ألطاف وأنوار سورة الرعد

  • تدبر القرآن الكريم : اذاعة القرآن الكريم - برنامج نوافذ دينية
  • 2024-06-08

ألطاف وأنوار سورة الرعد

المُحاوِرة هناء المجالي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، وخير الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مقدمة:
مُستمعينا حيّاكم الله إلى هذه الحلقة الجديدة من برنامج نوافذ دينية، لنعيش معها ألطاف وأنوار سور القرآن الكريم، فأهلاً ومرحباً بكم.
اليوم حديثنا سيكون عن سورة الرعد، لنتحدث عن ألطافٍ وأنوار، حديثنا سيكون مع ضيفنا الدكتور الداعية بلال نور الدين، عضو رابطة علماء الشام، وأستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسُنَّة، أستاذ علوم القرآن وتفسيره، المشرف العام على الموقع الرسمي لفضيلة العالم الجليل محمد راتب النابلسي.
حيّاكم الله دكتور وأهلا ومرحباً بكم.
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم ونفع بكم، وشكراً لهذه الاستضافة الكريمة.
المُحاوِرة هناء المجالي:
حيّاكم الله دكتور، نتحدث اليوم كما ذكرت في المُقدِّمة عن سورة الرعد، هذه السورة رسالتها تقول: الحقُّ قويٌ وراسخ، وإن لم يظهر أمام الأعيُن، والباطل مهزومٌ وضعيف، هذه الحقيقة البسيطة يغفَل عنها كثيرٌ من الناس، فلتحدثنا يا دكتور بما فتح الله عليك بهذه الرسالة.
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم.

سبب تسمية سورة الرعد ومقاصدها:
الحقيقة كما تفضّلتم سورة الرعد ثلاثٌ وأربعون آية، وهي السورة السادسة عشرة في ترتيب المُصحف، وقد قال أكثر أهل العِلم إنها مَدنيَّة، ولكن اجتهد بعض المُفسّرين بأنها مكيَّة، والحقيقة أنَّ سياق الآيات و طريقة العرض أقرب إلى القرآن المكيّ منه إلى المدني والله تعالى أعلم، وقد سُمّيَّت بسورة الرعد، لورود ذِكر الرعد في ثناياها في قوله تعالى:

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
(سورة الرعد)

ومقصِدُها العام هو إثبات الإيمان وتثبيته في القلوب، وتثبيت توحيد الله تعالى في النفوس، وأمّا مقصِدُها الفرعي كما تفضّلتم، هو بيان قوة الحق في مواجهة زيف الباطل، فالحق واضحٌ، راسخٌ، ثابتٌ، بينما الباطل ضعيفٌ، زائلٌ، زائف.
سأضرِب مثالاً: لو أننا أنشأنا جامعةً لتُخرِّج أجيالاً للأُمة يكونون عوناً لها في بناء نهضتها وقوّتها، فإننا نُنشِئُه ذا بنيانٍ ثابت، راسخ، نُنشِئ القاعات والمختبرات، نجِد جامعات قد مضى عليها مئة عامٍ وأكثر فيها عراقةٌ مُعيَّنة، لأنها أُنشِئت للحق، لتنشِئة الجيل، بينما عندما نُنشِئ مثلاً في العيد ما يُسمّى السيرك، لبعض الحركات البهلوانية، فإننا نضع خيمةً زائفةً زائلةً سريعةً ليومٍ أو يومين، فالحقُّ من حقَّ الشيء يحقُّ إذا ثبت، أمّا الباطل من بطلَ يبطَلُ إذا كان زهوقاً زائلاً، قال تعالى:

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
(سورة الإسراء)

