الرؤية الصحيحة - الفضل والشكر

  • اللقاء الثاني من تفسير سورة سبأ | شرح الآيات 7-13
  • 2024-07-01

الرؤية الصحيحة - الفضل والشكر

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزِدنا عِلماً وعمَلاً متقبّلاً يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعِلم، ومن وحول الشهوات إلى جنَّات القربات.
وبعد فيا أيُّها الإخوة الأكارم: هذا لقاؤنا الثاني ونحن نتدبر بمعيتكم سورة سبأ، وقد أسلفنا أنَّ هذه السورة هي سورة الحمد وسورة الشُكر، فمحورها العام ومقصدها الأساسي، توجيه العباد إلى شكر خالقهم و حمده على نعمائه، وافتُتِحت بقوله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
(سورة سبأ)


الحمد يشمل شيئين: المدح والشُكر:
وبيِّنا أنَّ الحمد يشمل شيئين: يشمل المدح ويشمل الشُكر، فالمدح يكون على ما في الإنسان من جميل الصفات، فتمدحه فتقول فلانٌ كريم، وإن لم يُصِبك من كرمه شيء، وتشكر له لأنه أعطاك شيئاً فتشكر له فعله، تمدح صفته وتشكر فعله.
وأمّا الحمدُ فهو الشُكر مع المدح، فنحن نحمد الله تعالى، بمعنى أننا نُثني عليه بما فيه من جميل الصفات، وعظيم آلائه ونعمائه، ونشكر له على ما أولانا من نعمه وعطائه، من نعمة الإيجاد والإمداد، ونعمة الهدى والرشاد، ونِعم الله عظيمةٌ لا تُعد.
وتميّزت سورة سبأ، وهي واحدة من خمس سور افتُتِحت بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بأنها حمدت الله تعالى في الآخرة، وليس في الدنيا فحسب، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ) وجاءت وله الحمد في الآخرة بطريقة الحصر، فما قال: والحمد له في الآخرة، وإنمّا قال: وله الحمد، أي وحده، في الآخرة، لأنه في الدنيا قد يحمد الناس المخلوقين، فيحمُد بعضهم بعضاً، وقد يحمدون مَن لا يستحق الحمد، لكن في الآخرة لا يُحمد إلا الله تعالى وحده جلَّ جلاله، يُحمد على ثوابه وعقابه، وعلى إحقاقه الحق، وإبطاله الباطل، وعلى أنه جلَّ جلاله، سيُعطي كل مخلوقٍ ما فاته من الدنيا من حقٍ أو من مظلمةٍ، فله الحمد جلَّ جلاله في الآخرة، ووصلنا إلى قوله تعالى:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
(سورة سبأ)

مجلس من مجالس الكفار، نسأل الله السلامة والعافية، يتبادلون فيه الأحاديث، فيقوم أحدهم، ويصوِّر ربنا هذا المجلس بما فيه، فيقوم أحدهم ليقول: (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ) وينكِّرون كلمة رجُل، ويقصدون به سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، يُنكِّرونها تنكيراً يُريدون منها التقليل، وحاشاه صلى الله عليه وسلم، (عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) والنبأ دائماً يكون للأمور الجسيمة العظيمة، فأنا لا أقول لك هل أُنبِئك بنبأ، فتقول لي ما هو؟ فأقول لك قد أكلت الأمس طعاماً لذيذاً، هذا ليس نبأً، ولكني أقول لك هل أُنبِئك؟ فتقول لي تفضل، فأقول لك: لقد نلت الشهادة العُليا في الطب، فالنبأ هو للأمور الجسيمة و ليس للأمور العادية.

