الزكاة
مقاصد الشريعة وضرورات العصر
الأستاذ حسين:
السيدات والسادة، المستمعين والمستمعات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
حيَّاكم الله بأطيب تحياته، وأهلاً ومرحباً بكم في مستهل هذه الحلقة الجديدة من اللقاء المفتوح، وبرنامجكم فكرٌ وحضارة. |
وفيها نتابع سلسلة حواراتنا الفكرية التي تأتيكم في مثل هذا الموعد من كل أسبوع، يصحبكم فيها حسين الرواشدة. |
مقدمة:
عنوان حلقة اليوم: مقاصد الشريعة وضرورات العصر، قال الله عزَّ وجل: |
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(107)(سورة الأنبياء)
صدق الله العظيم. |
المقاصد كما عرَّفها الفقهاء هي الغايات التي وضِعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد، أو هي الأسرار التي وصفها الشارع عند كل حكمٍ من أحكامها، أو أنها بعبارةٍ أُخرى المعاني الغائبة التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقه عن طريق أحكامه، والمقاصد هنا علمٌ متكامل مهمته الإجابة على سؤال لماذا؟ على مختلف المستويات، من أجل ربط الدين بالحياة الدنيا، والعمل بالهدف، والفكر بالواقع، والتكليف بالمصلحة. |
ولا خلاف بين العقلاء كما يقول الشاطبي، على أنَّ شرائع الأنبياء قُصِد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وعلى أنَّ الشارع كما يرى الشاطبي، وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق، أو على أنَّ الشريعة بحسب ابن القيِّم، مبناها وأساسها قائمٌ على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، بل إنَّ المقصد في القرآن الكريم كما يرى الإمام القفَّال الكبير هو تقريب الشرائع في العقول إلى الأصل، وبالتالي فإنَّ جواز وقوع السياسة فيها دليلٌ على أنَّها وقعت من حكيمٍ عليم بالعواقب مستصلح. |
في هذه الحلقة نستعرض مقاصد الشريعة وغاياتها في ضوء ضرورات العصر وقضاياه، نحاول أن نفهم كيف يمكن لأعمال الشريعة وأحكامها، وما استجدَّ من واقعنا من قضايا ونوازل، أن نُنزِّل أو نستنبط لها الأحكام التي يناسبها، على صعيد توازنات المصالح، أو ما يُسمّى بفقه الموازنات. |
وأُرحِّب بضيفي فضيلة الدكتور بلال نور الدين أستاذ الفقه الإسلامي، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، وعليكم السلام والإكرام، حيّاكم الله أستاذ حسين. |
الأستاذ حسين:
دكتور بلال هل نحن اليوم بحاجةٍ إلى فقه المقاصد؟ |
ما هو فقه المقاصد؟
الدكتور بلال نور الدين:
باختصار يا سيدي نعم، لسنا بحاجةٍ فقط بل نحن في حاجةٍ ماسَّة، اليوم سيدي عندما يغيب فقه المقاصد عن واقعنا، ونتعامل مع النصوص من غير هذا الفقه العظيم، الذي هو فرعٌ مهمٌ وأساسي في أصول الفقه، فنحن أمام مُخرجات لا تتناسب مع الواقع، وأمام مُخرجات ربما تضر بالإنسان، وأمام مُخرجات ربما تكون تُسيء من حيث أُريد لها أن تُحسِن، ففقه المقاصد هو ذاك العنوان العريض الذي يجب أن يبقى في ذهن الإنسان عند الفتوى وعند البحث، وعند الحديث في الدين، وعند الوعظ، وعند الإرشاد، يجب أن يبقى هذا الفقه حاضراً في ذهن من يتصدون ويتصدرون الآن المجالس في الدعوة إلى الله، وفي الدعوة الإسلامية جزاهم الله خيراً. |
الأستاذ حسين:
