بناء النفس

2018-06-22
عمان
مسجد القواسمي

بناء النفس

الخطبة الأولى:

يا رَبَّنَا لَكَ الْحَمْد مِلْء السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ومِلْء ما بينهما، وَمِلْء مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْد، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْد، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْد، لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، غِنَى كُلِّ فَقِير، وَعِزُّ كُلِّ ذَلِيل، وَقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيف، وَمَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوف، فكيف نفتقر في غناك؟ وكيف نضل في هداك؟ وكيف نَذِلُّ في عزك؟ وكيف نُضامُ في سلطانك؟ وكيف نخشى غيرك والأمرُ كله إليك؟ وأشهدُ أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنّات القرُبات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمدٍ وسلم تسليماً كثيراً.

بناء النفس:

وبعد فيا أيها الأخوة الكرام؛

{ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر }

[رواه الترمذي]

نحن في زمنٍ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر.

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا }

[أخرجه مسلم]

نحن في زمنٍ تكاثرت فيه الشهوات والشبهات

نحن في زمنٍ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيْهَ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً، نحن في زمنٍ تكاثرت فيه الشهوات والشبهات، الشهوات التي تعصف بالنفس، والشبهات التي تعصف بالفكر، فما من يومٍ إلا وشبهة جديدة تُعرض هنا أو هناك على الشاشات، أو في المنابر، أو في الساحات، وما من لحظةٍ إلا وشهوة من الشهوات المستعرة سواءً كانت شهوة النساء أو شهوة المال أيضاً تعصف بالإنسان، إن لم يبنِ الإنسان نفسه وإيمانه بناءً ثابتاً، راسخاً، سليماً، بناءً على أُسسٍ متينة، فإن رياح الشهوات والشبهات ستعصف به.

لذلك أيها الأخوة؛ ما من زمنٍ نحن أحوج فيه إلى بناء النفس من هذا الزمن، كلنا يبني بيته، وكلنا يضع أساساتٍ متينة لبيته الذي يسكنه حتى لا تعصف به الرياح، وكلنا يبني جسمه بالطعام والشراب والغذاء والدواء حتى يبقى سليماً معافى، لكن مَن مِنَ المسلمين اليوم يعتني ببناء نفسه بناءً إيمانياً صحيحاً؟ قال تعالى:

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)

(سورة التوبة)

(أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) هل من عاقلٍ يبني بناءه على أرضٍ طينيةٍ يمكن لأقل السيول أو الأمطار أو الرياح أن تعصف به؟ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ).

نماذج ممن أسس بنيانه على تقوى الله:

أيها الأخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء؛ سأعرض لكم نماذجَ ممن أسس بنيانه على تقوى من الله، ثم سننتقل للحديث عن عوامل بناء النفس.

ها هو مجاهدٌ جريحٌ في معركة أُحُد، به سبعون ضربة ما بين طعنةٍ برمحٍ، أو ضربةٍ بسيف، أو رميةٍ بسهم، فبم كان يفكر وهو على فراش الموت؟ وما الذي كان يشغل باله؟

{ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي: " إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ " قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: «خَبِّرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟» قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُنِي أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ، قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ }

[رَوَاه الْحَاكِمُ]

تأسيس البنيان على تقوى من الله

في لحظاته الأخيرة لم يوص بمالٍ، ولا بأهلٍ، ولا بولدٍ، كان همه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان همه سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قُلْ لِقَوْمِي الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ أمام الله إن خُلِصَ إلى نبيكم، إن وصل الأعداء إلى نبيكم وفيكم عينٌ تطرف، ثم فَاضَتْ روحه، ثبت سعد بن الربيع وعلم غيره الثبات، هذا أسس بنيانه على تقوى من الله.

خبيب بن عدي وضعته قريش على خشبة الصلب في مكة ليقتل، يُسأل قبل أن يقتل السؤال الأخير، قال: ما تحب قبل أن تصلب؟ قال: إِنْ شَئْتُمْ أن تدعوني أركع رَكْعَتَيْنِ فَافْعَلُوا، هذا همه أن يركع ركعتين لله، قال: فَأْذِنُوا له فركع ركعتين، ثم قال: والله لولا أني خشيت أن تقولوا: قد أطال في الصلاة خشية الموت لفعلت، انظروا الآن يحاولون ثنيه عن مبادئه، يحاولون إضعافه والنيل منه ولو بكلمةٍ قبل أن يموت تشفي صدورهم، قالوا: أَتُحِبّ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ مَكَانَكَ وَأَنْتَ نَاجٍ؟ قال: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ آمِنًا وَادِعًا فِي أَهْلِي وَأنَّ مُحَمَّدًا يُوخَزُ بِشَوْكَةٍ، صاح أبو سفيان وكان وقتها مشركاً وقال: والله مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، هذا هو الثبات أيها الأخوة.

{ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ فَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا، قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلَانٍ، فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأَشَارُوا لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ }

[أخرجه الطبري]

امرأةٌ من الأنصار أتت يوم أُحُد تبحث عن رسول الله تقول: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه؟ وقد أشيع نبأ مقتله صلى الله عليه وسلم، تقول: أين رسول الله؟ فرأت زوجها بين الشهداء، ورأت أخاها بين الشهداء وهي تقول: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّه؟ حتى كحلت عيناها بمرأى رسول الله فقالت: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَل، أي هينة.

ولوْ أنَّ النّساءُ كمَنْ رَأيْــنــــــــــــــــــَا لفُضّلَتِ النّساءُ على الرّجالِ فما التأنيثُ لاسمِ الشّمسِ عَيبٌ ولا التّذكيـــــرُ فَخرٌ للهِــــــــلالِ
{ أبو الطيب المتنبي }

الهزيمة من الداخل مصيبة كبيرة:

أيها الأخوة الكرام؛ هذه نماذج تؤكد أن الإنسان حينما يبني بنيانه على أُسسٍ ثابتة فلا تعصف به سياط الجلادين اللاذعة، ولا سبائك الذهب اللامعة، أما اليوم فكم من المسلمين يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا؟! كم من مسلمٍ يتنازل عن مبادئه مقابل مبلغٍ مالي؟! كم من مسلمٍ يسقط في أوحال الشهوة والرذيلة لامرأةٍ متبرجةٍ أغرته بجمالها أو بمالها؟! كم؟! وكم؟! كم من مسلمٍ يسمع شبهةً تعرض عن الإسلام في قناةٍ من القنوات أو في ساحةٍ من الساحات أو في منبرٍ من المنابر فيتضعضع دينه فوراً ويقول لك: ماذا نفعل؟ الدين يتهمونه بكذا وكذا، يتهمونه بالإرهاب، وبأنه ظلم المرأة، وبأنه، وبأنه، وبأنه، دون أن يكون له بنيانٌ ثابتٌ يقول: هذا الدين أعتز به اعتزازاً لا حدود له، مشكلة كثيرٍ من المسلمين اليوم أيها الأخوة هي الهزيمة من الداخل، الهزيمة في ساحة المعركة مصيبةٌ كبرى، لكنها لا تحصل إن لم تحصل هزيمة الداخل، أن يهزم الإنسان نفسياً، أن يكون دينه رقيقاً بحيث لا يقوى على رد شهوةٍ ولا شبهةٍ، لا بد أيها الأخوة من بناء النفس وإلا نحن في طريقٍ لا ترضي.

عوامل بناء النفس:
1 ـ التقرب إلى الله:

الموصول بالله تعالى قوي

أيها الأخوة الكرام؛ ننتقل الآن إلى عوامل بناء النفس، كيف يبني الإنسان نفسه؟ سألخص هذه العوامل في ثلاثة أمور فقط، الأمر الأول: أن تتقرب إلى الله، أول عامل من عوامل بناء النفس أن تتقرب إلى الله تعالى، فالموصول بالله تعالى قوي لأن الله هو القوي، والموصول بالله تعالى ثابتٌ على دينه لأن الله عزَّ وجلَّ يقويه، ويمنحه الثقة بنفسه، فمن عرف ربه عرف نفسه.

أيها الأخوة الكرام؛ أول سبيلٍ لبناء النفس أن تتقرب إلى الله تعالى بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة:

{ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، ولايَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ }

[رَوَاهُ اْلبُخَارِيُّ]

