تأملات في سورة الإنسان

  • تدبر القرآن الكريم
  • 2023-01-30

تأملات في سورة الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أيها الإخوة الأحباب؛ لقاؤنا اليوم على مائدة القرآن وكل اللقاءات على مائدة الرحمن و مائدة القرآن، وهذا اللقاء موضوعه سورة قرآنية كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرؤها فجر الجمعة هي وسورة السجدة، هذه السورة هي سورة الإنسان، وقد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ فجر الجمعة بسورة السجدة وسورة الإنسان، والقاسم المشترك بين هاتين السورتين أن كلّاً منهما ذكرت المبدأ والمصير؛ بداية الخلق ومصير الإنسان وما عند الله تعالى من ثواب وعقاب، وكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يريد أن يذكّر أصحابه كل جمعة بمبدأ خَلْقهم ومرجعهم إلى ربهم -جلَّ جلاله-.

الموضوع الرئيسي لسورة الإنسان:
لا بد أن يسأل الإنسان نفسه دائماً
سورة الإنسان من السور المدنية التي نزلت بعد الهجرة، وموضوعها الرئيسي كما قلنا: تذكير الإنسان بأصل خلقه وبمصيره؛ لأن الإنسان إذا عرف من أين، وإلى أين نجا وأفلح، أما الذي يجهل تاريخه أو يجهل مستقبله، اليوم في حياتنا اليومية تقول للناس: ينبغي أن نقرأ التاريخ، تعرف من أجدادك، من أجدادك؟ من أنت؟ ما القيم التي نشأت عليها؟ التاريخ، ثم ينبغي أن تستشرف المستقبل هذا ضمن النطاق الضيق، ضمن النطاق الواسع الإنسان له مبدأ وله ختام في الحياة الدنيا، فهذه الرحلة لا بد أن يسأل دائماً نفسه من أين جئت؟ وإلى أين المصير؟ وإلا أصبح كحالة هؤلاء الذين يسمون أنفسهم اليوم (اللاأدريين)؛ يعني الذين لا يدرون، ومنهم ذاك الشاعر الذي يقول:
جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
{ إيليا ابو ماضي }
لَستُ أدري، كل كلمتين يقول لك: لَستُ أدري، أما المؤمن فيدري، يدري من أين جاء، وإلى أين مصيره، وبناء على ذلك تستقيم حياته.

نعمة الإيجاد:
هذه السورة تبدأ بمبدأ الإنسان فيقول تعالى:

هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ حِينٞ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا ﴿1﴾

نعمة الإيجاد من أعظم نِعم الله تعالى
نعم أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، الآن لو قلت:" 1920"، كلنا لم نكن شيئاً مذكوراً 1920، ما كان هناك أحد كلنا، والآن إذا قلت:" 2900 “، كلنا لن نكون شيئاً مذكوراً، هذا حال الدنيا جيل يعقب جيلاً، أحياناً الإنسان يفتح كتاباً يتصفحه؛ كتاب قديم من مكتبته فيفتح الصفحة الأولى فيقول: طُبع في مطبعة بولاق مصر عام 1930، هو مواليده 1940 عندما كانت حروف هذا الكتاب تنضد أين كنت أنا؟ لم أكن شيئاً مذكوراً، فالإنسان في لحظة معينة كان لا شيء-لا شيء يذكر-لا يذكره أحد، لا يقال: فلان بن فلان، ولا معه الشهادة الفلانية ولا مركزه الفلاني، فيعلم الإنسان أنه كان لا شيئاً وأصبح شيئاً، وهذه من أعظم نِعم الله تعالى عليه؛ نعمة الإيجاد وهي أول النعم أنه -جلَّ جلاله-أوجدك من العدم.

قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11)
(سورة غافر)

الموت الأول هو موت العدم (أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ) موت العدم والموت الثاني، (وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ) الحياة الدنيا والحياة الآخرة بعد الموت –البعث-، فكنا أو لم نكن في وقت ما شيئاً مذكوراً، كان الله ولم يكن معه شيء -جلَّ جلاله-فهنا يذكّرنا الله تعالى بأعظم نعَمه علينا وهي نعمة الإيجاد (لَمۡ يَكُن شَيۡـٔٗا مَّذۡكُورًا) ثم يقول المولى -جلَّ جلاله-:

إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿2﴾

هذه نعمة الإيجاد، النبي -صلى الله عليه وسلم-لما سُئل: من أي ماء يكون الرجل؟ قال: من كليهما، من ماء الرجل ومن ماء المرأة، وهذه الآية تذكر ذلك وهو ما يؤكده اليوم العلم الحديث، وطبعاً لا نقول: إن العلم جاء مطابقاً لقرآننا، وإن القرآن جاء مطابقاً لعلمنا هي القضية ببساطة أن هذا القرآن هو كلام الخالق -جلَّ جلاله-:

إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14)
(سورة فاطر)

فلو جدلاً قال العلم مثلاً وهو لا يقول ذلك: بأن الإنسان يُخلق فقط من ماء الرجل أو من ماء المرأة لقلنا هذا الكلام غير صحيح؛ لأن القرآن يخبرنا أن النطفة أمشاج، أمشاج يعني خليط من ماء الرجل ومن ماء المرأة فيتم التلقيح وتكون البويضة الملقحة التي ينشأ منها الإنسان (مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ).
(إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ) هذه نعمة الإيجاد (مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ) ما فائدة أن يعرف الإنسان أصل خلقه؟ فائدة ذلك أن يتواضع، لما تقول لنفسك أنا لم أكن شيئاً مذكوراً قبل 50 عاماً من الآن أو 60 أو 70 فلماذا نمشي في الأرض ونتكبر فيها أو نختال فيها أو نفتخر فيها على عباد الله، كلنا لم نكن يوماً شيئاً مذكوراً.

نعمة الإمداد:
الإنسان مبتلى وممتحن في كل لحظة
( إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ) يعني أصل هذا الخلق أو علة هذا الخلق هي تحقيق الابتلاء يعني الامتحان، نبتليه أي نمتحنه بالتكاليف بالأوامر وبالنواهي، نمتحنه بالمرض أو بالصحة، بالقوة أو بالضعف، بالمال أو بنقص المال، الإنسان مبتلى ممتحن في كل لحظة، ليس هناك يوم يمر على الإنسان لا يبتلى فيه أبداً، لا تشرق شمس على الإنسان إلا وهو مبتلى، ينزل إلى الشارع تعرض له امرأة ابتلي بها، يذهب إلى العمل يأتيه مبلغ من حرام يبتلى به، نقص في الأموال يبتلى، يأتيه مال كثير يبتلى به هل ينفقه في الطاعات أم في المعاصي؟ يعود من عمله يبتلى بأهل بيته، يمتحن بهم ويبتلى ليس مفهوماً سلبياً هل يعني الله يبليه بهم؟ لا؛ هذا مفهوم عامي يبتلى بهم هل يحسن لزوجته أم يسيء لها؟ هل يربي أولاده أم يدعهم وشأنهم؟ هل يوجههم أم لا يوجههم، يبتلى الإنسان، فقال: (إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أعطاه الله السمع وأعطاه البصر.

وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)
(سورة النحل)

الآن هذه نعمة أخرى؛ هذه نعمة الإمداد، النعمة الأولى الإيجاد، السمع والبصر إمداد، في كل لحظة نحن مفتقرون إلى إمداد الله تعالى لنسمع ولنبصر ولنشم ولنأكل ولنشرب هذه كلها نعمة الإمداد، الآن هذه السورة بدأت بالنعم الأساسية على الإنسان النعمة الأولى: الإيجاد (إِنَّا خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ) لم يكن شيئاً مذكوراً وخلقناه، الثانية: الإمداد بدأت من قوله تعالى: (فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) السمع والبصر قال تعالى:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا(36)
(سورة الإسراء)

السمع والبصر مداخل الفؤاد(input)، كيف الإنسان تدخل المعلومات إليه؟ أهم مدخلين السمع والبصر، الآن الذي يجري في هذا اللقاء الطيب بمعيتكم هو سمع، يعني الآن المعلومات تدخل عن طريق السمع، والبصر يُدخل معلومات يعني لو نظر الإنسان إلى الشجرة: سبحان الخالق العظيم من خلقها؟ فالبصر مُدخل والسمع مُدخل، أعظم ما يدخل المعلومات إلى القلب ليعقلها القلب ويخرج بنتائج صحيحة السمع والبصر، العملية بالقلب مركز العمليات القلب الذي هو العقل.

أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى ٱلْأَبْصَٰرُ وَلَٰكِن تَعْمَى ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ(46)
(سورة الحج)

القلوب تعقل فتعقل المعلومة فتخرج بنتائج صحيحة، أحياناً يعقل المعلومة غلط، أو تكون المدخلات خطأ فتخرج المخرجات خاطئة، فتجد إنساناً ملحداً، كيف ملحد وراء كل هذه الآيات؟ إما مصالح وشهوات ، إما حالة من عدم القدرة على الاستيعاب، غالب من يلحدون أو لا يؤمنون بوجود الله بعد المدخلات كاملة يكون شهوة المصالح غشاوة المصالح أو الرغبة في التفلت من كل القيود التي لا يناسبها أن يكون هناك دين يحجز الإنسان عن المحارم، تؤمن بوجود الله يجب أن تؤمن بمنهج، المنهج افعل ولا تفعل، فالأريح للإنسان الأسلم له في زعمه حتى يرتاح نفسياً أن يقول: لا يوجد إله إذاً افعل ما شئت، انتهى لا يوجد مبعث ولا يوجد يوم قيامة، فالمدخلات من السمع والبصر لذلك امتن على عباده (فَجَعَلْنَٰهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) .

نعمة الهداية:
الآن النعمة الثالثة من نعم الله تعالى على عباده:

إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفًورًا(3)

الهدى والرشاد أي شيء يقودك إلى الله
نعمة الهداية، فهي ثلاث نِعم نعمة الإيجاد، نعمة الإمداد، نعمة الهدى والرشاد، هذه النعم هي أساس النعم، كل نعمة من النعم الدنيا تتصل بواحدة من هذه الثلاث –أمهات-، قلت: الطعام والشراب إمداد، الأم إمداد، الأب إمداد، الأولاد إمداد؛ هذا كله إمداد من الله، الإيجاد واضحة، الهدى والرشاد أي شيء يقودك إلى الله من هدى ورشاد، الشجرة هدى ورشاد، والقمر هدى ورشاد، والدليل النبي -صلى الله عليه وسلم-كان ينظر إلى القمر فيقول: "هلال خير ورشد"
خير خير علينا –إن شاء الله – يهل علينا بالإيمان، رشد يرشدنا إلى ربنا، فكل نعم الله هي تندرج ضمن ثلاث: إيجاد، إمداد، هدى ورشاد، ذكرها الله تعالى في مطلع هذه السورة، هذه الآية (إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) تؤكد أن الإنسان مخير، أي كلام آخر بأن الإنسان مجبر فالقائل ذلك يخالف نص القرآن الكريم لأنه يأتي بآيات يتوهم منها الجبر ويترك الآيات الواضحة في التخيير (إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ) دللناه على الطريق (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)أعطاك الطريق، لذلك قال تعالى:

سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)
(سورة الأنعام)