لكن البعض هنا سيسأل فوراً، كيف يستطيع الثابت الذي هو النَص أن يستوعب المُتغيِّر، وما أكثر المُتغيِّرات اليوم في حياتنا، ثم يُحقِّق المصالح المتجددة للعباد؟ ما هي طبيعة هذا النَص حتى يحتمل استيعاب المُتغيِّر؟ |
من إعجاز التشريع الإسلامي وجود النصوص ظنية الدلالة لتغطي الحوادث الجديدة إلى قيام الساعة:
الدكتور بلال نور الدين:
هذا سيدي هو الإعجاز إن صحَّ التعبير في النَص التشريعي في القرآن الكريم وفي السُنَّة النبوية، لمّا كانت رسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات، ولمّا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا بُدَّ أن تكون بعثته إلى امتداد الساعة فيها الحلول، لمّا يقول الله تعالى في كتابه الكريم ويأمرنا بالعودة: |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59)(سورة النساء)
إذاً الله تعالى لا يُحيلنا إلى مجهول، لا يُحيلنا إلى شيءٍ نعود إليه ثم لا نجد بغيتنا، وإلا لكان الكلام عبثاً، تعالى كلام الله عن ذلك، فلمّا أحالنا الله تعالى إلى كتابه وسُنَّة رسوله إذاً سنجد الجواب فيهما، كيف سنجد الجواب فيهما واليوم هناك متغيِّرات، وهناك قضايا فقهية معاصرة، وهناك أشياء لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهود القرون الأولى من الإسلام كيف يكون ذلك؟ طبيعة النَص، في أنَّ هذا النَص جاءت منه نصوصٌ قطعية الدلالة وقطعية الثبوت، وهذه تغطي العقيدة التي لم يتغير شيءٌ فيها، الله تعالى موجود واحد كامل، الإيمان بالله، بالكتب، بالرسالات، هذه طبيعة النصوص قطعية الدلالة، وجاءت نصوصٌ ظنّية الدلالة، من أجل أن تغطي إلى قيام الساعة الحوادث الجديدة. |
بمعنى آخر أخي الحبيب، أنا لمّا أقول لك اليوم مثلاً أعطي فلاناً ألف دينارٍ وخمسمائة، هذا نَصٌ واضح قطعي ألف وخمسمائة دينار، لا مجال للاجتهاد فيه، لكن لمّا أقول لك أعطي فلاناً ألف دينارٍ ونصفه، هل يا ترى ألف دينار ونصف دينار؟ أم ألف دينار ونصف الألف يعني ألف وخمسمائة؟ فهذا نَصٌ ظنّي الدلالة، الآن لمّا يأتي نصوص ظنّية الدلالة في كلامي أنا لك، هذا من ضعفي، أنا أخطأت، كان ينبغي أن أوضِّح، لكن نَصّي جاء ظنيَّ الدلالة لضعفي في اللغة. |
الأستاذ حسين:
وماذا لو قلت لك يا دكتور أو قلت لي أعطي فلاناً ما يُسعده؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
هذا أوسع أحسنت، فأنا لمّا أقول لك أعطي فلاناً ألف درهمٍ ونصفه فاحتمل النَص، الآن لمّا يكون من بشر هذا ضعفٌ في اللغة، أو ضعفٍ في التعبير، أو لحاجةٍ في نفس يعقوب، لكن لمّا يأتي هذا النَص من الخالق العظيم جلَّ جلاله، إذاً هو مقصود أن يكون فيه احتمال، قُصد من المولى جلَّ جلاله أن يكون فيه احتمال، لأنَّ الله تعالى، تعالى عن أن يكون في نصوصه احتمال لضعفٍ حاشاه جلَّ جلاله، فلمّا يأتي النَص محتمِلاً، ولمّا يأتي النَص ظنّي الدلالة ويتحمَّل عدة أمور، إذاً هذا مقصود لذاته، من أجل أن يُغطي احتياجات الناس إلى قيام الساعة، ففي وقتٍ يكون الناس فيه بحاجةٍ إلى كذا، وفي وقتٍ كذا، وأنت أحسنت إذ أتيت بالنَص الأوسع، قلت أعطي فلاناً ما يُسعده، إذاً نأتي إلى مقاصد الشريعة لنُفسِّر كلمة ما يُسعده بما يناسب كل عصر، فما يُسعده في عصرٍ لا يُسعده في عصرٍ آخر وهكذا. |