أحبّ شيءٍ إلى الله تتقرب به هو الفرائض

(مَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ)، أحبّ شيءٍ إلى الله تتقرب به هو الفرائض، أن تؤدي الصلوات الخمس، أن تقيمها في أوقاتها، أن تقيمها على النحو الذي يرضى الله به عنك، أن تصوم رمضان، أن تزكي الزكاة المفروضة، أن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، أن تغض بصرك عن المحارم، أن تكف لسانك عن المحارم، هذا أحب ما يتقرب به المتقربون إلى الله الفرائض، ثم قال: (ولا يَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ)، بعد الفرائض، قيام الليل، صلاة الضحى، صيام ست من شوال، صيام الاثنين والخميس، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، صدقة النافلة والتطوع، السنن الرواتب، (ولا يَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)، الله أكبر، إذا قال لك مديرك في العمل: إني أحبك فما يكون شأنك؟ قد لا تنام ليلتك وأنت مسرورٌ بمحبة مديرك في العمل، أو بمحبة والدك، أو بمحبة من يملك بعضاً من أمرك، فكيف إذا قال ملك الملوك حتى أحبه؟ فإذا أحببته، فإذا أحبك الله ماذا يكون؟ إذا أحبك الله قال:(فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ)، تستعيذ به، تلتجئ إليه فيلجئك إلى بابه، تسأله فيعطيك، أما ما معنى كنت سمعه وبصره ويده ورجله؟ ما معنى ذلك؟ هنا كلامنا عن بناء النفس، عندما تتقرب إلى الله بالفرائض أولاً ثم بالنوافل فيحبك الله، الآن: يكون الله سمعك الذي تسمع به، أي لا تسمع شيئاً إلا في مرضاة الله، فإذا جاءت شبهةٌ وكأنك لم تسمعها تدخل إلى أذنك ولا تدخل إلى قلبك، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ: فلا تنظر إلا بنور لله. وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا: فلا تحرك يدك إلا في مرضاة الله، ولا تحرك قدمك إلا لمكانٍ يرضي الله، تسير إلى المساجد لا تسير إلى أماكن اللهو المحرمة، هذا معنى كنت سمعه وبصره ويده ورجله التي يمشي بها، تنظر بنور الله، تسمع بنور الله، تمشي بنور الله، تحرك يدك بنور الله، وهذا أهم عاملٍ من عوامل بناء النفس.

أيها الأخوة الكرام؛ لكن لا بد في بناء النفس عندما نتقرب بالنوافل ألا تتحول عباداتنا إلى عادات، ينبغي أن نجدد النية دائماً في قيام الليل، في صلاة الفرائض، في صلاة الجمعة، في حضور مجلس علمٍ كهذا المجلس، هذه مجالس الذكر أيها الأخوة، عندما نحضر مجلس ذكر علينا أن نجدد النية في أنها في مرضاة الله لا أن نجعلها عادةً نؤديها فقط، ثم نركز على أعمال القلوب.

{ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» }

[صحيح مسلم]

فالقلب أيها الأخوة إذا صلح صلح الجسم كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، فلا بد من مراقبة القلب بحيث لا يكون فيه حسدٌ، ولا ذل، ولا حقدٌ، ولا ضغينةٌ على أحدٌ من عباد الله.

2 ـ المجاهدة:

العامل الثاني أيها الأخوة من عوامل بناء النفس هو المجاهدة، قال تعالى:

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

[سورة العنكبوت]

لن يستطيع الإنسان أيها الأحباب أن يصل إلى مرضاة الله من غير مجاهدة النفس:

وَالنَّفْسُ كَالطِّفِلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى حُــــبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ وخالِفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِـمَا واِنْ همـا مَحَّضَـاكَ النُّصحَ فاتَّهِـمِ
{ شرف الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد البوصيري }

لا بد من مجاهدة النفس

لا تستجب لنزوات النفس وشهوات النفس، لا بد من مجاهدة النفس، فمن المجاهدة أيها الأخوة يستطيع الإنسان أن يبني نفسه بناءً صحيحاً، أما أن يترك لنفسه العنان ثم يقول: لماذا أقع في المعاصي؟ لماذا تعصف بفكري الشبهات؟ لأنك لم تجاهد، لا بد من المجاهدة.

ثابت البناني أحد التابعين قال: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، أي يصلي ويجاهد نفسه، ثم تنعمت بها عشرين سنةً أخرى، والله إني لأدخل في صلاتي فأحمل همّ انصرافي منها، من شدة محبته للصلاة، لا بد من أن يجاهد الإنسان، التكليف ثقيلٌ على النفس لكن إن جاهد نفسه بعد حين يصبح التكليف محبوباً إلى النفس.

أيها الإخوة الكرام؛ الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول: "يَا بُنَيَّ انْوِ الْخَيْرَ فَإِنَّكَ لَا تَزَالُ بِخَيْرٍ مَا نَوَيْتَ الْخَيْرَ".

3 ـ المحاسبة:

لا بد بعد المجاهدة من المحاسبة

أيها الأخوة الكرام؛ أولاً: التقرب إلى الله بما يحب من النوافل والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال، ثم مجاهدة النفس وهوى النفس، أخيراً المحاسبة، الإنسان يجاهد نفسه ليحملها على طاعة الله ولكن لا بد بعد المجاهدة من المحاسبة إن وقع في شيءٍ لا يرضي الله، لا بد أن يحاسب نفسه.

