علِّموا وتعلَّموا لله

  • لقاء مع صفحة البيت الحمصي
  • 2023-01-01
  • عمان
  • الأردن

علِّموا وتعلَّموا لله


الدكتور بلال نور الدين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللَّهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدْنا علماً وعملاً مُتقبّلاً يا رب العالمين، يا ربِّ أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، وبعد:
فإني بادئ ذي بدء أشكر لإخوتي الكرام في إدارة البيت الحمصي هذه الدعوة الطيبة المباركة التي إن دلت على شيء فعلى حسن ظنهم بالعبد الفقير، وأسأل الله تعالى أن أكون عند حسن ظنهم، وقد تابعت بعض نشاطات هذا البيت المبارك الذي يجمع ثلة من أهلنا في سوريا الحبيبة فوجدت نشاطات، ومحاضرات، وأعمال خير وبر وإحسان يفخر المرء بها ويرفع رأسه عالياً، فجزاهم الله خير الجزاء.

الفرق بين علم الإنسان وعلم بقية المخلوقات:
أيها الإخوة الأحباب؛ العلم كلنا نحب أن نتعلم بل إن الإنسان في طبيعته بما أودع الله تعالى فيه من قوة إدراكية فإنه يسعى إلى العلم، نعم بقية المخلوقات تتعلم لكن تتعلم بغريزتها ما يفيدها في الوصول إلى متطلبات حياتها.

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِى مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68)
(سورة النحل)

هذا وحي الغريزة، فالنحل تقوم بعملية معقدة جداً في بناء خلاياها سواء من حيث شكل الخلية أو من حيث طريقة بنائها أو المادة المستخدمة في بنائها، وربما في بعض المهام التي تقوم بها تلك الحشرة الصغيرة تقوم بمهام ربما لا يستطيعها بهذه الدقة المتناهية كثير من الناس، فالله تعالى علّم كل شيء خلَقه ما يؤدي به إلى مهمته.

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50)
(سورة طه)

أعطاه خلقه؛ أي خلقه على الصورة التي تهيئه لأداء مهمته، فالعين مثلاً خلقها الله تعالى في المحجر لحمايتها وجعل لها أهداباً، وجعل لها أجفاناً، وجعل لها سائلاً مرطباً وهو الدموع، وقرنية، وقزحية، فأعطاها خلقها الذي يليق بها ثم هداها إلى طريقة الإبصار، والله تعالى خلق النبات فجعل الساق ينمو إلى الأعلى والجذر ينزل إلى الأسفل، فهداه هذا نوع من أنواع التعليم، والله تعالى الآية:

ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ(62)
(سورة الزمر)

الله تعالى علّم الكائنات كلها
تشمل كل المخلوقات، طيور تهاجر وتعود إلى مكان ولادتها ولو انحرفت عن مسارها قيد أنملة لجاءت في بلد آخر بعيد كل البعد عن موطن ولادتها لكنها تعود، سمك السلمون لا يموت إلا في موطن ولادته يهاجر ثم يعود؛ هذا كله تعليم، الله تعالى علّم الكائنات كلها ما يؤهلها لحياة تؤدي فيها مهمتها التي خلقها الله لها، لكن أفرد الإنسان بقوة إدراكية تجعله يتعلم أكثر كماً ونوعاً، وملّكه ذاته ليتعلم، ما معنى الأمانة لما قال تعالى:

إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)
(سورة الأحزاب)

ما هذه الأمانة التي حملها الإنسان؟ نفسه أن يديرها هو، الملائكة لم تحمل الأمانة فجعلها الله مسيرة.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)
(سورة التحريم)

الحيوانات لم تقبل حمل الأمانة فجعلها الله تعالى مُسخّرة للإنسان:

وَٱلْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
(سورة النحل)

نحن مخلوقون لله لكن الأنعام مخلوقة لنا، فكل الكائنات التي لم تقبل أن تدير نفسها فتأتي ما أحل الله وتنتهي عما حرم الله تأتي الخير الذي يقره شرع الله وتجتنب الشرور التي يحرمها شرع الله تعالى، كل الكائنات التي رفضت هذه المهمة هي غير مكلفة، غير محاسبة، غير معاقبة، لكن الإنسان وحده لما قَبِل حمل الأمانة أُعطي هذه القوة الإدراكية وتلك الفطرة وتلك المؤهلات من أجل أن يقوم لعمارة الأرض ويسعى فيها خيراً، لأن الملائكة لما تساءلت قالت:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى ٱلْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
(سورة البقرة)

فقد توهموا أن الإنسان بالقوة الإدراكية التي وهبت له من قِبل ربنا توهموا أن هذا سيجعله حراً في الحركة فسيسعى إلى الإفساد في الأرض، لكن الله تعالى قال: (إِنِّىٓ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
هذا الكائن كما أنه يمكن أن ينحرف بما أعطي من القدرات لكن في الوقت نفسه يمكن أن يرقى رقياً يجعله خير البرية، يعني خير ما برأ الله، فالمؤمن بعلمه، بعمله يغدو فوق الملائكة، لكنه إن ترك شرع ربه غدا دون الأنعام قال تعالى:

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا(44)
(سورة الفرقان)


العلم عند الإنسان هو الإدراك:
العلم هو أن الإنسان يدرك ويربط
فليس من حل وسط في الإنسان، إما أن يرقى بعلمه فلا يصل إليه نظر يرقى ويرقى، وإما أن ينزل وينزل إلى القاع ويسقط في الوحل، هو بين خيارين لا ثالث لهما لأنه قَبِل حمل الأمانة، الأشياء كما تعلمون جميعاً هناك جماد، الجماد: جسم له طول وعرض وارتفاع ووزن وحجم يشغل حيزاً من الفراغ؛ هذا تعريف الجماد، النبات كالجماد تماماً لكنه يزيد بشيء واحد وهو أنه ينمو، الجماد لا ينمو، لو تركت كاساً أو طاولة في مكان 100عام ثم جئتها تتأثر بفعل الزمان لكنها لا تنمو، النبات ينمو، الحيوان يزيد على النبات بالحركة يتحرك، القطة تتحرك تنتقل من مكان إلى مكان، أما الإنسان الذي سُخّرت له كل هذه الكائنات فإنه قد أخذ من الجماد الطول والوزن والحجم والارتفاع وأنه يشغل حيزاً في الفراغ، وأخذ من النبات أنه ينمو، فتجد الإنسان قد كان طوله 100 وأصبح 120 و130 يصل إلى 170 وينمو جسمه... إلخ، وعضلاته كل شيء في جسمه فهو ينمو، وأخذ من الحيوانات بقية المخلوقات أنه يتحرك، لكن ما الذي بقي له؟ أنه يدرك، العلم هو الإدراك أنه يدرك، القرآن الكريم يعبر عن هذا الإدراك في القرآن بعشرات المصطلحات: (أفلا تتذكرون، أفلا تعقلون، أفلا يتدبرون القرآن، إن في ذلك لآيات لأولي النهى- الذين عندهم إدراك يجعلهم ينتهون عن الأشياء السيئة- إن في ذلك لآيات لأولي الألباب...إلخ) فالعلم هو أن الإنسان يدرك ويربط، يربط الأمور ببعضها فيستنتج، يحلل، يستنتج، عنده المعادن وعنده الحرارة وعنده مفهوم التمدد، لما عرّض المعدن للحرارة تمدد المعدن فخرج بقانون يقيني هذا القانون: (المعادن تتمدد بالحرارة) هذا علم، عقل، ربط، ما هو العقل؟ هو الربط، قال:

{ قال رجُلٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُرسِلُ ناقتي وأتوكَّلُ؟ قال: اعقِلْها وتوكَّلْ }

(أخرجه ابن حبان والترمذي عن عمرو بن أمية )

للناقة، يعقل الناقة أي يربطها، فالإنسان يمتلك هذه الخاصية أنه يربط، يستنتج، يستنبط، يتفكر، يحاكم، يتذكر؛ هذا هو العلم في حقيقته، لا أريد أن أدخل في مصطلحات الفلاسفة ومصطلحات بعض المفكرين أريد أن أدخل في اللب، العلم هو هذا الإدراك؛ عملية الإدراك:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(سورة الحج)

لا يعقل في قلبه، في داخله، واليوم هناك أبحاث ودراسات وعُرض ذلك في مؤتمرات علمية أن القلب هو مركز للعقل، أي كما أنه مضخة تضخ الدم للجسم فهو أيضاً يعقل العواطف والمشاعر، كما أن الدماغ فيه الخلايا التي تعقل المعلومات، على كل حال فالعلم هو هذا الإدراك؛ إدراك الإنسان لمحيطه، إدراكه للعلاقات البينية بين الأشياء، استنتاجه للقوانين الناتجة عن ربط بين بعض المتغيرات.