الأستاذ حسين:
وما يناسب كل فرد، ربما يُسعد فلان غير ما يُسعد الآخر. |
ما هي عبادة الوقت أو عبادة الظرف؟
الدكتور بلال نور الدين:
والنبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، أنا جمعت ربما ما يقارب أذكر ثلاثين حديثاً، هذه الأحاديث كلها تبدأ بقول السائل أي الأعمال أفضل؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة يُجيب بجوابٍ مختلف عن الجواب الأول، فمرة يقول: |
{ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. }
(صحيح البخاري)
ومرة يقول الإنفاق، ومرة يقول: |
{ تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ وأمرُكَ بالمعروفِ ونَهيُكَ عنِ المنْكرِ صدقةٌ وإرشادُكَ الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالِ لَكَ صدقةٌ وبصرُكَ للرَّجلِ الرَّديءِ البصرِ لَكَ صدقةٌ وإماطتُكَ الحجرَ والشَّوْكَ والعظمَ عنِ الطَّريقِ لَكَ صدقةٌ وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ }
(أخرجه الترمذي)
ومرة ومرة لماذا؟ لأنَّ أي الأعمال أفضل بالنسبة لي، غير أي الأعمال أفضل بالنسبة لك، فلمّا أكون أنا غنياً وأُسأل أي الأعمال أفضل؟ تقول الصلاة على وقتها، طبعاً الصلاة على وقتها، لكن أنا الآن في عبادة الوقت، وعبادة الوقت بالنسبة لي أنَّ الناس يعانون الآن ما يعانون من أهلنا في غزَّة وفي غيرها، فعبادة الوقت الآن تقتضي أنَّ أي العمل أفضل بالنسبة للغني أن يُنفق ماله، وبالنسبة للآخر أن يبرَّ والديه، عنده والدان كبيران في السن وهكذا، هذا يُسمّيه الفقهاء عبادة الظرف أو عبادة الهوية، أو عبادة الوقت، ولكل زمنٍ عبادته ولكل شخصٍ ظرفه، فالنصوص القطعيّة غطت العقائد وغطت أصول العبادات، هذه النصوص القطعيّة، أمّا النصوص الظنّية غطت المتغيرات، من أجل ذلك كان الفقه الإسلامي شاملاً وواسعاً، وما يناسب إلى قيام الساعة جميع شرائح المجتمع، والظروف والمتغيرات. |
الأستاذ حسين:
ما مدى هنا فيما يتعلق بفقه المقاصد، المطابقة هنا بين الحُكم والمصلحة، كيف يمكن هنا أن نوازن حتى في إطار فقه الموازنات، بين حُكمٍ كذا يُحقِّق مصلحة، وحُكم في نفس المسألة ربما يُحقق مصلحةً أفضل أو يدرأ مفسدة؟ |
كيف نوازن بين الحُكم والمصلحة الشرعية؟
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة هنا أخي الحبيب أولاً المصلحة، يعني حتى يفهم علينا الإخوة المستمعون الكرام، المصلحة هي حيث شرع الله تعالى، حتى لا يتوهم أنَّ المصلحة هي مصالح فردية، بمعنى أنَّ كل إنسان له مصلحته هذه نُسمّيها المصالح المتوهَمة، يعني كل إنسان يتوهم، ربما يتوهم إنسان أنَّ مصلحته في الرشوة، هذه ليست مصلحة هذه مفسدة، فعندما نقول مصلحة هي المصلحة التي يُقرِّرها الشرع، التي يُقرِّرها كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله. |
الأستاذ حسين:
يعني هنالك معيارية نصوص في تقدير المصالح. |
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بك، هنالك معيارية للنصوص هي التي تُقدِّر المصلحة. |
الأستاذ حسين:
ليس أي أحد يُقدِّر مصلحة ويبني عليها حُكماً. |
