حوار بين أهل الكفر يوم القيامة
حوار بين أهل الكفر يوم القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين. |
اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا عِلماً وعملاً مُتقبّلاً يا ربَّ العالمين. |
اللهم فرجك ونصرك لأهلنا في غزَّة يا أرحم الراحمين. |
وبعد أيُّها الإخوة الأحباب: فما زلنا نتدبر معاً سورة سبأ، وقد وصلنا إلى الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى: |
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)(سورة سبأ)
إنكار الكفار للقرآن وما سبقه من الكتب السماوية:
أي ولا بالتوراة ولا بالإنجيل، (وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ولا بما سبقه من الكتب، طبعاً الإنسان في إنكاره يتدرَّج في مراحل، هُم في آياتٍ أُخرى: |
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)(سورة الزخرف)
يعني مشكلتنا ليست في القرآن في المضمون، وإنما أنه أُنزِل على رجُلٍ لا نعدُّه من عُظماء القوم، فلو أُنزِل على غيره لاتبعناه، وهذا ديدن المُنكرين، يحاول المُنكِر دائماً الهارب من الحقّ، الذي يحاول أن يُبرِّر إجرامه، يحاول دائماً أن يتملَّص بطرقٍ مختلفة، والقرآن الكريم فضح هذه الطرق جميعها، هنا أعربوا عن الأمر بشكلٍ واضح، (لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ) لماذا لن نؤمن بهذا القرآن؟ لأنَّ القرآن منهج الله، و منهج الله يُحدِّد تصرفات الإنسان، الإنسان من غير منهج يتحرك ثلاثمائة وستون درجة، يأكل ما يحلو له، ويترك ما لا يحلو له، يجلس مع امرأةٍ تحلُّ له أو لا تحلُّ له، يشرب الحلال أو الحرام، يُجرِم ويقتل أو يترك، الإنسان بلا منهج حركته واسعة، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: |
{ الإيمانُ قيَّدَ الفتكَ لا يفتِكُ مؤمنٌ }
(صحيح أبو داوود)
الإيمان قيد، أنا ما الذي يمنعني الآن أن أُرابي؟ الإيمان، ما الذي يمنعني أن أشرب شيئاً لا يُحلِّه الله؟ الإيمان، ما الذي يمنعني أن أجلس مع امرأةٍ لا تحلُّ لي جلسةً لا تنبغي؟ الإيمان، فالإيمان يُقيِّد، فلمّا جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال الذين كفروا لست مرسلاً. |
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)(سورة الرعد)
إنكار المنهج سببه أن المنهج يقيِّد الحرية الغير منضبطة:
أول حالة هي الإنكار، إنكار الرسالة، فلمّا عرض عليهم مضمونها (لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ) ما سبب الإنكار؟ لأنه يريد أن يبقى مع شهواته ومصالحه، يريد أن يستعبد الناس، يريد أن تبقى له القوة في الأرض، لا يريد أن يحدَّ منهجه شيء، أو أن يحدَّ حركته شيء، فإنكار المنهج سببه أن المنهج يُقيِّد الحركة، والإنسان بطبيعته يريد ما يُسمّيها حريته، وهي في الحقيقة ليست حريةً، لأنَّ الحرية غير المنضبطة لا تُسمّى حرية، فهم عندما يقولون حرية المرأة، هم في حقيقة الأمر يتحدثون عن حرية الوصول إلى المرأة وليس عن المرأة، بل عن حريته هو في الوصول إليها، فالحرية ليست أن تفعل ما يحلو لك، ولكن الحرية أن تتقيد بمنهجٍ تنتصر فيه على نفسك، فإذا كان الإنسان عبداً لنفسه فهو ليس حُرّاً، يعني قالوا الإنسان حُرّ، ما الذي يستعبده اليوم؟ القروض البنكية، وشهوة النساء، وشهوة الخمر، وعطلة نهاية الأسبوع التي يريد أن يقضيها كما يريد، فالحرية هي التخلص من عبوديتك لشهوتك فتصبح حُرّاً، وليست الحرية أن تفعل ما يحلو لك فتستعبدك نفسك، هذا مفهوم الحرية في الإسلام وليس في الطرف الآخر. |
