كيف يستعد المسلم لشهر رمضان المبارك؟

  • قناة الجزيرة مباشر - اللقاء 02
  • 2023-03-17

كيف يستعد المسلم لشهر رمضان المبارك؟


مقدمة:
الأستاذ مجاهد:
مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم "أيام الله".
كان من عادة السلف -رضوان الله عليهم- إذا دخل عليهم شهر رجب أن يبتهلوا بالدعاء قائلين: "اللهم بارك في رجب وشعبان وبلغنا رمضان"، ونحن على أعتاب شهر رمضان المبارك، نردد دعاءهم فنقول: "اللهم بلغنا رمضان في خير وإنعام وإحسان يا رب العالمين"، لذلك ينبغي أن يستقبل المسلم شهر رمضان بغاية الشوق إليه، والانتظار له؛ لأنه شهر مبارك، اختاره الله تعالى مِنحةً منه للأمة الإسلامية لتحتفل أصالةً عن نفسها، ونيابةً عن البشرية جميعاً بعيد الهداية الإلهية؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الكتب السماوية جميعاً نزلت في شهر رمضان، لذلك كلّفنا الله تعالى بصيام هذا الشهر وقيامه، وندبنا إلى كثرة الخيرات والأعمال الصالحة فيه؛ حتى نثبّت معاني الخير والدين في أنفسنا، فالمسلم يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويطعم فيه إخوانه، ويتلو فيه كتاب ربه، فكيف نعد الزاد لهذا الشهر الفضيل لنحقق الاستفادة القصوى من أيامه المباركات؟ وكيف يستقبله المسلم ليكون من الرابحين بنهايته؟ هذا هو موضوع حديثنا مع فضيلة الدكتور بلال نور الدين الداعية الإسلامي، أهلاً وسهلاً بفضيلتكم دكتور بلال، وجمعة مباركة.

الدكتور بلال:
حياكم الله تعالى، بارك الله بكم، ونفع بكم، وأعلى قدركم، وأهلاً وسهلاً.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، نحن على بعد أيام من شهر رمضان المبارك، ما الذي ينبغي علينا أن نقوم به في هذه الأوقات؟

الدكتور بلال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك، وشكراً لإتاحة هذه الفرصة الطيبة للقاء بجمهوركم العزيز، كل عام وأنتم بخير، وأنتم الخير إن شاء الله لمن حولكم.

فضل شهر شعبان:
نحن كما تفضلت على أعتاب شهر عظيم مبارك، وفي نهاية شعبان، وقد كان السلف الصالح يقولون: المسلم يزرع في رجب، ويسقي في شعبان، ويحصد زرعه في رمضان.
في شعبان تُرفَع فيه الأعمال إلى الله
هذا الشهر شهر شعبان نحن في نهايته، ولله الحمد والمنّة، وهو الشهر الذي تُرفَع فيه الأعمال إلى الله، وما زال فيه مُتَّسع لترفع أعمالنا إلى الله تعالى ونحن في خير حال مع الله، ومع خلقه.
وفي شهر شعبان مرت ليلة النصف من شعبان التي يطّلع الله فيها على جميع خلقه فيغفر إلا لمشرك أو مشاحن، وكأنني بهذا الحديث الذي يقول إن الأعمال ترفَع في شعبان،

{ يا رسولَ اللَّهِ ! لم ارك تَصومُ شَهْرًا منَ الشُّهورِ ما تصومُ من شعبانَ ؟ ! قالَ : ذلِكَ شَهْرٌ يَغفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجبٍ ورمضانَ ، وَهوَ شَهْرٌ تُرفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى ربِّ العالمينَ ، فأحبُّ أن يُرفَعَ عمَلي وأَنا صائمٌ. }

(صحيح النسائي)

وفي الآخر الذي يقول إنه يغفر في شعبان إلا لمشرك أو مشاحن:

{ يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن. }

(رواه ابن ماجه والطبراني)

كأن النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا في هذه الايام أن ننزع ما بيننا من شحناء.