الدكتور بلال نور الدين:
طبعاً لأنَّ اليوم السارق اللص يقول لك أنا مصلحتي أن أسرق، طبعاً هو يتوهم أن مصلحته هنا، لكن هذه ليست مصلحة لا للمجتمع، لأنها مفسدة عظيمة في أن تُسرَق أموال الناس وتُستباح أعراضهم، وليست مصلحة له يوم القيامة لأنها ستُصليه نار جهنم، فهذه ليست مصلحة هذه مفسدة، لذلك يقول ابن القيِّم: "الشريعة عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل" فلمّا يأتي حُكمٌ شرعي ينهاني عن سرقة أموال الناس في الوقت نفسه هذا الحكم قد نهى ملياري إنسان أن يسرقوا أموالي، ولمّا يأتيني حكمٌ شرعي يأمرني أن أُحافظ على أعراض الناس، فقد أمر ملياري مسلم أن يحافظوا على عِرضي، هذه قضية المصلحة. |
الأستاذ حسين:
وبالتالي هنالك فقه لتحديد المصالح أليس كذلك؟ وفقه أيضاً مرادف للموازنات بين المصالح. |
فقه الموازنة في الشريعة الإسلامية:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم تماماً المصلحة لها فقهُها، الفقه هو الفَهم، فأنا لمّا أفهم ما هي المصلحة وما هي المفسدة، أستطيع الآن أن أتحكَّم في الفتوى، وأن أتحكَّم في ظروف الناس بناءً على فَهم المصلحة الشرعي، وفي الوقت نفسه فقه الموازنات فقهٌ عظيم في الشريعة الإسلامية، في مقاصد الشريعة الكُليِّة يُقدَّم حفظ النفس أحياناً |
مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)(سورة النحل)
هذا أصل الموازنات، إنسان طُلب منه أن يكفر بالله وإلا يُقتل في سبيل الله، الآن هناك موازنة بين كُليِّة من كُليِّات الدين وهي حفظ الدين، وكُليِّة حفظ النفس، حفظ الدين أعلى من حفظ النفس، لا شكّ في ذلك، لكن لمّا يتعرض الآن للقتل من أجل أن ينطق بكلمة الكُفر (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) فهنا أصبح موازنة بطريقةٍ أُخرى وهكذا، ففقه الموازنات هو يعني أن أنظُر. |
كان سيدنا عمر رضي الله عنه له كلمة رائعة، يقول: "ليس بخيركم من عرف الخير، ولا من عرف الشر، فمَن خيرنا إذاً؟ قال: من عرف الشرين، وفرَّق بينهما، واختار أيسرهما أو أهونهما" هذا أفقه الناس هو الذي يعرف الشرين. |
الأستاذ حسين:
يعني شر الشرين وخير الخيرين، ربما الخير يتعدد أو تتعدد مراتبه وكذلك الشر، هنا يأتي فَهم المقصِد إلى تحديد الأولويات، أليس كذلك؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
تحديد الأولويات، اليوم يُعلِّمون الناس في الدورات أنَّ هناك الأهم، وهناك المُهم، وهناك الأقل أهميةً، وهناك المؤجَّل، أشياء تؤجَّل، وأشياء توضع سُلَّم، وأشياء تحتها وهكذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه عمر وقال له دعني أضرب عنق هذا المنافق عبد الله بن أُبَي بن سلول: |
{ كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار: فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أُبَي فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم : فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه . }
(أخرجه البخاري)