فمهما وجدنا من انتفاش الباطل، وانزِواء أهل الحق بحقهم، فأن الحق يبقى حقاً، والباطل يبقى باطلاً، فالله تعالى مع الحق، بل إنَّ الله تعالى هو الحق، بل إنه خلق السماوات والأرض بالحق، وأنزل الكتُب بالحق، وأرسل الرسل بالحق، لذلك كل ما يتصِل بكتاب الله تعالى، وبسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو باقٍ مستمر، وكل ما يبتعد عن الله تعالى الحق، فهو باطلٌ زائلٌ زاهق، لن تقوم له قائمة مهما بدا قوياً إلا أنه ضعيف، من هنا يجب أن نُميِّز بين حق القوّة، وقوّة الحق، فالحق له قوّة ذاتية تنبع في داخله، وما نشاهده اليوم من بطولات أهلنا في فلسطين وغزَّة، يوضِّح قوّة الحق، يحملون حقهم في أرضهم، في دينهم، في ثباتهم، في الدفاع عن أعراضهم، فهُم أقوياء بحقهم، بينما يعتقد عدوُّهم أنه على حق لأنه قوّي، وهذا ليس صحيحاً، فأنت قوّي لأنك على حق، ولست على حق لأنك قوّي، فالعكس ليس صحيحاً، فمهما ملكت من الأسلحة، ومهما ملكت من القُدرات ومن الإعلام، فإن ذلك لا يعطيك ميّزةً بأنك على حق، فالقوّة لا تصنع الحق، ولكن الحق هو الذي يصنع القوّة.
فهذه السورة كما تفضّلتم تُبيِّن قوّة الحق في مواجهة الباطل وأهل الباطل، وتُبيِّن أنَّ الحق يملك قوةً ذاتيةً في داخله، لا يمكن للباطل مهما انتفش وقويَّ أن يزاحم الحق، صحيح أنه يزاحم أهل الحق حيناً من الزمن، بأن هذا سُنّة التدافع بين الحق والباطل، سُنّةٌ منذ أن خلق الله الأرض ومَن عليها، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها فهي سُنَّة، لكن من السُنن أيضاً، أنه لا يمكن للباطل أن يخلو بالساحة يوماً، فالحق موجود في كل زمانٍ ومكان، فلا يمكن للباطل أن يخلو بالساحة وحده، وكنت أقول دائماً، عندما يتعجَّب بعض الناس من حجم ما يُحاك للمسلمين من مؤامراتٍ، ومن حجم ما يُحاك لأهل الحق من مؤامراتٍ عظيمة على مستوى العالم كله، حتى إنها حربٌ عالميةٌ مُعلنة ضد الإسلام والمسلمين، فيتعجبون من قوّة هذه المؤامرة، فكنت أقول لهُم: بل إنني أتعجَّب أكثر من بقائنا وقوّتنا رغم حجم هذه المؤامرة، فلو تعرَّضَ أهل أي مكانٍ في الأرض لما تعرَّض له أصحاب الحق من هذه الهجمة الشرسة، لزالوا عن بِكرة أبيهم، ولكننا باقون ومستمرّون رغم كل ما يُحاك ضِدنا من مؤامرات، وهذا دليلٌ على أنَّ الحقّ قوّيٌ بأهله وقوّيٌ بقوّة الله تعالى جلَّ جلاله.
المُحاوِرة هناء المجالي:
بمُداخلة بسيطة دكتور، وأنت استشهدت بما يحصَل على أرض غزَّة وفلسطين والقدس، من جميل ما ذكرت يا دكتور هذه الحقائق، وكما قلت غابت عن أعيُن الناس وانخدعوا بالباطل، يخافون منه فيستخفون بالحق، أو يحاولوا أن يقلِّدوا هذا الباطل، هذه النوعية من الناس تأتي السورة لتقول لهُم أنَّ قوّة الباطل مهما ظهرت وانتفشت فهي هشَّة بلا جذورٍ في الأرض، والحق مهما توارى واختفى فهو راسخٌ ومتين، وها هو الحقُّ الآن يضرِب بجذوره وها هنا نرى كيف أنَّ أهل غزَّة قد أثبتوا للعالم كله أنهم أصحاب حق، وأصحاب جذورٍ ثابتة في هذه الأرض، بارك الله بكم يا دكتور.
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم وحفظكم.

لله تعالى في الكون كتابٌ مقروء وكتابٌ منظور:
المُحاوِرة هناء المجالي:
نذهب الآن للحديث عن أولى آيات السورة، من أول ما تبدأ به السورة، هو التأكيد على أنَّ الله تبارك وتعالى هو الحق، وأنَّ كتابه المُنزَل من عنده هو الحق، بعد هذه الحقيقة تنتقل الآيات لتُبيِّن أنَّ لله تعالى في الكون كتابٌ مقروء وهو القرآن، وكتابٌ منظور وهو الكون كله، فلتحدثنا يا دكتور عن هذه العظمة بأن الله هو المُدبِّر والقادِر، مالِك المُلك ومالِك الكون، وكل ما يحصل في هذه الدنيا، حصَل بعلمه وسمح به، فالله غالبٌ على أمره، نودّ الاستزادة يا دكتور تفضل.
الدكتور بلال نور الدين:
تماماً كما تفضّلتم، السورة بدأت بذكر الحق من الآية الأولى:

المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
(سورة الرعد)

وفي الرابعة عشر:

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
(سورة الرعد)

وفي السابعة عشر:

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
(سورة الرعد)

وفي التاسعة عشر:

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
(سورة الرعد)


الكون قرآنٌ صامت والقرآن كونٌ ناطق والنبي صلى الله عليه وسلم قرآنٌ يمشي:
لكن في ثنايا السورة، وفوراً بعد الآية الأولى، يبدأ الله تعالى من الآية الثانية بجولة كونية عظيمة، لذلك قالوا الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قرآنٌ يمشي، بمعنى أنَّ الكون قرآنٌ صامت، فأنت إذا نظرت إلى الشجرة قادتك إلى الله، وإذا نظرت إلى الطير في السماء قادك إلى خالقه، وإذا نظرت إلى السمكة في الماء قادتك إلى خالقها، فالكون قرآن لكنه صامت، لكن كل شيء فيه ينطق بوجود الله و وحدانيته وكماله، كل شيء في الوجود يقول لك الله موجود، لأن وجوده يدل على وجود خالقه، ويقول لك الله واحد لأن وجوده على هذه الصورة وبهذا التناسق العجيب يدل على أنَّ من يدير هذا الكون واحدٌ لا شريك له، وبأن الله تعالى كامل لأن خلقه كامل، فكل شيءٍ في الوجود ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله.
ثم القرآن كونٌ ناطق كما نشاهد، كمثال سورة الرعد، فعندما نبدأ من الآية الثانية:

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
(سورة الرعد)

فالقرآن كونٌ ناطق، يحدّثنا عن الكون وينطق بما فيه، وبآياتٍ عظيمة، القرآن الكريم يزيد على ستة آلاف آية، فيه ألف ومئتا آية تقريباً أي سدُس القرآن الكريم هي آياتٌ تتحدث عن الإنسان والكون والحياة، أي آيات تتحدث عن خلق الإنسان عن خلق الحيوان عن النبات عن الأمطار عن الشجر عن الزرع عن الطير، فالقرآن كونٌ ناطق، ينطق بما في هذا الكون من عجائب قدرته وصنعه جلَّ جلاله، بينما النبي صلى الله عليه وسلم إكراماً للفائدة، كان قرآناً يمشي، فسلوكه في الحياة وتعامله مع زوجاته وأولاده، مع أصدقائه ومع أعدائه، مع النبات مع الحيوان، تعامله مع الوجود، هو يتعامل وفق القرآن الكريم، لذلك قالت السيدة عائشة:

{ سُئِلَتْ عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَتْ: كان خُلُقُه القُرآنَ. }

(أخرجه أحمد )

فالكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قرأناً يمشي، وكل شيءٍ في الوجود يدل على وجود الله ووحدانيته و كماله.
هب أنني قرأت آيةً تتحدث عن الأمر، فيها أمر

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)
(سورة النور)

فما موقفي أنا المسلم عندما أقرأ هذه الآية؟ أن ألتزم الأمر.
هب أنني قرأت آيةً فيها نهي

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
(سورة الحجرات)

فما موقفي أنا المؤمن؟ أن أترك ما نُهيت عنه، أن ألتزم ما نُهيت عنه
هب أنني قرأت آيةً فيها قصة، يتحدث الله عن قصة صاحب الجنَّتين، وكيف أهلك الله زرعه، ما موقفي أنا المسلم؟ موقفي أن آخذ العِبرة والعِظة

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
(سورة الكهف)

ثم ما موقفي إذا قرأت الآيات التي تتحدث عن الكون؟ كما في سورة الرعد، سنُفصِّل إن شاء الله في الآيات الكونية فيها، فما موقفي أنا المؤمن؟ موقفي أن أتفكر، أن أنظُر، أن أُعمِل النظر وأُجيل الفكر في هذه الآيات الكونية العجيبة، وإلا فإنني لم أتدبَّر القرآن تماماً، قال تعالى:

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
(سورة آل عمران)

المُحاوِرة هناء المجالي:
بارك الله بكم، وكأنَّ هذه الآيات تقول للناس، إن كنتم تكذِّبون بالكتاب المقروء فتعالوا وانظروا إلى كتاب الله المنظور، الجبال، السماء، الأرض، الشمس، القمر، فكلاهما يدل عليَّ وكلاهما يقوّي الآخر، والكتاب المنظور يزيدنا إيماناً بالقرآن الكريم، وهو الكتاب المقروء، فهذا كله يجعلنا ننتقل إلى رحلةٍ في مُلك الله، ومن روعة السورة أنها تهبط بنا في مُلك الله درجةً درجة، لنتأمل الكون وآياته من الأعلى إلى الأسفل، هذا ظهرَ في الآية الثانية، وكأننا ننتقل في طائرة، وكتاب الله معنا كدليل، ثم تأتي الآية الخامسة

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
(سورة الرعد)

نود إلقاء الضوء على أنوار وألطاف هذه الآيات يا دكتور تفضل.
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضّلتم، بدءاً بالآية الثانية تبدأ هذه الجولة الكونية، الآية الأولى هي الكتاب المسطور المقروء (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) ثم يبدأ كتاب الكون في الآية الثانية (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) أريد أن أقف هنا قليلاً، عند الآية الأولى في الكتاب المنظور (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) إذاً رفعها بعَمدٍ لا نراها، بعمد غير مرئية، ما هي؟ هي قِوى الجاذبية، قال أهل العِلم: إننا لو أردنا أن نربط الأرض بالشمس دون قوى الجاذبية، هكذا تخيَّلوا وافترضوا، وجه الأرض مقابل للشمس وأردنا أن نربطه، نحتاج إلى مليون مليون حبل فولاذي، قطر كل حبل خمسة أمتار، طوله مئة وست وخمسون مليون كيلو متر وهي المسافة بين الأرض والشمس، لنربط الأرض بالشمس، وعندها ستصبح الأرض غابةً من الحبال، بين كل حبل وحبل لا يتسِّع لحبلٍ ثالث، بين كل عمود وعمود، فتخيلوا الحياة لو كانت العَمَد مرئية كما نفعل اليوم عندما نضع سقف للبيت، فنحتاج إلى أعمدة في البيت، فنضعها غالباً على الجُدران، في المساجد نجد بعض الأعمدة في الوسط لا يقوم السقف بغيرها، فنجد بعض الأعمدة.