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) كما تعلمون (لو) حرف شرط ويحتاج جواباً، يعني لو جئتني لأكرمتك، لو أخذت الدواء لشفاك الله، (فلو) يحتاج جواباً أين جوابه هنا؟ قال: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) أين الجواب؟ لم يُعطِ الجواب تخويفاً، وتهويلاً، وتعظيماً لحالهم، مثل رجُل رجع من عمله والطريق مزدحم جداً، فقالت له زوجته: لقد تأخرت، فقال لها: لو رأيتِ ازدحام الطريق، يعني لرأيتِ عجباً، لما سألتِني هذا السؤال، فيُحذف الجواب للتهويل والتعظيم، (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) ماذا كنت رأيت؟ رأيت ذِلةً بعد أن ظهروا في الدنيا وكأنهم أعزاء، رأيت صَغاراً بعد أن ظهروا في الدنيا وكأنهم كُبراء، رأيت عِقاباً بعد أن ظنَّ الناس في الدنيا أنهم افلتوا من العِقاب (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ)، لو تراهم لرأيت عجباً، لما عرفت أنهم هؤلاء، أنت الذي كنت تقول أنا أحكم الدنيا، أنت الذي كنت تقول أنا أفعل ما أشاء، أنت الذي كنت تقول أنا وبعدي الطوفان، من أنت؟ لرأيت عجباً، (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ). |
(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ) يعني كل طرف يُحيل القول إلى الطرف الآخر( يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ) يعني كل طرف يُلقي اللوم على الآخر، كل طرف يسأل الطرف الآخر يريد أن يسمع منه، هذا حِجاج أهل النار، حديثهم وهم موقوفون عند ربهم. |
الاستضعاف نوعان:
(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) بدأ الله تعالى بالمستضعفين، وبدأ بكلامهم لأهمية ما هم عليه، (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الاستضعاف نوعان، استضعاف بمعنى أن جهةً قويةً تمنعك من أداء دينك، واستضعاف بمعنى أن شهوات عظيمةً حولك تمنعك من أداء دينك، كيف؟ ربنا عزَّ وجل لمّا ذَكر المهاجرين |
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)(سورة النساء)
كيف يُستضعف الإنسان؟ الحالة الأولى كما كان يحدث في مكة، يُعرِّضونه لعذابٍ شديد حتى يترك دينه، مُستضعف وهم مُستكبرون، الحالة الثانية يُستضعف الإنسان إذا أوجد نفسه في بيئةٍ متفلِّتة إلى حدٍّ غير طبيعي، وهو بينهم ملتزم، فهو يقول لك: لا أقوى والله على الاستقامة لأنه حولي عشر موظفات وكل موظفة بأبهى زينتها، كل أصدقائي مُرابين، إذا جلست في سهرةٍ كل الحديث عن النساء، فأنا مُستضعف، طبعاً مُستضعف لأنك لم تحط نفسك بجوٍ إيماني، فيُستضعف الإنسان عندما يضع نفسه في جوٍ لا يُعينه على الإيمان، ويُستضعف عندما يكون هو ضعيفاً وفوقه أقوياء، والحالتان فيهما استضعاف، لذلك (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) يعني لا تجلس بمكانٍ لا تستطيع أن تعبد الله فيه، لا تسهر سهرةً تُقرِّبك من الإثم، اجلس سهرة إيمانية، اجلس مع قوم صالحين يُقربونك إلى الله، ولا تجلس مع أشخاص يصرفونك عن الله تعالى. |
(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) هذه حالة بعمق النفس الإنسانية، الإنسان دائماً لا يعترف بخطئه، تحدثنا عن ذلك سابقاً، الإنسان دائماً يحاول أن يُلقي باللوم على طرفٍ آخر ويُبرِّئ نفسه، بشكلٍ عام، وقلت لكم سابقاً إذا إنسان وصل لمرحلة أنه لا بُدَّ من أن يعترف بخطئه فإنه يقول لك والله أنا ربما أخطأت صحيح، ربما أولكن، وبعد لكن سيُلغي أنه أخطأ، يعني سيضع عذراً يُعفيه من الخطأ، هذه حالة البشر لا يعترفون بخطئهم، وكنت أقول دائماً إذا جلست مع إنسانٍ كهذا فحاول جهدك أن تضع له مخرجاً، يعني هناك أُناس يقول لك: ضيِّقت عليه، ما تركت له مخرجاً! ليس هذا من أخلاق المؤمن، بالعكس أنت اجعل له مخرجاً يخرج منه دون أن يعترف بخطئه، مع ابنك، مع شريكك، مع أحد، لا مانع. |