أنا أعرفه أنه منافق وأنت تعرفه، لكن الناس سيشيع الخبر أنَّ محمداً أصبح يقتل أصحابه، فسيُعرِض الناس عن دين الله، وسيُساء لسُمعة الإسلام ولنبي الإسلام فدعه يا عمر، فلمّا جاء وقت انكشف فيه نفاق عبد الله بن أُبَي بن سلول، جاء ابنه يعني ابن عبد الله بن أُبَي بن سلول يقول له إن أردت قتلت أنا أبي حتى لا يتعلق دمه بأحدٍ فتصبح ثأرات وكذا، فقال له: دعه بل نُحسِن صحبته، هنا يقول عمر رضي الله عنه، هنا موطن الشاهد: <<يقول له رسول الله: كيف لو قتلته يا عمر يوم قلت لي تريد أن تقتله، قال له: والله قد علمت أنَّ أمر رسول الله أعظم بركةً من أمري>>. |
ما الذي فعله سيدنا رسول الله؟ فقه الموازنات، هذا رجُلٌ يُسيء للإسلام، ويُنافق، ويُقلِّب الناس على دين الله تعالى، ولكن لو قُتِل سيتحدث الناس أنَّ محمداً يقتل أصحابه وهكذا. لمّا بالحِجر قال: |
{ لولا أنَّ قومَكِ حديثُ عهدٍ بكُفْرٍ لَهدَمْتُ الكعبةَ ثمَّ أعَدْتُها على أساسِ إبراهيمَ وأدخَلْتُ في البيتِ مِن الحِجْرِ أَذْرُعًا وجعَلْتُ لها بابَيْنِ وألصَقْتُهما بالأرضِ. }
(أخرجه الطبراني)
لكن لئلا يُتخَذ ذلك ذريعةً للعودة إلى الشرك أو الكفر فوازن بين هذا وهذا، وهذا هو فقه الموازنة. |
فقه المآل في الشريعة الإسلامية:
الأستاذ حسين:
ومن الأدق من ذلك وبحاجة إلى فَهم أكثر ما يتعلق بالمآلات، وهي قد تغيب أحياناً في إطار عِلم المقاصد أو في إطار إصدار الأحكام أو كذا، أن نتوقع ماذا سيحدث، وبالتالي اعتبار المآلات التي يُسمّونها الفقهاء. |
الدكتور بلال نور الدين:
نعم هذا فقه المآل، ما شاء الله اليوم الحديث متنوع حول فقه الموازنات، وفقه المقاصد، وفقه المصلحة، وفقه المآل، فقه المآل جزءٌ من المقاصد الشرعية، وهو جزءٌ مهم جداً، بمعنى أنني الآن عندما أقوم بهذا العمل يجب أن أتصور ما هو مآله، ما هي نتيجته؟ يعني لمّا ابن عباس رضي الله عنهما جاءه رجُلٌ وسأله هل للقاتل توبة؟ فسيدنا ابن عباس رضي الله عنه قال: ليس للقاتل توبة، استغرب أصحابه كيف تقول له ليس للقاتل توبة ونحن قد سمعنا منك أنك قلت لآخر للقاتل توبة؟! ابن عباس الآن نظر إلى فقه المآل، قال: جاء والقتل بين عينيه، الرجُل عنده مشكلة فإذا قلت له القاتل له توبة سيذهب ويقتُل، أمّا الآخر فربما قد وقع في معصيةٍ ويريد الآن أن يتوب إلى الله، فنظر إلى المآل، إلى ما تؤول إليه هذه الفتوى، إلى ما يؤول إليه واقع الناس، فهذا فقه المآل عظيم. |
الأستاذ حسين:
وللأسف كثير من أحكامنا اليوم التي تصدر في إطار الحكم الشرعي، وخاصةً في الإطار الفردي، يغيب عنها هذا الحس أو هذا الاعتبار لفقه المآلات، أليس كذلك يا دكتور؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
بلى للأسف، أنا اليوم عندما أريد أن أتبنى موقفاً، أو أن أُصدر بياناً، أو أن أُصدر فتوى، يجب أن أنظر إلى واقعها في الناس، كيف سيتقبلها الناس؟ كيف سيتعاملون معها؟ هل سيفهمونها على الوجه الصحيح أم ستؤدي إلى مفسدة أعظم؟ ربما أحياناً موقف واحد يتخذه الإنسان يؤدي إلى مفاسد عظيمة، ففقه المآل هو أن ننظُر في العواقب، مسؤولية كبيرة أن ننظُر في عواقب الأمور، كم من فتوى صدرت أحياناً أدَّت إلى استباحة أموال الناس؟ أو استباحت دمائهم بغير بيِّنات بغير دليل، فدائماً عندما ينظُر المفتي، أو ينظُر القاضي، أو ينظُر المُشرِّع فيما يصدر عنه، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: |
{ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من رِضْوَانِ الله تعالى ما يُلْقِي لها بَالًا يَرْفَعُهُ الله بها درجاتٍ، وإن العبد لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من سَخَطِ الله تعالى لا يُلْقِي لها بَالًا يَهْوِي بها في جهنم }
(رواه البخاري والترمذي وابن ماجه)
لا سيما أخي الحبيب في زمن الأزمات والفتن والحروب، يصبح الكلمة لها وقعٌ كوقع السيف، فيجب أن نتأنّى في إصدار أحكامنا، وفي إصدار مواقفنا، لا أن نتسرع ثم نندم، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: |
{ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله أوصني، قال: عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصلِّ صلاتك وأنت مودع، وإياك وما يعتذر منه }
(رواه الحاكم والبيهقي)
فهذا ينبغي دائماً أن يكون فقه المَآل واضحاً في أذهاننا |
كيف نخرج من أزمة الضمور في فقه الحياة العامة أو الفقه المقاصدي:
الأستاذ حسين:
وبالتالي نحن بحاجة إلى علماءٍ مجتهدين مؤهَلين، البعض يقول يا دكتور هنا، أننا نعاني من ضمور في فقه الحياة العامة، الفقه المقاصدي، وبالتالي اليوم نشهد بعض الأحكام التي تصدر، بعض الآراء التي نسمعها، الفتاوى، لا تلتزم بهذه وخاصة في قضايا مستجدة في نوازل لا تتحقق من المناط، لا تُقيم اعتبار للمآل، لا تراعي المُتغيرات، كيف نخرج من هذه الأزمة؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
والله يا سيدي نخرُج من هذه الأزمة عندما يتوقف مَن لا يعلم عن الكلام، يعني لا بُدّ من ضبط هذا الموضوع، وضبطه يكون أولاً بمسؤولية على كل أمرٍ في المسألة، أي العلماء وأُولو الأمر المسؤول عن الموضوع بما يُسمّى اليوم ضبط الفتوى، بمعنى أنه لا يحق لكل إنسان أن يُفتي أو أن يتصدر للفتوى، إلا أن يكون مستجمعاً لشروطها، ثانياً أن نسعى إلى ما يُسمّى اليوم الفتوى الجماعية، بمعنى أنا اليوم إذا كانت القضية طبيَّة فأنا بحاجةٍ إلى الطبيب |
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)(سورة النحل)
وأهل الذكر هم أهل الفن في كل مجال |
الأستاذ حسين:
يعني الطبيب يُفتي أو يجب أن يكون جزءاً من الفتوى مثلاً؟ |
الدكتور بلال نور الدين:
يُشارك، تأتيني اليوم مسألة متعلقة بطفل الأنبوب، أو بالتلقيح الصناعي، أو بالموت السريري، فيجب أن يكون الطبيب معي، عندما يكون الموضوع له مآلات اقتصادية، فيجب أن أسمع الرأي الاقتصادي، ماذا في هذا البلد؟ ما وضعه؟ عندما يكون الأمر متعلق بأمرٍ أُسَري فينبغي أيضاً أن أسمع إلى الاجتماعيين |
الفتوى الجماعية تضبط فقه المقاصد وفقه المآل:
الأستاذ حسين:
يعني المتخصِّص اليوم في الدين في الشريعة ليس وحده من يُصدر الفتوى في القضايا المستجدات، أو لا يجوز أن يحتكر الفتوى لنفسه، لا بُدَّ أن ينفتح على الخبراء (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) |
الدكتور بلال نور الدين:
الفتوى الجماعية تضبط فقه المقاصد وفقه المآل، لأنني اليوم عندما أسمع لفلان وفلان وفلان قبل أن أُصدِر الفتوى، الآن |
