان يارب لك الحمد، يارب لك الشكر، أنعمت وهديت ووفقت ولو لم تهدِنا لكنا كهؤلاء أو أشد ضلالاً، ثم انطلقت إلى خدمة الخلق والعمل من خلال هذه النعمة، قال تعالى:

اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(سورة سبأ)

أعظم أنواع الشكر والحمد لله أن تعمل، نظرت، لله الحمد أن الله وهبني عيناً أبصر بها، امتلأ القلب حمداً، يارب لك الحمد شكر اللسان، لن أنظر إلى الحرام شكر العمل، شكر الجوارح.
يارب لك الحمد جعلتني متكلماً، عندي لسان، لك الحمد، الآن لن أنطق إلا بالحق، أما أن أنطق بالضلال أو أشهد على زور فلن أفعلها، هذا شكر اللسان.

شكر العمل:
يارب لك الحمد كفيتني، عندي آخر الشهر راتب يكفيني، دخل مهما كان قليل أو كثير لكن الحمد لله، مستورة، هذا المبلغ إن شاء الله لا أستخدمه إلا في الحلال، ولا أقبله إلا من حلال، هذا شكر العمل.
فأعظم أنواع الشكر أن يصل إلى السلوك (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) وهو أن تعمل بالنعمة وفق تعليمات المنعِم، فأول ما في هذه الخطبة، خطبة الحاجة (نحمده) ثم (نستعينه، ونستهديه ونستغفره)، نستعينه: نطلب العون منه، ونستهديه: نطلب الهدايه منه، ونستغفره: نطلب المغفرة منه، لأن الإنسان في كل لحظة إما أنه لا يعرف الطريق فيحتاج إلى من يهديه إليه، وإما أنه يعرفه ولكنه لا يجد في نفسه القوة على سلوكه فيحتاج إلى من يعينه، وإما أنه في الطريق ولكنه أخطأ فيحتاج إلى ربه ليغفر له.
(نستعينه، ونستهديه ونستغفره) إما أنك تقف وتقول يارب لا أعرف حلالاً أم حراماً يارب اهدني، أو أنك تعرف أنه حرام لكن تقول لي والله يا شيخ لا أستطيع، نفسي تغلبني، أنا أعرف أن صلاة الفجر واجب لكنني أنام، نستعينه، أو تقول والله الحمد لله كل يوم أصلي الفجر، لكن اليوم غفلت عنها، نستغفره.
الهداية هي الدلالة
فأنت في كل لحظة من لحظات حياتك إما أنك تطلب الهداية لأنك تجهل الطريق، والهداية هي الدلالة، وإما أنك تعرف الطريق ولا تقوى على المسير فيه، فتطلب العون من الله ليعينك عليه، أو أنك مخطئ تطلب من الله أن يغفر لك، (نحمده نستعينه، نستهديه، ونستغفره).
جُمع القرآن في الفاتحة كما قال أهل العلم، وجُمعت الفاتحة في:

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
(سورة الفاتحة)

فألّف ابن القيم رحمه الله تعالى كتابه وسماه: مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين، منازل العبد تنطلق من إياك نعبد وإياك نستعين.

خلق الإنسان ضعيفاً:
فأنت تعبده وتستعين به ليعينك على عبادته، لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.

{ أَلَا أَدُلُّكَ علَى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ، أَوْ قالَ: علَى كَنْزٍ مِن كُنُوزِ الجَنَّةِ؟ فَقُلتُ: بَلَى، فَقالَ: لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّهِ. }

(صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري)

غراس الجنة، يعني لا حول عن معصيته، ولا قوة على طاعته إلا به، فلا أستطيع أن أتحول عن المعصية، ولا أن أقوى على الطاعة إلا بالاستعانة به، هذه الاستعانة، أن تعلم أن العبد ضعيف، وأنه إن لم يأخذ القوة من مولاه ليعينه فإنه سيقع في المزالق، لذلك كان ابن عطاء الله السكندري يقول: رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، لأن الذي يطيع الله ثم يستكبر ويقول: أنا فعلت ذلك، أنا لا يمكن أن آكل مالاً حراماً، أنا أضعف أمام النساء! أنا أفعلها؟ أنا تربيت جيداً ببيت أهلي، هذه طاعة أورثت عزاً واستكباراً، وخير منها إنسان عصى الله فذل وانكسر، فالله يريد قلبك، يريد ضعفك، قال:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
(سورة فاطر)

