ومن الناس - اللقاء الثالث - نموذج إنسان باع نفسه لله
ومن الناس - اللقاء الثالث - نموذج إنسان باع نفسه لله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، في هذه اللقاءات الطيبة نتحدث عن نماذج قرآنية، تحدثنا في اللقاء السابق عن نموذج المفسدين: |
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُۥ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ(205)(سورة البقرة)
في اللقاء الذي قبله تحدثنا عن نموذج المنافقين: |
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ(8)(سورة البقرة)
وتحدثنا عن المشركين: |
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ(165)(سورة البقرة)
تفسير العلماء لقوله تعالى (كِتَٰبًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ):
هذه نماذج قرآنية، وذكرنا أن الله تعالى لمّا قال: |
لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَٰبًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ ۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(10)(سورة الأنبياء)
فالعلماء لهم تفسيران في قوله تعالى: (كِتَٰبًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) بعض المفسرين قالوا (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي فيه علو مكانتكم وعلو شأنكم، فمن يذكر أبا بكر الصديق فيترضّى عنه إلا لأن القرآن الكريم رفعه، ومن يذكر أبا جهل فيلعنه إلا لأن القرآن الكريم قد خفض شأنه، فالقرآن يرفع الله به أقواماً، ويخفض به آخرين، فمن آمن به علا ذكره إلى يوم القيامة، ومن أعرض عنه نزل ذكره إلى يوم القيامة. |
أين كان بلال الحبشي رضي الله عنه وأرضاه وهو عبد حبشي لولا أن القرآن وإيمانه بالقرآن وإيمانه بمحمد وبالإسلام رفع ذكره، فجميعنا اليوم نقول: سيدنا بلال رضي الله عنه. |
صهيب الرومي وغيره، هذا فيه ذكركم اي فيه علو شأنكم، فنحن أمة الإسلام ما إن تمسكنا بكتاب الله تعالى رفع الله ذكرنا وما إن أعرضنا عنه خفض الله ذكرنا بين الأمم وأصبحنا أمة كأي أمة من الأمم لا شأن لها عند الله. |
القرآن الكريم يذكرنا في صفحاته
|
كَانُواْ قَلِيلًا مِّنَ ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)(سورة الذاريات)
يذكر أقواماً هذه صفتهم، ولما يقول: |
إِنَّهُمْ كَانُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)(سورة الصافات)
يذكر أقواماً هذه صفتهم، ولما يقول: |
وَءَاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(102)(سورة التوبة)
يذكر قوماً صفتهم أنهم قد خلطوا بين الأعمال الصالحة والسيئة، فالقرآن فيه ذكرنا بمعنى رفعة شأننا وفيه ذكرنا بمعنى أنه يذكرنا كنماذج بشرية، فكل واحد منا يقرأ كتاب الله يجد وصفاً له في كتاب الله، وبهذا المنطلق إذا قرأ الإنسان كتاب الله يصبح متدبراً لآيات الله، لأن التدبر في أروع معانيه، والله تعالى يقول: |
كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ(29)(سورة ص)
في أروع معانيه أن تتدبره بمعنى أن تقول أين أنا من هذه الآية؟ فإذا قرأت قوله تعالى: |
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ(12)(سورة الحجرات)
فهذا النداء لي، فهل أنا أجتنب الظن، أم أنا أُسيء الظن بالآخرين بغير قرينة؟ وإذا قرأت (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) فهل أنا أغتاب الناس، أم أنني أُمسك لساني عن ذكر عورات الناس؟ |
فلما تقرأ كتاب الله تعالى تتدبره بمعنى أنك تنظر أين أنت من هذه الآيات التي تقرؤها. |
نموذج الإنسان الذي باع نفسه لله:
اليوم النموذج البشري أيضاً في سورة البقرة، قال تعالى: |
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ(208)(سورة البقرة)
هذا نموذج صالح، النماذج السابقة التي ذكرناها نماذج سيئة من الناس: مفسد، ومشرك ومنافق، أما هذا النموذج فهو نموذج إنسان باع نفسه لله، ولسان حاله: |
قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ(162)(سورة الأنعام)
ولسان حاله : |
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ(156)(سورة البقرة)
فنحن مُلكٌ لله، ولسنا ملكاً لأنفسنا، فيفعل بنا ما شاء جل جلاله ونرضى بقضائه وقدره فقد بعنا أنفسنا لله: |
إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ ۚ يُقَٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ وَٱلْإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءَانِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِ ۚ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِى بَايَعْتُم بِهِۦ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ(111)(سورة التوبة)
البيع فيه طرفان ثمن وسلعة
|
المقابل الذي ينتظره الإنسان:
الإنسان مفطور على أن لا يقدم شيئاً بلا مقابل
|
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا(9)(سورة الإنسان)
لا نريد من البشر جزاءً، يعني أعطيك فتعطيني، ولا كلمة شكر، لا أريد أن تقول لي: شكراً، لا أريد جزاء ولا شكوراً، قال: |
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(10) فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11) وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا(12)(سورة الإنسان)
إلى أن قال: |
إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا(22)(سورة الإنسان)
هم ما طلبوا الجزاء في الدنيا ولا الشكر في الدنيا فأعطاهم الله الجزاء في الآخرة وشكر لهم سعيهم، إذاً هم لما قدموا قالوا: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ) ليس أننا لا نريد جزاء، (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا) نريد جزاء وشكوراً من الله فجاءت نهاية الآيات (إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا). |
فإذاً الإنسان بشكل طبيعي لا يقدم شيئاً إلا ويأخذ مقابلاً ولكن المؤمن لما يقدم شيئاً لله يعني أنه ينتظر موعود الله فهو أعقل العقلاء لأن عطاء البشر قليل ومنقطع، وعطاء الله كثير وغير منقطع، فإذا قال لك إنسان: تأخذ الآن مئة أم غداً ألف؟ تقول له غداً ألف، فإذا قال لك الآن مئة أم غداً مليون؟ والله أنتظر سنة وآخذ المليون، الإنسان دائماً يريد الأكثر الذي يدوم معه، فلما ربنا عز وجل يشجعه إن هذا عطاؤنا، عطاء الله مختلف عن عطاء البشر: |
إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍۢ(6)(سورة التين)
تركُ الثمن لله
|
فالمؤمن عندما يقدّم شيئاً لله لا يعني أنه يقدم بلا ثمن، مجاناً، لكنه ينتظر الموعود الأكبر، لذلك (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ). |
تفصيل في معنى (مَن يَشْرِي):
الآن سنتكلم على يشري: يشري كما قلنا يبيع أو يشتري، أما يبيع فواضحة، قدّم نفسه وأخذ الجنة، قدّم نفسه لله، يارب أنا ملك لك، أنا حياتي لله، سأنفق الزكاة سأصلي لله سأطعم لله سأحج لله سأربي أولادي على منهج الله سأجتنب المعاصي لله، يعني يبيع نفسه لله وبالمقابل يوجد جنة، هذا واضح. |
يشتري نفسه أي يخلّصلها من الشهوات ومن ما لا ترضي الله
|
المؤمن أعلى قصده هو الله تعالى:
لا يوجد عمل بلا قصد
|
{ إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا، سحقا، لمن غير بعدي }
(رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد)
فإذاً ما كل إنسان له شفاعة عند الله، فإذاً القصد بالموضوع أن كل السلوكات التي يقوم بها الإنسان تنبع عن تصورات سابقة ولها قصد، يقصد بها شيئاً، فالله تعالى هنا قال: (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ) لماذا باع نفسه لله؟ قال: (ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ) قصده هو الله، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي. |
الآخرون لهم قصد آخر، يكون قصده إرضاء الأقوياء، إرضاء الأغنياء، يكون قصده تحصيل أكبر ثروة، منافسة الآخرين في ثرواتهم، ممكن، له قصد، أما المؤمن فقصده وأعلى قصده هو الله تعالى. |
(وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ) هنا ما معنى (وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ) لماذا جاء هنا هذا التذييل (وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ) لأن الله تعالى لا يحمل إنساناً فوق طاقته، يعني صهيب الرومي باع نفسه لله، ترك كل ماله، نحن الآن مجموعة، من منّا وقع في موقف اضطُرّ أن يتخلى عن كل ماله لينجو بنفسه؟ ولا أحد، سيدنا إبراهيم طُلب منه أن يذبح ابنه، نبي: |
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ{ المتنبي }
وأشد الناس بلاء الأنبياء، من منا تعرض في حياته لامتحان أن يذبح ابنه؟ والله لا يستطيعها إنسان، ماشطة بنت فرعون تعرضت لامتحان قاسٍ جداً، النبي صلى الله عليه وسلم شم رائحتها رائحة مسك في الإسراء والمعراج لم يشم مثلها قط، قال رائحة من هذه؟ قال رائحة ماشطة بنت فرعون ، قتل أولادها أمامها وهي تقول ربي وربك الله. |
{ مرَرْتُ ليلةَ أُسْريَ بي برائحةٍ طيِّبةٍ، فقُلتُ: ما هذه الرائحةُ يا جِبريلُ؟! قال: هذه ماشطةُ بنتِ فِرعَونَ، كانت تُمَشِّطُها، فوقَعَ المُشطُ من يَدِها، قالت: بسمِ اللهِ، قالت ابنةُ فِرعَونَ: أبي؟ قالت: ربِّي وربُّ أبيكِ، قالت: أقولُ له إذنْ! قالت: قولي له، قال لها: أولكِ ربٌّ غَيْري؟ قالت: ربِّي وربُكَّ الذي في السماءِ، قال: فأَحْمى لها بَقرةً من نُحاسٍ، فقالت: إنَّ لي إليكَ حاجةً، قال: وما حاجتُكِ؟ قالتْ: أنْ تجمَعَ عِظامي وعِظامَ وَلَدي، قال: ذلك لكِ علينا، لمَا لكِ علينا منَ الحقِّ، فأَلْقى ولَدَها في البَقرةِ واحدًا واحدًا، فكان آخِرَهم صبيٌّ، فقال: يا أُمَّهْ! اصْبِري، فإنَّكِ على الحقِّ. }
(أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عباس)
الصبر على الابتلاء:
يُنزّل الله تعالى من الصبر على قدر البلاء
|
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شقٍ كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع{ خبيب الأنصاري }
شلوٍ: أي عضوٍ، ودعا على قريش دعا عليهم ثم قال: اللهم أقرئ نبيك مني السلام وبلغه الغداة ما يُصنع بنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فقال: وعليك السلام يا خُبيب – دون جهاز خليوي، لا يوجد آيفون- وعليك السلام يا خبيب، قتلته قريش. |
{ بعث النبي ﷺ سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيٍ من هذيل يُقال لهم: بنو لحيان، فتبعوهم بقريبٍ من مائة رامٍ، واقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمرٍ تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم، حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد، وجاء القوم، فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً؟ فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفرٍ بالنبل، وبقي خبيب، وزيد، ورجلٌ آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلو أوتار قسيهم، فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث -أي المسلم الذي كان معهما-: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجروه على أن يصحبهم، فلم يفعل فقتلوه. وانطلقوا بـ "خبيب وزيد" حتى باعوهما بـ "مكة"، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً، حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها، فأعارته، قال: فغفلت عن صبيٍ لها فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأته فزعتُ منه وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله؟ وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـ "مكة" يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثقٌ في الحديد، وما كان إلا رزقٌ رزقه الله. فخرجوا به إلى الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: "لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت".فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو، ثم قال: "اللهم أحصهم عددا". }
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شقٍ كان لله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
{ ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريشٌ إلى عاصم ليأتوا بشيءٍ من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. }
صحيح البخاري عن أبي هريرة
{ الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ. }
(صحيح مسلم عن أبي هريرة)
اليوم ممكن إنسان يطلب بهذه اللحظة فرضاً، يتصل بالهاتف ويقول سيقتلونني، لم تعد معجزة، اليوم نحن أقدر على تصديق المعجزات من أي وقت مضى، اليوم ليس بين مكة والمدينة، اليوم تخبره بما يحدث معك باللحظة بالصوت والصورة وهو بالقطب الشمالي، تنقل له نقلاً مباشراً ما الذي يحدث، فالخالق العظيم الذي هيأ لنا أسباباً لنصل إلى هذه المرحلة هو أقدر جل جلاله على صنع معجزة في وقت لا توجد فيه الأسباب ولكن يوجد مسبب الأسباب جل جلاله، فقيل نزلت في خبيب فخُبيب تعرّض لابتلاءٍ، فالله تعالى ذيّل الآية ب(وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ) يعني ليس كل إنسان سيتعرض لما تعرض له خبيب. |
يُبتلى الرجل على قدر دينه
|
{ إن لمْ تكنْ غضبانًا عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لي }
(أخرجه الطبراني)
يعني إن كان ما حصل معي في الطائف تعبيراً عن غضبك علي فهذه مصيبة، أما إن كان ابتلاء تريد أن ترفع به الدرجات فلا أبالي، لأن الدنيا زائلة، قال: (غيرَ أنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لي) فأدب المؤمن مع الله يسأل الله العافية، لكن يوطن نفسه أن الدنيا فيها ابتلاءات، فيوطن نفسه أن إذا ابتلي بالرخاء شكر وإذا ابتُلي بالشر صبر: |
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)(سورة الأنبياء)
فلما ذيّل الله تعالى الآية بقوله(وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ) كأنه يطمئنك أن رأفته جل جلاله -هو من أسمائه الرؤوف- تقتضي أنه جل جلاله يعلم السر وأخفى فلا يحملك ما لا تطيق وإنما امتحانات على قدرك وقدر زمانك وظروفك ووضعك فهو أعلم تعالى بعباده وبنفوسهم من كل البشر. |
هذا نموذج (مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ رَءُوفٌۢ بِٱلْعِبَادِ). |