في نهاية الآية (هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) يعني هذا كذب أن يقول الإنسان: "لو شاء الله ما أشرك" أن يلقي بشركه أو بمعصيته على خالقه ليبرئ نفسه من المسؤولية، الإنسان مخير ولأنه مسؤول فهو مخير، ولأن الله أمره ونهاه في قرآنه فهو مخير، إذ كيف يأمر الله إنساناً لا يستطيع أن يتخذ قراره، لماذا يأمره؟! الأمر والنهي أصبح عبثاً، لو إنسان يقود سيارته وإنسان جالس أمامه المقود ليس بيده، رجل جالس في الخلف ربت على كتف اليمين الرجل الذي لا يملك المقود، وقال له: اذهب على المفرق على اليمين، ماذا يقول له؟ يقول: أنا ما عندي مقود، ينبغي أن تحدث من يملك الخيار، فلما نقرأ في القرآن آيات كثيرة افعل ولا تفعل، اجتنبوا، آمنوا، وأنا لا أملك الخيار إذاً أصبح -حاشاه تعالى-أصبح القرآن عبثاً، الكلام لا أستطيع أن أنفذه فلماذا أرسل؟ وإرسال الرسل أصبح عبثاً؛ لأن الإنسان لا يملك قراره، الإنسان مخير يستطيع أن يذهب في الطريق الذي يشاء (إِنَّا هَدَيْنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
ودائماً في القرآن أو كثيراً في القرآن ما يتقابل الكفر مع الشكر يتضادان، الكفر والإيمان واضحة أما الكفر مع الشكر وكأن الإيمان هو شكر إقرار بأن هذه النعمة من الله، فلما كان الحديث في البداية عن نعم الله الثلاثة ناسب أن يقول: (إِمَّا شَاكِرًا) أي على هذه النعم التي أسلفتها لكم وهي الإيجاد والإمداد والهدى والرشاد أو كفوراً بهذه النعم، يكفر بها ولا يلقي لها بالاً بأن الله أوجده من عدم، وأمده بالسمع والبصر، وهداه السبيل فيكفر نعمة الله عليه، فلذلك (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ولم يقل: إما مؤمناً وإما كفوراً؛ لأن الحديث عن النعم والنعم تقتضي الشكر.

نهاية الرحلة وتحديد المصير:
هذه النعم وأصل الخلق، الآن المصير مباشرة، الرحلة قصيرة جداً انتهت الرحلة مجرد ما ربنا ذكر لك هاتين الآيتين وكأن الرحلة قد انتهت تفاصيلها أنت ترسمها، أنا أعطيتك السبيل تشكر أو تكفر انتهينا.

إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلكَٰفِرِيْنَ سَلَٰسِلَاْ وَأَغْلَٰلًا وَسَعِيرًا(4)

القلم بيدك أنت ارسم حياتك كما تريد
انتهى وصلنا للمصير مباشرة، الرحلة هذه أنت ترسمها (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) القلم بيدك أنت ارسم حياتك كما تريد وفق الذي تريده لكن أنا أعطيك النتائج فقط، كأن يدخل المدرّس إلى الصف ويقول للطلاب: المدرسة ستقدم لكم 1- 2- 3 ، أعطيك النعم التي سنقدمها نحن لك، ثم أقول له: أنت بالخيار بين أن تدرس أو لا تدرس، فإذا جاء آخر العام فالناجح له كذا وكذا والراسب له كذا وكذا، الرحلة لك أنت لذلك هنا لم يذكر تفاصيل الرحلة، مباشرة (إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلكَٰفِرِيْنَ سَلَٰسِلَاْ) يقادون بها إلى جهنم، وأغلالاً يغلون بها، وناراً مشتعلة وسعيراً.