ضعف الإنسان ليس تواضعاً منه
لأن الإنسان خُلق ضعيفاً، فضعفه ليس تواضعاً منه، نحن مبنيون كجسم على الضعف، يعني بأدنى خلل يمرض الإنسان، خلل بقطر الشريان التاجي يضيق يسبب جلطة، خلل آخر بالكلية صار بحاجة -نسأل الله السلامة- إلى غسيل كلية، فالجسم مبني على الضعف، والنفس مبنية على الضعف، أعرف رجلاً كان من شيوخ القراء، وكان يُقرِئني القرآن الكريم وهو رجل من الصالحين والله، فمرة وقع في نفسه وهو على المنبر أن هذه الخطبة لا خطبة مثلها، وأنه مبدع جداً في الكلام، يستطيع أن يتكلم فيأسر قلوب الناس، فنزل ليصلي فأخطأ ثلاث مرات في سورة الفاتحة وهو يؤمّ الناس، قال: أدبني ربي، وهذا من نِعم الله عندما يؤَدّب الإنسان، الإنسان إذا شعر بقوته فأدبه ربنا عز وجل هذا لأنه في العناية المشددة، يحمد ربنا.
فأحبابنا الكرام، ضعف الإنسان ليس تواضعاً، نحن ضعفاء إلى الله:

يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)
(سورة النساء)

إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
(سورة المعارج)

لا بد أن يتصل بخالقه حتى يقوى، وإلا فهو ضعيف، هذا شعور حقيقي، ليس شعور تواضع، إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره:

{ طوبى لِمن وجدَ في صَحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا }

(البيهقي عن صفية أم المؤمنين)

لأننا كلنا ذو خطأ.
(ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا)، أحبابنا الكرام، العَوذ: هو الالتجاء إلى قوي لِيَقيك من الشرور، واللوذ: هو الالتجاء إلى القوي ليأتي لك بالخير، قال المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
العوذ: مما تخاف، واللوذ: مما ترجو.
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
{ المتنبي }
ولكن للأسف كان يقولها لسيف الدولة الحمداني وليس لله تعالى، ويظن الكثيرون أنه يقولها يناجي ربه، وهي مديح لسيف الدولة، يا لَخسارة هذا الكلام في البشر، هذا الكلام يقال لرب البشر فقط.

تعريف العوذ:
وجِّه سهام النقد إلى الداخل وليس إلى الخارج
على كلٍّ، فالعَوذ هو الالتجاء إلى قوي ليَقيَك من الشرور (ونعوذ بالله من شرور) انظر إلى اللفظ، (من شرور أنفسنا) وهنا أيها الكرام دقة في اللفظ، اليوم بالعلوم الحديثة، المدربون يقولون للناس: دائماً فتش عن المشكلة من داخلك، ويقولون لك: لا تلقِ بمشكلاتك على الآخرين، يعني إذا عندك مشكلة لا تقل: عليّ سحر، أصابتني عين، اعكف على نفسك وانظر لماذا حصلت هذه المشكلة، فدائماً وجِّه سهام النقد إلى الداخل وليس إلى الخارج، والناس عموماً يحبون أن يلقوا بسهام نقدهم على جهات خارجية حتى يريح نفسه، حتى نحن كأمة إذا جلست بأي مجلس يقول لك: الماسونية، اليهودية، الصهيونية، أمريكا، الإمبريالية، صحيح طبعاً، أنا من أنصار نظرية المؤامرة وأعتقد بها 100%، وطبعاً أعداؤنا يكيدون لنا ليلاً نهاراً، انتبهوا لا أخالف ذلك، لكن يجب قبل توجيه النقد إلى الخارج أن نوجه النقد إلى الداخل، حتى نصلح الداخل:

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)
(سورة الرعد)

ثم بعد ذلك نلتفت إلى أعدائنا، يعني هذا هو التسلسل المنطقي، والدليل قوله تعالى عقب معركة أحد:

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
(سورة آل عمران)

(قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا) يعني لماذا وقعت الهزيمة؟ ما قال تعالى: قل هو من عند أعدائكم، ولا قال هو بسبب كثرة عدوكم، ولا قال بسبب قلة إمكانياتكم، قال: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) يعني صرف نقده فوراً إلى الداخل، الخطأ عندكم، راجعوا حساباتكم، وطبعاً كان الخطأ الأساسي في معركة أحد خطأ داخلياً وهو نزول الرماة ومخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ونعوذ بالله من شرور)، ما قال: أعدائنا بل: (من شرور أنفسنا)، الشر يبدأ من الداخل، عندما يخالف الإنسان منهج ربه يكون قد بدأ بشر نفسه (من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا) يعني عواقب السيئات التي نعملها، بهذا المعنى، فنلتجئ إلى الله أن يحمينا أولاً من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

هداية الله للعبد هي هداية جزاء:
الله تعالى هو الهادي والمضل
قال: (من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له): هنا أريد أن أتكلم بشيء مهم، اليوم إذا قلت لإنسان: إن الله تعالى هو الشافي، مثل هذا الرجل فوراً يقول: يارب اشفني، إذا قلت له: الله تعالى هو الرزاق، يارب ارزقني، في حالة واحدة تقول له: إن الله هو الذي يهدي وهو الذي يضل، يقول لك: أنا لا علاقة لي، إذا كان هو الذي يهدي وهو الذي يضل، إن أراد يهديني وإن أراد لا يهديني، يعني فقط في هذه الحالة عندما ننسب الهدى إلى الله، والإضلال من الله يتجرأ الإنسان ويقول: إذاً أنا لا علاقة لي هو يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، أما الله هو الرزاق ؟ نعم طبعاً، هو الشافي، طبعاً، لكن هو الهادي والمضل، مباشرة يلتفت الذهن إذاً هو يهدي ويضل وأنا لا علاقة لي، كيف لا علاقة لك! كما أنه هو الرزاق وأنت تسعى في الرزق، وهو الشافي وأنت تسعى عند الطبيب للشفاء، وهو الهادي وأنت تطلب منه الهداية، وهو المضل وأنت تتجنب أسباب الضلال، فقط، يعني لا داعي لأن نفهم من هذه العبارة سواء في القرآن أو في السنة أن الله تعالى أجبر عباده على الهدى والضلال، كما أنه لم يجبرهم على الرزق ولا على الشفاء، القضية باختصار أن هناك إنساناً يريد الهداية فيهديه الله، وهناك إنسان آخر يريد الضلالة فيضله الله، فقط، يعني إضلال الله للعبد هو إضلال جزاء، وهداية الله للعبد هي هداية جزاء، فمن يرد الهداية يهده الله، ومن يُرِد الزيغ يزغه الله، قال تعالى:

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
(سورة الصف)

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
(سورة محمد)

إذاً نحن نهتدي فيهدينا الله، والإنسان يضل فيضله الله، ويسعى فيرزقه الله، ويذهب إلى الطبيب فيشفيه الله، فقط هذه المسألة باختصار، أما عندما نسمع: من يهده الله فلا مضل الله، إن شاء الله ربنا يهديني، عندما يهديني ربي أصلي، هذا الكلام مضحك، ربنا يهديك عندما تريد الهداية، قم وشمّر عن ساعديك فيهديك الله:

سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(6)
(سورة المنافقون)

ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
(سورة النحل)

وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
(سورة البقرة)

لكنه يهدي القوم التائبين العاكفين، قال:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53 (وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54)
(سورة الزمر)