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
(سورة النبأ )

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
(سورة الكهف)

وهنا يقولون نُنبِئكم لأن النبأ عظيم وخطير، ما هو هذا النبأ العظيم والخطير؟ (إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يقول هذا الرجُل إنكم ستبعثون بعد موتكم، فهم ينكرون البعث، (إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) التمزيق هو تفريق الشيء إلى أجزائه، فهذه الطاولة التي أمامي كلٌّ لكن لها أجزاءً، فإذا مزّقتها فقد أرجعتها إلى عناصرها الأولية، وقالوا (كُلَّ مُمَزَّقٍ) بمعنى أنه حتى الأجزاء قد جُزِئت، أي إذا حصل انفجار، نسأل الله السلامة، فهذا الإنسان ربما لم يبقَ منه شيء، مُزِق كل مُمزق، أو إذا غرق في جوف البحر فالتقمه الحوت، مُزِق كل مُمزق، وحتى إذا دُفن في باطن الأرض، فتحلَّل إلى أجزائه الأوليَّة فهُم يستغربون! كيف بعد أن يُمزَّق أي يُفرَّق إلى أجزائه كلَّ تفريق، ثم يُعيده الله تعالى فيبعثه خلقاً جديداً، ولو أنهم نظروا في خلقه الأول يوم كان مُمزَّقاً كلَّ مُمزَّق وجمعه الله تعالى وجعل منه

فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
(سورة مريم)

لما كان لهُم هذا الاعتراض، ولكنه الضلال البعيد، نسأل الله السلامة، ثم يقولون:

أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
(سورة سبأ)


الفريةُ هي أعظم أنواع الكذِب:
أفترى على الله كذباً، الفريةُ هي أعظم أنواع الكذِب، الكذِب قد يكون عليه دليل، ولكنه يعلم أنه كاذِب، أي يجمع بعض الأدِّلة ليوحي لك بأنه صادق لكنه كاذِب، أمّا الفرية فهي اختلاق شيءٍ من لا شيء، أي قد يكون كذباً أن تقول رأيت فلاناً في الفندق يفعل كذا، هو كان في الفندق في تلك الليلة، ونهضَ ومرَّ من أمام هذه الغرفة الخبيثة، لكنه لم يدخل، ولكن أنت تكذب! والعياذ بالله، فلان يكذب، لكن لو أنَّ فلاناً لم يكن في الفندق ولم يدخله أبداً، فجاء رجُلٌ وقال رأيته في الفندق وهو كان في البيت، هذه فرية، فالافتراء هو أعظم أنواع الكذِب، فهؤلاء يتِّهمون محمداً صلى الله عليه وسلم، بأنه افترى على الله كذباً، ثم يقولون (أَم بِهِ جِنَّةٌ)، والجِنَّة هي الجنون، وهذا الأصل في اللغة، وهو جيم نون نون جنَّة أصلٌ بمعنى الستر والخفاء، أينما ورَد، فالكلمة مثلثة، فإذا قلنا الجَنَّة فهو البستان العظيم الذي تسامقت أشجاره وتكاثفت الأغصان حتى سترت وجه الأرض، فهي جنَّة، ظل ظليل الجنَّة، وإذا قلنا الجُنَّة هي الوقاية التي تستر، الصيام جُنَّة، لأنه يقي الإنسان من الوقوع في المعاصي، يستره عنها، وإذا قلنا الجِنَّة، فهُم الجن لأنهم استتروا عن أعيُننا، قال تعالى:

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
(سورة الأعراف)

فهذا هو الأصل، وإذا قلنا:

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
(سورة الأنعام)

أي ستره الليل، لأن الليل ستر

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
(سورة النبأ)

يستر، وإذا قلنا الجنون فهو الستر الذي يستر العقل فلا يعي ما يحدث، فكل هذا الأصل، جنَّة الستر والخفاء، وهذا من بديع اللغة العربية في أنَّ الكلمات كلها تعود إلى جذرٍ واحد وأصلٍ واحد.
يعني مثال: الغين في أعم اللغة للغياب، فتقول: غابَ، غامَ، غرِق، غم إلى آخره...، فالغين للغياب، حتى قالوا مثلاً في فقه اللغة، أنَّ كلمة غرِق ، غاب عن الأعيُن فوضِعت الغاء، ثم تتالى سقوطه فوضِعت الراء، لأن الراء يُفيد التكرير، كرَّ، مرَّ، جرَّ ، فتتالى سقوطه، ثم ارتطمَ بالقاع فوضِعت القاف، فالغريق غاب عن الأعيُن فتوالى سقوطه فارتطم، القاف دائماً للقوة، حرف قوّة للارتطام والاصطدام، فمن فقه اللغة أنَّ الحرف له فقه، فالأصل جيم نون هو أصل الغياب والستر والخفاء.

