المشهد الختامي

  • خطبة جمعة :
  • 2025-06-20
  • سورية - دمشق
  • مسجد عبد الغني النابلسي

المشهد الختامي

يا ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض، وملءَ ما بينهما وملءَ ما شئت من شيءٍ بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومَفزَع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غناك، وكيف نضل في هُداك، وكيف نذل في عزك، وكيف نُضام في سلطانك، وكيف نخشى غيرك، والأمر كله إليك، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات، فجزاه الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذريِّة سيدنا محمدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً.

مقدمة:
وبعد فيا أيُّها الإخوة الأحباب: دَعَت إدارة مدرسةٍ طُلابها لحضور عرضٍ مسرحي، يحكي قصةً شيَّقةً عن صراعٍ بين الخير والشر، بدأ العرض والجميع يُتابع بانتباه، وتعقدت القصة وتشابكت خيوطها، ظالمٌ مُستعلٍ بنى عزّه على إذلال الناس، غناه على فقرهم، ومظلومون لا يملكون شيئاً من أمرهم، يحاولون جهدهم في تحصيل شيءٍ من حقوقهم ولكن هيهات.
عند ذروة العُقدة أو ما يُسمّى الحبكة، أُسدِل ستار المسرح، ولمشكلةٍ فنيةٍ طال الانتظار، لكن أحداً من الحضور لم يبرح مكانه، ولم يخطر له على بال أنَّ العرض قد انتهى، أتدرون لماذا؟ لأنَّ الجميع كان ينتظر المشهد الختامي، في المشهد الختامي يتحقَّق العدل وينتصر المظلومون ويُقصَم الظالمون.

حياتنا الدنيا بكل ما فيها هي المشهد الأول من الحكاية والمشهد الختامي في الآخرة:
حياتنا الدنيا بكل ما فيها هي المشهد الأول من الحكاية فقط، والمشهد الختامي هناك في الآخرة، والقصة لا تنتهي بالموت، ومن ظنَّ أنَّ الموت نهاية فقد خابَ وخسر خُسراناً مُبيناً، الدنيا كلها بكل ما فيها، مشاهدُها لا تعدو أن تكون الثانية الأولى في رحلةٍ طويلة.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ(15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ(16)
(سورة المؤمنون)

لقد شاء الله تعالى أن يكون عمر الإنسان قصيراً، وأن تكون دورة الحقّ والباطل أطول من عمره المحدود، فربما رأى هو الفصل الأول من القصة، ورأى أولاده أو أحفاده فصلها الأخير، ومع كل هذا فهناك فصلٌ أخيرٌ أخير، لا يراه الإنسان في الدنيا مهما امتدَّت به الحياة، ولكن سيراه جميع الخلائق يوم القيامة، وربما تنقضي الدنيا وهناك فصولٌ من قصصٍ لم تنتهِ، مظلومٌ لم يأخذ ظُلامته، وظالمٌ لم يلقَ مصيره، وقاتلٌ لم تكتشف جريمته، وخائنٌ لم تظهر للناس خيانته، إنها سُنَّة الله في هذه الحياة، أنها ليست دار جزاءٍ وإنما هي دارُ عملٍ وابتلاء.
ولكن شاء الله تعالى أن يُكافئ بعضاً من المُحسنين في الدنيا تشجيعاً للباقين، وأن يُعاقِب بعض المُسيئين في الحياة الدنيا ردعاً للباقين، وتثبيتاً لعباده المؤمنين، شاء الله تعالى أن يُهلِك بعض الطُغاة والمجرمين، وأن يؤخِّر بعضهم إلى حين، وكل هذا إنما هو دفعةٌ من دفعات الحساب، لكن الترصيد النهائي للحساب مؤجَّلٌ للجميع إلى يوم القيامة.
قال تعالى:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)
(سورة آل عمران)