هو يغفر ويرحم أنت فقط عد وقل: يا رب، فالإنسان مخير، وهو الذي يطلب الهداية أو يطلب الضلال، والله تعالى يهديه أو يضله بناء على قراره هو، لذلك:

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
(سورة الكهف)

إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
(سورة الإنسان)

فقال: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)، ثم قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ أحْسَنَ الحَديثِ كِتَابُ اللَّهِ، وأَحْسَنَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا }

(صحيح البخاري)

أنت تسمع كلمة حديث كثيراً، سمي الحديث حديثاً لأنه يحدث يعني يستجد، كما أفعل أنا الآن، ولعل بعضكم من الذي يسمع قد يمل، ولكن الذي يتكلم لا يمل، وأنا أعلم هذه المعلومة، لذلك طلب مني كثير من الإخوة أن أطيل، أنا أحب الاختصار، لأن الذي يتكلم لا يشعر بالوقت، الساعة عنده كالدقيقة، والذي يسمع الدقيقة عنده كالساعة، مهما كان الكلام جميلاً، من غير مجاملات، السماع صعب، الكلام سهل.
فتسمع أحاديث كثيرة، وتحدث، تستجد، يحكي الإنسان، يتذكر فكرة تليها يتكلم، وفكرة تليها، فكرة تليها وهكذا، فيحدث، أحسن حديث:

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)
(سورة الزمر)


أحسن الحديث وخير الهدي:
أحسن الحديث كتاب الله
فأحسن الحديث كتاب الله، لا يخلَق على كثرة الرد، أحبابنا الكرام أنتم يومياً تقرؤون كتاب الله تعالى، كل يوم الإنسان يقرأ صفحة، صفحتين، خمسة، جزءاً، ما ييسره الله له، لو أنني أعطيتك ستمئة صفحة لأشهر كاتب في العالم، ليس في العالم العربي، في العالم كله، وكلها من جماليات ما كُتب، وقلت لك كلما انتيهت أعد قراءتها، بالمرة الثالثة أو الرابعة تقل لي هذه عقوبة، ما عدت أستطيع القراءة يا أخي، الكلام حفظته، وأريد أن أقرأ شيئاً جديداً، إلا كلام الله وهذا من الإعجاز، لا يخلق على كثرة الرد، سبحان الله! تقرؤه، فتشعر برغبة بالقراءة أكثر وأكثر، هذا معنى أنه قرآن كريم، إذا قلت لأحدكم: فلان كريم، أول ما يتبادر إلى ذهنه أنه يعطي، الكرم: العطاء، وكتاب الله كريم لأنك كلما زدته تدبراً زادك عطاء في المعاني، وكلما زدته قراءة زادك حباً وشوقاً له، فهو كريم، تعطيه فيعطيك أكثر مما تعطيه، أنت تعطيه نصف ساعة من وقتك يعطيك سكينة طيلة اليوم، تعطيه ربع ساعة تتدبر بها آية، فيفتح الله لك بها معانٍ كثيرة، كريم كلام الله جل جلاله.
وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، خير الهدي الذي نهتدي به ونسير به في طريقنا أن نهتدي بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لذلك: (وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا).

{ مَن أحْدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليسَ منه فَهو رَدٌّ. }

(صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين)

سواء البدع في الأفراح مما لا يرضي الله أو في الأحزان مما لا يرضي الله، أو البدع التي ابتدعها المسلمون، طبعاً موضوع البدعة هذا يحتاج إلى لقاء مطول، لا مجال الآن للتفصيل ما هي البدعة اللغوية والشرعية، وما يعد بدعة وما لا يعد بدعة، هذا الموضوع يطول شرحه، لكن:

{ أما بعدُ فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ ، وإنَّ أفضلَ الهديِ هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها ، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ }

(أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله)

فأرادنا الله تعالى أن نبقى على ما جاءنا في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما إن تمسكنا بهما فلن نضل بعد.
والحمد لله رب العالمين