العبرة من الموت وفضل الشهادة في سبيل الله

  • قناة الجزيرة مباشر - برنامج أيام الله - اللقاء 04
  • 2024-10-18

العبرة من الموت وفضل الشهادة في سبيل الله

الأستاذ مجاهد:
مشاهدينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحباً بكم معنا في حلقةٍ جديدة من برنامجكم أيام الله، قال الله تعالى في كتابه الكريم:

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185)
(سورة آل عمران)

صدق الله العظيم.

مقدمة:
الموت هو الحقيقة الغائبة الحاضرة، الغائبة لأنَّ أكثر الناس قلما يفكرون فيها، والحاضرة لأنه واقعٌ مشاهد، فالناس يرونه كل يوم، لا يخفى على أحد، ولا يمكن أن يتجاهله أحد، إنه الحقيقة التي سلَّم بها كل مخلوق، وأيقن بها كل إنسان، جعله الله فاصلاً بين حياتين، الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، فالمؤمن ينتقل به من تعب الدنيا ونَصَبها، إلى راحة الآخرة ونعيمها، والكافر ينتقل به من مُتع الدنيا ولذَّاتها إلى ضيق الآخرة وشقائها، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمته بالإكثار من ذكر الموت فقال:

{ أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذمِ اللَّذَّاتِ }

(أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه)

الموت فإنه لم يذكره أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعه عليه، ولا ذكره في سعةٍ إلا ضيَّقها عليه، وإذا كان كل الخلق يموتون فاختر كيف تموت، تتجلى منزلة الشهداء في سبيل الله عزَّ وجل لتبقى سيرتهم ومسيرتهم ملهمةً وقدوةً للأجيال التي تليهم، وليحفروا أسماءهم في سجل التاريخ بأحرفٍ من نور، قال الله تعالى:الموت فإنه لم يذكره أحدٌ في ضيقٍ من العيش إلا وسَّعه عليه، ولا ذكره في سعةٍ إلا ضيَّقها عليه، وإذا كان كل الخلق يموتون فاختر كيف تموت، تتجلى منزلة الشهداء في سبيل الله عزَّ وجل لتبقى سيرتهم ومسيرتهم ملهمةً وقدوةً للأجيال التي تليهم، وليحفروا أسماءهم في سجل التاريخ بأحرفٍ من نور، قال الله تعالى:

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)
(سورة آل عمران)

صدق الله العظيم.
للحديث عن العِبرة من الموت وفضل الشهادة في سبيل الله يُسعدنا ويشرِّفنا أن نكون بصحبة الأستاذ الدكتور بلال نور الدين الداعية الإسلامي، أهلاً وسهلاً دكتور، وجمعة مباركة.
الدكتور بلال نور الدين:
حيّاكم الله أستاذ مجاهد وبارك الله بكم، وشكراً لهذه الاستضافة الكريمة ولذاك الموضوع المهم.
الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، كما يسعدنا مشاهدينا الكرام أن نستقبل أسئلتكم واستفساراتكم.
فضيلة الدكتور بلال هذا الموضوع هو موضوعٌ يومي، في كل لحظة وفي كل ثانية يموت أحد، لو أردنا أن نبدأ من البداية الإنسان مخلوق من جسدٍ وروح، جسد خُلقت من الأرض من الطين، وروح هي سرّ الوجود، هي نفحةٌ إلهيةٌ، فما هي العلاقة بين الروح والجسد؟

العلاقة بين الروح والجسد:
الدكتور بلال نور الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
كما تفضلتم أخي الكريم الإنسان جسدٌ وروحٌ ونفس، فالجسد هو ذاك الذي نشاهده، هو المادة، هو قبضةٌ من طين الأرض، هو ذاك الذي نشاهده ونراه بأعيننا، والروح من أمر الله تعالى

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)
(سورة الإسراء)

فإذا انفصلت الروح عن الجسد كان الموت، فالجسد مع وجود الروح إنسانٌ يُبصِر، يرى، كُلية تُصفِّي الدم، كبد يقوم بآلاف الوظائف، أُذُن تسمع، قلب ينبض، دماغ يتذكَّر، ويتفكَّر، ويتدبَّر عند وجود الروح، فإذا انفصلت الروح عن الجسد، أصبح الجسد جُثةً هامدة ورجعت إلى التراب وفنيت فيه، فالإنسان بجسده يشبه الحاسوب بشاشته ولوحة مفاتيحه وما فيه من أدوات، والروح هي القوة المحركة، فإذا فصلنا التيار الكهربائي عن الحاسوب، وفرغت بطاريته وانتهى شحنه، أصبح قطعةً من الحديد والبلاستيك ليس لها أي مفعول أو أي حركة، فالروح هي القوة المحركة التي هي شيءٌ من أمر الله، وسرٌّ من أسرار الله، ينفخ الله تعالى بالإنسان من روحه فإذا هو يتحرك، يعقل، يُبصِر، يسمع، يشاهد، يتدبَّر، يتفكَّر، فإذا جاء موعد الرحيل خرجت الروح من الجسد، فأصبح الجسد جُثةً هامدةً ليس فيها إحساسٌ ولا إدراك، وانتقلت النفس إلى خالقها جلَّ جلاله، لتنتقل من حياةٍ إلى حياةٍ أُخرى، ومن طريقةٍ في الحياة إلى طريقةٍ أُخرى يفصل بين الحياتين حاجزٌ يُسمّى البرزخ، بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
الأستاذ مجاهد:
جيد هذا الاستهلال فضيلة الدكتور بلال، القرآن الكريم في آياته دائماً يدعونا إلى التفكُّر والتدبُّر، فكيف لنا أن نتفكر ونتدبر في الموت.

كيف يكون التفكًّر بالموت؟
الدكتور بلال نور الدين:
كما ذكرتم أخي الكريم في مقدمة هذا اللقاء، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذمِ اللَّذَّاتِ) أي قاطِعها الموت، وفي رواية (هادم اللذات) يهدم اللذات، فقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لا بذكر الموت فحسب بل بالإكثار من ذكره، ولكن ذكر الموت ليس عملاً مُحبطاً، التفكُّر في الموت ليس من أجل أن نقعد عن العمل كما يتوهم البعض، إذا وصل التفكر بالموت بالإنسان إلى أن يترك الدنيا، فقد أخطأ وأصبحت الحالة مرَضيِّةً تحتاج إلى علاج، التفكُّر بالموت المطلوب شرعاً، يعني أنَّ الإنسان يمتنع فيه عن الحرام لكنه لا يمتنع عن الحياة، الضابط الصحيح في التفكُّر بالموت، عندما يمنعك ذكر الموت عن الحرام فهذا هو ذكر الموت المطلوب، لكن إذا منعك عن الحياة فهذا ليس ذكراً للموت، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا }

(أخرجه أحمد)