التخلية والتحلية:
خير ما نستقبل به هذا الشهر الكريم في تلك الأيام المتبقية أن نزيل الخصومات، أن نرفع الشحناء، ألا يبقى في قلوبنا حقد على أحد من خلق الله، أن نؤدّي الحقوق إلى أصحابها، أن نعطي كل ذي حق حقه، حتى إذا استقبلنا رمضان استقبلناه كما يحب الله تعالى ويرضى، استقبلناه وعندنا ما يسمى "التخلية" وبقي رمضان للتحلية.
استقبال هذا الشهر بازالة الخصومات
مثال بسيط: أنت إذا كان لديك كأس فارغ ليس فيه شيء من ماء أو عصير، لكن هذا الكأس مُتّسخ، ليس نظيفاً، ليس شفافاً، ليس لامعاً، لو جئت بأطيب عصير وملأت به الكأس فإنه لا يقبل به أحد، ولا يشرب منه أحد؛ لأن الكأس لم يخضع للتخلية قبل أن تأتي التحلية، فنحن في الأيام المتبقية من شعبان ينبغي أن نقوم بما يسمى "التخلية" حتى إذا جاء الأول من رمضان بدأت "التحلية" من أول يوم، بدأت الأنوار من أول يوم، بدأت التجليات والسكينة من أول يوم في رمضان، فمهمتنا في الأيام المتبقية من شعبان فيما أحسب والله أعلم أن نكثر من التخلية، أن نصفّي نفوسنا، ألا نذرَ فيها حقداً، ألا نذرَ فيها تعلقاً بشهوة، تعلقاً بمعصية، تعلقاً بدنيا حرام، تعلقاً بشيء لا يرضي الله تعالى، أن نصفّي النفوس، وأن نخلّيَها كما ننظف الكأس ليأتي الشراب الطيب فيملأه بالخير والبركة.
القلوب منظر الرب، والقلب موضع نظر الرب، فإن الله يطّلع إلى قلوبنا، فلا ينبغي أن يأتي رمضان، فيطّلع الله إلى قلوبنا فيجدها مليئة بالشحناء لخلق الله، أو بالبغض لخلق الله، أو هناك حقوق لم تُؤدَّى، أو للعباد علينا أشياء لم نعطِها لهم من ديون؛ سواء كانت مادية أو معنوية، فلْنتصافَ، ولْنتحابب، ولْنتوادد، ولْنجتمع على الله، ولْنعد إلى الله، ولْنرجع إليه، فإن خير ما نفعله في تلك الأيام المتبقية من شعبان أن نتوب إلى الله تعالى، ولا سيما من البغضاء والشحناء والحقد والحسد، وغير ذلك من أمراض القلوب التي إن ملأت النفس والقلب منعت أنوار الله تعالى أن تنزل على هذا القلب؛ فيأتي رمضان والقلب مظلِم، فكيف له أن يتلقى أنوار الله، وكيف له أن يتلقى السكينة، وكيف له أن يتلقى الحب من الله تعالى في هذا الشهر الكريم.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال على هذا الاستهلال الطيب الذي أثار بعض الأسئلة، منها: حضرتك ضربت مثالاً بفكرة الكأس المتسخ لا يمكن أبداً أن يشرب منه الإنسان أغلى أنواع العصائر إن علم أنه كان متسخاً، لكن هذا الكأس المُتّسخ يعني الوسيلة لتنظيفه بالماء والسائل، ما هي الوسيلة التي ينبغي على كل مسلم أن يتخذها كي يتخلّى عن أمراض القلوب، عن الحقد، عن الحسد، عن التعلق بمعصية، حتى يدخل إلى رمضان للتحلية؟