إذا اتهمك الناس بما ليس فيك فحسبُك محمدٌ صلى الله عليه وسلم قدوةً عظيمة:
فقالوا: (أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ)
أولاً: بماذا يُثبت الله تعالى هذه التُهم، أي لا يُثبتها معاذ الله يعني يثبِّتها، لا، لكن يذكرها في كتابه رغم أنَّ لا أصل لها، أنتم جميعاً أهل فضلٍ وخير، وكلٌّ منكم له سيرةٌ عطِرة، فلو أراد أحدكم أن يكتب سيرته الذاتية، تجربته في الحياة، وهناك شخصٌ أساء له يوماً فقال له: أنت سفيه - أعزكم الله - فهل يُثبتُها في سيرته الذاتية؟ أخفِها.
أولاً: لو كان هذا الكلام من عند محمدٍ صلى الله عليه وسلم لأخفاه، لأن طبيعة البشر تقتضي أن لا يذكُر ما ذكره الناس عنه من سوء، وإنما يذكُر ما ذكره من حُسن، فهذا دليلٌ على أنَّ القرآن كلام الله تعالى.
والأمر الثاني: أنَّ الله تعالى أراد أن تكون هذه التهُم الموجهة للأنبياء على بُطلانها سلوى لكل مؤمنٍ ولكل داعيةٍ ولكل من يدعو إلى الخير، أو يُحسِن إلى الناس فيُتَّهم بالسوء، ليكون ذلك تسليةً وجبراً لخاطره.
فمن أنت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اتهمك الناس بما ليس فيك، فحسبُك محمدٌ صلى الله عليه وسلم، قدوةً عظيمة، من هذا الباب ذُكرت.
أمّا قولهم: (أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ) فهذا تصويرٌ لشيءٍ دقيق في أعماق النفس، فالإنسان عندما يأتي بفرية ويعلم أنها كذِب وافتراء، يضع دائماً (plan- b) الخطة باء، لأنه يعلم أنَّ هناك من سيقول له كيف تقول أفترى على الله كذباً، هذا الصادق الأمين، الذي كنتم تلقِّبونه في الجاهلية بالصادق الأمين، فما الذي جرى؟ حتى جعلتموه مُفترياً، فيُجهز دائماً الكاذب خطته البديلة، فيقول لك أنا قلت لك إمّا أفترى أو به جِنَّة، واحدة من هاتين، فيحاول الكاذب دائماً أن يُنوِّع في كذباته، حتى إن أفلت من واحدة يظن أنه ينجو بالأُخرى، فقالوا: (أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) ليس به جِنَّةٌ، حاشاه، وليس مُفترياً على الله، حاشاه، وإنما بُعدُكم عن الإيمان بالآخرة والإيمان بالغيب جعلكم تفترون هذا الافتراء الكاذب.
أنتم لا تؤمنون بالآخرة وبهذا النبأ العظيم، فجعلتم حتى لا يكون إيمانكم بالآخرة باعثاً لكم على التخلِّي عن مصالحكم الآنيّة، تتهمون الطرف الثاني.
إذا جاء مُصلِح وقال لي: يا أخي لا يجوز هذه التجارة مُحرَّمة، والتجارة تُدِرّ عليَّ آلاف الدنانير يومياً، أنا الآن أحاول أن أهرب إذا كنت لا أُريد الحق، فمن أول أساليب الهروب، الهجوم، فأقول له وما أدراك أنت؟ تظن نفسك عالماً بالدين؟ اذهب وتعلم أولاً، هو لا يريد أن يتخلّى عن مصالحه فيتَّهِم الآخرين، أسلوب من أساليب الهروب.
فقال: (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) ببُعدهم عن الحق، هذه (بل) يُسمّيها النُحاة حرف إضراب، أي تنفي ما قبلها وتثبت ما بعدها.
أحياناً مُذيعوا النشرات الإخبارية يقولون: قُتل في هذا الانفجار سبعة عشر شخصاً، فينتبهون إلى أنَّ المقتولين ثمانية عشر شخصاً، فتقول المذيعة: أو ثمانية عشر شخصاً، هذا خطأ، يجب أن تقول بل، لأن (أو) معناها هناك شك في العدد، إمّا سبعة عشر أو ثمانية عشر، لكن أنتِ أخطأتي، كان يجب أن تقولي بل، لتنفي ما قبلها وتثبتي ما بعدها، يدربونهم عليها كثيراً في الإعلام، لكن الإنسان بطبيعته يريد أن لا ينفي ما قاله، فيقول أو، لأنه لا يريد أن يوقع نفسه في الخطأ، فيقول أو.