وليس في الدنيا، الدنيا ليست للأجر، الآخرة هي للأجر.
هَبّ أنَّ إنساناً قدَّم روحه في سبيل الله، مات في سبيل الله، وأردت أن تُكافئه في الدنيا ماذا ستفعل له؟ تُسمّي مدرسةً باسمه، مدرسة الشهيد فلان، تضع لوحةً رُخامية أمام قبره هُنا يرقُد الشهيد الفلاني، وبعدها؟! الدنيا ليست جزاءً.
هَبّ أنَّ طاغيةً قتل مئات الآلاف من البشر، أو ملايين البشر، ثم أَوقفته لتُعاقبه بماذا ستُعاقبه؟ هل يوازي قَتله فعله؟! لا يوازي ولو أعدمته، أين الحساب؟ (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وليس في الدنيا، هذه المعاني كلها لخَّصها المولى جلَّ جلاله فقال مخاطباً نبيُّه صلى الله عليه وسلم وهو أحبّ الخلق إليه:

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ(46)
(سورة يونس)

بعضه وليس كله، وقد تراه وقد لا تراه (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) دون أن ترى مصيرهم (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ) فإذا كان الله شهيداً على فعلهم فكفى بالله شهيداً.

الله تعالى رحمةً بعباده وتثبيتاً لقلوبهم صوَّر لهم المشهَد الختامي في قصة الحياة المُتكررة:
أيُّها الإخوة الأحباب: لكن الله تعالى رحمةً بعباده وتثبيتاً لقلوبهم، صوَّر لهم المشهَد الختامي في قصة الحياة المُتكررة، قصة المعركة بين الحقّ والباطل، صوَّر لهم مصير الطغاة وكأنهم يرونه بأُم أعينهم، فإن فاتهم أن يرَوهُ في الدنيا، فلن يفوتهم أن يتيقَّنوا منه، والله تعالى يخبرهم به في قرآنه، قبل أن يشاهدوه بأعينهم يوم القيامة.

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87)
(سورة النساء)

كثيراً ما يرسم القرآن الكريم لنا الفصل الأول في القصة، الذي نشاهده بأعيننا دائماً في كل عصرٍ ومِصر، ثم يُحدِّثنا عن المشهد الأخير بعد ذلك، الذي لا نراه في الدنيا، ولكننا حين نقرأ الآيات نشعُر والله وكأننا نراه.
مثال ذلك ختام سورة المُطفّفين، إليكم الفصل الأول كما يلي:
في بقعةٍ من أرض الله الواسعة، كان مسرحها يوم أُنزِل القرآن مكَّة المُكَّرمة، إلا أنَّ المشهد هذا يتكرر في كل زمانٍ ومكان، ليس في مكَّة فحسب، وليس في زمان الرسالة فحسب، فالقرآن لكل زمانٍ ومكان، في هذه البُقعة مجموعةٌ مؤمنة مُستضعفة، تُسام سوء العذاب، تمرُّ بهم مجموعةٌ من المجرمين، فيضحكون من الذين آمنوا، استهزاءً بهم وسُخريةً منهم، إمّا أنهم يضحكون لفقرهم ورثاثة حالهم، وإمّا لضعفهم عن ردّ الأذى، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرّ بعمَّار وبآله فيقول:

{ صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ }

(أخرجه الحاكم والطبراني في المعجم الأوسط)

وإمّا لضعفهم عن ردّ الأذى، أو أنهم يضحكون لأنهم مُترَّفعين عن سفاهة السُفهاء، لأنهم لا يُجيبونهم، كان هذا كله يُثير الضَحِك، ضَحِك الذين أجرموا، وهُم يتَّخذون المؤمنين مادةً لسُخريتهم، ويُسلّطون عليهم الأذى، ثم يضحكون الضَحِك اللئيم الوضيع، يغمُز بعضهم لبعضٍ بعينه، أو يشير بيده، يأتي بحركةٍ متعارفةٍ بينهم للسُخرية، وهي حركةٌ وضيعة، تكشف عن سوء الأدب والتجرُّد من التهذيب، لإيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين

وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31)
(سورة المطففين)

بعد ذلك، بعد ما أشبعوا نفوسهم الصغيرة من السُخرية بالمؤمنين (انقَلَبُوا فَكِهِينَ) راضين عن أنفسهم، مُبتهجين بما فعلوا، مُستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير، لم يتلوموا، ولم يندموا، ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا، وهذا مُنتهى ما تصل إليه النفس من إسفافٍ وموتٍ للضمير.

وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ(32)
(سورة المطففين)

وهذه أعجب، فليس أعجب من أن يتحدَّث هؤلاء الفُجَّار المجرمون، عن الهُدى والضلال، أكثر ما يُزعجك في الطُغاة حينما يتكلمون في المبادئ والقيَم، أكثر ما يُغيظك منهم إذا تحدَّثوا عن حفظ حقوق الإنسان، وهُم ينتهكونها في كل لحظة (وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ) يتحدَّثون عن الضلال والهُدى وهُم بهذه النفسية المريضة، وفي الحديث الشريف:

{ إنَّ ممَّا أدرك النَّاسُ من كلامِ النُّبوَّةِ الأولَى: إذا لم تستحْيِ فاصنَعْ ما شئتَ }

(أخرجه البخاري)

كيف تحدَّث القرآن الكريم عن هذا الفصل من القصة؟ قال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ(29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ(31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ(32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ(33)
(سورة المطففين)

ولا يخفى عليكم أنَّ هذا التصوير المُفصَّل لمواجع المؤمنين من أذى المشركين فيه بلسمٌ لقلوبنا، فربُّنا جلَّ جلاله هو الذي يصف مواجعك أيُّها المؤمن، وهو الذي يطَّلِع على حالك وعلى ضعفك، هذه تسليةٌ عظيمة لقلوب المؤمنين، هو الذي يصف هذه المواجع، وهو الذي يراها، وهو الذي لا يُهمِلُها، وكيف يؤذيهم المجرمون، وكيف يتفكهون بإيلامهم، وكيف يصفونهم بالضلال إلى غير ذلك..
ألا يكفي أن تعلم أنَّ ربَّك الذي تعبُده، وتبذُل من أجله كل ما تملِك، يرى حالك وضعفك، ويشهَد إجرامهم، هذا هو الفصل الأول من القصة، وقد يموت إنسانٌ من هؤلاء المقهورين، أو ربما مات أكثرهم دون أن يروا انتقام الله من هؤلاء، ولكن حسبُه أنه يعرف المشهَد الختامي، الذي لا يعرفونه ولا يفهمونه، فقد أعمى حُب الدنيا بصرهم وبصيرتهم.

المشهَد الختامي:
أليكم المشهَد الختامي: اليوم يوم القيامة يوم المحشَر، والخلائق كلها قد اجتمعت للحساب، ولقد أخذ كلٌّ مكانه الذي عمل لأجله في الدنيا، ها هُم المؤمنون في جنَّات النعيم، مُتكئين على الأرائك قد خُصِّصَت لهم تكريماً وإجلالاً، وها هُم يطَّلِعون على هؤلاء القوم، الذين مرّوا بهم يوماً في الدنيا، فسخِروا منهم، وتغطرسوا، وتكبَّروا، وأظهروا من عُنجهيَتهم ما أظهروا، ثم زادوا الأمر سوءاً، فزوُّروا الحقائق، وادَّعوا بأنَّ هؤلاء ضالون، وأنهم هُم المُهتدون، هؤلاء المجرمون اليوم محجوبون عن ربِّهم، يُقاسون ألمَ هذا الحِجاب، تُهدَر معه إنسانيتهم، فيَصلَونَ الجحيم مع التأنيب حين يُقال لهم:

ثُمَّ يُقَالُ هَٰذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(17)
(سورة المطففين)

كيف صوَّر القرآن المشهَد الختامي؟

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36)
(سورة المطففين)

وليس لعاقلٍ بعدها إلا أن يقول أجل يا ربّ، لقد ثُوِّبوا ما فعلوا، وأي عقابٍ أعظم من هذا؟! لقد انقلبت الآية، فالمُستهزِئ أصبح مُستَهزَأً به، والضاحِك أصبح مضحوكاً عليه (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).

ما يجري في العالم وما جرى وما سيجري كله مشاهد أُولى والمشهَد النهائي في الآخرة:
أيُّها الإخوة الأحباب: ما يجري في العالم اليوم، وما جرى، وما سيجري، كله مشاهد أُولى، والمشهَد النهائي هناك، في حياتنا الأبدية، في سورة البروج فتيةٌ آمنوا بربهم، فشُقَّ لهم الأُخدود وأُحرِقوا ودُفِنوا فيه، ولربما قال قائلٌ يومها: مساكين ضاعَ حقُّهم دُفِنوا في المقابر الجماعية، لن يتعرَّف عليهم أحد، وسُجِّلت القضية ضد مجهول، لربما أُحرِقوا ودُفِنوا وضاعَ غريمهم كما يقال، لكن المؤمن فقط يُدرِك أنَّ هذا هو المشهَد الأول من القصة:

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ(4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ(7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)
(سورة البروج)

فما هو المشهَد الختامي؟ ذَكَره المولى فقال:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ(11)
(سورة البروج)

فالحارقون أصبحوا محروقين في نارٍ لا ينفَذُ عذابُها، وشتَّان بين نار الدنيا ونار الآخرة المؤصدة، وناسبَ أن يقول الله تعالى هنا: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) أحرقوا المؤمنين في الدنيا، وكانت ثوانٍ من الألم ثم ذهبوا إلى الله، أمّا هُم فأصبحوا في نارٍ لا ينفَذ عذابُها (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).
أمّا المؤمنون ففي جنَّات الخلود:

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(89)
(سورة التوبة)

والعظيم جلَّ جلاله هو الذي يقول عن هذا الفوز إنه فوزٌ عظيم.

ما جرى في سورية و ما يجري على أرض غزَّة كله المشهد الأول فقط:
أيُّها الإخوة الأحباب: ما جرى في سورية على مدار أربع عشرة سنة، كان كله المشهَد الأول من الحكاية، بكل آلامه وأوجاعه، ولقد امتنَّ الله على بعضنا، فرأى بعينه ذُلَّ الطُغاة والمجرمين، ولكن ليس هذا هو المشهَد الختامي أبداً، لم تنتهِ القصة، ما يجري اليوم على أرض غزَّة، من قصفٍ وتجويعٍ وخُذلانٍ وتآمُرٍ، لا يعدو كونه اللحظة الأولى في الحكاية، على الرغم من كل الآلام والجراح، الحروب التي نعيشها اليوم، والتي نشهَد فيها مصارع بعض المجرمين، وننتظر فيها مصارع الآخرين، كلها مع كل ما فيها، ليست إلا البداية، بل ليست إلا الثانية الأولى، وما زالت هناك مشاهدٌ أُخرى، قد نرى بعضها وقد يتوفَّانا الله، لكننا سنرى المشهَد الختامي عند الله تعالى.
واسمعوا أيُّها الكرام إلى المشهَد الختامي من رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ يُؤْتَى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النَّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ويُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ. }

(صحيح مسلم)

أكثر إنسانٍ مُنعَّم في الدنيا وقد استحقَّ النار يوم القيامة (فيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ) صبغةٌ واحدة في نار جهنم، تُنسيه كل ما ذاقه في الدنيا من نعيمٍ، ثم: (يُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا) عانى القصف والحصار والسجن والأسر والتجويع وعانى ما عاناه (يُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ) هذا هو المشهَد الختامي الذي يجب أن نسعى له جميعاً.

الحديث عن المشهَد الختامي ليس دعوةً لترك الحقوق ولا للاستكانة للظالمين:
الحديث عن المشهَد الختامي ليس دعوةً لترك الحقوق، ولا للاستكانة للظالمين أو الاستكانة إلى الطُغيان، حاشا أن يكون في دين الله، ما يدعو إلى الذُل والهوان

وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ(39)
(سورة الشورى)

ولكنها دعوةٌ إلى التوازن أمام طُغيان الأعداء، وسيطرة المادية المقيتة، وتكالُب الناس على الدنيا، ونسيان أمر الآخرة، والإيمان بعالم الشهادة فقط، ونسيان عالم الغيب، قال تعالى يصف حال كثيرين من الناس:

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)
(سورة الروم)

حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم، واعلموا أنَّ مَلَك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيِّس من دان نفسه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله ربِّ العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