الوسيلة التي ينبغي على كل مسلم أن يتخذها كي يتخلّى عن أمراض القلوب:
الدكتور بلال:
الله تعالى أصل الجمال والكمال والنوال
بارك الله بكم، الحقيقة ربنا جل جلاله أصل كل جمال، وأصل كل كمال، وأصل كل نوال، الله تعالى هو الجميل، والله تعالى هو الكامل، والله تعالى هو المعطي، لذلك قالوا: "الله تعالى أصل الجمال والكمال والنوال"، فإذا أراد الإنسان أن يطهّر قلبه، وأن يُخَلِّيه من أجل أن يُحَلّيه في رمضان، إذا أراد أن يجعل قلبه نظيفاً خالياً من الشهوات، فما عليه إلا أن يُكثِر من الاتصال برب الأرض والسماوات؛ لأن الله تعالى أصل العطاء، أصل الكمال، فإذا اتصلت به ألقى في قلبك النور، ألقى في قلبك السكينة، ألقى في قلبك الحب، يقول تعالى مخاطباً نبيه -صلى الله عليه وسلم-:

فبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)
(سورة آل عمران)

فمن أين جاءت الرحمة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم؟ كيف كان قلبه أطهر قلب في الوجود؟ بسبب اتصاله بالله تعالى، والله تعالى يقول في آية أخرى:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)
(سورة الأعراف)

ومن معاني ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾ أن تشتق من كماله جل جلاله شيئاً تتقرب به إليه، فالله لطيف، فكن لطيفاً بخلقه، والله رحيم فارحم من حولك، والله تعالى ودود فكن في ودٍّ مع الخلق الذين يحيطون بك، والله تعالى جبّار فاجبر كسر قلوب الآخرين، فنشتقّ من أسماء الله الحسنى ما نتقرب به إليه جل جلاله، نفرُّ منه إليه:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)
(سورة الذاريات)

فما تفضّلت به من أنه كيف يمكن أن ننظّف القلوب، كيف ممكن أن ننقّي السرائر، يمكن ذلك من خلال الاتصال بالله تعالى، فأنا أقترح كاقتراح عملي حتى لا نبقى في الكلام النظري؛ أن يبادر المؤمن في هذه الأيام المتبقية من شهر شعبان إلى البدء ولو بركعتي قيام ليل، مثلاً بعد صلاة العشاء أو قبل الفجر بدقائق، يبدأ يدرب نفسه من الآن، فهذا القلب إذا اتصل بالله تعالى لأنه لا يحمل حقداً على أحد، لماذا الناس يحملون حقداً على الآخرين؟ لانقطاعهم عن الله تعالى، لماذا الناس يقول لك أتمنى أن أفعل به كذا وكذا لمن أساء إليه ولو إساءة طفيفة؟ لأن القلوب انقطعت عن خالقها، انقطعت عن أصل الجمال والكمال والنوال، النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في قمة اتصاله بالله تعالى، لذلك يوم آذاه قومه في الطائف، وفعلوا به ما فعلوا، وجاء ملك الجبال ليمكّنه من الانتقام منهم جميعاً، وقال:

{ إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، -ماذا قال صلى الله عليه وسلم لطُهر قلبه- فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا. }

(صحيح البخاري)

دعا لهم، واعتذر عنهم، ورجا الله تعالى أن يكون في ذريّتهم الخير، وهذا ما كان، فكيف طهُرَ قلبه صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الخلق، وقلبه سيد القلوب، كيف حصل ذلك؟ باتصاله بالله تعالى، فلنبدأ من الآن حسن الصلة بالله، فوالله لو اتصل القلب بالله فإنه لا يمكن أن يحمل غِلاً على خلق الله تعالى، لأن الخلق عباد لله، ولأن الله تعالى يحب عباده، ويحب من يحب عباده، ويحب من يُحبِّبه إلى عباده.

الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور، حضرتك أشرت على أن الصلة بالله -عز وجل- البعض قد يتبادر إلى ذهنه ويرى أن معاصيه كبيرة وكثيرة تعيق الاتصال بالله عز وجل، ربما استحيا من الله عز وجل، أو ربما رأى أنه لا فائدة، لقد أتيت من المعاصي الكثير والكثير، فبماذا ترد عليه فضيلة الدكتور؟

كيف يتصل العاصي بالله عز وجل؟
الدكتور بلال:
سيدي أنا أعتقد أن هذا من فعل الشيطان، الشيطان له أبواب على بني آدم، قال تعالى على لسان ما قال الشيطان:

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
(سورة الأعراف)

فهو يأتي من كل الجهات، وبالمناسبة هو لا يأتي لا من جهة العلو، ولا من جهة الدنو؛ لأن العلو مع الله فوراً، ولأن الدنو باب الذل إلى الله تعالى، ولكنه يأتي من أربع جهات: أمام وخلف ويمين وشمائل، من حبائله التي يمكن أن تكون من أمام الإنسان لا من خلفه أنه يزهّده بالتوبة، أنه يعيقه عن طريق التوبة، يقف له في طريق التوبة، من أفاعيله أنه يقول له: كيف تأتي إلى الله؟ هذا يأتيه من يمينه من غير أن يشعر، ليس من المعصية، ولكن يقول له: كيف تتوب وأنت على هذه الحال؟ هل يقبلك الله وقد فعلت ما فعلت؟ فيزهّده ويُيَئّسه، قيل إن الإمام الحسن البصري جاءه رجل فقال له: إنني أذنب ثم أتوب، أذنب ثم أتوب، كأنني كالمستهزئ بربه، يعني كلما أعقد العزم ثم أعود إلى الذنب ثم أتوب منه، ثم أعقد العزم على عدم العودة، ثم تغلبني نفسي، بهذه الحال، فقال الحسن البصري: "ودّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه". أي لو وصل إلى هذه النقطة: أن يقول لك لا داعي للتوبة، فأنت مذنب، صاحب ذنوب كثيرة، قلبك قد أظلم، وحياتك لم يعد فيها أمل، فدعك من التوبة، ودعك من هذا الشهر، ومن غيره، فلا أمل في الشفاء، ولا أمل في النهوض من جديد، فهذا حبل من حبائل الشيطان، نقول لكل عاصٍ: إن الله تعالى –وكلنا عصاة- من منا ليس ذا خطأ؟ كلنا ذو خطأ، ولكننا نتفاوت في عدد الذنوب، وفي حجمها، ولكن كلنا نقع في الخطأ:

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
(سورة طه)

المؤمن يثقُل عليه ذنبه فيعود إلى الله
حال الإنسان أنه ينسى فيقع في المعصية، لكن المؤمن يثقُل عليه ذنبه فيعود إلى الله، لذلك نقول لكل عاصٍ هذه فرصة، هذا الشهر الكريم على الأبواب، فرصة استثنائية قلما تعود، ولعل الله تعالى أراد بك، وأراد بنا خيراً فبلغنا رمضان، كم من أخ كريم، كلنا الآن، أنا وأنت أخي الأستاذ مجاهد، وكل المشاهدين، لو قلت لهم الآن: عدّ لنا ثلاثاً أو أربعاً من أصحابك وأقربائك الذين كانوا معك في رمضان الماضي، وصاموا معك رمضان الماضي، والآن هم تحت أطباق الثرى، سيعد اثنين وثلاثة، وربما عشرة حسب معارفه، فكثير من الناس انتهت فرصهم في رمضان الماضي، فإذا كان الله -عز وجل- أراد لنا، وشاء لنا -إن شاء الله- أن يبلغنا رمضان، وأن ندخل إلى رمضان جديد، فهذه فرصة استثنائية قلما تعود، وهي فرصة للتوبة والمغفرة مهما كثرت الذنوب، ربنا جل جلاله يخاطب عباده المسرفين على أنفسهم، هؤلاء الذين وصفتهم أخي الأستاذ مجاهد تماماً، الذين بالغوا وأكثروا من الذنوب كمّاً ونوعاً:

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54)
(سورة الزمر)

ارجعوا إلى ربكم، وأسلموا القيادة له، فإنه ينتظركم، يريد أن يتوب عليكم،

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)
(سورة النساء)

فلنكن عند مراد الله الشرعي، ولنكن عند ما يريده الله تعالى، فإنه ينتظرنا وينتظر توبتنا وقد ورد في بعض الآثار: "إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماء والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله".