المُسخَّر له أعظم من المُسخَّرات:
هب أنَّ الأرض كذلك مربوطة بالشمس وتحتاج إلى هذا العدد من الحبال، كيف تكون حياتنا على الأرض؟ طبعاً هذا افتراض لن يكون، ولكن مجرد افتراض نجد أن الحياة لا تُطاق، فقال (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) إنها قوّة تجاذُب التي تجذِب الكون فيكون كله يسير في هذا الانتظام الدقيق.
الله تعالى قال في السورة بعد قليل (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) المُسخَّر له أعظم من المُسخَّرات، فالله تعالى سخَّر الشمس والقمر لنا، فنحن أكرم على الله من الشمس والقمر، لأنه سخَّر لنا الشمس والقمر، الشمس تكبُر الأرض بمليون وثلاث مئة ألف مرَّة، يعني يمكن أن نضع في جوف الشمس مليون وثلاث مئة ألف أرض، القمر الذي نرقبه.

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ۗ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
(سورة البقرة)

ثم بعد ذلك:

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
(سورة الرعد)

رغم أنَّ الأرض كُرة، لكنها ممدودة أمامنا، وأيضاً مدَّ الأرض تشير بالعمق إلى كروية الأرض، لأنه لا يوجد شكل هندسي تُمَد خطوطه بحيث لا تصِل إلى حرف مُعيَّن وتنتهي به إلا الكُرة لأنها مُمتدَّة الخطوط فيها.
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) آية الجبال: انظُر إلى الجبل، رواسي، الجبل وتدّ يُثبِّت الأرض، هو رواسي لأنَّ ما نراه منه هو ثلثه، أمّا ثلثاه فمغروسان في جوف الأرض، لتثبيت الأرض في حركتها، الأرض تتحرك ثلاثون كيلو متراً في الثانية تقريباً، تدور ونحن لا نشعُر بها، لأن الله ثبَّتها، اللطيف جلَّ جلاله ثبَّتها، فأنا من بداية اللقاء الجميل مع حضرتك حتى الآن قطعنا في الأرض مسافة،

وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
(سورة النمل)

(مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ) هذا الربط بين الرواسي والأنهار دائماً في كتاب الله، لأنَّ الرواسي مستودعات للمياه

وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
(سورة الجاثية)

هذا فيه آيةٌ لمن يتفكر فيها، لمن يُعمِل النظر، لمن يُجيل الفكر، كما تفضّلتِ بعد ذلك يقول:

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
(سورة الرعد)

انظروا إلى هذه الآية (يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ) اليوم ندخل إلى بستان، نحن الآن على أعتاب الصيف وفواكه الصيف الطيِّبة، التي تودد لنا الودود بها، نعيش من دونها، فالقوت لا بُدَّ منه، القمح والخبز، لكن الفواكه وِدّ من الله عزَّ وجل، نجد شجرة الدراق وشجرة المشمش وشجرة الكرز وشجرة التين (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) مع أنَّ الماء واحد، تُسقى بماءٍ واحد فينتج معنا الحلو والحامُض والمالح، فهذا من عظيم خلق الله تعالى، ختم الله الآية (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الأولى يتفكرون، يعني عمل من أعمال العقل، الثانية يعقلون، العقل هو الربط، يربطون هذه بهذه فينتُج عندهم من هذا الربط العقلي الفكري، أنَّ لهذا الكون خالقاً لا يمكن أن يكون الأمر مصادفةً

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
(سورة الرعد)

قولهم العجيب، وآياتٌ كثيرة

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
(سورة الرعد)

يتحدث عن حمل النساء وما فيه من آيات الله تعالى، يتحدث عن البرق

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
(سورة الرعد)

آية من آيات الله، البرق

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
(سورة الرعد)

يتحدث عن نعمة الماء وكيف يسيل في الأودية، وكيف يحمل الزبَد (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ).
أيضاً:

أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ (72)
(سورة الواقعة)

هذه جولةٌ كونيةٌ عظيمة في سورة الرعد، مفادها ونهايتها أن يقول المؤمن في نهايتها سبحان الله العظيم، أن يُسبِّح الله تعالى، أن يُنزِهه، أن يتجه إليه بالكُليِّة، نحن اليوم عندما يكون إنسان جالساً في مكان ويدخل شخصٌ مُهم، ثم يهمِس أحدٌ في أُذُنك أنَّ فلان الداخل هو مخترع الآبل، أو الآيفون، فأنت تُغيِّر جلستك وتُغيِّر من كلامك معه، وتتأدب في حضرته، لأنه مخترع الهاتف، فكيف وأنت تقرأ القرآن الكريم، وهذا الهاتف هو عبارة عن تجميع من خلق الله تعالى، عن شيءٍ سمح الله تعالى به فكان، كيف وأنت تقرأ في هذا الكون العظيم، أنت مع الخالق جلَّ جلاله، أفلا تتأدب في حضرته، ألا تخطُب وِدّه، ألا ترجو جنَّته، ألا تخشى ناره، وهو الذي خلق الكون على هذا المثال البديع، الذي أنشأه من العدَم جلَّ جلاله.