محصلة العلم هو القانون:
القانون علاقة بين متغيرين مقطوع بصحتها
لذلك قالوا: القانون علاقة بين متغيرين مقطوع بصحتها تُطابق الواقعة عليها دليل، علاقة بين متغيرين مقطوع بصحتها ليس في العلم اليقيني، العلم ليس نظريات ليس فيه 90% العلم 100% ، يعني المعادن تتمدد بالحرارة عِلم، كل عنصر يتعرض لحرارة أو مصدر حراري سيتمدد، يتعرض لبرودة ينكمش، فالعلم يصل إلى القانون محصلة العلم هو القانون: علاقة مقطوع بصحتها بين متغيرين تطابق الواقع؛ لأنها لو لم تطابق الواقع لكانت جهلاً، لكان الجهل أولى منها، إذا الإنسان عنده معلومات ليس لها وجود على أرض الواقع فهي جهل ليست علماً، عليها الدليل لأنه لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، فيمكن لإنسان أن يقول اليوم: أنا عندي معلومة علمية مهمة جداً مثلاً أو قال مثلاً: أنا أملك كل هذا البناء هو ملكي، هل عندك دليل على ذلك؟ لا؛ إذاً هذا شك، تشك أو تتوهم أو تظن أو يغلب على ظنك لكنه ليس علماً، فالعلم يقين 100% لذلك قال تعالى:

فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ(19)
(سورة محمد)

ما قال: فقل: "لا إله إلا الله" لأن القول سهل لكن العلم يحتاج إلى تبحر وفهم وعمق حتى تصل إلى أنه لا إله إلا الله، فالذي يقول: "لا إله إلا الله" بلسانه ولا يعلمها يمكن أن يعصي الله، لكن الذي يقول: "لا إله إلا الله" من عمقه وهو يعلم أنه: "لا إله إلا الله" لذلك في الحديث الذي اشتهر على الألسنة:

{ أَتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه ثَوْبٌ أبْيَضُ، وهو نَائِمٌ، ثُمَّ أتَيْتُهُ وقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقالَ: ما مِن عَبْدٍ قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ علَى ذلكَ إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ }

(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي ذر الغفاري)

لكن لو جمعنا بين الأحاديث، الأحاديث الأخرى:

{ مَن ماتَ وهو يَعْلَمُ أنَّه لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، دَخَلَ الجَنَّةَ }

(أخرجه مسلم عن عثمان بن عفان)

في رواية (غير شاكٍّ بها) يجب أن نجمع بين الأحاديث ما مفهوم التوحيد المنجّي عند الله؟ المنجّي نجاة كاملة، كل موحد يدخل الجنة لكن هل يدخل الجنة ابتداء أم بعد العلاج الإلهي، على كل حال هذا ليس موضوعنا لكن من باب (فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ).

ارتباط جميع العلوم بالخالق-جلَّ جلاله-:
كثير من المسلمين أهملوا العلوم الكونية
الآن العلوم كلها مرتبطة بالخالق -جلَّ جلاله- يوم قسّم العلماء العلوم إلى شرعية وكونية فهذا تقسيم مدرسي، لكن لا يُتوهم أن العلوم الكونية خارج الشرع، أو أن الشرع لم يأمر بالعلوم الكونية، أو أن العلوم الكونية ينبغي أن تمارس بمعزل عن الدين كما يمارسها الغرب، مشكلتنا في الشرق أننا ضعيفو الأخذ بالعلوم الكونية اليوم، في التاريخ نحن سباقون في العلوم الكونية يعني مثلاً اليوم تنسب قوانين الضوء إلى كبلر المتوفى 1040 ه، لكن هي في الأصل لابن الهيثم المتوفى 432 ه قبله بـ600عام تقريباً، الدورة الدموية ينسبونها اليوم إلى هارفي الذي توفي 1068 هي لابن النفيس العربي المسلم الذي توفي 687 ه، نجهل أن مؤسس علم الجبر -وكلمة الجبر في الأصل كلمة عربية( Algebra) الذي هو الجبر- عربي هو الخوارزمي الذي توفي 232 ه، فتخيل حتى علوم الفلك حتى العلوم الأخرى، فأتحدث عن واقعنا اليوم الشرق، العرب، كثير من المسلمين أهملوا العلوم الكونية، الغرب اهتم بالعلوم الكونية لكن بمعزل عن الإيمان فالموقفان فيهما خطأ، لا شك أن خطأهم أكبر لأن فيه بعداً عن الإيمان، لكن لا يعني أن موقفنا في الإعراض عن العلوم الكونية والاهتمام بسبر أغوار الكون وعمارة الأرض، والله تعالى من مقتضيات أو من مقاصد خلقنا:

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(61)
(سورة هود)

أي لتعمروها فجعلنا خلفاء في الأرض لنعمر الأرض، فالشرق استغنى عن العلوم الكونية وفصّل وقال: علوم شرعية وكونية والتقسيم مدرسي صحيح لكنه ليس من أجل الفصل بمعنى أن نهتم بالشرعية ونترك الكونية، والغرب أقلع في الكونية بعيداً عن الله تعالى فوقع في الشرك، فنحن بين إفراط وتفريط، على كل حال العلوم كلها -وهو عنوان محاضرتنا: علِّموا وتعلَّموا لله-، لأن الله تعالى يقول:

قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(162)
(سورة الأنعام)

العلوم الكونية ليست علوماً بعيدة عن شرع الله
فأنا عندما أتعلم الفيزياء أنا لا أتعلم علماً غير شرعي، وعندما أتعلم الكيمياء لا أتعلم علماً غير شرعي، نعم عندما أتعلم طريقة صناعة الخمور فأنا أتعلم علماً غير شرعي لأنه محرم، لكن عندما أتعلم علماً مباحاً أو علماً مندوباً أو علماً مأموراً به كفرض كفاية أو كفرض عين، فإذا كان هناك بلد لا يوجد فيها طبيب مختص بجراحة الأوعية الدموية فأصبح لزاماً على الأمة أن تعلم مسلماً هذا الاختصاص، وإذا كان موجوداً لكن قليل فهو فرض كفاية لابد أن يقوم به البعض حتى يسقط عن الكل، وقد يكون مندوباً إذا كنت أعلم من نفسي أني سأخدم المسلمين، وقد يكون مباحاً لكن العلوم الكونية ليست علوماً بعيدة عن شرع الله-عزَّ وجلَّ- العلوم الكونية هي علوم شرعية لأنها وفق شرع الله، ما معنى شرعي؟ أقول: فلان دمشقي هو منسوب إلى دمشق، فالعلم الشرعي منسوب إلى شرع الله، حسناً أنا عندما أتعلم الفيزياء لأخدم المسلمين ولأعمر الأرض بالخير، أليس هذا مأموراً به شرعاً؟ إذاً هو شرعي ليس مخالفاً لشريعة الله حتى أقول: هذا علم كوني لا علاقة له بالشريعة، هذا له علاقة بالشريعة كيف لا علاقة له بالشريعة؟! يوم قلنا: لا علاقة له بالشريعة إذاً أنا أمام طبيب يبتز مراجعيه من أجل دريهمات، أنا أمام مهندس يسرق من مواد البناء فيؤثر على دعائم البناء وربما ينهار البناء، أنا أمام محامٍ يوهم موكله بأن القضية ناجحة 100% وهو في الحقيقة يعلم يقيناً أنها خاسرة لكنه يريد أن يبتز ماله، أنا أمام معلم يدخل إلى الصف بعد 10 دقائق ويخرج قبل 10 دقائق ويعطي ربع المنهاج ويأخذ راتبه ويمضي، فصل العلم عن الإيمان أو العلم الكوني عن العلم الشرعي مشكلة؛ مشكلة كبيرة.