إِنَّ ٱلْأَبرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)

الطرف المقابل (يَشْرَبُوْنَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) بدأت نعم الله تتصل؛ نِعم الآخرة بنعم الدنيا للمؤمنين، الكافور رائحة طيبة يعرفها العرب، لكن كافور الجنة ليس ككافور الدنيا، ما هذه الكأس ما هي؟ قال:

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيْرًا (6)

العين يُشرب منها لا بها لكن لما قال:" بها" ضمّن الشرب معنى آخر وهو الارتواء، فكأنه قال: عيناً يرتوي بها، يعني يشربون بها حتى يرتوا، (يشرب بها) هذه مبالغة هو الأصل أنك تشرب من الكأس ولا تشرب بها لكن لما قال: (تشرب بها) ضمّن الشرب معنى الارتواء، ترتوي بها لشدة عذوبتها وشدة ريحها الطيب وطعمها الطيب (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيْرًا) يعني يجرونها إلى حيث يشاؤون.

الوفاء بالنذر:

يُوْفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُۥ مُسْتَطِيرًا(7)

عدنا إلى الدنيا، الوفاء بالنذر لا يُظن أنه هو مجرد النذر الذي ينذره الإنسان على نفسه في الدنيا فيقول مثلاً: نذراً عليّ أن أذبح خروفاً، وبالمناسبة والشيء بالشيء يذكر مادام ذكر النذر، فائدة فقهية وهي أن النذر المشروط مكروه شرعاً، فقد نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-وقال:

{ لا تَنْذِرُوا، فإنَّ النَّذْرَ لا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ شيئًا، وإنَّما يُسْتَخْرَجُ به مِنَ البَخِيلِ }

(صحيح مسلم عن أبي هريرة )

النذر المشروط مكروه شرعاً
يعني أن يقول إنسان: إن نجحت فلله عليّ أن أذبح خروفاً، أو أن أتصدق بصدقة، لا؛ أنت تصدق واذبح وقل: يا رب ارزقني النجاح، إذا تزوجت نذراً لله عليّ أن أتصدق ب 100 دينار، لا؛ الآن تصدق بـ 100 دينار على نية أن ييسر الله لك الزواج، الله لا يشارط يا أحبابنا، لا تنذر شيئاً بمقابل شيء، النذر مكروه لكن لو نذر إنسان فالوفاء بالنذر واجب، فإن عجز عن الوفاء -وهذا يأتيني سؤال كل يوم لذلك عرجت عليه، "والله يا شيخنا نذرت صيام شهرين إذا جاء ابني سليماً والله رزقنا ولداً سليماً معافى، ماذا أفعل؟" صومي شهرين، "والله لا أستطيع يا شيخ" الإنسان هكذا يتشجع يقول : يا رب أريد أن أصوم، بدأت أول يوم ثاني يوم شهران متتابعان والله صعبان، حسناً كفارة النذر كفارة اليمين يعني من لم يستطع الوفاء بنذره إما أن يطعم عشرة مساكين فإن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام، فربنا-جلَّ جلاله- من رحمته جعل لكل شيء مخرجاً لكن الإنسان لا يكلف نفسه بالنذر المشروط ، أما النذر المطلق لا مانع منه، كأن يقول إنسان :"لله علي أن أصوم ثلاثة أيام"، هكذا ينذر على نفسه وإن كان الأولى للإنسان ألا ينذر أبداً، يبقى على فعل الطاعات دون أن يكلف نفسه شيئاً لم يكلفه الله تعالى به، (يُوْفُونَ بِٱلنَّذْرِ) هنا ليس النذر فقط هذا الذي نذر على نفسه شيئاً، النذر هو كل ما أوجبه الله تعالى عليك من تكاليف فهو عهد الله بينك وبينه، الصلاة نذر يجب أن تفي بها، طاعة الله نذر، غض البصر نذر، كل ما أوجبه الله تعالى عليك فهو يشبه النذر من زاوية أنه يجب الوفاء به، فحق الله أولى أن يؤدى (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُۥ مُسْتَطِيرًا) أي منتشراً لا يقف عند حد.