قامت الساعة وليست ساعتك وإنما الساعة يوم القيامة، لأنَّ هناك ساعتين، ساعة الإنسان الصغرى وهي الموت، والساعة الكبرى.
(إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا) إذاً لا نتوقف عن الحياة، حتى إذا قامت الساعة نُسارع إلى غرس تلك الفسيلة، لعلها يكون فيها خير، رغم أنَّ القيامة قد قامت من أجل أن يحثّنا النبي صلى الله عليه وسلم على العمل، إذاً التفكُّر بالموت يعني أن أتوقف عن الحرام، أن أمتنع عن ما يُغضب الله تعالى، لا أن أمتنع عن الحياة، إذاً التفكُّر بالموت عملٌ إيجابيٌ وليس عملاً مُحبطاً، ولا عملاً مُثبِّطاً، إنه من أجل أن يضبط حركتنا في الحياة وأن يجعلها وفق المنهج، وليس من أجل أن يوقفها.
الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور بلال، لكن في هذه الحياة، في خضم الحياة والسعي على الرزق، وعلى الأبناء والانشغال، ينسى الإنسان منّا فكرة الموت، لماذا ينسى الإنسان فكرة الموت وهي حقيقةٌ واقعة، وعندما يحدث حالة وفاة، فإننا نتفاجأ بهذا الأمر وكأنه يحدث بلا مقدمات وبلا حساب؟

لماذا ينسى الناس الموت؟
الدكتور بلال نور الدين:
أخي الحبيب الموت كما تفضلتم أكثر حقيقةٍ واقعية، ليس من حدثٍ أشدَّ واقعيةً ينتظرنا في المستقبل من الموت، الصغير يموت والكبير يموت، الغني يموت والفقير يموت، القوي يموت والضعيف يموت، الحاكم يموت والمحكوم يموت، وكل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت، ولكن الإنسان في غمرة انشغالاته بالحياة، بالمادة، بعالم الشهادة، ينسى أو يتناسى ما ينتظره في الغيب، طبيعة الإنسان أخي أنه يتعلق بالحاضر، بالموجود، بالمادة، وهذا الأمر له جانب إيجابي وجانب سلبي، الجانب الإيجابي أننا لو بقينا على الحال التي نتفكر فيها بالموت في كل لحظة، لربما توقفنا عن الحياة وعن العمل، وهذا مرفوضٌ قطعاً كما أسلفنا في السؤال السابق، أمّا الجانب السلبي في الموضوع فهو أن نسيان الموت بشكلٍ كبير كما ورَد في بعض الخُطب: "كأن الموت فيها على غيرنا قد كُتِب"، نخرج في الجنائز، نودع قريباً، صديقاً، حبيباً، ندفنه ونعود إلى حياتنا وكأنه مات ونحن لن نموت، هذا جانب سلبي في أن نتناسى فكرة الموت، وننشغل بالشهادة، فالإنسان إذ قال تعالى:

كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ(20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ(21)
(سورة القيامة)

دائماً ينشغل بالشيء المحسوس، ويتناسى الشيء الغائب، لذلك لمّا وصف ربنا المؤمنين في أول وصفٍ في سورة البقرة قال:

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)
(سورة البقرة)

والموت هو شهادةٌ وغيب، شهادةٌ في أننا نراه بأعيننا، فهو حقيقةٌ واقعة، وغيب في أننا نستقبل ما بعده بالخبر الصادق، فلم يعُد أحدٌ من البرزخ أو من الآخرة ليُحدِّثنا عن ما جرى له، فهو شهادةٌ وغيب، لكن الإنسان يتعلق بالدنيا لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ. }

(صحيح مسلم)

فلمّا يرى الإنسان ما في الدنيا من مباهج، ويعيش وينغمس في لذائذها، فإنه يتناسى فكرة الموت وتذهب عنه، فإذا ما جاء موت قريبٍ أو صديق ذكَّره من جديد وهكذا.
إذاً القضية أنَّ هناك عالمين عالم الشهادة وعالم الغيب، ويجب أن نبقى دائماً في توازنٍ مستمر، بين عالم الشهادة بين الشيء الملموس المحسوس، وبين عالم الغيب وهو التفكُّر بالموت وما بعده، وما أعدَّ الله عزَّ وجل للمؤمن، وما أعدَّ لغير المؤمن بعد الموت.
الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور بلال، لو أردنا أن نبدأ رحلة الموت، هل هناك رُسُل للموت تجعل الإنسان على أهبّة الاستعداد، أو تتجلى بعض هذه الرُسُل في رسائل واضحة أنَّ الإنسان قد قَرُب من الموت؟

النُذر التي تأتي للإنسان ليعلم أن الموت قد اقترب:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم جزاكم الله خيراً، الله تعالى يقول في كتابه الكريم:

وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ(37)
(سورة فاطر)

العلماء وقفوا عند قوله تعالى: (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) فذكروا هذه الرُسُل التي سألت عنها، فقالوا النذير أولاً هو الله تعالى، فهو يُنذر عباده يُنذرهم عذابه، ويخوفهم بما أعدَّه للظالمين والطُغاة والمجرمين، ثم قالوا النذير هو النبي صلى الله عليه وسلم:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا(46)
(سورة الأحزاب)

فالنذير هم الأنبياء والرُسُل وعلى رأسهم نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يُنذرنا الموت، وينذرنا ما بعد الموت، ثم قالوا والنذير هو سن الأربعين لأنه ورد في بعض الآثار: " أنه من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شرّه فليتجهز إلى النار" فالنذير سن الأربعين، ثم قالوا النذير سن الستين، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ }

(أخرجه الترمذي وابن ماجه)

فإذا جاء سن الستين فهذا نذير، والنذير هو الشيب، فإذا شاب شعر الإنسان لكأن رسالةً تصل إليه من السماء، أن قد شاب شعرك، وانحنى ظهرك، وكبرت سنك، وضعف بصرك، فاستحِ من الله تعالى، فالنذير هو هذا الشيب وهذا الضعف في البصر، هذا نذير، النذير أيضاً هو المصائب لمّا تتكاثر المصائب ويرى الإنسان بعينه الناس يموتون هنا وهناك، بالزلازل والفيضانات، والعدوان الغاشم وغير ذلك، فهذا نذيرٌ له أنه قد اقترب اللقاء، يا عبدي قد اقترب اللقاء فماذا أعددت له؟
ومن معاني النذير أيضاً أنه الأمراض التي تأتي إلى الإنسان، فالمرض نذيرٌ من الله تعالى، فلمّا يصبح الإنسان في سنٍ مُعيَّنة ينظر إلى صورته وهو في شبابه، ويقارن بين الصورتين، كل واحدٍ منّا الآن ليُجري هذه المقارنة، يُخرج صورة من الصور القديمة يوم كانت تطبع على الأوراق، وينظر إليها ثم ينظر في المرآة، سيجد أثر الليل والنهار فيه، سيجد أنَّ لون جلده قد تغيَّر، وأنه قد ترهَّل جلده وقد ظهر بعض الشيب في رأسه وفي لحيته، وقد ضعف بصره، وربما انحنى ظهره قليلاً، فهذه كلها رُسُل من الله أن قد اقترب اللقاء يا عبدي، فماذا أعددت له؟
من هنا كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: " الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما"، أثر الليل والنهار واضحٌ فينا، الليل والنهار يعملان فينا، إذا مضى الزمن فنحن نتأثر بمضي الزمن، قال: فاعمل فيهما، فاعمل فيهما عملاً صالحاً ينفعك بعد مضي الزمن.
الأستاذ مجاهد:
نعم بارك الله بك دكتور بلال، لو بدأنا هذه الرحلة المتعلقة بالموت، ما يتقدم الموت هي السكرات، فما هي هذه السكرات التي قال الله عنها:

وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19)
(سورة ق)


سكرات الموت:
الدكتور بلال نور الدين:
يعني شاءت حكمة الله تعالى أن يكون الموت فيه صعوبة، لذلك سمّاه الله تعالى في القرآن مصيبة، قال:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ۚ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۙ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَ(106)
(سورة المائدة)