في القرآن ضلالٌ مُبين و ضلالٌ بعيد:
(بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) قال بعض المُفسّرين: (فِي الْعَذَابِ) مقابل افترائهم الكذب (وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) مقابل وصفهم رسول الله بالجِنَّة، والضلال البعيد أيُّها الكرام هو، ضلَّ الماء في اللبن أي دخل في داخله، الضلال هو الذهاب في الطريق الخطأ، ثم هو ضلالٌ بعيد، أي عندنا في القرآن ضلالٌ مُبين، وعندنا ضلالٌ بعيد.
الضلال المُبين: أنت أخذت سيارتك ونزلت إلى العقبة، وهناك تحويلة في الطريق إلى العقبة، وإدارة السير وضعت قبل كيلو متر، كل مِئة متر إشارة مُضاءة، حتى إذا كان الليل، وواضحة جداً بأنَّ الطريق إلى اليمين، ثم غفلت وأكملت الطريق دون أن تأخذ يمينك، هذا هو الضلال المُبين، لأنَّ إدارة السير لم تُقصِّر في توضيح الطريق لكنك انشغلت.
الضلال البعيد: أن يذهب الإنسان في الطريق الخطأ، ثم يتمادى فيه، فيكتشف أنه دخل في الطريق الخطأ بعد مئة كيلو متر، فأصبحت العودة صعبةً (بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ).

أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (9)
(سورة سبأ)

(مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) أي أمامهم، (وَمَا خَلْفَهُم) أي وراءهم، (مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أي من الآيات الدالة على البعث والنشور وقدرة الله المُطلقة، (إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) زلزال يخسِف الله الأرض بمن يشاء من عباده، (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ) الكسفةُ هي القطعة، قطعٌ من السماء تخِرُّ عليهم، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) فإذا كان الإنسان قد أخذ قراره بالرجعةِ إلى الله، فإن قدرة الله المُطلقة، وآياته المبثوثة في الكون تنفعه، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) مُنيب أي اتخذ قراره بالرجعة إلى الله، فعند ذلك تنفعه الآيات، لكن إذا كان مُعرِضاً، لا ينفعه شيء.
انظر إلى مَن هُم في وكالة ناسا للفضاء، يرَون من آيات الله ما لا نراه، بما لديهم من آلاتٍ حديثة، يرَون أشياء يذهل العقل أمامها، وينطِق كل شيءٍ في جسمك بوجود خالقٍ لها، ومع ذلك تجد منهم الملحدين لأنهم ليسوا عباداً مُنيبين، أي لم يتخذ قراراً بالرجوع إلى الله من خلال ما يراه، وإنما اتخذ قراراً بالمنفعةِ فقط، دون العودة إلى الخالق.

عبدان شكوران هُما داوود وابنه سليمان:
هذه الآيات التسع كلها التي بدأت بها سورة سبأ، هي قبل الفرش كما يُسمّيها اللغويون، أو المقدمة، أي بين يدي القصة التي تتحدث عن الشكر والحمد، النماذج، الآن ربنا جلَّ جلاله سيضرب مثلاً لعبدين شكورين، ولقومٍ لم يشكروا الله تعالى على نِعمه، العبدان الشكوران هُما داوود وابنه سليمان، عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فيقول الله جلَّ جلاله:

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
(سورة سبأ)


معجزة سيدنا داوود:
داوود نبيٌ من أنبياء بني إسرائيل، آتاه الله تعالى فضلاً منه، والفضل هو الزيادة، فتقول هذه فضلة الطعام أي ما بقيَّ منه، وليس لنا شيءٌ عند الله تعالى، ولكنه تفضَّل علينا فأعطانا نِعمه العظيمة، ومما أعطاه لداوود هذا الفضل العظيم منه بأنه جعل الجبال تُؤوِّب معه (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي تُرجِّع معه، فيُسبِّح الله فيسمع تسبيح الجبال، تُسبِّح معه، والطير تُسبِّح معه، أسمعه الله تسبيح الجبال والطير، البعض عندما يقرأ قوله تعالى:

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
(سورة الإسراء)

يُفسّرها على أنها تسبيح الحال، أي أنَّ حالها ينطق بوجود الله، فإذا نظرت إليها قلت سبحان الله، فكأنها تُسبِّح الله، لكن الحقيقة أنَّ هذه الآية تُبيِّن أنَّ التسبيح على حقيقته، أي هذه الجمادات تُسبِّح فعلاً، تقول سبحان الله، أنت لا تفقه تسبيحها، أنت لا تسمع بكاء الجذع إذا افتقد حبيباً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه، فالجبال تُسبِّح لكن نحن لا نفقه تسبيحها، لمّا أراد الله تعالى أن يفقه داوود تسبيحها أسمعه تسبيحها، النمل له لغةً خاصة لكن سليمان سمعها، نحن لا نسمعها، فهو تسبيح حقيقي، (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أيضاً الإلانة هنا ليس معناها أن يُعرِّض الحديد للنار فيلين الحديد، هذه ليست مُعجزة، هذا قانون، لكن المُعجزة أنَّ الحديد يلين بين يديه بحرارة اليد، يمسكه فيلين، فيصنع منه ما يشاء، والحديد قاسٍ جداً، لكن الله تعالى جعله مُعجزةً لداوود يلين بين يديه، هذا فضلٌ من الله.

أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
(سورة سبأ)

سابغات صفة لموصوف محذوف، لوجود الدلالة عليه، لأن العرب تقول الدروع سابغات، أي أن اعمَل دروعاً سابغات، لباس المرأة يجب أن يكون سابغاً، أي أن يكون طويلاً يُغطّي مفاتنها، ساتر، فمعنى سابغات أي تُغطّي الجسم بشكلٍ كامل حتى تحميه من ضربات الأعداء والسهام والرماح.
أول ردُّ فعلٍ على نِعمة الله العظيمة أن قال له (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) لم يقل له أنشِئ معامل لصناعة الأغذية، ولا لصناعة الأدوية، على عِظم ذلك، وما قال له أنشِئ إلكترونيات، اعمَل دروعاً، لأن الدين والحق يحتاج إلى قوّةً تحميه، عندما تترك الصناعات الدفاعية، غيرك لم يترك الصناعات الهجومية، غيرنا يعمل بالصناعات الهجومية ويُعدُّ لنا، فإذا لم نُعدّ له فهذه مُصيبةٌ كُبرى، نتحمل مسؤوليتها، إخواننا في غزَّة نسأل الله أن يفرِّج عنهم، عملوا سابغات، أعدّوا، الآن هُم إن شاء الله ونسأل الله ذلك، بريؤون عند الله، يا رب قدّمنا، أمّا الأُمم الضعيفة التي لم تعمل سابغات، هذه حسابها عند ربها، الذين كانوا عند رأس المسؤولية ثم اتجهوا للصناعات الاستهلاكية، وقالوا نحن نريد دين سلام ومُسالمة، لكن السلام والمُسالمة والأمن والأمان يحتاج إلى قوّةٍ تحميه، لأن غيرنا يُعدُّ لنا، هُم لا يريدون أمناً ولا سلاماً، إلا على حساب دمائنا، فقال أول شيء (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ) دروع تحمي بها الحق، الحق يمتلك قوّةً ذاتية تجعله في أعلى مكان، لكن إن لم نهيئ له حديداً يحميه، فإن الناس يتجرؤون عليه، ويجعلون الناس تفِرُّ منه، لذلك سورة الحديد:

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
(سورة الحديد)