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، حضرتك في معرض حديثك تحدثت أنه ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه مع من حوله، وأن يرد الحقوق المادية والمعنوية، جميعنا يعلم الحقوق المادية هي إذا كان هناك مال أو شيء يعطيه لمن أخذه أو يسامحه، لكن ما هي الحقوق المعنوية بين المسلمين التي ينبغي أن يحافظ المسلم عليها حتى لا يقع في المعصية؟

الحقوق المادية والمعنوية للعباد:
الدكتور بلال:
جزاكم الله خيراً، كما ورد في الصحيح:

{ مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. }

(صحيح البخاري)

{ مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ. }

(صحيح البخاري)

لكن أجمع العلماء على أن هذه الذنوب التي تُغفَر بصيام رمضان، وبقيام ليالي رمضان إنما هي الذنوب التي بين العباد وربهم جل جلاله، أما ذنوب العباد فهي مبنية على المشاححة، حقوق الله مبنية على المسامحة، فلو أن إنساناً قصّر في جنب الله، قصّر في صلاته، في صيامه، في أداء واجباته، في ضبط بصره، في ضبط جوارحه، فإن الله تعالى يتوب إذا تاب العبد إليه، ولا يطالبه بشيء، تبارك الله رحمته واسعة:

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)
(سورة الأعراف)

الحقوق المادية يجب أن تؤدى لأصحابها
أما إذا كان بينك وبين العباد حقوق، فهذه لا تغفر إلا بالأداء أو المسامحة، إما أن تؤدي الحق إلى صاحبه، أو أن يسامحك، يقول لك: سامحتك، وهذه الحقوق كما تفضلت على نوعين؛ حقوق مادية وحقوق معنوية، فأما المادية فتؤدي الحق إليه أو تطلب المسامحة؛ رجل له معك مئة دينار، وأنت لا تملك أداءها فسامحك بها، انتهى الأمر، أو تؤديها إليه، أو تجدولها لأدائها إلى غير ذلك، هذه الحقوق المادية.
أحياناً يكون إنسان قد أخذ من شخص مالاً من غير إذنه، يتصل يقول: كيف أعيده له؟ أخشى أن أُحرَج أمامه، نقول له: اجعله على أي طريقة تريد، المهم أن تعيده، ضعه في حسابه البنكي، أرسله على شكل حوالة، ضعه في مكتبه...إلخ المهم أن تؤدي الحق إلى أصحابه، هذه الحقوق المادية.
أما الحقوق المعنوية؛ فأعني بها تلك الحقوق المتعلقة بالنفس، بمعنى أنك أسأت إلى إنسان، تكلمت عليه أمام أشخاص معينين، مما أدى إلى إساءة له في عمله، أغضبته، تنازعت وتناوشت معه في أمر فعلا صوتك عليه فأحزنته –نسأل الله السلامة- في ساعة الغضب سابَبْته، شاتمته، هذه حقوق معنوية، ليس له عندك مال، ولكنه ضيق القلب تجاهك لمَا قد حصل منك من إساءة، فاذهب إليه، وقل له: يا أخي نحن على أعتاب هذا الشهر الكريم، ولعلي أسأت لك، ولعلي غضبت أو انفعلت أو سارعت إلى الحديث عنك في غير ما ينبغي فإنني أصلح ذلك، وأتوب إلى الله، وقد حدثت الناس عن مناقبك وفضائلك، وتراجعت عن موقفي منك، إلى غير ذلك.
فالحقوق المعنوية ليس فيها أموال تُؤدَّى، ولا عقارات، ولا بيوت، لكن أسأت له بلفظ، بكلمة، بموقف جرى من المواقف، فهذا يُستَسمَح، وتراضيه، وتطلب منه المسامحة، ولعله أيضاً وهو على أعتاب هذا الشهر الكريم يتّسع صدره لك،

{ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ، يَلْتَقِيانِ؛ فَيَصُدُّ هذا، ويَصُدُّ هذا، وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ. }

(صحيح البخاري)