فالموت له سكرات، والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا دخل في تلك الصعوبات التي يعانيها الإنسان عند خروج الروح من الجسد قال:

{ لا إله إلا اللهُ، إنَّ للموتِ سَكَراتٍ }

(الألباني صحيح الجامع)

وهو سيد الخلق وحبيب الحقّ، لكن كما ورَد أيضاً في الصحيح أنَّ روح المؤمن في سكرات الموت، وهو يعاني اللحظات الأخيرة عند موته، تخرج روحه من جسده

{ إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا كان في إقبالٍ مِنَ الآخِرةِ وانقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا نزَلَتْ إليه ملائِكةٌ بِيضُ الوُجوهِ كأنَّ وُجوهَهمُ الشَّمسُ، معَهم كفَنٌ مِن أكفانِ الجنَّةِ، وحَنوطٌ مِن حَنوطِ الجنَّةِ، فيجلِسُونَ مِنه مدَّ البصرِ، ثمَّ يجيءُ مَلَكُ الموتِ حتَّى يجلِسَ عند رأسِه فيقولُ: أيَّتُها النَّفسُ الطَّيِّبةُ اخرُجِي إلى مغفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضوانٍ، قال: فتخرُجُ تَسيلُ كما تَسيلُ القطرةُ مِن فِيِّ السِّقاءِ، فيأخُذُها فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يأخُذُوها، فيجَعُلونَها في ذلك الكفَنِ وذلك الحَنوطِ، فيخرُجُ منها كأطيَبِ نَفحةِ مِسكٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ، قال: فيصعَدُونَ بها فلا يمرُّونَ بها على ملأٍ مِنَ الملائِكةِ إلَّا قالوا: ما هذه الرُّوحُ الطَّيِّبةُ؟ فيقولونَ: فلانُ بنُ فلانٍ، بأحسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسمُّونَه في الدُّنيا، فينتَهُونَ به إلى السَّماءِ الدُّنيا فيستَفتِحُونَ له فيُفتَحُ له، قال: فيُشيِّعُه مِن كلِّ سماءٍ مُقرَّبُوها إلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها حتَّى ينتُهوا بها إلى السَّماءِ السَّابعةِ، فيقولُ: اكتُبُوا كتابَ عبدِي في علِّيِّينَ وأعِيدُوه إلى الأرضِ فإنِّي منها خلَقْتُهم وفيها أُعيدُهم ومنها أُخرِجُهم تارةً أخرى، قال: فتُعادُ رُوحُه في جسدِه ويأتِيه ملَكانِ فيُجلِسانِه، وذكَرَ المسألةَ كما تقدَّمَ، قال: ويأتِيه رجلٌ حسَنُ الوجهِ طيِّبُ الرِّيحِ فيقولُ: أبشِرْ بالَّذي يسُرُّكَ، فهذا يومُكَ الَّذي كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ له: مَن أنتَ؟ فوجهُكَ الوجهُ الَّذي يجِيءُ بالخيرِ، فيقولُ: أنا عمَلُكَ الصَّالِحُ، فيقولُ: ربِّ أقِمِ السَّاعةَ، ربِّ أقِمِ السَّاعةَ، ربِّ أقِمِ السَّاعةَ حتَّى أرجِعَ إلى أهلِي ومالِي، قال: وإنَّ العبدَ الكافِرَ إذا كان في إقبالٍ مِنَ الآخِرةِ وانقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا نزَلَ إليه مِنَ السَّماءِ ملائِكةٌ سُودُ الوُجوهِ معَهمُ المُسوحُ، فيَجلِسونَ منه مدَّ البَصرِ، ثمَّ يجيءُ ملَكُ الموتِ حتَّى يجلِسَ عند رأسِه فيقولُ: أيَّتها النَّفسُ الخبيثةُ اخرُجِي إلى سخَطِ اللهِ وغضَبِه، فتُفَرَّقُ في أعضائِه كلِّها، فيَنتزِعُها كما يُنتَزَعُ السَّفودُ مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ، فتتقَطَّعُ معها العُروقُ والعَصَبُ، قال: فيأخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يدِه طَرْفةَ عينٍ حتَّى يأخُذُوها، فيجعَلُونَها في تلك المُسوحِ، قال: فيخرُجُ منها كأنتَنِ ما يكونُ مِن جِيفةٍ وُجِدَتْ على وجِه الأرضِ، فيَصعَدُونَ بها، فلا يمُرُّونَ بها على ملأٍ مِنَ الملائِكةِ إلَّا قالوا: ما هذه الرُّوحُ الخَبيثةُ؟ فيقولونَ: فلانُ بنُ فلانٍ، بأقبَحِ أسمائِه الَّتي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتَّى ينتُهوا إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَستفتِحُونَ لها فلا يُفتَحُ لها، ثمَّ قرَأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (الأعراف: 40)، ثمَّ يقولُ اللهُ تعالى: اكتُبُوا كتابَه في سِجِّينٍ في الأرضِ السُّفلى، قال: فتُطرَحُ رُوحُه طَرحًا، ثمَّ قرَأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31)، قال: فتُعادُ رُوحُه في جسدِه، فيأتِيهِ ملَكانِ فيُجلِسانِه فيقولانِ له: مَن ربُّكَ؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدرِي، وساق الحديثَ كما تقدَّمَ إلى أنْ قال: ويأتِيهِ رجلٌ قبيحُ الوجهِ مُنتِنُ الرِّيحِ فيقولُ: أبشِرْ بالَّذي يَسوءُكَ، هذا عملُكَ الَّذي قد كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ: مَن أنتَ؟ فوَجهُكَ الوجهُ الَّذي لا يأتي بالخيرِ، قال: أنا عملُكَ السُّوءُ، فيقولُ: ربِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ، ثلاثَ مرَّاتٍ. }

(أخرجه أحمد وأبو داوود والنسائي وابن ماجه)

يعني لمّا تأتي بالإبريق وتصب الماء منه فتنزل قطرات الماء منه، يكون خروجها سهلاً جداً (تَسيلُ كما تَسيلُ القطرةُ مِن فِيِّ السِّقاءِ) يعني من فم السقاء.
لكن لمّا تخرج روح المنحرف المجرم الكافر والعياذ بالله قال: (فيَنتزِعُها كما يُنتَزَعُ السَّفودُ مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ) السّفُود هي العصا التي يستعملها المُنجِّد عندما يُنجِّد الصوف، فإذا ابتلَّ الصوف بالماء وعلق بداخله السّفُود، فكيف ستخرج تلك العصا من داخل الصوف؟ ستنزِع معها الصوف وسيكون خروجها عسيراً جداً، فالمؤمن يُعاني من سكرات الموت، والكافر يُعاني من سكرات الموت، أي من تلك الصعوبات التي يواجهها عند خروج الروح من الجسد، لكن فرقٌ كبير بين معاناة المؤمن البسيطة الهيَّنة السلسة، التي يرفع الله تعالى بها درجته، ويكفِّر بها عنه خطيئته، وبين روح الكافر عندما تخرج، فيعاني ما يعاني ويكون ذلك مزيداً من العذاب له والعياذ بالله.
الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور بلال، هناك بعض المسلمين قبل الوفاة يتعرض إلى مرضٍ شديد، ومعاناة شديدة قد تستمر إلى أيامٍ أو شهورٍ أو سنوات، ثم بعد ذلك يلقى الله عزَّ وجل، وقتها أهل الميِّت يحزنون لهذا الأمر، ما هي الغاية من هذا المرض الذي يأتي لبعض المسلمين قبل الوفاة؟