(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أنتم استضعفتمونا ،أنتم وضعتمونا في مواطن الشُبهات، أنتم الذين أبعدتمونا عن عبادة الله، أنتم الذين كنتم تعاقبوننا على عبادة الله إلى آخره (لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ). |
الإنسان مُخيَّر وهو مسؤولٌ عن عمله:
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ(32)(سورة سبأ)
استفهام إنكاري، نحن ما صددناكم عن الهدى، أنتم الذين انصرفتم عن الهدى، نحن ربما قلنا لكم لا تهتدوا، نحن ربما قسونا عليكم شيئاً، نحن ربما كنّا في مجتمعٍ مُتفلِّت، لكن نحن ما صددناكم أنتم الذين صددتم أنفسكم، (بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) لا تقولوا لكُنّا مؤمنين، لولا أنَّ في داخلكم رغبةً في الإجرام، وأعظم الجُرم هو أن تُشرك بالله شيئاً وهو خلقك، ويصل إلى الإجرام مع الناس وظلم الناس، فقالوا: (بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) يعني إجرامكم هو الذي قادكم إلى ذلك، والحقيقة أنَّ قول هؤلاء المُستكبرين وإن كانوا مستكبرين فيه شيءٌ من الصحة، بمعنى أنَّ الإنسان في النتيجة مسؤولٌ عن عمله، فأنت مُخيَّر |
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)(سورة الإنسان)
لو أنَّ الله أجبر عباده على الطاعة لبَطَل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبَطَل العقاب، وقد وَرَد عن سيدنا علي رضي الله عنه، قال: " إن الله أمر عباده تخييراً، افعل أو لا تفعل، ونهاهم تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، وكلَّف يسيراً ولم يُكلِّف عسيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يُطع مُكرهاً " لا أحد يعصي ربنا جلَّ جلاله يغلبه، حاشاه جلَّ جلاله، ولا يُطيعه إكراهاً، فالأصل في الإنسان أنه مُخيَّر، فقولهم: (بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) فيه شيءٌ من الصحة، بمعنى أنكم أنتم الذين كنتم تريدون الضلال، نحن فقط فتحنا لكم طريقه، لكن لو لم يكن في داخلكم شيءٌ تندفعون به إلى الضلال لمَا ضَللتم، طبعاً والواقع يؤكد ذلك، لأنه كان في مكّة المشركون وكان هناك المؤمنون، ولمّا جاء الحقّ هناك من اهتدى وهناك من أعرض، إذاً الإنسان مُخيَّر. |
سيدنا بلال رضي الله عنه كانت توضع الصخور فوقه، أي استضعاف أعظم من هذا الاستضعاف؟! وهو يقول: أحدٌ أحد، فهل صدوه عن دين الله؟ لا، وعمار بن ياسر وآل ياسر كان النبي صلى الله عليه وسلم يمُرّ بهم فيقول: |
{ صبرًا آل ياسرٍ، فإنَّ موعدَكم الجنةُ. }
(أخرجه الطبراني)
فما حصل شيء وما صُدوا عن سبيل الله، إذاً الإنسان هو صاحب القرار، في أن يهتدي أو أن لا يهتدي، وهو المسؤول عن عمله إن خيراً فخير، وإن شرَّاً فشرّ. |
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)(سورة سبأ)
يعني أنتم كنتم تمكرون بنا ليلاً ونهاراً، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) بل حرف إضراب، يعني كلامكم ليس صحيحاً نحن أجرمنا بسببكم، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) بسبب ما كنتم تمكرون ليلاً ونهاراً وصلنا إلى ما وصلنا إليه. |
(إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا) والندّ هو الشريك المساوي، ومن جعل لله تعالى ندّاً فقد أخطأ خطأً عظيماً، وأعظم ذنب أن يُشرِك الإنسان بربه شيئاً، بل إنَّ الذنب الذي لا يغفره المولى جلَّ جلاله هو الشرك. |
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا(48)(سورة النساء)
أنت متوجه بقطارٍ من وسط المملكة إلى جنوبها، وهناك أخطاءً يمكن أن ترتكبها في طريقك، سأضرب أمثلةً: أنت متعب وحجزت تذكرةً عادية، تفاجأت أنه كان ممكن وأنت تملك المال أن تدفع مزيداً من المال فتأخذ التذكرة في الدرجة الأولى، الكرسي عريض وتستطيع أن تستلقي فيه، هذا خطأ، لكن القطار متوجهٌ إلى بغيتك، وهناك خطأٌ ثانٍ، ركبت في عربة فيها أولاد، فالأولاد ملأوا الطريق صياحاً، وأنت تريد أن تنام قليلاً أو أن تغفو فما استطعت، هذا خطأ، وهناك خطأٌ ثالث، أنت جائع ولم تكتشف أنه يوجد مقصورة للطعام، كان بإمكانك أن تدخل وتأكل، هذه كلها أخطاء، لكن القطار متوجهٌ إلى جنوب المملكة، لكن ما هو الخطأ الذي لا يغتفر؟ أن تركب القطار المتجه إلى شمال المملكة، من الوسط إلى الشمال، لأنك لن تصل إلى بغيتك، الشرك هو هذا الخطأ، فالله تعالى لا نقول إنَّ رحمته قصرت أن يغفر للمشرك، حاشاه، فرحمته وسعت كل شيء، ولكن المشرك توجه إلى غير الله، أي ذهب في الاتجاه المعاكس، لذلك لن يجد شيئاً، لو أنه توجه إلى الله وهو يحمل الذنوب لغفرها له الله، لذلك قال تعالى في الحديث القدسي: |
{ قالَ اللَّهُ تبارَكَ وتعالى يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً }
(أخرجه الترمذي وأحمد)
لأن التوجه صحيح، فالأخطاء الصغيرة مغتفرة ما دمت متوجهاً إلى الله، لكن المشرك توجه إلى غير الله فلن يجد شيئاً. |
أعظم ندامة يندمها الإنسان عندما يخسر الأبد:
( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ۚ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أعظم ندامة يندمها الإنسان على الإطلاق، ليس إذا خسر بعض ماله، ولا إذا فاته امتحانٌ مصيري، ولا إذا فاته منصبٌ ترشح له ثم لم ينجح، هذه كلها ندامات سهلة، لكن أعظم ندامة يندمها الإنسان عندما يخسر الأبد، يجد أنه ضحَّى ستّين أو سبعين سنة، وخسر الأبد، في نارٍ لا ينفد عذابها، (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) عندما شاهدوا العذاب بأُم أعينهم، وقلت لكم سابقاً، إن الإيمان بالغيب هو ديدن المؤمن، فالمؤمن لا ينتظر حتى يرى العذاب بعينيه، وإنما يراه وهو في الدنيا، بعقله وبوحي الله تعالى له، يدرك أن هناك عذاباً، فيتقي هذا العذاب، أسوأ الناس طلاب في الصف، هناك طالبٌ يعلم أن المُدرِّس سيعاقِب، فلا يأتي شيئاً يعاقِب عليه المُدرِّس، هذا أعقل واحد، والثاني إذا وصل إلى العقوبة استغفر واعتذر فنجا منها، لكن أعقل من الاثنين هو الذي لا يضع نفسه في موضعٍ يعاقَب عليه، لا يصل بنفسه لرؤية العذاب، يؤمن بالغيب، أي يصل إلى الشيء بعقله قبل أن يصل إليه بجسده. |