إطعام الطعام:

وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)

المؤمن يحب الطعام ويطعمه للآخرين
أي على حب الطعام، الإنسان يحب الطعام لكنه يؤثر به غيره من أجل ربه، وقد يقال (وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ) أي على حب ربهم -جلَّ جلاله-يعني على حب الله محبةً لله يطعم الطعام، ورغم محبته للطعام فهو يطعمه لأن الإنسان -أحبابنا الكرام -لا يرقى عند الله إلا إذا أنفق مما يحب، يعني لو كان الإنسان لا يحب المال الناس لا يحبون المال أبداً ثم قيل لهم: أنفقوا، أنفقوا لكن لم يرتقوا عند ربهم بالإنفاق، لماذا يرتقي؟ لأنه يحب المال وأنفقه، يحب الطعام ويطعمه للآخرين.

وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ (9)
(سورة الحشر)

أي شدة وحاجة وفقر(وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) وهذه الآية نصَّ في أن الصدقات تجوز لغير المسلمين بخلاف الزكاة، الأسير غير مسلم ومن حسن معاملة المسلمين للأسرى أن الله تعالى ذكر هنا الأسير أنه يُطعم الطعام، يأتي بالطعام ويقدمه لأسير أُخذ في الحرب كان قبل أيام يقاتله في أرض المعركة لكن يحسن معاملته هكذا يُعامل الأسرى، فالصدقات الأمر فيها واسع، تتصدق ولو على غير المسلم أما الزكاة فهذه فريضة إسلامية تكافلية ضمن المجتمع المسلم، فهذه تؤخذ من أغنيائهم المسلمين وترد على فقرائهم المسلمين، فالصدقة الأمر فيها واسع، الزكاة مقنن ضمن البيت المسلم (وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)

الإخلاص والجزاء من الله تعالى:

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا(9)

هو الحقيقة كنت أريد أن أصل إلى هنا وهذا الذي أريد أن أذكره، لكن-سبحان الله-القرآن بحر فإذا بدأت بآية ما تجد إلا أن تتكلم تخرج المعاني-سبحان الله-.
المؤمن يقدمه لوجه الله لِما ينتظره عند الله
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ) هنا عقدة الموضوع أو لب القصة أو محور القضية التي أوردت هؤلاء الجنة وجعلتهم من الأبرار(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ) إخلاص (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا) وضعوا خطين تحت كلمة (منكم) هم ما قالوا:" لا نريد جزاء ولا شكوراً"، فما من أحد يقدم شيئاً دون مقابل -لا تستغربوا-، ما من أحد يقدم دون مقابل، ولولا ذلك لما أغرانا الله تعالى بالمقابل الذي أعده لنا، الإنسان مفطور على حب التملك، هذا شيء لي لماذا أعطيه للآخرين؟! لكن المؤمن يقدمه لوجه الله لِما ينتظره عند الله، والذي يحب الأخذ البعيد يريد أن يأخذ الجزاء فوراً فقط، أحدهم يقدم لجزاء مؤجل والآخر يقدم لجزاء معجل لكن الكل يريد جزاء على أفعاله، تقول لي: فلان لا يريد شيئاً، لا؛ يريد شيئاً ولكن لا يريد شيئاً منك، لا يريد أن يسمع كلمة شكر منك، لا يريد أن يسمع جزاء منك لكن يريد من غيرك من الله-جلَّ جلاله-فقال: (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا).
الجزاء مقابل، يعني أنا أطعمتك طعاماً وبقي الصحن عندك، أنتظر هكذا طبخة مرتبة تعبئه ترجعه لي معبأ ليس فارغاً، والشكور كلمة لا أستطيع أن أرد لكن على الأقل: جزاك الله خيراً، طبعاً هذا موقف الذي يطعم أنه لا يريد جزاء ولا شكوراً، أما موقف الذي يُطعَم أنه إذا كان قادراً على الجزاء فينبغي أن يجازي وإلا فليقل: جزاك الله خيراً، يعني من الطرفين الموضوع لكن الآن نحن نحكي عن الطرف الذي استحق الجنة، هذا بالأصل عندما قدم لا يريد جزاء ولا شكوراً من الناس، يريدها من رب الناس (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا).
قالوا: اثنتان انسهما فوراً؛ إحسانك إلى الناس وإساءة الناس إليك، بعض الناس يتذكر إحسانه إلى الآخرين ولا ينسى إساءة الآخرين إليه، لا؛ إذا أحسنت فانسَ وإذا أسيء لك يعني إساءة لا تستوجب رداً عقوبة فأيضاً انسَ الموضوع، تناسى.