{ اثنانِ خيرٌ من واحدٍ، وثلاثٌ خيرٌ من اثنَيْنِ، وأربعةٌ خيرٌ من ثلاثةٍ، فعليكم بالجماعةِ، فإن اللهَ عز وجل لن يَجْمَعَ أمتي على ضلالةٍ }
(الألباني السلسلة الضعيفة)
فالإجماع شيءٌ مهم، عندما أطمئن أنا إلى أنني قد اجتمعنا خمسة أو ستة، لكل واحد تخصُّص مُعيَّن، وراجعنا هذه المسألة وأصدرنا فيها، هناك فتاوى بسيطة لا يوجد فيها مشكلة كفّارة يمين، وفتاوى الطلاق، تقتصر على الشرعيين ومعروفة، لكن عندما يتعلق الأمر بقضايا مستجدة، قضايا اقتصادية، قضايا طبيِّة، قضايا فقهية معاصرة، فلا بُدَّ أن نستجمع أسبابها، وأن نستجمع لها شروطها قبل أن نُصدرها حتى تكون منضبطة إن شاء الله. |
الأستاذ حسين:
أحياناً يحدث خطأ بالفصل بين الحكم التشريعي وبين أصوله الحضارية والفكرية، هل هذا يندرج أيضاً في اعتبارات فهم مقاصد الشريعة، أحياناً التشريع يعمل مفاضلة بين القيَم، قيَم هنا وقيَم هناك، أو يوفق بين مصالح متعارضة تابعة لأصول حضارية مختلفة، وأنت تعرف عندنا اليوم مستجدات كثيرة تخرُج إلينا من تربةٍ أُخرى، في مجال العِلم في مجال الاقتصاد وكذا، في ضوء عِلم المقاصد أو فَهم مقاصد الشريعة، هل يجب أن نراعي عند إصدار الحكم أُصوله الحضارية والفكرية؟ |
فقه الواقع يختلف من بلد إلى آخر:
الدكتور بلال نور الدين:
بالتأكيد، بمعنى الواقع هو دائماً جزءٌ من الفتوى، وبمعنى أنَّ الواقع يختلف من بلدٍ إلى بلد، يعني للطرفة الفقهاء كانوا سابقاً يقولون لو أنَّ شخصاً حلف يميناً أن لا يأكل لحماً، فإذا أكل سمكاً في بلاد الشام لا يحنث، لكنه إذا أكل سمكاً في بلاد المغرب يحنث باختصار لماذا؟! لأنَّ أهل المغرب يُسمّون السمك لحماً، لكن بلادنا لا تُسمّي السمك لحماً بل تُسمّيه سمكاً وتُسمّي اللحم الأحمر لحم وهكذا، فهذا من أبسط الأمور فقط للطرفة، فإذا نهضنا إلى أعلى من ذلك بكثير، فاليوم فقه الواقع بين البلدان يختلف، الشافعي رحمه الله الإمام الفقهي العظيم، له مذهبه في الشام ومذهبه في مصر، ما الذي اختلف؟ هل الشرع اختلف؟ شرع الله واضح. |
الأستاذ حسين:
هذا في الإطار الحضاري الواحد. |
الدكتور بلال نور الدين:
نعم هذا في الإطار الحضاري الواحد بارك الله بك، ونحن ضمن الشام ومصر، فكيف اليوم مثلاً فقه الاغتراب، الاغتراب له فقهٌ خاص، اليوم مسلم يعيش في بلاد أغلبيتها ليست مسلمة، قوانينها لا تمُّت للإسلام بصِلة، هذا كيف يتعامل مع واقعه؟ كيف يتعامل مع المتغيِّرات هناك؟ كيف يأخذ الجنسية؟ كيف يتعامل مع البنوك؟ كيف يتعامل مع الواقع الجديد الذي يعيشه؟ هذا له فقهٌ مُعيَّن، وليس فقهٌ مُعيَّن بمعنى دين جديد، بل فَهمٌ جديد للنصوص، لأنَّ النصوص في الأصل جاءت، نحن القدسية عندنا في ديننا هي النَص، لكن فهم النص متغيِّر ليس له قدسية مُعيَّنة فهم النَص، فنفهمه بحسب الواقع الذي نعيشه، ليس كل إنسانٍ يفهمه كما يُحب، لكن الهيئات، والمجامع الفقهية، والفقهاء المعتمدون يفهمونه وفق واقع هؤلاء، أحياناً كثيراً يأتيني اتصال من شخصٍ أقول له استفتِ أهل بلدك، كثيراً ما أفعل ذلك. |
الأستاذ حسين:
بارك الله بك دكتور وحفظك الله وجزاك كل خير، دائماً نسعد بك في هذا البرنامج يا دكتور بلال |
الدكتور بلال نور الدين:
وأنا بكُم أسعد. |