كما قال صلى الله عليه وسلم، فكن خير الرجلين، ولو ظننت أن الحق معك، فقد يقول قائل: أنا أعتقد أن الحق معي، يعني هو من أساء لي بداية، فاضطررت أن أسيء إليه، يا أخي كن مبادراً، (وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ) لا تنتظر أن يأتي إليك، وإنما أنت اذهب إليه، وقل تعالَ فلتتصافَ القلوب، ولنتسامح، ولنتعانق، ولنُزِلْ ما بيننا من شحناء حتى تُرفَع أعمالنا إلى الله تعالى قبل قدوم الشهر الكريم شهر رمضان، ويرضى عنا ويقبلنا جل جلاله.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، دكتور بلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث القدسي:

{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. }

(صحيح البخاري)

يعني هذه المكانة العظيمة، كيف كان لهذا الصوم هذه المكانة العظيمة التي جعلت الله عز وجل يقول أن الصوم لي وأنا أجزي به؟

الصوم عبادة الإخلاص:
الدكتور بلال:
في الحديث القدسي الصحيح (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به)، تولّى الله تعالى في عليائه جزاء الصيام، والحقيقة أنه يجزي على الصلاة، ويجزي على الزكاة، ويجزي على الحج، وعلى كل عبادة، فلماذا خص الصوم بهذه المزيّة؟ لأن الصوم أخي الكريم عبادة الإخلاص، ما معنى عبادة الإخلاص؟ بمعنى أن جانب الرياء فيه ضعيف جداً يكاد يتلاشى، لماذا؟ لأن العبادات كلها تُبنَى على الفعل.
• فالصلاة في تعريفها الفقهي: حركات وكلمات وأقوال وأفعال تُبدأ بالتكبير، وتُختم بالتسليم، لها صورة الفعل.
• وكذلك الحج هو عبادة بدنية فيها الطواف وفيها السعي وفيها الوقوف بعرفة، فيها مشاعر الحج، أو شعائر الحج.
• وكذلك الزكاة: هي عبادة مالية، إنفاق يعني تعطي.
• أما الصوم فهو وحده الذي ركنه هو الإمساك، الامتناع، ألا تفعل، فيقوى فيه جانب الإخلاص.
في الصيام يقوى جانب الإخلاص
ما معنى أن يدخل الإنسان إلى داره قبيل العصر، وقد أتى من عمله، ولا يوجد أحد في البيت، ويدخل إلى غرفته وحيداً، وأمامه قارورة ماء بارد، والصيف حار، وهو في أشد حالات عطشه، ثم لا يفتح تلك القارورة، ولا يأخذ منها ماء، ولن يعلم به أحد، لا زوجة، ولا ولد، ولا صديق، ولا قريب، ولن يراه أحد، ما معنى أن يفعل ذلك إلا أن يكون خائفاً من الله تعالى؟ إلا أنه يترك كما في الصحيح:

{ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي. }

(صحيح مسلم)

فعبادة الإخلاص، وظاهرة الإخلاص وترك الرياء واضح جداً في الصيام؛ لأنه عبادة الإمساك والامتناع، وعند الامتناع يكون الإنسان أكثر قدرة على الإخلاص لله تعالى، فينتفي جانب الرياء، أما في الصلاة فقد يكون له حظ من صلاته، وفي الحديث الصحيح:

{ خرجَ علَينا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ نتذاكَرُ المسيحَ الدَّجَّالَ، فقالَ: ألا أخبرُكُم بما هوَ أخوَفُ عليكُم عندي منَ المسيحِ الدَّجَّالِ ؟ قالَ: قُلنا: بلَى، فقالَ: الشِّركُ الخفيُّ، أن يقومَ الرَّجلُ يصلِّي، فيزيِّنُ صلاتَهُ، لما يرَى مِن نظرِ رجلٍ. }

(صحيح ابن ماجه)