الصبر في الدنيا:

إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)

يوم لشدة هوله وفظاعته وجوه المنحرفين والكافرين شدة سواد، كالحة.

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ(41)
(سورة عبس)

في هذا اليوم، قال:

فَوَقَىٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)

الآن هم لما لم يطلبوا الجزاء والشكور، انظر إلى الجزاء الذي عند الله والشكور الذي عند الله، قال: (وَلَقَّىٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) الوجه.

وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)

أي بسبب صبرهم، أي صبر؟ صبر على الجزاء انتظروا الآجل وتركوا العاجل، قبل هذه السورة وهذا دائماً في تواصل بين السور القرآنية، قبلها ماذا قال تعالى قبل بداية سورة الإنسان كانت سورة القيامة، قال:

كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ(20) وَتَذَرُونَ ٱلْءَاخِرَةَ(21)
(سورة القيامة)

طبيعة الإنسان يريد العاجل ويذر الآجل، هنا ما الذي أوردهم الجنة؟ أوصلهم إلى الجنة، طمحوا إلى الآجل وتركوا العاجل فقال:( وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ) الصبر هو أن تترك الشيء الآني وتنظر إلى الشيء المستقبلي هذا الصبر، هي الجنة تحتاج صبراً فقط (بِمَا صَبَرُواْ) أي بسبب صبرهم، هذه باء السبب (وَجَزَىٰهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا).

جزاء الصابرين في الآخرة:

مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلْأَرَآئِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)

الأريكة يعني الأسرة المزخرفة العظيمة المنظر (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) لا حرارة ولا برودة ظل ظليل، الزمهرير شدة البرد.

وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَٰلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)

قريبة جداً، الظل القريب رائع (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) في الدنيا إذا وجدت التفاحة بأعلى الشجرة تقول: والله اشتهيت هذه التفاحة لكن كيف الوصول إليها؟ تهز الشجرة تسقط كل التفاحات الصغيرة والتي تحتاجها لا تسقط لك، تضع سلماً مربك، لا تعرف كيف تصعد؟ وأما (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) أمامه وهو جالس يأخذها، مذللة له قريبة منه، قال:

وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـَٔانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا (17)

هناك كافوراً الآن زنجبيلاً.

عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوْفُ عَلَيْهِمْ وِلدَٰن مُّخَلَّدُوْنَ إِذَا رَأَيتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤلُؤًا مَّنْثُورًا (19)

يعني بعمر الشباب ما هرموا، بعمر الشباب الجميل أجمل أيام العمر (إِذَا رَأَيتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤلُؤًا مَّنْثُورًا)
لجمالهم كأنهم اللؤلؤ المنثور.

وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَٰلِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَىٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا(21)

الآن موطن الشاهد، قال:

إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا(22)

ماذا قالوا؟ (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلَا شُكُورًا)، هل تركهم الله بغير جزاء أو شكور؟ أعطاهم كل هذا، قال: (إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) الجزاء والشكور عند الله تعالى، الذي يطلب من العبد –سامحوني-يكون أحمقاً، الذي ينتظر على أعماله الصالحة، أنا أتكلم عن العمل الصالح ليس عن العمل التجاري، طبعاً العمل التجاري الله جعل بعضنا لبعض سُخْرياً، الله سخر الحلاق، كيف سخرياً؟ تأتي الملك بحاجة حلاق يحلق له شعره.