ابن المقفع ترجم كتاب كليلة ودمنة، وهو كتابٌ لفيلسوفٍ هندي، ترجم كتابه ابن المقفع، وهذا الكتاب فيه قصص حيوانات أجلَّكم الله، تجري بينهم أحداث فيها عِبر، فيرويها ابن المقفع بكليلة ودمنة، فمن ضمن القصص قصة مفيدة في هذا الموقف، قال: كان هناك غدير أي نهر وفيه ثلاث سمكات، سمكةٌ كيّسة أي عاقلة، وسمكةٌ أكيس منها أي أعقل منها، وسمكةٌ عاجزة، جاء صيدان وتواعدا أن يأتيا في اليوم التالي للصيد من هذا الغدير، فسمعت السمكات الثلاث هذه المواعدة، فقالت أكيس واحدةٍ منهنَ: العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، فقفزت وحاولت حتى قفزت من البركة إلى الغدير ونجت بنفسها، هربت من الموقع كله، وقالت الأقل عقلاً: لعلهما لا يأتيان وإن أتيا نبحث عن مخرج، فجاء الصيادان، العاقلة هربت، وبقيت الاثنتان، العاقلة والعاجزة، العاقلة رفعها وصاداها فقالت: إنَّ العاقل لا يعدم حيلةً، فجعلت تتماوت فتركاها فقفزت في الغدير فنجت، وبقيت العاجزة فلم تزل في أخذٍ وردّ حتى صيدت فماتت فأُكِلت. |
فالعاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، والأقل عقلاً يستدرك نفسه، والعاجز هو الذي يبقى على وضعه حتى يأتي العذاب فلا ينجُ منه، فهؤلاء الكفار والمشركون هم من الغباء بمكان، فلمّا رأوا العذاب أسرّوا الندامة، (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) لكن فات الأوان، (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي القيود، وهذا منتهى الذل، (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) هذا استفهام تقريري، أي لا يُجزون إلا ما عملوا، هذا جزاء أعمالهم. |
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34)(سورة سبأ)
هذه الآية تشير إلى معنىً مهم، وهو الترف، والترف لم يرِد في القرآن الكريم إلا مذموماً، لم يرِد الترف محموداً، والترف شيء والغنى شيءٌ آخر، الغنى محمود، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "يا حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي" المال شيءٌ مطلوب، والفقر في الإسلام بالمقابل ليس مطلوباً، لكن لو افتقر الإنسان يتجمَّل بالصبر، لكن لا يطلب إليه أن يسعى إلى الفقر، بل على العكس |
{ المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ }
(أخرجه مسلم)
ومن أحد أسباب القوة، قوة المال، فالمؤمن مطلوبٌ منه أن يسعى في الأرض، مطلوبٌ منه أن يدفع الزكاة، قال تعالى: |
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)(سورة المؤمنون)
الشعراوي له قولٌ جميلٌ جداً، قال: للزكاة فاعلون، ليس دافعون فقط بل فاعلون، أي يسعون ليصلوا إلى مرحلةٍ يدفعون فيها زكاة أموالهم، يقول لك أنا متى سيُصبح معي نِصاب، قد يحدث وقد لا يحدث، وهو راضٍ، لكن هو يتمنى أن يملِك النِصاب حتى يتصدق، حتى يؤدي هذه الفريضة، فالفقر ليس مطلوباً، والغنى محمود في طاعة الله، لكن الترف مذموم، والترف مربوط دائماً بالكفر، والترف يعني أن يستهدف الإنسان اللذَّة بذاتها، يعني أن تصبح الدنيا أكبر همّه، أن يريد اللذَّة للذّة وليس يريد اللذَّة لهدفٍ أعمق من ذلك، أصبحت اللذَّة غايته فأصبحت الدنيا أكبر همّه، فالترف مذموم لأنه يجعل الإنسان يُعرِض عن الله تعالى، لأنه: |
مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ۚ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ۚ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ۖ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)(سورة الأحزاب)
الدنيا همٌّ من الهموم لكن أكبر الهم الآخرة:
فالإنسان إذا ملأ قلبه من الدنيا، لم يبقَ مكانٌ للآخرة، أما إذا كانت الدنيا في يده فقلبه مفتوحٌ لآخرة، المترفون أصبحت الدنيا في قلوبهم، هدفاً يعيشون من أجلها، قد يقتلون من أجلها، وقد يسرقون من أجلها، فالترف مذموم لأنه يجعل الدنيا في قلبك لا في يدك، فنحن نعمل في الدنيا ولا نعمل لها، ونملكها ولا تملكنا، ونعيش فيها ولا نعيش لها، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: |