من رحمة الله تعالى بعباده أنه يبتليهم:
الدكتور بلال نور الدين:
الغاية أخي الحبيب أنَّ الله عزَّ وجل رحيم، وهو أرحم الرُحماء، وهو أرحم بالعبد من أُمه التي ولدته، فلذلك ربنا جلَّ جلاله إذا كان على عبده من الآثام والخطايا، وأراد أن يرحمه جلَّ جلاله، فإنه يُصيبه بالمرض، ويُشدِّد عليه في المرض، فبهذا المرض وبصبره عليه يُكفِّر الله سيئاته ويرفع بها درجاته، فالعِبرة من الأمراض التي تسبق الموت، أولاً أنها كما قلنا قبل قليل نذير، يعني يستعد الإنسان للموت، يُكثر من الأعمال الصالحة، يُكثر من الاتصال بالله تعالى، يُكثر من النفقات والصدقات، يلتزم أوامر الله، يغضّ بصره، يحفظ فرجه، فهي نذير من النُذُر، إضافةً إلى ذلك فإنها تُكفِّر خطاياه، لمّا لعنت السيدة عائشة الحمّى قال: لا تلعنيها فإنها لا تذر على المؤمن من ذنبٍ إلا أتت عليه.

{ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ علَى أُمِّ السَّائِبِ -أَوْ أُمِّ المُسَيِّبِ- فَقالَ: ما لَكِ يا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يا أُمَّ المُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟ قالَتِ: الحُمَّى، لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقالَ: لا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فإنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كما يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ. }

(صحيح مسلم)

فالله تعالى يُشدِّد على عبده في الدنيا، يحمي عبده من الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ اللهَ تعالى لَيحمي عبدَه المؤمنَ من الدنيا، و هو يُحبُّه، كما تحمون مريضَكم الطعامَ و الشرابَ تخافون عليه }

(أخرجه أحمد والترمذي)

فالله تعالى من رحمته بعباده أنه يبتليهم، لمّا قال تعالى في قرآنه الكريم:

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ(20)
(سورة لقمان)

قال أهل العِلم النِعَم الظاهرة واضحة، الماء نعمةٌ ظاهرة، الزوجة الصالحة نعمةٌ ظاهرة، الأبناء البررة نعمةٌ ظاهرة، لكن ما هي النِعَم الباطنة؟ قال بعض أهل العِلم إنها المصائب والأمراض، فهي في حقيقتها في باطنها نعمة، هي في ظاهرها سوءٌ، في ظاهرها مرض، في ظاهرها تعب، لكنها في باطنها وحقيقتها نعمةٌ من نِعَم الله تعالى، لذلك جاء في الحديث الصحيح، أنه حينما يرى أهل العافية الذين لم يصابوا بالأمراض، يرون في الآخرة ما أعدَّ الله لأهل البلاء من النعيم، من أصيبوا بالأمراض، من عانوا في حياتهم، من تعبوا، من عاشوا تحت الأرض، من عاشوا في الحصار، من عاشوا في الظروف الصعبة، تحت القصف، تحت النيران، أهل البلاء، لمّا يرى أهل العافية ما أعدَّ الله لأهل البلاء من النعيم

{ لَيَوَدَّنَّ أَهْلُ اَلْعَافِيَةِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ اَلْبَلاَءِ. }

(أخرجه الترمذي)

إذاً هذه النِعَم الباطنة، المصائب، الأمراض، تُكفِّر الذنوب وترفع الدرجات، وعند الله يوم القيامة، يوم يرى المؤمن ما أعدَّه الله له من هذه الرِفعة في الدرجات، وهذا الخير العميم فيقول بلسان حاله ومقاله، الحمد لله رب العالمين.
الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور بلال، بعد وفاة أحد الأقارب أو الأحباب يحزن الإنسان حزناً شديداً، كيف يواجه الإنسان هذا الحزن؟

كيف نواجه الحزن على وفاة أحبابنا؟
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ الفراق صعب، والنبي صلى الله عليه وسلم حزن لفراق ابنه، وقال:

{ إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. }

(أخرجه البخاري ومسلم)

والنبي صلى الله عليه وسلم وضَّح أنَّ الحزن لا يُنافِ الإيمان (والقَلْبَ يَحْزَنُ) فقال صلى الله عليه وسلم:

{ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَقَفَ يَعْنِي رَسُولَ اَللَّهِ عَلَى شَفِيرِ اَلْقَبْرِ وَ فَاطِمَةُ تَبْكِي فَجَعَلَ يَأْخُذُ ثَوْبَهُ فَيَمْسَحُ عَيْنَيْهَا فَبَكَى اَلنِّسَاءُ فَضَرَبَهُنَّ عُمَرُ بِسَوْطِهِ فَقَالَ يَا عُمَرُ دَعْهُنَّ فَإِنَّ اَلْعَيْنَ دَامِعَةٌ وَ اَلنَّفْسَ مُصَابَةٌ اِبْكِينَ وَ إِيَّاكُنَّ وَ بِقِيعَةِ اَلشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ مَا يُكَنُّ مِنَ اَلْقَلْبِ وَاَلْعَيْنِ فَمِنَ اَللَّهِ وَمَا يُكَنُّ مِنَ اَلْيَدِ وَ اَللِّسَانِ فَمِنَ اَلشَّيْطَانِ . }

(أخرجه أحمد)

ما تجده في قلبك من الحزن على وفاة الأحباب، الأقرباء، الشهداء، ما تجده في قلبك من الحزن اليوم على ما في أهلنا من غزَّة، على ما يعانونه، على مَن يخرجونهم من تحت الركام، نسأل الله فرجاً عاجلاً لهم، ونسأل الله أن يُكفِّر السيئات ويرفع الدرجات، هذا ما تجده في القلب هذا إيمان، وما تجده أيضاً في عينك من دمعةٍ تسيل، لأنك ترى إخوانك وأحبابك وهم يعانون ما يعانون أيضاً هذا من الإيمان، وهذا من الله، قال:(مَا يُكَنُّ مِنَ اَلْيَدِ وَ اَللِّسَانِ فَمِنَ اَلشَّيْطَانِ)، لمّا ينطلق اللسان بكلامٍ لا يُرضي الله، بسخَط على قضاء الله وقدره فهذا من الشيطان، ولمّا تنطلق اليد باللطم والندب فهذا أيضاً من الشيطان.
فالمؤمن عندما يُبتلى بفقد حبيبٍ، أو قريبٍ، أو عزيزٍ، أو أخٍ له في الدين، فإنه يواجه ذلك أولاً بالصبر، لأنه يعلم أن الله تعالى:

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)
(سورة الزمر)

فلمّا يُدرك ما أعدَّه الله له بصبره، وما أعدَّه الله لمن توفاه، أنا عندما أقف في عزاءٍ لوفاة أحد الإخوة الأكارم، فإنني أُذكِّر الإخوة إذا علمت طبعاً أن الرجل صالحٌ ولا نزكيه على الله، فإنني أقول للإخوة: هو الآن أصبح في مكانٍ أجمل من المكان الذي نحن فيه، وهذا دليله قوله تعالى لمّا قُتَل مؤمن آل فرعون:

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27)
(سورة يس)

فنحن نظنُّ أننا رحماء بالمتوفى، نظنُّ أننا أرحم به، لكن المؤمن يعلم يقيناً أنَّ الله أرحم به منه، وأنه الآن عند الله في دارٍ أفضل من الدار التي كان فيها، وجيرانٍ خيرٍ من جيرانه، وأهلٍ خيرٍ من أهله، ثم أخي الحبيب لمّا نتذكر أننا سنجتمع إن شاء الله، لمّا نرى اليوم إخواننا في فلسطين، وفي لبنان وفي كل مكان، من الأبرياء ومن الأحباب يموتون في سبيل الله نتذكر هذا المعنى، لأننا سنلتقي بهم إن شاء الله، وسيكون هناك اللقاء الأعظم، والفرحة الأكبر، عندما نجتمع بهم إن شاء الله عند ربنا إلى دارٍ يدوم نعيمها، أمّا الدنيا فهي دارٌ تنقضي لذائذها، وتنقضي مُتعها وهي آنيّةٌ بسيطةٌ ليس لها استمرار.