همساتٌ ورسائل سريعة من أجل امتحانات طلابنا وطالباتنا:
أيُّها الإخوة الأحباب: امتحانات طلابنا وطالباتنا على الأبواب، وهذه همساتٌ سريعة ورسائل سريعة.
الرسالة الأولى إلى أبنائنا وبناتنا: اجتهدوا وابذلوا وسّعَكُم واستفرغوا طاقتكم وعلِّقوا قلوبكم بالله، فهو وحده الذي يشرح الصدور ويُيَسِّر الأمور، توكلوا على الله واقرِنوا التوكل بالأسباب، بالجد والاجتهاد والعمل، فإنَّ العبد إذا توكل على ربّه شرح له صدره ويسَّر له أمره.
الرسالة الثانية إلى أولياء الأمور: هي أيامٌ معدودات أيام الامتحان، فكونوا فيها سنداً وعوناً لأبنائكم، لا عبأً مضاعفاً، هيّئوا لأبنائكم جواً من الراحة والسكينة والدعاء، والبُعد عن المُقارنات التي تجرح القلب وتكسِر النفس، ابن عمّك وصل إلى كذا وأنت لم تصل، هذا ابن خالك أصبح طبيباً وأنتَ ضعيف، ابتعدوا عن المُقارنات التي تجرح القلوب وتكسِر النفوس، لا تضغطوا عليهم بما لا يطيقون، انتهى العام، الآن امتحانات جوٌ من السكينة والهدوء، فلُكلٍّ طاقته ولكُلٍّ نمطه، والله يفتح على عباده بقدر ما يشاء.
ثالثاً: إلى من لديه جيران عندهم امتحانات، إلى الباعة الجوالين، من يُحيطون بمراكز الامتحانات، اتقوا الله في أبنائنا، وراعوا خصوصية الوقت والمكان، خفِّضوا أصواتكم وتجنَّبوا أماكن الامتحان، لتتاح الفرصة للطلبة لأداء امتحاناتهم بيُسرٍ، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)
(سورة المائدة)

رابعاً: إلى المراقبين والمراقبات وما أدري إن كان بيننا مراقبون والله يراقب الجميع، أنتم مؤتمنون على الأبصار والقلوب، لكن لا تكن رقابتكم جافَّةً ولا صارمةً إلى الحدّ المؤذي، بل بالرفق والحزم والحكمة والاتزان، امنعوا الغش لكن بحكمةٍ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

{ يا عائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ }

(أخرجه البخاري ومسلم)

وبعد ذلك إلى المُعلّمين المُصحّحين للأوراق والمُصحِّحات، إنَّ القلم الذي بأيديكم شهادةٌ وأمانة، وإنَّ الخطأ فيه قد يكون هدماً لطموحٍ أو إطفاءً لشغف، فراجعوا بعين الانصاف، ووازنوا بميزان العدل، واذكروا أنَّ في الورقة نَفَسَاً وطالباً وجهداً بُذِل، وسهراً كُتِب وطُلاباً ينتظرون نتائجهم، فراعوا حقّ الله في تصحيح هذه الأوراق.

الدعاء:
اللهم اهدِنا فيمن هديت، وعافِنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولَّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا واصرف عنّا شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أنعمت وأولَيت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يُقرِّبُنا إليك.
اللهم يا واصل المُنقطعين صِلنا برحمتك إليك.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميعٌ قريبٌ مجيبٌ للدعوات.
اللهم برحمتك عُمَّنا، واكفنا اللهم شرَّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُنَّة توفَّنا، نلقاكَ وأنت راضٍ عنّا، وارزقنا حُسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاكَ وأنت راضٍ عنّا، أنت حسبُنا عليك اتكالنا.
اللهم إنّا نسألك أن تُنجّي المُستضعفين من المؤمنين، اللهم أنجِ المُستضعفين من المؤمنين.
اللهم مُجري السحاب، مُنزِل الكتاب، هازِم الأحزاب، سريع الحساب، اهزِم الصهاينة المُعتدين ومَن والاهُم ومَن أيَّدَهم ومن وقف معهم في سرٍّ أو علن.
اللهم أهلنا في غزَّة، أهلنا في فلسطين، أهلنا في كل مكانٍ، كُن لهم عوناً ومُعيناً، وناصراً وحافظاً ومؤيّداً وأميناً.
أطعِم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مُصابهم، وآوٍ غريبهم، واجعل لنا في ذلك عملاً مُتقبَّلاً وسهماً صالحاً، واغفر لنا تقصيرنا فإنك أعلم بحالنا.
اللهم إنّا نسألك أمناً وأماناً لبلادنا وسائر بلاد المسلمين، وفِّق القائمين على بلادنا لما فيه مرضاتك، وللعمل بكتابك وبسُنَّة نبيّك صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، والحمد لله رب العالمين.