(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) هذه العبارة على بساطتها، وعلى قِلّة كلماتها، أصلٌ في إتقان العمل، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) السرد: هو النسج، نسج الحديد، نسج الدرع، (قَدِّرْ) يعني أحكِم، التقدير هنا بمعنى الإحكام، قال بعضهم الإحكام هنا بين الحلقات، أي أن يكون الوصل مُحكماً، لا تُفكُّ حلقةٍ عن حلقة، قال بعضهم المسمار الذي يوضع لشدّ الحلقات، لا يكون ثخيناً بحيث يزعج المقاتل، ولا رقيقاً بحيث تُفلِت الحلقة من الأُخرى، كناية عن الإتقان، قال بعضهم: (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي أحكم الصناعة، بحيث يكون الدرع ليس ثقيلاً بحيث يثقُل حمله، أي إذا كان مُحكماً جداً، ويمنع ضربات الأعداء، لكن إذا حملته لا أستطيع المسير من ثقله، ولا رقيقاً بحيث لا يقي، أي اجعله بطريقةٍ يحمي من غير أن يثقُل، كل هذه التفسيرات وردت، مفادها الإتقان، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي أحكِم عملك، السرد النسج، تقول سردت القصة، أي نسجتُ حلقاتها، الحلقة الأولى والحلقة الثانية، وكل واحدةٍ متصلةٍ بالثانية بإحكام، (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ) الآن بعد أن أعطى نوعٌ من أنواع الصناعات والإتقان (وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ) أي فليكن عملك صالحاً، يصلح للعرض على الله، العمل الصالح يصلح للعرض على الله جلَّ جلاله يوم القيامة، أمّا الفاسد لا تعرضه على ربك، (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هذه المراقبة، المراقبة أثناء عملك وإتقان عملك (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

معجزة سيدنا سليمان:
أمّا سليمان وهو النموذج الثاني، قال:

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
(سورة سبأ)

ما الذي نصَب كلمة الريح، فعل محذوف، أي وسخَّرنا لسليمان الريح، نحن الريح غير مُسخَّرة لنا، إذا جاءت شمالية أو غربية هل نستطيع أن نحوّلها شرقية؟ لا، أمّا سليمان فسُخِّرت له

فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
(سورة ص)

يُحوِّل مسارها، نحن لا نستطيع، لكن الله تعالى جعل لسليمان هذه الميّزة، يُحوِّل مسار الريح، (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا) الغدو: الذهاب باكراً، والرواح هو العودة بعد العصر للزوال، غدوها شهرٌ ورواحها شهر، أي يستطيع في يومٍ واحد أن يذهب بالريح حيث يشاء و يذهب معها، فيفعل في يومٍ واحد، ما يفعله الناس في شهر، فنحن اليوم ربنا سخَّر لنا الطائرات، طريقةٌ أُخرى للتسخير، لا ينتبه لها العباد، لذلك إذا ركبنا في الطائرة نقول:

لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
(سورة الزخرف)

على الجمل كان الحج يحتاج إلى أشهُر، من المغرب العربي كانوا يبدؤوا ستة أشهُر ذهاب وستة أشهُر إياب، اليوم ست ساعات ذهاب وست ساعات إياب، فما الذي جعل الشهر ساعةً، تسخير الله تعالى لها، السفن سخَّرها الله تعالى في البحر.

وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
(سورة الرحمن)

الجِمال

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
(سورة النحل)

فكل عصرٍ له تسخير، سيدنا سليمان كانت الريح مُسخَّرةً له من غير طائرات، البعض يصفوا بساط الريح والله أعلم، لم يذكر الله تعالى كيف، لكن سيدنا سليمان كان يركب الريح، فيذهب ويعود ويجوب الدنيا في يومٍ واحدٍ، بما يحتاج شهراً كاملاً، فينام في مكانٍ ويصحو في آخر، هكذا سخَّر الله تعالى له الريح، (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) نبع نحاس، القِطر هو معدن النحاس، ذو القرنين أفرغ على السدَّين قِطرَ، نحاسٌ مذاب انصهر وأصبح قوياً متيناً، (وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) مثل عين الماء تنبُع ماءً، النحاس بين يديه، داوود الحديد وسليمان النحاس (وَمِنَ الْجِنِّ) أيضاً من التسخير أنه سخَّر له الجنّ، (مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا) بطاعة سليمان، لأنَّ الله أمرهم بطاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) يزِغ أي يميل، ومن يمِل منهم عن أمرنا، ولو بقدرٍ بسيط.