الدنيا زائلة والآخرة هي الدار الدائمة:
أهل الرياضيات أخي الحبيب يعلمون أننا لو وضعنا أكبر رقم في الدنيا، أي لو وضعنا واحد في الأرض افتراضاً يعني للطرفة، لو وضعنا واحد في الأرض ووضعنا الأصفار إلى الشمس، مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر، ووضعنا في كل ميليمتر صفر، كم سيكون هذا الرقم؟ رقم كبير جداً مهول، ثم إذا نسبناه إلى اللانهاية، وضعناه بسطاً والمقام لا نهاية فهو صفر، فما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيَط إذا غُمس في مياه البحر، فلينظر أحدكم بما يرجع.

{ عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزَّ وجل أنه قال: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. }

(أخرجه مسلم)

فلمّا ندرك أنَّ الدنيا زائلة، وأنها لم تأخذ شيئاً من الآخرة، وأنَّ

وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ(17)
(سورة الأعلى)

عندها تهون المصائب، ويُصبِّر الله قلوبنا على فقد الأحباب والأقارب والشهداء.
الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور ما الذي يصل للميت من أعمال الخير يقوم بها أهله وأحبائه؟

ما الذي يصل للميِّت بعد وفاته؟
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة أنَّ من رحمة الله تعالى أنه جعل هناك بعض الأعمال التي يصل ثوابها إلى الميت بعد وفاته، الأصل أنَّ الإنسان ينقطع عمله بالوفاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له }

(صحيح مسلم)

وقبل أن أُتابع الحديث، أُحب أن أُشير إلى شيءٍ مهم، وأنبِّه نفسي والمتابعين له، أنَّ النبي يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) إذاً إذا كان حيّاً ينبغي أن لا ينقطع عمله، فما بالك بأحياء قد انقطع عملهم، ما بالك بأُناسٍ يعيشون بيننا ويتنفسون لكنهم لا يعملون، هذه مصيبة كبيرة، فما بالك بالذين يعملون السيئات بمن يظلمون الناس والعياذ بالله (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) إذاً إذا كان حيّاً ينبغي أن يستمر عمله، ثم قال: (إلا من ثلاثة: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) فالإنسان عندما يترك صدقةً جارية، عندما يُعلِّم طالباً من طلاب العِلم، عندما يُجري ماءً، عندما يغرس شجرةً، عندما يضع مصحفاً في مسجد، عندما يترك مؤلفاً في التفسير، في الحديث، في أي علمٍ من العلوم، حتى من العلوم الدنيوية التي تنفع الناس، عندما يترك شيئاً ينفع الناس بعد موته فإن العمل مستمر، وهذا هو العِلم الذي يُنتفع به، فكم من علماء قضوا إلى الله وما زلنا حتى اليوم نستشهد بكلامهم فنقول: قال الإمام القرطبي، وقال الإمام الغزالي، وقال الإمام ابن تيمية، وهكذا، فقضوا إلى الله أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في الناس موجودة، فالعلماء باقون ما بقي الدهر (أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) والدعاء ينفع الميِّت بعد وفاته بلا خلاف، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يدعوا للميِّت، يقول:

{ كانَ النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغَ مِن دَفنِ الميِّتِ وقفَ عليهِ فقالَ: استغفِروا اللَّهَ لأخيكُم وسلوا لَه التَّثبيتَ فإنَّهُ الآنَ يُسألُ }

(السيوطي الجامع الصغير)

وكان يدعو لأمته، والولد الصالح عندما يدعو لوالديه أيضاً يصل ذلك الثواب، ومن الأمور اللطيفة في ذلك ما رواه أبو داوود في سننه

{ عن مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلٌ من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما فقال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما }

(رواه أبو داوود)

يعني والدك كان يزور مثلاً عمتك ولا أحد يزورها غيره، فينبغي أن تزورها بعد وفاته، وأن تُكرِم الصديق الذي كان لوالديك، فهناك أعمالٌ من البِر يفعلها الإنسان للمتوفى، ومنها أيضاً قراءة القرآن، فقد ذكر كثيرٌ من أهل العِلم، وإن كان الموضوع فيه خلافٌ فقهيٌ مشهور، لكن كثيرٌ من أهل العِلم على أنَّ قراءة القرآن يصل ثوابها إن شاء الله إلى المتوفى، ورحمة الله واسعةٌ عميمةٌ عظيمة، فإذا مات الإنسان فلنكثر من الدعاء له فهذا مما ينفعه بلا خلاف، ولنكثر من الأعمال الصالحة وقراءة القرآن والأذكار، لعلَّ الله عزَّ وجل ينفعه بها في قبره، وبعد موته.

منزلة الشهادة في سبيل الله وفضلها:
الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور بلال بارك الله بك، ونحن نتحدث عن الموت لا بُدَّ أن نتوقف عند الشهادة في سبيل الله ومنزلتها، خاصةً في هذه الأيام التي يسقط فيها الكثير من الشهداء، في غزَّة ولبنان وغيرها، من الجنود ومن المقاومة ومن القادة ومن المدنيين ومن الأطفال ومن النساء، فما هو فضل الشهادة في سبيل الله؟
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أنَّ هؤلاء الذين نودِّعهم كل يوم، من إخواننا المجاهدين والمرابطين، من إخواننا المدنيين، من إخواننا الصابرين، الثابتين، الذين لم يبدِّلوا ولم يُغيِّروا، هؤلاء قد أصبحوا عند الله في مكانٍ عليّ، هكذا نحسبهم ولا نزكِّيهم على الله، لكن هكذا أخبرنا الله، وهكذا أخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم، فنحن إذ نحزن إنما نحزن على الفراق، ونحزن على أننا لم يُهيأ لنا أن نكون في صفهم وفي خدمتهم ومعهم كما ينبغي، فنحن إذ نرثي نرثي لحالنا ولا نرثي لهم، فهُم عند الله في مكانٍ آخر، هم عند الله

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)
(سورة آل عمران)