أقسام العلوم عند الإمام الغزالي:
من أروع ما كتب في تقسيم العلوم ما قسّمه الإمام الغزالي-رحمه الله-يوم قال: "العلوم: علم به، وعلم بأمره، وعلم بخلقه" كلها لله؛ به، بأمره، -جلَّ جلاله-، بخلقه-جلَّ جلاله-، فأنا عندما أتعلم الفلك هذا علم بخلق الله ما خرجت عن دائرة (مَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ) أنا ضمن الدائرة لأن هذه العلوم بخلق الله وهو خلقها ولفت نظري إلى أنني يجب أن أتعلمها، والدليل على ذلك أنه لفت نظري أن في القرآن أكثر من ألف آية تتحدث على الكون، لماذا؟ لتدلنا على الله؟! طبعاً لتدلنا على الله، لكن أليس فيها أيضاً حثٌّ على التعلم يوم يقول تعالى:

وَفِى ٱلْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ(20)
(سورة الذاريات)

هذه الآيات لمن؟ للموقنين، وأنا ينبغي أن أكون موقناً فينبغي أن أنظر في هذه الآيات، ولما يقول تعالى:

وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ(29)
(سورة الشورى)

وَمِنْ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
(سورة فصلت)

وكثير من الآيات...

إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِى تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(162)
(سورة البقرة)

هذه الفلك التي تجري في البحر ألا تحتاج إلى ربان وإلى كابتن للسفينة، وتحتاج إلى من يتعلم صناعتها، ومن يتعلم طريقة إدارتها، ومن يؤمن لها الوقود، ومن، ومن، ومن؟ الله يلفت نظرنا إليها، (وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) إذاً ألست بحاجة إلى المهندس الزراعي حتى أستثمر الأرض، (وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ) إذاً أنا لست بحاجة إلى من يفهم في تصريف الرياح ويبين ما يسمى النشرة الجوية اليوم مثلاً؟! (لَءَايَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذاً كل الآيات الكونية في القرآن هي تدعو بطريقة أو أخرى إلى النظر في الكون للوصول إلى الخالق ولعمارة الأرض التي نحن مأمورون بها شرعاً، إذاً تقسيم الإمام الغزالي-رحمه الله-قال: "علم به، بأمره، بخلقه" قال: العلم به وبأمره أصل صلاح الدين، والعلم بخلقه أصل صلاح الدنيا، حسناً والدنيا نحن مأمورون بإصلاحها؟ نعم، لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول:

{ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ }

(صحيح مسلم عن أبي هريرة )

إذاً نحن مأمورون بإصلاح دنيانا كما أننا مأمورون بإصلاح ديننا وأُخرانا، فلما نقول العلم بخلقه أصل صلاح الدنيا فهو علم شرعي لأن إصلاح الدنيا مطلوب شرعاً، العلم به أن تعرفه، وقد قال ابن القيم -رحمه الله-: "أصل الدين معرفة الله".

الفرق بين العلم بالله والعلم بأمره:
العلم به أن تعرف الله الآمر
ما الفرق بين العلم به وبأمره؟ بأمره تقول: هذا حلال، هذا حرام، أقول لك: ما حكم بيع النجش، تقول: حرام، ما حكم بيع السَّلَم؟ جائز بشروط، ما حكم شركة المضاربة؟ جائزة إذا كانت البضاعة حلال، الممارسة حلال، شركة المضاربة حلال، فأنت تتعلم الآن أحكاماً؛ أحكاماً شرعية تتصل بالدين بأن هناك حلالاً وحراماً منظومة، بأن هناك حلالاً وحراماً منظومة قيمية يختص بها المسلم، غير المسلم ما يقول لك: "والله هذا الربا حرام"، المسلم: "هذا ربا لا آخذه"، فعنده حلال وحرام هذا العلم بأمره، حسناً ما الفرق العلم به عن العلم بأمره؟ العلم به أن تعرف الله الآمر، الدليل اليوم إذا سألت مسلماً قلت له: الكذب حلال أم حرام يقول لك: حرام، إذاً هو يعلم الأمر، العلم بأمره واضح، حسناً لماذا كذبت؟! "غلبتني نفسي، ما انتبهت"، حسناً هل أنت تعلم من الذي حرم الكذب؟ "الله"، ما معلوماتك عنه -جلَّ جلاله-؟ لماذا لم يعظم في قلبك إلى درجة خشيت أن تعصيه، هنا تأتي الآية الكريمة التي تفضل بها القارئ الكريم وأشكره على ما تفضل به من قراءة نافعة معبرة جداً، سررت بها كثيراً مع الإخوة الكرام، قرأ:

وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلْأَنْعَٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰٓؤُاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
(سورة فاطر)

إنما أداة قصر وحصر، فالعلماء يخشون الله، لكن إذا كان العلم بالأمر فقط، لا، إذا كان العلم بالخلق فقط، لا، لكن إذا اجتمع العلم به مع العلم بأمره وأضيف الآن مع العلم بخلقه؛ لأن المفترض في العالِم أن يزداد خشية بالله، يعني اليوم الذي يقبع في وكالة فضاء ويراقب النجوم عن كثب ويرى حركتها ويعلم عن أحجامها وعن بُعدها عنا بمليارات السنوات الضوئية ألا ينبغي أن يكون أشد خشية لله ممن لا يعلم شيئاً في الفلك؟! الجواب الصحيح ينبغي أن يكون كذلك، معلوماته أكثر، خشيته أكثر، الآن قد يكون معترض وهذا حق له يقول: هناك من يقبعون في وكالة ناسا للفضاء ما عندهم إيمان، ما عندهم قرار، ما عندهم قرار بالإيمان، كيف إذا كان عندك مصورة –كاميرا-، الكاميرات القديمة تذكرون قبل الجوال كان يوجد فيلم كوداك وكونيك كان يضع الفيلم ونحمضه، فإذا كانت كاميرا بلا الفيلم وصورنا التقطنا صور، لكن هل لها أثر؟ بلا أثر لأنه لا يوجد فيلم، فالذي ينظر إلى الكون ولا يوصله الكون إلى الله علمه ما أدى إلى الخشية لأنه ما عنده في الأصل قرار بالإيمان، فالصورة تنطبع على الشبكية دون أن تخرج إلى العقل إدراكاً بوجود خالق لهذا الكون ودون أن تنزل إلى القلب حباً للمنعم-جلَّ جلاله-، على كل حال فالعلم به وبأمره معاً من أجل الطاعة، لا بد أن يجتمعا، أنا أعلم أنه حرام وأعلم من الذي حرّم فالتزم، أعلم أن هذا الأمر لا يجوز وأعلم من الذي قال لي: لا تفعل، معاً فلا بد من الأمرين معاً، لذلك قال تعالى:

مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13)
(سورة نوح)