{ اللهمَّ اقسِمْ لنا من خَشيتِك ما يحولُ بيننا وبين معاصِيك، ومن طاعتك وما تُبَلِّغُنا به جنَّتَك، ومن اليقينِ ما يُهوِّنُ علينا مُصيباتِ الدُّنيا، ومَتِّعْنا بأسماعِنا وأبصارِنا وقوَّتِنا ما أحيَيتَنا، واجعلْه الوارثَ منا، واجعلْ ثأْرَنا على مَن ظلمَنا، وانصُرْنا على من عادانا، ولا تجعلْ مُصيبتَنا في دِينِنا، ولا تجعلِ الدُّنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبلغَ عِلمِنا ، ولا تُسلِّطْ علينا من لا يَرحمُنا }
(الألباني صحيح الجامع)
هي همٌّ من الهموم، ولكنها ليست أكبر الهم، أكبر الهم الآخرة، والدنيا هم، ( ولا مَبلغَ عِلمِنا ) فالدنيا عِلم، فيها علومٌ كثيرة مطلوبة، ولكن ليست مبلغ العِلم، إذا إنسان بلغ أعلى شهادة في الفيزياء النووية، وهو غير موحد، فما تعلم أهم عِلم، فجعل الدنيا مبلغ علمه، هناك عِلمٌ أهم من كل الدنيا، وهو أن تعرف الله، وأن تطيعه، (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ) لأن الإيمان بما أُرسلتم به سيحول بينهم وبين متعهم، كما قلنا في البداية، سيُنكِرون لأنهم إذا آمنوا فإن هذا الإيمان سيحول بينهم وبين ملذاتهم. |
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)(سورة سبأ)
هم ظنّوا أنَّ أموالهم وأولادهم (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) |
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)(سورة الكهف)
ودائماً ربنا يقدِّم الأموال على الأولاد في معظم القرآن الكريم، لأنَّ الولد من غير مال يصبح عبء، أمّا إذا المال سبق الولد، فالمال هو المتعة الأولى، رغم أنَّ الولد لا شك هو نعمةٌ يطلبها الإنسان ولو كان فقيراً، نعمة الولد نعمةٌ كبيرة، إذا إنسان الله تعالى رزقه ولد فهذه نعمةٌ كبيرة من الله، لكن المال دائماً هو قِوام الحياة، فمع وجوده نعمة الولد تصبح لها وضع أفضل، يدرِّسه، يعلِّمه، يشتري له بيتاً، يزوجه، (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ظنّوا أنَّ إكرام الله تعالى لهم بالمال والولد، فهم يعترفون بربوبيته جلَّ جلاله، المشركون كانوا يعترفون بالربوبية، الله أعطانا المال وأعطانا الولد، أيُعقل أن يعطينا ثم يعذبنا؟ وهذا مدلول قوله تعالى: |
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)(سورة الفجر)
الله عزَّ وجل يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ويعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب:
أي ما دام ربّي أكرمني بالعطاء فأنه لن يعذبني، لا، الله تعالى يُعطي الدنيا لكن يعطيها ابتلاءً، فهو يعطيها في الدنيا من ربوبيته، لكن يوم القيامة لا يُعطي الآخرة إلا لمن توجه له حقاً، فالمال والولد ليسا دليل إكرام، لذلك قالوا: إن الله عزَّ وجل يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ويعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، لكنه يعطي السكينة بقدَر لأصفيائه المؤمنين، ربنا عزَّ وجل لو كانت الدنيا مقياساً، كان أعطاها فقط للمؤمنين |
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)(سورة البقرة)
سيدنا إبراهيم يريد الرزق للمؤمنين، قال له: (مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا َ) فربنا عزَّ وجل من ربوبيته أنه يرزق جميع عباده في الدنيا، فلو كانت الدنيا مقياساً، ما كان أعطاها لقارون وهو لا يحبه، وأعطاها لعثمان بن عفان وهو يحبه، لكنه أعطاها لمن يحب ولمن لا يحب، إذاً هي ليست مقياساً. |
(وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) يقدر أي يُضيِّق، طبعاً بحكمته جلَّ جلاله (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ويقدر أي يُضيِّق على عباده وليس من الاستطاعة، يقدر أي يستطيع، وهذا المعنى مهم في قوله تعالى: |
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)(سورة الأنبياء)
لمّا يونس أصبح في بطن الحوت (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ) يفهمها البعض أنَّ يونس ظنَّ أنَّ الله تعالى لا يقدر عليه، سينجو، هذه مؤمن عادي لا يتوهمها توهماً فكيف بنبي؟! (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نُضيِّق عليه بفعله هذا، نسمح له أن يترك قومه، وليس أن لن نقدِر من القدرة، وإنما من التضييق، فهنا قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وكنّا نقول دائماً لا تكن مع أكثر الناس لأنهم مذمومون في القرآن، كنّ مع الأقلية المؤمنة الناجية ولو كنت وحدك فأنت الأكثر، لكن إياك أن تتبع الأكثر |
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)(سورة يوسف)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)(سورة سبأ)
ما يُقرِّبك إلى الله هو عملك الصالح وإيمانك وتقواك:
الزُلفى هي القُربى، فأموالكم وأولادكم التي تدَّعون أنها تُعفيكم من عذاب الله، لا تُقرِّبكم من الله، ما يُقرِّبك إلى الله هو عملك الصالح، ما يُقرِّبك إلى الله هو إيمانك وتقواك. |
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا) من الذي يقترب من الله؟ (مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا)، ما يُقرِّبك إلى الله فكراً الإيمان، وسلوكاً العمل الصالح، إيمانك وعملك يُقرِّبك من الله. |
مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)(سورة فاطر)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)(سورة المجادلة)
فقربُك من الله مرتبطٌ بمدى إيمانك به، وأعمالك الصالحة التي تصلح للعرض عليه، إذا كانت خالصةً ابتغيت بها وجه الله، وصواباً ما وافق شرع الله تعالى. |
(إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ) أي يُضاعِف الله لهم الثواب، ضِعفاً، أضعافاً، إلى سبعمائة ضِعف والله أعلم. |
(فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) أي بسبب أعمالهم الصالحة، طبعاً ما قال بما آمنوا وعملوا لأن العمل هو ثمرة الإيمان، العمل الصالح ثمرة الإيمان، فدائماً يُربَط الثواب بالعمل لأنه هو الذي يترتب عليه، أمّا الإيمان السكوني الذي هو مجرد معتقدات لم تنقلب إلى عمل، لا يترتب عليه ثوابٌ ولا عِقاب، لكن هو منطلقٌ أساسي، فمن يعمل صالحاً إذاً هو مؤمنٌ حتماً، ومن آمن إيماناً حقيقياً سوف يعمل صالحاً، يعني ارتباط وجودي، لا يوجد إيمان لا ينقلك إلى عملٍ صالح، إذاً فيه خلل، ولا يوجد عملٌ صالح خالصٌ لله، وفق شرع الله، إلا ناتج عن إيمان حقيقي بالله، فقال: (فَأُولَٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)، الغُرفات جمع غرفة وهو المكان العالي الذي يُجعل فيه التكريم، حتى نحن بلغتنا العاميَّة نقول بغرفة الجلوس، أو بغرفة الضيوف في الدنيا، لكن ربنا عزَّ وجل جعل جزاء الغُرفات للمؤمنين، وهي منازل في أعالي الجنَّة، يأمن بها الإنسان، يأمن على نفسه، ويشعر بالسكينة وهو قريبٌ من ربِّه، والحمد لله ربِّ العالمين. |