أخي الحبيب ذكرت في مقدمتك قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)) انظر إلى ما أعدَّه الله أو إلى فضل الشهادة في سبيل الله.
قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ) بل حرف إضراب، إذا هم ليسوا أمواتاً، إذاً ما فضل الشهادة في سبيل الله؟ قال: (بَلْ أَحْيَاءٌ) فالشهيد حيٌّ لم يمُت (بَلْ أَحْيَاءٌ) ثم قال: (عِندَ رَبِّهِمْ) وهذه العندية لها مكانةٌ كبيرة، يقولون الجار قبل الدار، فهُم في جوار ربهم (عِندَ رَبِّهِمْ).
ثم قال: (يُرْزَقُونَ) ربما مات أحدهم وهو لا يجد ما يأكله، مات تحت الأنقاض، مات تحت أنقاض بيته، لم يجد ما يأكله في الدنيا، لكنه الآن يرزق عند الله بالرزق العميم (بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169))، (فَرِحِينَ) ثم قال: (يَسْتَبْشِرُونَ) إذاً هي خمسة فضائل، خمسة عطايا من الله تعالى، أحياءٌ وعند ربهم ويرزقون وفرحين ويستبشرون، فانظر إلى هذه المكانة العظيمة للشهادة في الإسلام، وانظر إلى ما أعدَّه الله تعالى للشهداء، ثم إذا قرأ الإنسان قوله تعالى:

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)
(سورة آل عمران)

فأي منزلةٍ للشهادة، والله تعالى هو الذي يتخذ الشهداء، يعني هو جلَّ جلاله من يصطفيهم، وهو من يريدهم إلى جوراه، فأعظِم به من جوار، وأكرِم بها من مكانة، وأكرِم بهم من مجاهدين ومرابطين صدقوا الله تعالى فصدقهم

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا(23)
(سورة الأحزاب)


المؤمن الحق يطلب الشهادة في سبيل الله:
الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور بلال هناك ملمحٌ نشهده هذه الأيام، كنّا عندما نقرأ في كتب السيرة النبوية وسيَر الصحابة، نجد بعض الصحابة الذين طلبوا من الله الشهادة بشكلٍ مُعيَّن، ويحدث ذلك، أحد الصحابة يقول: أنها ها هنا ويأتي السهم هنا بالفعل، هذه الأيام التي نحياها، وفي هذا التوقيت نجد بعض مَن استُشهدوا يقول أنا لا أريد أن أموت في الكورونا، مثل السنوار قال: لا أريد أن أموت في الكورونا، ولكن أن أُقتَل مجاهداً مُقبِلاً غير مُدبِر، وينال هذا الأمر وغيره وغيره من الذين سقطوا شهداء، ما دلالة ذلك فضيلة دكتور بلال؟
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة دلالته العظيمة أنَّ الله تعالى:

وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(14)
(سورة البروج)

وأنَّ الله

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(61)
(سورة هود)

فالله تعالى يتودَّد لعباده ويُجيب دعاءهم، دلاله ذلك أنَّ الله تعالى يحبنا ويريدنا، ونحن مطلوبون إلى رحمته، فلذلك من أعظم الإجابات التي يُجيب الله تعالى دعاء عبده بها، هي أن يطلب الإنسان الشهادة في سبيله، لذلك فليكثر الإنسان من الدعاء بصدق، وبإخلاص لله تعالى، أن يختم الله تعالى حياته بالشهادة، لأنها أعظم مكانةٍ ينالها الإنسان، ولأنها أعظم مكرمةٍ يحصل عليها إنسانٌ في حياته.
لذلك كما تفضلت كان السلف الصالح يطلبون هذه المكانة، ويطلبون أن يحصلوا عليها، ثم جاءت أيام انتشرت فيها المادة إلى درجةٍ تناسى الناس فيها هذه المعاني، معاني الجهاد والشهادة في سبيل الله، والرباط، والقتال من أجل إعلاء كلمة الله، ولحفظ كرامة الإنسان والأوطان، تناسى الناس هذه المعاني في غمرة الحياة الدنيا وسيطرة المادة عليها، فإذا بربنا جلَّ جلاله في هذه الأحداث الأخيرة، على ما فيها من آلامٍ لا نُنكِرها، وعلى ما فيها من آمالٍ نتطلع إليها، شاءت حكمة الله أن يُحي هذه المعاني في نفوسنا من جديد، أن يجعلنا نعود إلى هذه المعاني السامية، أن ينتشلنا من وحل الأرض إلى وحي السماء، أن ينتشلنا من المصالح والشهوات إلى المبادئ والقُربات، فأحيا فينا هؤلاء المجاهدون، وهؤلاء الصابرون، وهؤلاء المرابطون والثابتون، أحيوا فينا هذه المعاني من جديد.

الجهاد في سبيل الله:
والله على عِظم الآلام في هذه المِحن، فإننا لو لم نجد منها إلا هذا المعنى العظيم، وهو أنَّ أجيالنا قد أُحيِيَ فيها هذا المعنى، وأصبح أطفالنا الصغار يسألوننا ويبحثون عن هذه المعاني، ويبحثون عن فضل الشهيد وفضل الشهادة، ويرون بأُم أعينهم ما كانوا يقرؤونه في الكتب، كانوا يقرؤون في الكُتب عن جعفر رضي الله عنه وقد حمل الراية بيمينه وبشماله وكأنها خيال، ثم يجدون اليوم المجاهدين على ثرى فلسطين، هذا مقطوع الرجِل وهو يمشي، وهذا مقطوع اليد وهو يجاهد، وهذا وذاك، فأصبحت أجيالنا الآن تعي هذا المفهوم، وتنظر إليه واقعاً مشاهَداً على الإعلام وعلى الشاشات، بعد أن كانت تقرأه في الكتب، صدق الشاعر إذ يقول:
هَجَر اللذائذ وانبرى ليثاً في أدغال الشرى بـاع الحـياة رخيصةً لـله... والـله اشــتــرى قد عـاف لين فراشـه وغـدا لـيـفـتـرش الـثـرى أنـــت لـــه أقــــــدامــــه وبــكــت إلــيـه تـــفـــطـــرا وشــكـــت لــه أطـــرافــه يـكـفــي أســـا وتـصـبـرا فـــأجـــابــهــا مــتجــلــداً قـد بـعـت والله اشــتــرى
{ سالم سويلم }

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111)
(سورة التوبة)

وانظر إلى العظيم وهو يقول لك: (وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ليس شخصاً عادياً من يقول لك إنَّ ذاك فوزٌ عظيم، وإنما العظيم جلَّ جلاله هو من يقول لك: (وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فاز الشهداء، وفاز أهلنا في فلسطين، وفاز أهلنا في كل مكانٍ يذكر فيه اسم الله تعالى، لمّا صبروا وثبتوا، وجاهدوا ورابطوا، وبقيَ

وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(13)
(سورة الصف)

إن شاء الله تعالى.
الأستاذ مجاهد:
دكتور بلال ما هو جزاء الشهيد في الآخرة؟ ما هو الفوز العظيم كما جاء في القرآن الكريم؟

ما هو جزاء الشهيد في الآخرة؟
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة أجمعُ حديثٍ في ذلك حتى لا نُطيل والوقت قصير، أن نأتي بأجمع حديثٍ في هذه المسألة وهو:

{ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له في أول دَفعة ويَرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبرِ، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحورِ العِين، ويشفّع في سبعين من أقاربه }

(رواه الألباني في صحيح الترمذي)