أي عظمة، قال المفسرون: لا ترجون له هيبة تمنعكم عن معصيته، كلما عظُم الله تعالى في قلب العبد فإنه يزداد خشية من معصية الله تعالى؛ لأنه يعلم من الآمر، اليوم الواحد منا أحبابنا الكرام؛ أنت اليوم وأنا إذا تلقيت أمراً من والدك يشبه إذا تلقيت طلباً من ابنك، هل تكون المبادرة نفسها في الحالتين؟ لا، تقول: أبي قال لي افعل وأنا لست مقتنعاً بالفعل- طبعاً الفعل حلال- أنا غير مقتنع بجدواه لكن أبي قال؛ لأن الأب عظيم جداً في نظري، ما تحب أن تسيء إلى علاقتك معه لمنتهى إجلالك له وحبك له، فتبادر إلى تنفيذ أمره، لكن لو صديقاً من أصدقائك طلب منك الطلب نفسه وأنت غير مقتنع تعتذر؛ لأن الصديق ليس له هذه الهيبة في قلبك كما هي للأب، وليس له الحب نفسه أو الشعور بالفضل نفسه فتعتذر ربما، فكلما كان الآمر أعظم في داخلك تبادر إلى الأمر أكثر؛ هذا العلم به، لذلك قالوا:" لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر على ما اجترأت" المشكلة ليست في أننا فعلنا، يقول لك: و ماذا فعلنا، هي نظرة؟ لا، المشكلة أنك عصيت الله، عصيت الذي خلقك، والذي رزقك، والذي أعطاك، والذي وهبك نعمة الإيجاد والإمداد والهدى والرشاد، هنا المشكلة؛ مشكلة فيمن خالفت أمره لا في الأمر نفسه، لذلك لما الإنسان يخالف الأمر ويعود إلى الله تعالى فوراً الله يغفر الذنب؛ لأنه يعلم أن له رباً يغفر الذنب، لكن لما يستمرئ المعصية ويبالغ فيها هنا لا تدركه توبة الله تعالى لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-يقول:

{ إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا، قالَ أبو شِهابٍ: بيَدِهِ فَوْقَ أنْفِهِ }

(أخرجه البخاري، ومسلم باختلاف يسير عن عبد الله بن مسعود )

أي مزعوجاً منه، لماذا؟ لعظم أمر الله في داخله، (وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا) فطار، ماذا صنعنا مثل ذبابة هكذا ومرت على أنفه، فهذا العلم به مع العلم بأمره يصبحان ديننا، والنبي -صلى الله عليه وسلم-يدعو أولاً لإصلاح الدين (اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي)، والعلم بخلقه هو أصل صلاح دنيانا الذي أُمرنا به أيضاً، فنحن نصلح ديننا بالأحكام الشرعية وبمعرفة الله تعالى، معرفة الله يعني بمجاهدة: قيام الليل، الصحبة الصالحة، مجالس العلم، النوافل، الالتزام بالفرائض، متابعة النفس وهفواتها، تنقية النفس، تهذيبها، تزكيتها هذا كله من العلم به، أن تضبط علاقتك مع الله كلما كثرت من النوافل، قيام الليل؛ هذا كله من العلم، هذا علم، الدليل أنه علم أن الله تعالى يقول:

أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ ٱلْءَاخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ(9)
(سورة الزمر)

فإذاً هذا القانت أناء الليل، الساجد، القائم، الخائف، الراجي؛ هذا عالم بنص الآية، فإذاً هذا العلم به علم مفقود في العالم الإسلامي، مفقود أكاديمياً أي لا يُدرّس لكن أحياناً يوضع له مادة التزكية يسمونها أو مادة الأخلاق أو كذا، لكن هو علم متكامل ينبغي أن يعتني به الإنسان، هو علاقة الإنسان بالله تعالى علاقته بالله، العلم بأمره من أجل أن تعرف الحلال والحرام فإذا تضافر العلم به مع العلم بأمره معاً نتج صلاح الدين، حسناً وصلاح الدنيا؟ العلم بخلقه.

حكم العلم بخلقه:
الآن العلم بخلقه مادام علماً مباحاً فتتناوبه الأحكام الخمسة، قد يكون واجباً وجوباً عينياً أو كفائياً، قد يكون مندوباً مسنوناً كما قلنا بحسب حالة الأمة التي هي فيها، و نحن اليوم المسلمين بحاجة كبيرة وماسة إلى العلم بخلقه لنعمر الأرض، ولأننا اليوم في وضع استثنائي، الناس عموماً ينظرون إلى العالِم نظرة إجلال وتقدير ويحترمون مذهبهم ولو كان فاسداً لمجرد علمه، طبعاً هذا خطأ لكن هو واقع الناس لا نستطيع أن ننكر اليوم أن القوي يفرض ثقافته ويفرض هويته على الناس، فنحن اليوم إذا أردنا أن نقنع الآخر بديننا فينبغي أن نخرّج علماء في الخلق ملتزمين بصلاح الدين أيضاً لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال:

{ المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ }

(أخرجه مسلم عن أبي هريرة)

العلم أقوى من المال
القوة هنا قد تكون في المال أي تاجراً، لكن تاجر محترف جمع مالاً قوّى نفسه به، الجاه قوة، العلم أقوى قوة، العلم أقوى من المال، لذلك يقول سيدنا علي رضي الله عنه: "ماتَ خُزَّانُ الأمْوَالِ وهم أَحْيَاء والعلماءُ باقونَ ما بقي الدَهْرُ أعْيَانُهُم مَفْقُودَة وَأمْثَالُهُم في القُلُوبِ مَوجُودَةٌ، " قال: “العلم خَيرٌ من المَال، العِلمُ يَحْرُسُكَ وأنتَ تَحرُسُ المَال" فأيهما أفضل الذي يحرسك أم الذي تحرسه؟! فإذاً نحن العلم يحرسنا، العلم حتى علم الدنيا، قلت في البداية وأكرر: نحن لسنا مع التقسيمات التي تجعل العلوم الكونية في وادٍ والشرعية في واد، نحن كل علومنا علوم شريعة، ندرس الفيزياء علوم شريعة، مثلاً الفيزياء ماذا تدرس؟ القوانين التي تحكم المادة كالجاذبية، الحركة، هذه الجاذبية بين ماذا وماذا؟ بين خلق الله، ربنا ذكر الجاذبية بالقرآن، ألم يقل تعالى:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ تَجْرِى فِى ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِۦ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (65)
(سورة الحج)

هذه الجاذبية، ألم يقل تعالى:

إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِۦ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41)
(سورة فاطر)

الفيزياء علم بخلق الله
الزوال هنا هو الانحراف: أن تزول عن مسارها، كيف لا تزول عن مسارها؟ الشمس جاذبيتها للأرض عندما تصل إلى القطر الأصغر بين الشمس والأرض إن زادت سرعتها تتفلت من المسار لأنه صارت المسافة قليلة بين قطر أصغر وأعظمي المسار بيضوي، فتبطئ سرعتها في القطر الأعظم تسرع أكثر حتى تبقى منجذبة ففي الحالتين لا تخرج عن مسارها (إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) هذا قانون الجاذبية بكلمات معدودة، فهذه دعوة، فالفيزياء علم بخلق الله الذي يدرس الفيزياء هو في خلق الله يدرس، علم الأحياء ما هو؟

وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(21)
( سورة الذاريات )

لما يقول تعالى:

فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ(5) خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ(6)
(سورة الطارق)

هذا علم الأحياء هو دعوة أن تدرس علم الأحياء، أعطاك رأس الموضوع، القرآن ليس كتاب علوم تفصيلي لكن هو كتاب هداية ومن الهداية أن يهديك إلى أن تبصر ما في نفسك من آيات، علم الفلك ما الذي يدرسه؟ الكواكب والنجوم، قال تعالى:

فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ(75) إِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)
(سورة الواقعة)

إذاً اعلموا أن هذا القسم عظيم بدراسة علم الفلك، فكل ما في الكون من علوم هي في الحقيقة دراسة لمخلوقات الله التي أُمرنا شرعاً أن نتفكر فيها فنحن مأمورون تبعاً أن ندرسها حتى يكون التفكر أعمق وأعمق لأن الله تعالى يقول:

سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِى ٱلْءَافَاقِ وَفِىٓ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ(53)
(سورة فصلت)

(سَنُرِيهِمْ) إذاً هناك أشياء لم تكتشف في عهد النبي-صلى الله عليه وسلم-ولا ما بعده ولكن سنراها نحن، لماذا يكون الغرب سباقاً إليها فيأتي هو بالمعلومة ثم نحن؟! الحمد لله نستفيد منها ربما وبعض الناس، ومثلاً هناك بعض الصور داخل التقطت في الوكالات العالمية خشع جلدنا وأخذنا منها فائدة عظيمة جداً وهذا لا مانع منه بل على العكس تماماً، نحن نقول ما قاله أحد النقاد:" ثقافة أي أمة ليست حكراً على شعب من الشعوب وإنما هي ثقافة البشرية بأكملها، ونحن لا نقاطع ثقافات الشعوب"، يقول: "هل يعقل إذا لسعتنا نحلة أن نقاطع عسلها"، ثم يقول: أنا أفتح نافذة غرفتي لاستنشق الهواء النقي و لكنني لا أسمح للرياح العاتية أن تقتلعني من جذوري"، فأنا ما عندي مشكلة أن آخذ من الآخر ما عنده من خير ومن فضل وأن أتابع فيه، لكن الأفضل والأحسن أكون مشاركاً في الأمر، أكون مشاركاً أو أكون مبادراً لأن ديني يأمرني بذلك، فأول ما نزل من القرآن:

ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِى خَلَقَ(1)
(سورة العلق)

فهي دعوة إلى العلم.

ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ(4)
(سورة العلق)

علم، القلم يعلم الأجيال، ينقل الثقافة من جيل إلى جيل بالقلم، وبالترجمة من أمة إلى أمة، من لغة إلى لغة، فالقلم علم.

التعلُّم والتعليم:
كل ما نتعلمه ونعلّمه لله
الذي أردت قوله في هذه المحاضرة الكريمة بصحبتكم الطيبة التي سعدت بها أيما سعادة أن كل ما نتعلمه لله، وكل ما نعلّمه لله، إن علمنا القرآن وعلّمناه فهو لله إن شاء الله -النية-، وإن تعلمنا الفيزياء وعلمناها فهي لله، وإن تعلمنا أحكام البيوع وعلمناها فهي لله، وإن تعلمنا أحكام الحج وعلمناها فهي لله، وإن تعلمنا أحكام الاستنجاء –سامحوني- وعلمناها فهي الله،، اليوم من المغالطات العجيبة في الموضوع التعلم والعلم أنك تكتب في موضوع مثلاً عن الطهارة، طهارة النساء أو الرجال بعض أحكام الطهارة فيأتي إليك أحدهم ويقول لك:" الناس وصلوا إلى المريخ وأنتم مازلتم بأحكام الطهارة"، نعم هذا علم وهذا علم، أحكام الطهارة علم والوصول للمريخ علم، لكن أحكام الطهارة لا نستغني عنها لأنها دين نلقى الله تعالى به بغض النظر عن بعض الممارسات الخاطئة أحياناً والتعقيدات والتفصيلات غير الصحيحة، لكن بالعموم هذه الأحكام نتعلمها فلا تقارن، أو مثلاً وضعوا مرة صورة لأشخاص يتعلمون دفن الأموات في بلد عربي ووضعوا صورة في جامعة عالمية يتعلمون، فقالوا: انظر أين هم وأين نحن؟! لا، لا يوجد مقارنة في الموضوع، هم الآن عندهم درس في التكنولوجيا، وبجامعاتنا موجودة هذا الشيء ولله الحمد وإن كان ليس على مستواهم، نسأل الله أن يبصرنا أكثر لكن لا يعني أن نتخلى عن أحكام الدفن لأنهم سيموتون وسنموت وبحاجة أن ندفن موتانا كما أمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فأحياناً تكون المقارنة مع الفارق غير صحيحة أبداً، كأن يقول الإنسان مثلًا: أخي السيارة السياحية أحسن من الشاحنة، لماذا السيارة السياحية أحسن من الشاحنة؟ السيارة السياحية تتسع لـ 5 ركاب، الشاحنة فقط راكبين، لكن الشاحنة تتسع لأغراض بالخلف هي معدة لشيء آخر، فلا يوجد أحسن بينهما، هناك كل واحدة لها مهمتها، فالعلوم كلها لله، إذا تعلمنا أحكام الطهارة نتعلم لله، الدين يبدأ من العلاقات الزوجية الخاصة وينتهي بالعلاقات الدولية، فأنا ما عندي علم بالله وعلم بغير الله، أنتم مختصون بالأحكام الطهارة، لا هذا علم نتعلمه لله ولا نستغني عنه أبداً لأنه أصل ديننا وصلاح ديننا، وبالمقابل نحن مأمورون بإصلاح دنيانا فلنسعَ لهذا ونسعى لذاك معاً في خطوط متوازية.
هذا ما فتح الله تعالى به، أسأل الله تعالى أن يكون فيه النفع والفائدة لي ولكم وأن يجزيكم خير الجزاء لهذه الاستضافة الكريمة، فإن وجدتم فيما تكلمت به خيراً فلله الحمد والفضل والمنة، وان وجدتم غير ذلك فحسبكم الله ونعم الوكيل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المداخلة 1:
السلام عليكم، لا بد من الشكر الكبير للضيف الكريم فضيلة الشيخ الذي أتحفنا، وأركز وأضيء على نقطة كبيرة أساسية جداً أنه ركّز على أهمية العلم الشرعي الذي هو أساس العلم الدنيوي وهذا أمر مهم جداً لو التزمنا به لكنا بألف خير، ولعدنا إلى الذروة الذهبية لحضارتنا الإسلامية، للأسف كنا في واقعنا نرى أشياء تتعلق بدراسة الدين والفقه، الطالب الذي ينال العلامات الأدنى والطالب الفاشل في المدرسة وكذا و كذا كله أرميه إلى دراسات إسلامية، والمتفوق هذا يتخصص في أمريكا وفرنسا وفي بلدان العالم و للأسف، نحن أمة يجب أن نولي الأهمية في التعليم الديني للمتفوقين المبرزين من أبنائنا وإذا عدنا إلى هذا الأمر -إن شاء الله -سنعود إلى مصاف الحضارات المتقدمة، أنا أشكر لفضيلة الشيخ ما تفضل به لكني دخلت معه في عدة مواضيع -ما شاء الله- لغزارة العلم فتوسع كثيراً ، أنا تابعت معه لكن أحياناً معي أحد المتابعين هنا قال: خرج قليلاً عن هذه النقطة، فتح الله عليك بهذه الساعة إن شاء الله فضيلة الشيخ، وأشكر البيت الحمصي هذا النشاط الدائم، وهذه الدعوة إن شاء الله في ميزان حسناتكم، بوركتم.

الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم دكتور، شكر الله لكم ولأخيكم دكتور.

المداخلة 2:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدكتور بلال نور الدين:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

المداخلة 2:
جزى الله الشيخ الفاضل على هذه المحاضرة الرائعة الجيدة، وقد أشبع الموضوع بشكل جيد والحمد لله وجزاه الله خيراً، وليس لي أنا و لست ممن يستطيع أن يناقش مثل هذه الأمور، ولكن الذي أعرفه أن المسلمين من أول يوم جاء الإسلام لم يتركوا العلم لا الدنيوي ولا الديني الشرعي كما يقال، فنلاحظ أن الرياضيات بدأت في القرن الهجري الأول و مثلها باقي علوم، ونلاحظ أن أكثر علمائنا مشهورون، بعضهم مشهور بالفلسفة وبعضهم مشهور بالتفسير ولكن عندما تقرأ حياته تجده ملماً حتى بالعلوم؛ بالطب أو بالرياضيات أو بالفيزياء وبغيرها من العلوم، وعندما تسمع عن عالم فيزياء عندما تدرس حياته وعلومه تجده يعرف يتكلم بكل أنواع العلوم أيضاً، وكتب فيها، وتكلم فيها، وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا يأخذون العلم لله حتى أن أحدهم قال: "طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله"، و جزى الله علمائنا السابقين والحاليين خيراً على ما قدموا ويقدمون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الدكتور بلال نور الدين:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