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(سورة سبأ)

المِحراب على وزن مِفعال، المِحراب في الصلاة مكان العبادة

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
(سورة آل عمران)

سُمّيَّ مِحراباً من الحرب، ومِحراب الصلاة يُحارَب به الشيطان، فإذا وقفت بين يدي الله، فإنما أنت في معركةٍ مع الشيطان، والدليل أنك تستجمِع جهدك لتدخل في الصلاة، ثم تستجمِع جهدك لكي لا يُخرجك الشيطان من الصلاة، بأفكار وأشياء، للعوام كلمةٌ يقولون إذا فُقدت لك حاجةٌ فصلِّ تجدها، ولو قال تعالى: الذين هُم في صلاتهم ساهون لهلكنا، ولكنه قال عن صلاتهم

الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
(سورة الماعون)

فإذا أدّى الإنسان واجب العبودية، وجاءه الشيطان فدافعه فهو في خير، لكن لنحاول جهدنا الخشوع بقدر الإمكان، فالمِحراب يُحارَب به الشيطان، وقد يُطلق المِحراب على القصر أو القلعة لأنه تقي من الأعداء، فأصل المعنى من الحرب، من الحِراب.
(وَتَمَاثِيلَ) التماثيل هي الشيء الذي يكون على هيئة شيء، لكنه ليس ذلك الشيء، مثلاً: الطير موجود يطير، التمثال هو طير لكنه ليس طيراً حقيقياً، هو تمثال، والتماثيل في شرعنا مُحرَّمة، لأنها اتُخذت وسيلةً وذريعةً للعبادة من دون الله، فحرَّمها المولى جلَّ جلاله، لكن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، إلا أن يوافق شرعنا طبعاً.
(وَجِفَانٍ) الجِفن: هو القِدر الذي يصنع فيه الطعام، (كَالْجَوَابِ) الجواب جمع جابية، وهي حوض الماء الكبير، الحوض كبير أمّا الجفنة صغيرة، لكن أصبحت الجفنة كحوض الماء الكبير، يصنعونها له لصنع الطعام، وإطعام الناس، (وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ) القِدر هو ما يطبخ به، راسيات يعني ثابتات، أي لا يمكن تحريكها من عظم حجمها، فمكانها ثابت، توقد النار تحتها، فيُجعل الطعام في أوانٍ صغيرةٍ منها، لكنها تبقى مكانها.

الكلمة المفصلية في سورة سبأ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا:
الكلمة المفصلية في كل سورة سبأ هي هذه الجملة (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ) داوود وسليمان، هذا فضل الله، فما ردُّ فعل العبد عليه؟ (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ) أي اجعلوا عملكم شكراً لله على ما أنعم به، وهبك العين فاستخدمها في طاعة الله، وهبك المال فأنفق منه على عباد الله، وهبك الأُذُن فلا تسمع بها إلا ما يُرضي الله، وهبك اليد فلا تبطش بها إلا في طاعة الله، وهبك القدَم فلا تمشي بها إلا إلى المساجد ودور العِلم والخير والبركة.
(اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ) هذه الكلمة المفتاحية في السورة، وتوسطت بين الشاكرين، وبين ما سيأتي من سبأ مَن كفروا الله تعالى رغم نِعمه عليهم، فليختَر الإنسان لنفسه، (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سيدنا عمر كان يطوف البيت فسمع رجُلاً يقول: " اللهم اجعلني من القليل، فقال له: ما دعاؤك، أي ما هذا الدعاء؟ قال: أما سمعت قوله تعالى (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وأنا أُحب أن أكون من القليل، فقال سيدنا عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر" تواضعاً منه رضي الله عنه، فالقليل دائماً مميز، والكثير

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
(سورة البقرة )

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)
(سورة يوسف )

إلى آخر الآيات... فالكثرة لم تُمدح في القرآن

ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14)
(سورة الواقعة)

أمّا الكثرة دائماً شيءٌ غير مميز، (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين، من القليل، والشكور اسم مُبالغة من الشاكر، فقد تجد شاكراً لكن قلَّ أن تجد شكوراً، الشكور: الذي تعظُم عنده النعمةُ مهما دقت، أي لا يقول ما هذا؟ فهو شكور (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) والحمد لله ربِّ العالمين