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(سورة فاطر)

المُحاوِرة هناء المجالي:
ومن إعجازه أيضاً يا دكتور أنه جاء بلفظ الحق في هذه الآيات التي تتحدث عن عظمته، بالوقوف على مدلولات هذا اللفظ، تبيَّن لنا سعة دلالته، سبب اعتناء القرآن به، تبياناً لمفاهيم الإيمان، وتثبيتاً لأحكام الإسلام، لفظ الحق ورَدَ تقريباً مئتين وثلاث وثمانون مرة، وهنا وردت كلمة الحق كثيراً، كما وردت في سورة يونُس، كان لها ثِقلٌ كبير في هذه الآيات، إذاً المدلول العظيم لكلمة الحق لتبيان هذه العظمة في مخلوقاته، لذلك تنتقل هذه الآيات إلى حديثٍ آخر وتركيزٍ آخر على نوع آخر من قدرته تعالى، وهو القدرة على جمع المتناقضات في الكون، هذه المتناقضات يستحيل على أحدٍ أن يجمع بينها إلا الله سبحانه وتعالى، هناك اثنين وثلاثين متناقضة في هذه السورة، نبدأُها (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ) نوَد إلقاء الضوء على هذه المتناقضات، ما معناها؟ وكيف جاء بالضِّد وجاء بالشيء نفسه وبضِّده؟ وكيف جمع بين هذه المتناقضات في هذه السورة؟ بارك الله بكم.

دلائل قدرة الله تعالى على جمع النقيضين:
الدكتور بلال نور الدين:
شكراً لهذا السؤال الجميل جداً، الحقيقة كما قال الشاعر:
جمع النقيضين من أسرار قدرته هذا السحابُ به ماءٌ و به نارُ
{ وليد الأعظمي }
النقيضان لا يجتمعان في الأصل، وجود أحدهما يلغي وجود الآخر، لكن هذا عند البشر، في قوانيننا، لكن الله تعالى يجمع ما شاء من النقائض، وهذه السورة كما تفضّلتم فيها هذا الجمع الذي يدل على سرٍّ من أسرار قدرة الله تعالى، فبدءاً من اسم السورة وهو الرعد، فالرعد يحمل الخوف والرهبة، ومعه الخير والمطر والرزق الوفير، نحن نسمع الرعد فنخاف، نشعر بالهيبة ما هذا؟ وفي الوقت نفسه نطمع بما فيه من الخير الوفير والرزق، وكما تفضّلتم، قال تعالى: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ).
غاضَ: بمعنى نقُصَ، ازداد نقيض النقصان، فالنقصان والزيادة جمعهم الله تعالى في رحِم المرأة، طبعاً كيف يكون النقصان والزيادة؟ ممكن السقط، ممكن أن يسقط قبل أن يكتمل خلقه، لأن الله تعالى لم يأذن له بالحياة، بالإكمال، لكن تزداد إلى تسعة أشهُر أو قريب ذلك وتلِد، فهذا (تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ) يمكن أن يكون النقص في المولود نفسه، فقد يشاء الله تعالى أن يولَد مولودٌ بكليةٍ واحدة، ويعيش بها عُمراً مديداً، وهذا من رحمة الله تعالى، وقد يلِد كاملاً وليس به أي نقصٍ، ممكن أن يكون الزيادة في العدد، نسمع أحياناً خمس توائم تلِد المرأة وهذا موجود، أحياناً توأم، وأحياناً واحد، فتزداد الأرحام، ويمكن أن يكون مولود واحد، زمن الحمل يختلف، فهناك امرأة تحمل وتصِل للشهر التاسع، هناك امرأة تلِد في الثامن، قال: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ).
أيضاً من دلائل قدرة الله تعالى في جمع النقيضين، قال تعالى:

سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
(سورة الرعد)

الإسرار والجهر (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).

وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ (19)
(سورة فاطر)

نقيضان، هل يستوي الأعمى والبصير؟

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
(سورة الأنعام)

فالنور يلغي الظلام، والظلام يلغي النور، الليل والنهار، فوجود أحدهما ينقِض وجود الآخر، أيضاً من ذلك في أحوال الإنسان مع خلق الله تعالى، قال:

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(56)
(سورة الأعراف)

يخاف الإنسان مما في بعض الظواهر الكونيَّة، ويطمع أيضاً بما فيها من الخير، كالسحاب والبرق والرعد وغير ذلك، أيضاً:

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۩ (15)
(سورة الرعد)

فهناك من يسجُد لله تعالى طوعاً وهُم المؤمنون الصادقون، وهناك من يسجُد لجلالته وعظمته كرهاً.
والحق والباطل نقيضان أيضاً، وهو محور السورة، فالحق يلغي الباطل، والباطل لا أقول يلغي الحق، لكن وجوده يزاحم الحق، فهما نقيضان، لا يجتمعان في مكانٍ واحد في وقتٍ واحد، لكن شاءت حكمة الله أن يجتمعان في الأرض دائماً، بحيث تبقى سُنّة التدافع، فيستحق أهل الجنَّةِ الجنَّة بالبِر والتضحية، ويستحق أهل النارِ النار بالظلم والطغيان، أي كيف تدافع الحق والباطل وهُما نقيضان؟ بمعنى أنَّ الله تعالى لو أراد لجعل أعدائنا في كوكبٍ آخر، جعل كوكباً للمؤمنين وكوكباً لغير المؤمنين، وانتهت الحرب نهائياً، ولو شاء لجعلنا في قارتين مختلفتين بحيث لا لقاء بيننا أبداً، ولو شاء لجعلنا في زمنين مختلفين، فمثلاً القرن العشرين للمؤمنين، والواحد والعشرين لغير المؤمنين، فكان من الممكن أن لا نجتمع، الحق مع الباطل في مكانٍ واحد ووقتٍ واحد، لكن شاءت حكمة الله أن يجتمع الحق مع الباطل في كل زمانٍ ومكان، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدّي، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنَّة إلا بالبذل والتضحية.
أيضاً قال تعالى:

يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
(سورة الرعد)

المحو والإثبات في سورة الرعد، فإن الله تعالى يُقرّ من الأقدار ما يشاء، ويمحو منها ما يشاء، فالأمر كله بيده جلَّ جلاله، (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) هذا من جمع المتناقضات.
فكما تفضّلتم، السورة مما يُلفِت النظر فيها، أو من مزاياها، أنها تجمع بين هذه المتناقضات للدلالة على طلاقة قدرته الإلهيَّة، فنحن البشر نسير في خطٍ واحد، في اتجاهٍ واحد، قد لا نستطيع دائماً أن نجمع بين شيئين، حتى إنَّ الإنسان كما يقول المتخصّصون، لا يمكن أن يقوم بعملين في وقتٍ واحد إلا أن يقصِّر بأحدهما، فأنا الآن أُتابع بكل حواسي سورة الرعد وهذا اللقاء الطيِّب معك، لو الآن جاءني أحد يتكلم معي لا أستطيع أن أسمعه، ولو أعطيت أُذُناً له لقصَّرت في المقابلة مع إذاعة القرآن الكريم، لكن الله تعالى:

{ عَن عائشةَ، قالَت: الحمدُ للهِ الذي وسِعَ سمعُه الأصواتَ، لقَد جاءتِ المُجادلةُ إلى رسولِ اللَّهِ، صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تُكَلِّمُه في جانبِ البيتِ ما أسمعُ ما تَقولُ فأنزلَ اللَّهُ، عزَّ وجلَّ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الآيةَ }

(الألباني صحيح ابن ماجه)

{ عن عليٍّ أنَّهُ دخلَ الطَّوافَ فسمعَ رجلًا يقولُ يا من لا يشغلُهُ سمعٌ عن سمعٍ الحديثَ فإذا هوَ الخَضِرُ }

(ابن حجر العسقلاني إسناده ضعيف)