المداخلة 3:
السلام عليكم، شكراً للبيت الحمصي الذي يجمعنا في هذه المظلة الرائعة وتحية للشيخ الدكتور على هذه الإحاطة الجميلة والرائعة أيضاً.
الحقيقة نحن اليوم حتى تعقيب على دكتور أستاذ حسن فرحات مثلاً، وحتى حديث الأستاذ وكذلك حديثنا وأحاديث كثيرة تدور حول أننا أول وأول من فعل، وقال وكذا ...إلخ، حسناً أين نحن الآن من هذه الأول؟ هنا السؤال المهم جداً الذي يجب أن نشتغل عليه، مثلاً أنا بالنسبة للغة العربية -وهنا معنا قامات ما شاء الله-كيف نجعل من اللغة العربية أن تتحول رقمياً بتعليمها وتعلمها لكي تنسجم مع العصر الحديث ومع الأجيال التي ستأتي؟ لأن الأجيال التي ستأتي ستلعن من لم يشتغل على اللغة العربية، للأسف الشديد الفكرة الرئيسية ما تفضل به سماحة الشيخ الدكتور رائع جداً ومهم فعلاً، للطهارة علمها و لكل شيء علمه ولكل شيء مكانه، ألم تكن الطهارات والنجاسات في أيام العباسيين، أيام الخوارزمي وغيره، العلماء الكبار الذين كانوا و أسسوا للعلوم؟! كانت هذه أيضاً تُدرس ولكن إعلامنا المغرض هو الذي يفعل ما يفعل بأمتنا، ونحن الإعلام لدينا للأسف الشديد الإعلام لا يشتغل على مسألة المستقبل وإنما يشتغل على الماضي فقط، وليس حتى على الماضي الجميل الذي ذكره الدكتور أيضاً، للأسف هناك إحباط للأمة؛ إحباط كبير جداً ويجب أن تنهض لأنها تملك دستوراً رائعاً جداً في كل شيء في الحياة في صغيرها وكبيرها، تمتلك هذه اللغة التي تدخل في كل خلية من الكون؛ لها تسميتها واسمها ومسماها وتعبوا وقالوا، وإذا أردنا أن نستعرض المعاجم التي 12,000,000 كلمة باللغة العربية ونحن اليوم لا نستطيع أن ندرّس بها العلوم معقول؟! في حين كانت تُدرس باللغة العربية تُدرس بها العلوم الأخرى أيام النهضة الزاخرة أيام المأمون، فإذاً ما هي الأسباب ولماذا النكوص؟ ولماذا لا نستطيع أن نجعل أو نبتكر اليوم، كما تعلمون غوغل هو الذي يتحكم بنا، إذا ذهب غوغل أين الغوغل العربي؟ ليس هناك اتحاد، ليس هناك اتفاق، طبعاً هناك جهود مشكورة من الجامعة العلمية مثلاً الشارقة أصدرت والدوحة أيضاً تصدر المعجم المشهور التاريخ وغيره هكذا، ولكن أين الأجيال من ذلك ؟! اليوم نحن في هذه المحاضرة تمنح محاضرات مقبلة مثلاً التي تتحدث عن مستقبل الأمة وعن مستقبل الأجيال، ممكن أن نستضيف شباباً في البيت الحمصي أو حتى في ندوات أخرى لكي نعرف ماذا يريدون، نحن نعرف ماذا يريدون لكن اليد قصيرة، على كل حال شكراً جزيلاً لكم على هذه الدعوة الكريمة وإن شاء الله نتمنى أن نلتقيكم، تحياتي السلام عليكم.

المداخلة 4:
حياكم الله، شكراً جزيلاً، أريد أن أشكركم جزيل الشكر وأشكر الدكتور المحاضر على المحاضرة القيمة التي تبحّر فيها بشكل كافٍ ووافٍ، وأحب أن أضيف إضافة بسيطة لو سمحتم، وليست بمعنى إضافة وإنما من باب المداخلة البسيطة، فالعلم كما تفضل الدكتور المحاضر هو معرفة الشيء على حقيقته، وقد أولى الإسلام مكانة للعلم مميزة جداً، مكانة كبيرة وأعطاه منزلة عالية فابتدأ الوحي بالأمر بالقراءة والقسم بالقلم والكتابة، وحض على طلب العلم حتى جعله فريضة على كل مسلم، ورفع من شأنه حتى جعله معياراً للتفاضل بين البشر، وأرسى أسس التفكير والنقاش العلمي المعتمد على الدليل والبرهان، وحارب الأوهام القائمة على الظن والتقليد الأعمى دون دليل، كما حضّ الإنسان على استخدام عقله في التفكر والملاحظة والتعلم لاكتشاف نواميس وأسرار الكون، وتسخيرها لخدمته، وللوصول من خلالها إلى معرفة الخالق وإخلاص العبودية له وحده، والتحرر من عبادة ما سواه، ومن الآيات الكريمة التي تؤيد هذا القول ما ورد في سورة النمل، قال الله تعالى:

أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ(64)
(سورة النمل)

ومما يدل على المكانة الكبرى التي أعطاها الإسلام للعلم أن الله تعالى امتدح الذين أوتوا العلم، والراسخون في العلم، وأولو العلم، والذين يعلمون في 29 آية، وإلى جانب طبعاً الأحاديث النبوية التي تؤكد على فضل العلم والعلماء وتحض على طلب العلم، وشكراً جزيلاً، وحياكم الله، وجزاكم خيراً.

المداخلة 5:
السلام عليكم ورحمة الله، الله يجزيك الخير يا دكتور على هذه المحاضرة، مع أن وقت المحاضرة يمكن لا يكفيها ساعة ولا ساعتين والموضوع طويل متشعب وفقرات متعددة لكن -ما شاء الله، تبارك الله-أنت أوجزت وفصّلت بنفس الوقت، جزاك الله عنا كل خير إن شاء الله يا دكتور.

الدكتور بلال نور الدين:
الله يحفظكم ويبارك فيكم.

المداخلة 5:
حياك الله، أنا لفت لي نظري موضوع القلب والعقل، ذكرت أنه يوجد إثباتات علمية تقول بأن القلب هو مركز للإحساس، أيقنوا هذا الشيء إنهم لمسوه، نحن موجود عندنا بالقرآن الكريم إنه:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ(24)
(سورة محمد)

أو هناك آيات بهذا المعنى، لو تفضلت إذا بإمكانك تتوسع لنا بهذا الموضوع لدقائق لو سمحت لنفهم أكثر.

الدكتور بلال نور الدين:
المقصود بالقلب أي يعقل في قلبه أي داخله
حياكم الله يا سيدي، ربما يكون في المجلس أطباء أعلم مني، لكن أتكلم أنا فقط من معلوماتي الموثوقة -إن شاء الله-المصادر الموثوقة، سابقاً كان العلماء عندما يتحدثون عن العقل في القلب يقولون: القلب المذكور في القرآن هنا ليس قلب المضخة، هذه المضخة التي تضخ الدم إلى أنحاء الجسم وإنما هو قلب النفس أي الداخل، مثلما نقول: قلب الجوزة أي داخلها، فيكون هذا المقصود بالقلب أي يعقل في قلبه أي في داخله، ودرجوا على ذلك بأن المضخة شيء وكذا...، وإن كان الآية تقول:

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ (46)
(سورة الحج)

وكأنها إشارة إلى أن هذا القلب المضخة.

{ ...ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ. }

(أخرجه البخاري، ومسلم عن النعمان بن بشير)

سماها مضغة والقلب مضغة، فأنا حضرت حقيقة بعض الأبحاث العلمية، وحضرت برنامجاً على الجزيرة الوثائقية من سنوات، قالوا فيه: إنه بعد إجراء- حتى قبل سنوات كان في الـسبعين في بداية عمليات زراعة القلب- أنهم وجدوا ظواهر محيرة جعلتهم يقولون: إن هناك ذاكرة للخلية وإن مركز العقل هو القلب، و هذا الأمر ناتج من عدة تجارب، منها مما أذكره من الطرائف فيها أن شخصاً زُرع له قلب رجل آخر توفي، فجعل يقول كلمة يرددها لا يفقه معناها لكن جعل يرددها من غير شعور منه، ثم لما عادوا إلى زوجة المتوفى الذي نُقل قلبه أخبرتهم أن هذه الكلمة هي الشيفرة بينها وبين زوجها التي تعبر عن المحبة والمودة أمام الأولاد من غير أن يشعروا بما بين الزوجين، كانت محفوظة إذاً في القلب، ومن الأمور الغريبة جداً جداً أن طفلة نُقل إليها قلب طفلة أخرى قُتلت قتلاً، وأُخذ قلبها وتبرع به وعندهم ثقافة التبرع كبيرة، فقالوا في هذا البرنامج في الجزيرة الوثائقية إنه تم اكتشاف جريمة عن طريق نقل القلب بأنه أصبح يأتيها في الليل كوابيس بهذا القاتل الذي جاء، ولما عرضوا عليها الصور التي عندهم أشارت إلى من يأتيها في المنام، فصورته المرعبة حُفظت بشكل في القلب إذاً وليس في الدماغ، و نقلوا قصصاً كثيرة يومها وتحدثوا عن ما يسمى ذاكرة الخلية، و وقتها -سبحان الله- جاء في بالي قوله تعالى:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(24)
(سورة النور)