التاجر أيها الأخوة؛ يجري حساباتٍ يومية وأسبوعية وشهرية لكيلا تتراكم عليه الحسابات فيضيع، لا بد من المحاسبة للتاجر، والمؤمن يتاجر مع الله:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

[سورة التوبة]

في التجارة مع الله لا بد من أن تحاسب نفسك، ماذا صنعت اليوم؟ هل أعطيت أو منعت في غير رضا الله؟ هل نظرت في غير رضا الله؟ هل أخذت قرشاً من حرام؟ هل؟ هل؟ يحاسب نفسه فيصحح قبل أن يفوت الأوان:

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

[سورة الأنبياء]

من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابه يوم القيامة عسيراً.

جلس أحد الصالحين يوماً محاسباً نفسه فإذا عمره كان ستين عاماً حسب أيامها، فإذا هي تزيد على واحدٍ وعشرين ألف يوم قال: يا ويلتاه ألقى الله بواحدٍ وعشرين ألف ذنب ! إن كان في اليوم ذنبٌ واحد.

أيها الأخوة الكرام؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن توزنَ عليكم، واعلموا أن ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا وسیَتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكیّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمین، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحین، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّیْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِیمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِیمَ، فِي الْعَالَمِینَ إِنَّكَ حَمِیدٌ مَجِیدٌ.

محاسبة النفس في الدنيا حساباً عسيراً ليكون حسابها يوم القيامة يسيراً:

جاء أعرابيٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد قرض الجوع بطنه وبه من الفقر ما به قال:

يَا عُمَرَ الْخَيْرِ جُزِيتَ الْجَنَّةْ... اكْسُ بُنَيَّاتِي وَأُمَّهُنَّهْ... وكُن لَنا مِن الزَمانِ جَنَه... أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ... فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: إِذًا أَبَا حَفْصٍ لأَذْهَبَنَّهْ... قَالَ عُمٙر: فَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: والله عَنْ حَالِي لِتُسْأَلَنَّهْ... يَوْمَ تَكُونُ الأَعْطِيَاتُ مِْنَهْ... وَالْوَاقِفُ الْمَسْئُولُ بَيْنَهُنَّهْ... إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا إلى جَنَّةْ...

فلم يتمالك عمر نفسه وذرفت دموعه ثم خلع رداءه وألبسه لهذا الفقير، قال له: خذ هذا ليومٍ تكون الأعطيات منة، وموقف المسؤول بينهن إما إلى نارٍ وإما جنة.

كان عمر بن الخطاب يوماً في بستانٍ من بساتين الأنصار وأنس بن مالك يراقبه وهو لا يراه، فإذا بعمر يقف مع نفسه موقف محاسبة قال عمر أمير المؤمنين: " بَخٍ بَخٍ وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ الله " يحاسب نفسه.

أيها الأخوة الكرام؛ تقربوا إلى الله بما افترضه علينا ثم بما تستطيعون من النوافل، فلنجاهد أنفسنا لنبنيها بناءً صحيحاً في مواجهة الشهوات والشبهات، ثم لنحاسب أنفسنا حساباً عسيراً حتى يكون حسابنا بين يديه يوم القيامة حساباً يسيراً.

الدعاء:

اللّهم اهدِنا فيمَن هَديْت، وعافِنا فيمَن عافيْت، وتَوَلَّنا فيمَن تَوَلَّيْت، وبارِك لَنا فيما أَعْطَيْت، وقِنا واصْرِف عَنَّا شَرَّ ما قَضَيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنَّهُ لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزُّ من عاديتَ، تبارَكتَ ربَّنا وتعاليتَ، فَلَكَ الحَمدُ عَلى ما قَضَيْت، وَلَكَ الشُّكرُ عَلى ما أَنْعَمتَ وَأَوْلَيت، نستغفرك ونتوب إليك، نؤمن بك، ونتوكل عليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم يا وَاصِلَ الـمُنْقَطِعِينَ صِلْنَا برحمتك إلَيْكَ، اللهم بفضلك عُمَّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنَّا كُنَّا مِن الظَالِمِينَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم فرج عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها فرجاً عاجلاً غير آجل، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم، وآوِ غريبهم، واجعل لنا في ذلك كله عملاً صالحاً متقبلاً يا أرحم الراحمين، اللهم انصر إخواننا المرابطين في المسجد الأقصى وفي القدس الشريف على أعدائك وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم فرجك ونصرك على إخواننا في الشام، وفي العراق، وفي اليمن، وفي كل مكانٍ يذكر فيه اسمك يا الله، اللهم اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

والحمد لله رب العالمين

بناء النفس

2018-06-22

عمان

مسجد القواسمي

جديد الموقع

خمس أمور تعينك على تربية أولادك
خطب الجمعة - 2019-06-14

تاريخ النشر : 2019-09-04

مكارم الأخلاق
خطب الجمعة - 2019-06-21

تاريخ النشر : 2019-09-04

حفظ العقل
خطب الجمعة - 2019-06-28

تاريخ النشر : 2019-09-04

بناء النفس