ياقوتةٌ في تاج الوقار على رأس الشهيد خيرٌ من الدنيا وما فيها، ماذا في الدنيا؟ كُبريات الشركات، أنواع منوَّعة من السيارات، من التقدم والتكنولوجية، قال: (تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها) فماذا بقي من فضلٍ بعد هذه الخصال الست، لا عذاب في القبر، ولا فزَع يوم الفزَع، ومغفرةٌ للذنوب، واستشرافٌ لمقعده من الجنَّة من الآن، وهذا من عظيم النعيم، أن يرى الإنسان مقعده في الجنَّة وهو ينتظره في حياته البرزخية، ثم مُتعاً من الدنيا التي كانت مُتعاً زائلة، فأصبحت في الأخرة مُتعاً مستمرةً باقية.
ففضل الشهيد في الآخرة عند الله فضلٌ عظيمٌ، يقول صلى الله عليه وسلم يصف من يقاتل في سبيل الله:

{ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، ومَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، والرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبيلِ اللَّهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا. }

(صحيح البخاري)

يعني كم يأخذ السوط من موضع في الجنَّة؟ فالله تعالى أعدَّ للشهيد أجراً عظيماً، وأعدَّ له جنَّةً عرضها السماوات والأرض، فيها:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى: أَعْدَدْتُ لعِبَادي الصَّالحين ما لا عَيْنٌ رأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَر على قَلب بَشَر }

(رواه مسلم)

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، في غزَّة من مات غريقاً وهو يحاول أن يصل إلى المساعدات التي سقطت في البحر، وفي غزَّة أيضاً من مات في الحرق، حرقاً في الخيام، وفي غزَّة من مات برصاص الاحتلال وهو يقاوم، هل الجميع سواء أم أنَّ للشهادة درجات؟

الشهداء عند الله تعالى درجات:
الدكتور بلال نور الدين:
الحقيقة أخي الكريم قبل أن أسترسل في الجواب، منظر حرق الخيام كان حقيقةً مؤلماً، لم نستطع نوم الليل بعده، أسأل الله تعالى أن يكون لهؤلاء أجر أصحاب الأخدود، فهؤلاء أصحاب الأخدود قد شُقَّ لهم الشق وأحرقوا، لكن الله تعالى أثنى عليهم وقال: (وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فرغم كل ما لقوه في الدنيا فقد فازوا فوزاً عظيماً

قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ(4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ(5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ(7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(8)
(سورة البروج)

هؤلاء شهداء إن شاء الله، سواءً الغريق، وسواءً الذي احترق بالنار، أو الذي انهدمت داره فوقه، أو الذي مات بمرضٍ عضال، أو تلك المرأة التي ماتت وهي تلد جنينها، هؤلاء جميعاً وردت بهم أحاديث صحيحة، منها:

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: الشهداء خمسة: المطعون والمبطون، والغريق، وصاحب الهَدْمِ، والشهيد في سبيل الله }

(متفق عليه)

المطعون الذي يُطعن، والمبطون الذي يموت في مرضٍ في بطنه، والغريق، وصاحب الهدم الذي تهدم داره فوقه، كما نرى في هذه الأيام نسأل الله الفرَج، والشهيد في سبيل الله، ووردت أنواعٌ أُخرى

{ مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ }

(سنن الترمذي)

{ والمرأةُ تموتُ بجُمْعٍ شهيدة }

(الألباني صحيح الجامع)

أي التي تكون حامل، وهكذا، فالشهداء متنوعون لكن هل هم درجات؟ طبعاً هم درجات، لا شك أن أعظم الدرجات في الأجر هو ما يُسمّيه العلماء شهيد الدنيا والآخرة، وهو الذي مات في أرض المعركة مُقبِلاً غير مُدبِر يقارع أعداء الله، لتكون كلمة الله هي العليا، فهذا له أحكام الشهيد في الدنيا، فلا يُغسَّل عند جمهور أهل العِلم، ولا يصلّى عليه عند جمهور أهل العِلم، ويدفن بدمائه.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ما من مَكْلُومٍ يُكْلَمُ في سبيل الله، إلا جاء يومَ القيامة، وكَلْمُهُ يَدْمَى: اللَّونُ لَوْنُ الدَّمِ، والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ }

(متفق عليه)

كما قال صلى الله عليه وسلم.
وبعده هناك مَن هو شهيدٌ في الآخرة، وهو من قُتِل مظلوماً، من قُتِل تحت داره، من قُتِل غريقاً حريقاً تحت الهدم، فهذا أيضاً له مرتبةٌ عظيمة، هذا لا تجرِ عليه أحكام الشهيد، يُغسَّل ويصلّى عليه لكنه شهيدٌ عند الله، وتُرجى له الشهادة، فهم درجاتٌ عند الله، قال تعالى:

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)
(سورة الأنعام)

ولا شك أنَّ أعظم درجةٍ هي أن يُقدِّم الإنسان روحه في أرض المعركة، مُقبلاً غير مُدبِر، ولكن أيضاً من يموت في ظل هذه الظروف والحصار، وتحت القصف، وتحت بيته ويكون مؤمناً، فالله عزَّ وجل يتقبله في الشهداء إن شاء الله وكلٌ على نيَّته.

أسئلة وأجوبة:
الأستاذ مجاهد:
إذاً فضيلة الدكتور أعلى الدرجات هو من يجاهد في سبيل الله ويُقتَل مُقبِل غير مُدبِر، مُشتبك غير مختبئ، لوجه الله عزَّ وجل، والجميع إن شاء الله شهداء عند الله عزَّ وجل، بارك الله بك فضيلة الدكتور، لم يتبقَ من وقت الحلقة الكثير، ونريد أن نستعرض عدد من الأسئلة التي وردت إلينا، يقول صاحب السؤال:

السؤال الأول:
لماذا لم يستخدم القرآن الكريم لفظ شهيد؟ واستخدم كلمة قتيل عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، قال:

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144)
(سورة آل عمران)

الدكتور بلال نور الدين:
نعم لفظ الشهادة أخي الحبيب أعمّ من لفظ القتل، فالقرآن الكريم له اصطلاحات، فهو يستخدم كلمة الشهيد في مجالاتٍ متنوعة، فلو استخدمها عند القتل لذهب الذهن إلى المجالات الأُخرى، الله تعالى مثلاً قال:

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133)
(سورة البقرة)

يعني حاضرين، وقال تعالى:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(143)
(سورة البقرة )

وسمّى نفسه شهيداً، فقال:

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53)
(سورة فصلت)

فكلمة الشهيد والشهادة بمعنى الحضور والعِلم والحياة، هي أعمُّ من القتل في سبيل الله، فحتى عندما يقرأ القرآن يفهم المُراد منه، فالله تعالى في القرآن يستخدم قُتِل في سبيل الله قُتِل، حتى نفهم المعنى تماماً، أمّا كلمة الشهداء فيستخدمها بمفهوم أعمّ من استخدام لفظ الشهيد في اصطلاحنا، لكن في السُنَّة استخدم النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الشهيد، بمعنى

{ جاء رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنْ قُتِلتُ في سَبيلِ اللهِ صابرًا مُحتسِبًا مُقبِلًا غيرَ مُدبِرٍ، كَفَّرَ اللهُ به خَطايايَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنْ قُتِلتَ في سَبيلِ اللهِ صابرًا مُحتسِبًا مُقبِلًا غيرَ مُدبِرٍ، كَفَّرَ اللهُ به خَطاياكَ، ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ لَبِثَ ما شاء اللهُ، ثُمَّ قال: يا رسولَ اللهِ، إنْ قُتِلتُ في سَبيلِ اللهِ، كَفَّرَ اللهُ به خَطايايَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنْ قُتِلتَ في سَبيلِ اللهِ صابرًا مُحتسِبًا، مُقبِلًا غيرَ مُدبِرٍ، كَفَّرَ اللهُ به خَطاياكَ إلَّا الدَّينَ؛ كذلك قال لي جِبريلُ. }

(مسند الإمام أحمد)

{ أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله }

(رواه البخاري ومسلم)

فإذاً الاصطلاح القرآني فقط من أجل تحديد المعنى، لأنَّ لفظ الشهادة في القرآن أعمّ من لفظ القتل في سبيل الله تعالى.