فكأن الأعمال تسجل حتى أصبحوا يقولون حتى الخلايا الأخرى فيها ذواكر تسجل الأعمال:

وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)
(سورة فصلت)

هَٰذَا كِتَٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(29)
(سورة الجاثية)

أي نأخذ نسخة، فسبحان الله الأمر هو في بداياته كما أعلم، و من أيام قليلة فقط عرضته، تكلمت بهذا الأمر استشير به في طبيب حتى ما أتكلم بغير علم، فقال لي: نعم اليوم عمليات زراعة القلب كشفت وجود أشياء محيرة جداً، واليوم يقال: إن ما في القلب من ذواكر خلايا عصبية تحيط القلب تحفظ المشاعر أكثر مما في الدماغ، لكن كلها حتى الآن أبحاث و أمور تُدرس، ولعل القادم يوضح أكثر وأكثر عن هذه الحقيقة، والقرآن ذكر أن العقل في مركز القلب ولم يذكر أبداً العقل في الدماغ أو في مكان آخر، كل العقل ذكره في القلب و الله تعالى حفظه.

المداخلة 5:
سبحان الله العظيم، لعل هذا الموضوع مدخل جديد من الإعجاز العلمي الذي يُكتشف كل فترة ويؤكد على -ما شاء الله-عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-الله يبارك ما شاء الله، الله يعزك إن شاء الله، جزاك الله خيراً يا سيدي.

الدكتور بلال نور الدين:
وإياكم.

المداخلة 6:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أول شيء أشكر الدكتور على هذه اللمحة الغنية الفاضلة التي تكلم بها عن أهمية العلم، حقيقة أتذكر قول الله سبحانه وتعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَٰلِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)
(سورة المجادلة)

فلا بد للإنسان العالِم أن يرتبط بالإيمان حتى تكون هذه الدرجات، وكم نرى في حياتنا بالنسبة لاختصاصات العلوم الكونية كما تفضل بها الدكتور أن هناك العجب العجاب من لا يقودهم علمهم الغزير والهائل إلى أن يكونوا مؤمنين، هل هم على قلوب أقفالها كما ذكر بمثل الآية أم أن هناك مانعاً آخر يمنعهم؟ الحقيقة بالنسبة لما أريد أن أتكلم به أيضاً نقطة أخرى أتذكر أن هناك رابطاً هاماً بين العلم والهداية، كما أن هناك رابطاً بين العلم والإيمان فأيضاً العلم والهداية، أو أن كما أريد أن أوضح بشكل آخر أن الهداية؛ قال بعض العلماء أن الهدى من الله سبحانه وتعالى هو هديان: فأما الهدى الأول هو هدى الدلالة الذي يتفضل برحمته وفضله الله سبحانه وتعالى على جميع خلقه بهذا الهدى، والدليل في الآية الكريمة:

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَٰعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(17)
(سورة فصلت)

فهؤلاء استحبوا العمى على الهدى لم ينطلقوا في الهدى الثاني وهو هدى الإعانة:

إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ(56)
(سورة القصص)

وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَٰبُ وَلَا ٱلْإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلْنَٰهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِىٓ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ(52)
(سورة الشورى)

ونحن أيضاً نقول كلما نقرأ سورة الفاتحة:

ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ(6)
(سورة الفاتحة)

أي اهدنا الهدى أو هدى الإعانة الذي نمشي به بالصراط المستقيم في الدنيا ويكون صراطاً مستقيماً في الآخرة ويكون هناك -إن شاء الله- إلى الجنة، النقطة التي أريد أن أشاركها أيضاً هي القلب والعقل، النظريات العلمية؛ الحقيقة نحن عندما درسنا تشريح القلب كان هناك حزم عصبية تتحكم في حركة القلب وأيضاً هناك خلايا عصبية اكتشفت بشكل مؤخر آلاف الخلايا العصبية التي قال العلماء أن لها ارتباطاً بالدماغ، وطبعاً الدماغ هو المركز العصبي لكل الخلايا والمسارات العصبية في الجسم، ولكن هناك ارتباط خاص بين هذه الخلايا الموجودة في القلب، ارتباطها مع الدماغ معنى ذلك أن العقل أو التعقل لا يكون فقط في الدماغ وإنما يكون بالقلب بل قد يكون بالقلب أكثر، النقطة التي أريد أن أسأل بها الدكتور الفاضل ببداية المحاضرة يقول الدكتور: أن العلم يجب أن يكون 100% ، الاستيضاح أنا أحب أن أستوضح بالنسبة للعلوم الشرعية القرآن الكريم جاء بالعلم 100% ، حتى العلوم الشرعية اختلف بها العلماء واختلف بها الأئمة الأربعة لتكون تيسيراً وتفضلاً من الله -سبحانه وتعالى- بهذا التيسير، أي لا يمكن للإنسان أن يقدم علماً 100% في العلوم حتى الشرعية، أما بالنسبة للعلوم الكونية فمن باب أولى، فهناك النظريات التي تأتي أو تكون عنوانها مقدمات ولا تؤدي إلى نتائج ويمكن مع الزمن أن تؤدي إلى نتائج ويمكن أن لا تؤدي و نسميها نظريات علمية؛ هذا ما أردت أن أشارك به ولا أريد أن أطيل عليكم، بارك الله بكم، وجزاكم الله كل خير وفضل إن شاء الله تعالى.

المداخلة 7:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مساكم الله بالخير حياكم الله، الله يجزيكم الخير ويجزي الدكتور بلال جزاءً وافراً وكثيراً على ما قدمه في هذه المحاضرة-ما شاء الله-الدكتور بداية ألقى المحاضرة مرتجلة فهذا مما يدل على تمكّنه -وما شاء الله عليه-الله يحفظه ويزيده علماً، طبعاً عندي بعض الاقتباسات من الآيات القرآنية التي تتحدث عن العلم مثلاً في قوله تعالى:

قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ(32)
(سورة البقرة)

لا علم لنا إلا ما علمنا الله تعالى، العلماء هم أهل الخشية لله سبحانه (إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰٓؤُاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)، المؤمن دائماً يطلب زيادة العلم.

فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ(116)
(سورة المؤمنون)

فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰٓ إِلَيْكَ وَحْيُهُۥ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا(114)
(سورة طه)

في الآية الرابعة التي حضّرتها:

وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَىٰهَا وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَٰهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(68)
(سورة يوسف)

إذاً العلم خصوصية من الله ورفعة، العلم عمل وخشية ولا يستوي أهل للعلم وغيرهم (أَمَّنْ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ سَاجِدًا وَقَآئِمًا يَحْذَرُ ٱلْءَاخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِۦ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ)، أختم بهذه الآية: (يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَٰتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، العلم رفعة ودرجات، الله يجزيكم الخير ويبارك فيكم وينفع بكم، والله يجزي خيراً الدكتور بلال للمرة الثانية، وإن شاء الله نستفيد من لقاءاته ومحاضراته والشكر موصول لإدارة البيت الحمصي على اختيارها لهذا الأستاذ الفاضل.