فأيضاً هنا المتناقضات في قدرة الله تُجمَع، أمّا في عالم البشر وفي قوانين البشر فلا يمكن لها أن تجتمع.
المُحاوِرة هناء المجالي:
وكأن هذه الآيات تقول لنا: كيف لا تسلمون لله وهو الحق الكامل الذي يملِك الكون بكل متناقضاته، يجمع بينها لتؤكد على المحور الأصلي للسورة، وهو أنَّ الحق قويٌ وراسخ، وأنَّ الباطل ضعيفٌ إلى زوال، وبالانتقال من هذه الآيات وتفصيلها، ننتقل يا دكتور إلى ثلاث أمثلة تخدم هدف السورة بشكلٍ رائع، ما هو هدف هذه السورة؟ ولكن كان لها مفتاح وهو الآية الرابعة عشر (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) كيف صوَّر القرآن هذا التصوير الفني الرائع ليصل بنا إلى الهدف الحقيقي للسورة، فلنستمع إلى هذا التصوير يا دكتور.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) آية مفتاحية في سورة الرعد:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة الآية الرابعة عشر كما تفضّلتم آية مفتاحية في السورة قال تعالى: ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) هذه الآية العظيمة التي يقشعِّر الجلد عند قراءتها تُبيِّن هذه الحقيقة الخالدة التي لا مهرب منها، مهما حاول الإنسان بطغيانه ونفوره أن يذهب بعيداً، فإنَّ الله تعالى يقول: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) ولا يخفى أنَّ تقديم الجار والمجرور شبه الجملة، التي هي الخبر على المبتدأ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) فيها قصرٌ وحصر، فلو قال دعوة الحق له، لما منع لغةً أن تكون لغيره، دعوة الحق له وربما لغيره، لكن عندما قال له دعوة الحق، أي له وحده، لا ينازعه أحدٌ في دعوة الحق جلَّ جلاله، (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) ودعوة الحق هي التوحيد، أنه واحدٌ جلَّ جلاله، لا شريك له، هذه دعوة الحق.
ثم قال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ) فكل ما يدعى فهو من دون الله، فالله فوق كل شيء، فما أبشع الإنسان وما أقل عقله وهو يتجه إلى صنمٍ ليدعوه، وما أكثر ما يقلِّل من قيمته وهو يعبد شيئاً من مخلوقات الله، فهو يدعو شيئاً من دون الله، قال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ) فأنت إذا دعوت الله استجاب الله لك، لأنه قادر، قادرٌ أن يشفيك، وقادرٌ أن يُغنيك، وقادرٌ أن يعطيك، وقادرٌ أن ينصرك، لكن إذا دعوت من دونه، فإنهم لا يستجيبون لك بشيء، وهذه نكِرة في سياق النفي، تعُمّ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ) أي مهما كان هذا الشيء بسيطاً فإنهم لا يستجيبون لهم بشيء، لا يقدرون على شيء، ثم يأتي هذا المثال العظيم، وهو ما أشرتِ إليه إشارةً لطيفة لمّا قُلتِ تصوير، التصوير هو أن يصوّر الله تعالى المشهَد وكأنك تراه، فأنت لمّا تقرأ الآيات، أو هذه الآية تتصور وكأنك ترى هذا الشيء بعينك، فالآن المشهَد كما يلي: المشهَد هو مشهدٌ ناطقٌ متحرك، شخصٌ ملهوفٌ، ظمآن، عطشان، يمدُّ ذراعيه، يبسط كفَّه يريد الماء، ولكن أنَّى للماء أن يبلغ فاه، وما هو ببالغه.
(كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ) كيف يبلغ الماء فاكَ وأنت تبسط يديك؟ فهذا حال المشركين مع أصنامهم، حالهم مع طواغيتهم، حالهم مع مَن يعبدون من دون الله بشراً أو حجراً أو قطيفةً أو خميصةً كما قال صلى الله عليه وسلم

{ أهْدى أبو جَهمِ بنُ حُذَيفةَ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَميصةً شاميَّةً لها عَلَمٌ، فشهِدَ فيها الصَّلاةَ، فلمَّا انصرَفَ قال: رُدِّي هذه الخَميصةَ إلى أبي جَهمٍ؛ فإنِّي نظَرتُ إلى عَلَمِها في الصَّلاةِ؛ فكادَ يَفتِنُني. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

هناك من يعبد منصبه، ومن يعبد بطنه، ومن يعبد فرجه، يُسخِّر كل إمكانياته ليُحقق خدمة ذاته
يا خادِمَ الجِسم كمْ تشقى بخِدْمَتهِ
{ أبو الفتح البستي }
فيسعى إلى ذلك سعيَّه الكبير، فهَب و تصوَّر الآن حاله، كحال هذا الشخص الذي لم يصِل إلى شيءٍ من الماء، يبسُط يده ليبلغ الماء فاه وما هو ببالغه، يشبه حاله حال هذا الإنسان الذي يدعو من دون الله تعالى ولم يستجاب له، كما أنَّ الماء لم يبلغ فاه باسط كفيّه إليه، فهذه الصورة الحيَّة، التي تنطق بوحدانية الله، وتنطق بأنه لا معبود في الكون بحقٍ إلا الله، هي مشهدٌ ناطقٌ متحرك، تُختَم بقوله تعالى: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) وهذا أيضاً أسلوب حصر، النفي مع (إلا) للحصر، أي دعاء الكافرين ليس إلا ضلالاً، لأنه بُعدٌ عن طريق الحق، بُعدٌ عن طريق الإيمان، فهو ضلال، لأنه يضِلُّ الطريق عندما يتوجه لغير الله تعالى، لذلك يمكن للإنسان في حياته أن يخطئ أخطاءً كثيرة، لكنه متَّجهٌ إلى الله تعالى فيغفر الله له.