السؤال الثاني:
الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور، تقول صاحبة السؤال: كيف أعرف أنَّ ما يمُرَّ بي من المصائب والمشاكل هي ابتلاء من الله ورحمة، أم عقاب من الله؟ هذا سؤال الأخت أمل.
الدكتور بلال نور الدين:
من شيئين اثنين أختي أمل، الأمر الأول إن قابلتِ ما يأتيكِ من الله من المصائب، إن قابلتيه بالرضا فهو ابتلاء وقد نجحتِ به ولله الحمد، ومن قابله بالسخط وعدم الرضا فهو عقاب، فموقفكِ أنتِ من هذا المصاب هو الذي يحدده، فإن قابلته بالرضا فاطمئني فهو إن شاء الله ابتلاءٌ قد نجحتِ به، وإن قابله غيرك نسأل الله السلامة بالسخط، و لماذا حصل معي هذا، ولماذا يفعل الله تعالى بي هذا، فإنها عقوبةٌ من الله تعالى، والأمر الثاني إن كان الإنسان في الأصل مستقيماً في العموم، فهذا الابتلاء هو امتحان من الله، أمّا إذا كان مقيماً على المعاصي والآثام، مقيماً غير تائبٍ منها، فليعلم أنَّ ما آتاه هو تنبيهٌ من الله تعالى لعله يرجع ويتوب إلى الله.

السؤال الثالث:
الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، يقول صاحب السؤال: ممكن تعطيني شيء يطمئنني لأن عندي وساوس الموت والخوف منه، ومع مشاهد أهلنا في غزَّة ازدادت حالتي سوءاً.
الدكتور بلال نور الدين:
الموت ليس مخيفاً أخي الحبيب، الموت والله ليس مخيفاً، الموت تحفة المؤمن، الموت عرس المؤمن، لماذا نخاف من الموت؟ أهلنا في غزَّة الذين تتألم لهم وكلنا نتألم لهم، كثيرون منهم طلبوا الشهادة في سبيل الله ونالوها، لأن الموت لقاء الحبيب مع محبوبه، هذا بلال رضي الله عنه: "غداً نلقى الأحبَّة محمداً وصحبه"، هذا معاذ: "مرحباً بالموت مرحبا، حبيبٌ وفد على شوق وزائرٌ أتى بعد غياب"، هذا عمر بن عبد العزيز لمّا حضرته الوفاة رفع رأسه إلى السماء قال: " إني كنت أخافك ولكني اليوم أرجوك" ثم قرأ:

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)
(سورة القصص)

ثقافتنا نحو الموت مغلوطة، الموت لا يخيف، الموت جميل، الموت هو اللقاء، لقاء الحبيب مع محبوبه، المطلوب فقط أن نأتي ما أمرنا الله به وأن ننتهي عمّا نهانا الله عنه، فإن وقعنا أن نسارع إلى التوبة، وبعدها أقول لك الموت تحفة المؤمن، وعرس المؤمن، حال الميِّت المؤمن عندما يلقى الله، كحال إنسانٍ أمضى حياته في الدراسة والتعب ثم تسلَّم جائزته، كيف يكون حاله عند يوم الجائزة؟ يكون في أسعد حال، وهذا حال المؤمن عندما يلقى ربه، فالموت لا يخيف أخي، الموت بالعكس تماماً

{ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ أحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أكَراهِيَةُ المَوتِ، فَكُلُّنَا نَكْرَهُ المَوتَ؟ قال: لَيْسَ كَذَلِكَ، ولكِنَّ المُؤْمِنَ إذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءهُ، وإنَّ الكَافِرَ إذَا بُشِّرَ بِعَذابِ اللهِ وَسَخَطهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وكَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ }

(رواه البخاري ومسلم)


السؤال الرابع:
الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك فضيلة الدكتور، محمد القدسي من اليمن يسأل عن ما هي الأكثر عِبرة للإنسان موت القريب أم موت العدو؟
الدكتور بلال نور الدين:
كلاهما فيه عِبرة لكن كلٌ منهما من زاوية، لا شك أنَّ العِبرة في موت القريب هي الأكثر، ليتعظ الإنسان ويستعد للموت، لأن هذا الذي أمامه كان يألفه، يجالسه، يتكلم معه، يهاتفه، قبل دقائق ربما أرسل له رسالة عبر وسائل التواصل، فهذا فيه العِبرة والعِظة أكثر، لكن العِبرة والعِظة من موت الأعداء هذه من زاويةٍ أُخرى، وهي أنَّ الله تعالى ينتقم ويبطش، وأنَّ هؤلاء تجبَّروا وعتوا في الأرض ولكن الله

كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ(42)
(سورة القمر)

فكلٌّ من الموتين له زاويةٌ في العِبرة، وكلاهما عِبرةٌ وعِظة.

السؤال الخامس والأخير:
الأستاذ مجاهد:
نعم بارك الله بك فضيلة الدكتور، سؤالنا الأخير في هذه الحلقة فضيلة الدكتور من الأخ قُصي المنتصر يقول: هل الشهيد يشفع لأحد يوم القيامة؟ ومعنى الشفاعة؟
الدكتور بلال نور الدين:
نعم.

{ دخلنا على أمِّ الدَّرداءِ ونحنُ أيتامٌ فقالت أبشِروا فإنِّي سمعتُ أبا الدَّرداءَ يقولُ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: يشفَّعُ الشَّهيدُ في سبعينَ من أَهلِ بيتِهِ }

(صحيح أبي داوود)

كما جاء في الصحيح، يعني تخيَّل حجم الشفاعة! والسبعين في اللغة العربية تأتي للتكثير، قال تعالى:

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80)
(سورة التوبة)

قال صلى الله عليه وسلم:

{ أخِّرْ عَنِّي يَا عمَرُ إِنِّي خُيِّرْتُ فاخترت قد قِيلَ لي اسْتَغْفِرْ لهُم أوْ لَا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ لَوْ أعْلَمُ أنِّي لو زدت على السبعين غفر له لزدت }

(الألباني صحيح الجامع)

ففهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الفصحاء، أن العدد للتكثير، وبعض أهل العِلم قالوا العدد هنا للتكثير، يعني يشفع في سبعين، أي في كثيرٍ من أقاربه، لكن نسأل الله إن استُشهد أحدٌ من أقربائنا أن نكون أهلاً لشفاعته، يعني هو لن يشفع للخونة، ولن يشفع للظالمين، ولن يشفع للمجرمين، لكن سيشفع في أقاربه الموحدين المؤمنين الذين قصَّرت بهم أعمالهم، الشهيد يشفع في سبعين من أقاربه.
الأستاذ مجاهد:
أشكرك شكراً جزيلاً فضيلة الأستاذ الدكتور بلال نور الدين الداعية الإسلامي على وجودك معنا في هذه الحلقة، شكراً جزيلاً لك.
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم وشكر الله لكم.