المقدم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أحييكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أشكر الدكتور بلال نور الدين على تلبيته دعوة البيت الحمصي وعلى محاضرته الكريمة، هذه المحاضرة التي جمع بها عنوانين حقيقة: عنوان العلم والتعلم لله -عزَّ وجلَّ- وهو العنوان العريض والذي في طياته هو عنوان كنت قد أضمرته في نفسي، و فصل العلوم كوني و ديني خطر كفصل الدين عن الدولة، فعندما فصلنا العلوم واهتممنا بعلوم الدين وهو علوم الفقه والسيرة و العلوم الشرعية بكليتها، ووضعنا أولوياتنا في أذهان أبنائنا أن تكون العلوم الأخرى من هندسة وكيمياء وفيزياء والتفوق فيها وحيازتها في المرتبة الثانية فكانت هناك أمور كبيرة التقصير بها، صرنا في الصف الثاني بالنسبة للأمم فسامتنا الأمم والبشرية سوء العذاب، وأقول الشكر موصول للدكتور محمد راتب النابلسي فقد طلبت المحاضرة منه، فدلني على الدكتور بلال ولم تكن لي معرفة سابقة بالدكتور بلال فجزاه الله خيراً الشيخ راتب، و جزى الله خيراً الدكتور بلال وأعود إلى مداخلتي التي أقول فيها تلاوة آية كريمة كنت قد كتبتها في مقدمة مشروع تخرجي في الهندسة المدنية عام 1991 ، فقلت بداية: بسم الله الرحمن الرحيم:

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَٰلِحًا قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(61)
(سورة هود)

هل عمارة الأرض تكون بدون علوم الكون كما تفضل الدكتور بلال والتفوق بها، فالاستفادة من هذه الأرض التي ذللها الله لنا:

هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ ذَلُولًا فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِۦ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ(15)
(سورة الملك)

نعم أرض ذلولة، ذلولة بعلومنا التي علمنا الله إياها علوم هذه الأرض بما فيها من هواء ومعادن وفيزياء وكيمياء وهذه القوانين التي أوجدها ربنا -عزَّ وجلَّ-وأحكم بها هذا الكون، فتفوقنا بهذه العلوم يمكننا أن نستفيد من هذه الأرض، وضبط لنا ربنا-عزَّ وجلَّ-الاستفادة من هذه الأرض بتعبده -عزَّ وجلَّ-بتعبدنا إياه.

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
( سورة الذاريات)

وهذه الأمانة التي حملنا الله إياها فضبطنا بدينه؛ دين الإسلام الذي بلغنا إياه وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنحن المسلمين مطالبون بالتفوق بالعلوم جميعها، أولها: ما يصلح أمر ديننا، وثانيها: ما يصلح أمر دنيانا التي توصل إلى آخرتنا إلى جنة ربنا -عزَّ و جلَّ-، نرجو الله -عزَّ و جلَّ- أن يجمعنا في مستقر رحمته تحت لواء سيد المرسلين في غرف النظر إلى وجه ربنا الكريم، وجزى الله خيراً مرة أخرى الدكتور بلال و المداخلين جميعاً كل خير، بارك الله فيكم وأحسن إليكم، وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، كلمة الختام مع الدكتور بلال فليتفضل مشكوراً.

الدكتور بلال نور الدين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشكر جميع الإخوة الكرام، أشكر أخي المهندس أبا عامر الذي تفضل بتنسيق هذه المحاضرة وجميع الإخوة في البيت الحمصي وجميع المشاركين وجميع المعلقين، حقيقة ما في هذا اللقاء ما يميزه هو أنه يجمع نخبة من أهل العلم والفضل والفكر والتربية و الطب وغير ذلك، وأفتخر بوجودي بينكم، و شكر الله لكم حسن ظنكم بأخيكم واستماعكم وطيب إثراءتكم ، وليس فيما تفضل به الإخوة أسئلة بقدر ما فيه إثراء للموضوع يستحق الشكر ويستحق الثناء، فكل ما ذُكر هو إثراء للموضوع، وإضافات رائعة وجميلة جداً أفدت منها شخصياً، ولعل جميع الموجودين قد أفادوا منها أيضاً، إلا أنني أعلق على أمرين جاءا في كلمة الأخ الدكتور الكريم سامحوني الأسماء لما أحفظها، الأخ الذي تحدث عن الـ100%.

المقدم:
دكتور عمر زيتون.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم، فهذا ربما يكون فيه حاجة إلى التعليق، أعلق على ما تفضل به من الهداية، للهداية أربعة أنواع جئت على هداية منها في المحاضرة في البدء لما تحدثت:(قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ* قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ) هذه هداية عامة لجميع المخلوقات حتى الجمادات، وهناك هداية هي هداية الدلالة وهذه خاصة بالمكلفين فقد هدانا الله تعالى جميعاً حينما بعث لنا نبياً ورسولاً وقرآناً وكوناً وفطرة وعقلاً هدانا –جلَّ جلاله-، أما هداية التوفيق فهي خاصة بالمؤمنين الذين استجابوا لهداية الدلالة، وهناك هداية رابعة يوم القيامة قال تعالى:

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5) وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ(6)
(سورة محمد)

يقول -صلى الله عليه وسلم-:

{ إذا خَلُصَ المؤمنونَ من النارِ حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنةِ والنارِ، فيتقاصُّونَ مظالمَ كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذِنَ لهم بدخولِ الجنةِ، فوالذي نفسُ مُحمَّدٍ بيدِه لأحدُهُم بمسكنِه في الجنَّةِ أدلُّ منه بمسكنِهِ كانَ في الدُّنيا }

(أخرجه البخاري، وأحمد عن أبي سعيد الخدري )

وحتى لغير المؤمنين:

ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَٰجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ(22) مِن دُونِ ٱللَّهِ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْجَحِيمِ(23)
(سورة الصافات)

المطلق هو الله تعالى وحده
دلوهم إلى الصراط؛ فهي أربعة هدايات تفضل الأخ الحبيب بالإشارة إليها فأحببت أن أعلق عليها، وأخيراً فما تفضل به من ملاحظته حول الـ100% فأظن أن ما تفضل به صحيح، فنحن نسبيون و لسنا مطلقين، المطلق هو الله تعالى وحده، فما يأتي من الله من وحي هو الـ 100% ودون ذلك فهو لا يقال: 100% إلا أن يكون علماً بالله بما جاء وحياً من عند الله تعالى، لكن لعلي وهمت أو قصدت بذلك القوانين تحديداً التي تكتسب لا أقول صفة اليقين لكن صفة الاضطراد بمعنى المعادن تتمدد بالحرارة : أي عندما تنتقل من مرحلة النظرية إلى مرحلة القانون الذي يُطبق، وفي القرآن الكريم يوجد قوانين:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ(124)
(سورة طه)

مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(97)
(سورة النحل)

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2)
(سورة الطلاق)

فهي قوانين قرآنية عظيمة سمّاها الله تعالى في قرآنه سنناً:

ٱسْتِكْبَارًا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَكْرَ ٱلسَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِۦ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ ٱلْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلًا(43)
(سورة فاطر)

أكرر شكري وثنائي على الجميع، وحبي وتقديري لكم جميعاً، وأسأل الله أن يجمعنا دائماً على خير، وأن يفرج عن أمتنا وأن يجعلنا بناة خير وبناة حق وعدل، نساهم في رفعة أمتنا القادمة إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين.

المقدم:
الحمد لله رب العالمين، جزاكم الله خير الجزاء وأرجو أن تختم لنا بدعاء، بارك الله فيكم.

الدكتور بلال نور الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر مولانا رب العالمين، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك ولا تهتك عنا سترك ولا تنسنا ذكرك، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعزّ فيه أهل طاعتك ويُهدى فيه أهل عصيانك ويؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر، واجعلنا إلهي جنداً لخدمة حقك ودينك يا أرحم الراحمين، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، اللهم استعملنا في خدمة دينك وعبادك يا أرحم الراحمين، اللهم اجزي خير الجزاء وجزاء الخير كل من ساهم في إعداد هذا اللقاء وذلك البيت الجميل، اللهم اجزهم خير الجزاء وعظيم سؤلهم، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا ولمن سبقنا بالإيمان ولأشياخنا ولمن له حق علينا، اجعل جمعنا الافتراضي هذا جمعا مباركاً مرحوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، الحمد لله رب العالمين.