مع التوحيد ينفع قليل العمل وكثيره، لكن من غير توحيد فإنه لا ينفع قليل العمل ولا كثيره:

{ يا ابنَ آدمَ ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا ابنَ آدمَ ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ( ولا أُبالِي ) يا ابنَ آدمَ ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئاً لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً . }

(أخرجه الترمذي وأحمد)

مثال بسيط: هب أنَّ إنساناً ركب في قطار متَّجه من بلدٍ إلى بلد، وهو يريد أن يتَّجه إلى مدينةٍ في الجنوب، ركب القطار فأخطأ، هو قد قطع التذكرة من الدرجة الأولى، لكنه لم ينتبه فركب في الدرجة الثانية، هذا خطأ، لكن القطار متَّجهٌ إلى المدينة التي هو ذاهبٌ إليها لعملٍ تجاريٍ مهم، وهب أنه أخطأ خطأً ثانياً فنسيَ أن يأخذ معه طعاماً فجاع في الطريق، وهب أنه أخطأ خطأً ثالثاً فجلس في مقصورةٍ فيها شباب فأزعجوه بمُزاحهم وارتفاع أصواتهم، لكن القطار متَّجهٌ إلى وجهته، لكن الشرك والمصيبة العظمى أن يركب في القطار المتَّجه إلى الشمال خطأً، فهذا الخطأ لا يغفر، لأنه لن يصل إلى وجهته، كذلك هو الشرك أن يتَّجه الإنسان إلى غير الله تعالى، فإنه لن يصِل إلى شيء، (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) لذلك مع التوحيد والحق ينفع قليل العمل وكثيره، لكن من غير توحيد فإنه لا ينفع قليل العمل ولا كثيره.
المُحاوِرة هناء المجالي:
كأن الآية يا دكتور تتحدث عن سعادة وهمية للإنسان، وكأنها تدعو إلى عدم الانخداع بالباطل ولو كان برَّاقاً وزاهياً، فالباطل زاهقٌ لا محالة، والحق هو الأصل، والباطل زبدٌ يطفو على سطح الماء، لكن السؤال هنا يا دكتور، أنه في الآية الخامسة عشر جاء بعد دعوة الحق (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ما الحكمة أن خُتم هذا المثال بالسجود لله، وأنَّ جميع ما يملكه الله في السماوات والأرض يسجد له طوعاً وكرهاً، تفضل.
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة المناسبة بين ما ذُكر من آياتٍ كونية، في السورة وختمت (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) بعد (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي بعد الجولة الكونية العظيمة، قال تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) لأن مظاهر عظمة الله تعالى في الكون تنطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، إذاً له وحده دعوة الحق، فالخالق العظيم الجليل يجب أن يُتَّبَع، يجب أن يُدعى، الحالة المشركين

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ۚ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ۖ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
(سورة الزمر)

لا يستطيعوا أن ينكروا (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) لكنهم عندما يتوجهون يتوجهون إلى غير الله، وهذا تناقض عجيب! كيف تقول الله خلقني ورزقني وأعطاني وأمدَّني، ثم إذا أردت شيئاً تتجه إلى صنمك، فهذه المفارقة العجيبة فإذاً (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) لأنه الخالق جلَّ جلاله، فما دمت آمنت بأنه خلق، ورزق، وأعطى، وأمدَّ، فيجب أن تتجه إليه بالدعاء لا إلى غيره.

السجود هو الخضوع لله تعالى:
الآن ما الخطوة التالية بعد ذلك؟ أن تخضع له، السجود هو الخضوع، فالإنسان يخضع لعظيم، الإنسان لا يخضع لحقيرٍ ولا لضعيف، الإنسان يخضع لعظيم، بلقيس ما الذي جعلها تقول:

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
(سورة النمل)

لمّا وجدت مُلكاً لم تشاهده عندها وهي الملكة، لمّا كشفت عن ساقيها لأنها حسبته لُجَّةً، وهو (صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ) بانَ لها ضعفها فخضعت، فالإنسان لا يخضع إلا عندما يعترف بضعفه، ولا يطغى إلا عندما يظن نفسه قوياً

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (7)
(سورة العلق)

عندما يظن نفسه مُستغنياً عن الله يطغى في الأرض، عندما يعترف بضعفه يستقيم على منهج ربه، فلذلك بعد (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) قال تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) فالسجود هو الخضوع لله تعالى، فالترتيب المنطقي للإيمان الترتيب الفكري للإيمان أن تنظر في الكون فتُقِرّ بأنه إلهً، إذاً يجب أن تتجه له وحده، إذاً بعد ذلك تخضع لمنهجه وتسجُّد له

{ أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ. }

(صحيح مسلم)

المُحاوِرة هناء المجالي:
إذاً بعد هذه الآيات التي تحدثت عن أثر كتاب الله المنظور، وهو الكون في إيضاح الحق والباطل، يأتي المثال الأروع لكتاب الله المقروء، وهو لو أنَّ قرآناً سيَّرت به الجبال، ولكن هذا المثال وهذا الإيضاح سنتركه للحلقة القادمة بإذن الله تعالى، فتتوقف بنا دقائق هذه الحلقة عند المشهَد الأول (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) ونكمِل في حلقتنا القادمة بإذن الله، ألطاف وأنوار هذه السورة، بارك الله بكم يا دكتور، الشكر الجزيل للدكتور الداعية بلال نور الدين أستاذ التفسير، وأستاذ الإعجاز العلمي والمشرف على موقع الدكتور محمد راتب النابلسي، نفع الله بكم يا دكتور وزادكم علماً وفضلاً.
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، شكراً لهذه الاستضافة الكريمة.
المُحاوِرة هناء المجالي:
شكراً يا دكتور.