يعني يرى الناس ينظرون إليه فيزين صلاته، يطيل ركوعها، يطيل سجودها، كذلك الحج أحياناً يذهب الإنسان ويتصور بالمصوِّرة في الحج ويعود، ويقيم الاستقبال والحفل لعودته من الحج، فكثيراً ما يكون لبعض الناس نصيب من عباداتهم الفعلية، أما عبادة الترك، الإمساك، الامتناع، وهي الصوم فغالباً ما تكون لله، لا يكون للعبد منها حظّ ولا نصيب أبداً، لذلك قال: (إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به)، تكفّل الله الجزاء به، وجعله خالصاً لوجهه الكريم، لا رياء فيه ولا سمعة، وإنما هو فعلٌ لله تعالى، وتركٌ لله تعالى، فلذلك كان من أعظم العبادات، ولذلك جعل الله تعالى في الجنة باباً يدخل منه الصائمون ألا وهو باب الريّان.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، دكتور بلال ونحن نستعد الآن لقدوم الشهر المبارك ما هي أفضل العادات التي ينبغي على الإنسان أن يركز فيها في رمضان حتى ينعم فيها بالمغفرة والثواب الجزيل؟

أفضل العبادات في رمضان:
الدكتور بلال:
الحقيقة أن رمضان شهر نوّع الله فيه الطرق إليه، وقد قالوا: "الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق"، فكل إنسان يتقرّب إلى الله بما يستطيع، لو قلنا إن الصيام والقيام أمر مفروغ منه، هذا أمر مفروغ منه، يعني لا نقول إننا سنعدد أن يصوم وأن يقوم؛ لأن هذا ما يفعله معظم المسلمين ولله الحمد والمنّة لا يزال شهر رمضان له هذه المكانة في النفوس، فيتعاظم فيه المسلمون أن يترك مسلم صيام نهاره، أو حتى قيام ليله، ولله الحمد.
لو انتهينا من الركنين الرئيسيين، أو من العبادتين الأساسيتين، وهما صيام النهار وقيام الليل.

1. قراءة القرآن يومياً:
فيمكن أن نذكر بعض تلك العبادات؛ أولها أن رمضان شهر القرآن،

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
(سورة البقرة)

رمضان شهر القرآن
فإذا كان شهر رمضان شهر القرآن فيجب أن يكون للمسلم في كل يوم وِردٌ من القرآن، يعني ثلاثون يوماً لا ينبغي أن تخلو، هو في الحقيقة لا ينبغي أن يخلو يوم من العام من كتاب ربنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لن يشكو لربه إلا شكوى واحدة:

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
(سورة الفرقان)

هجروا قراءته، هجروا أحكامه، هجروا تعلّمه، هجروا تدبره، هجروا تطبيقه، فينبغي أن يكون رمضان فرصة للبدء مع كتاب الله، فلا يخلو يوم من قراءة شيء من القرآن، نقرأ جزءاً أو أكثر أو أقل، لكن لا بد في كل يوم من قراءة القرآن قراءة تعبدية، بمعنى نحصّل من خلالها الأجر، وقراءة تدبرية، بمعنى أن أنتقي بعض الآيات، وأفهم مضامينها، وأفهم ما فيها وأسعى إلى تطبيقها والعمل بها، فأول ما أقترحه في هذا الشهر: مما لا بد منه هو قراءة القرآن يومياً.

2. صلاة الجماعة:
الأمر الثاني الذي يفيد المسلم في هذا الشهر؛ صلاة الجماعة لاسيما صلاة الفجر، فالمسلم يستيقظ للسحور:

{ تَسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً. }

(صحيح البخاري)

وقت السحور وقت بركة، وهو في الثلث الأخير من الليل، فإذا تسحّر المؤمن، ثم أذّن الفجر فلينهض إلى بيوت الله تعالى، وليؤدّ صلاة الفجر في جماعة فإن:

{ من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار لوجهه. }

(رواه ابن ماجه والطبراني)

صلاة الفجر في جماعة لها في القلب شيء متميز جداً، لها في السلوك إلى الله شيء راقٍ جداً، فلنجعل صلاتنا في جماعة، وإن لم يكن فعلى الأقل صلاة الفجر وصلاة العشاء.

3. الدعاء:
الأمر الثالث: الدعاء، رمضان شهر الدعاء، والدليل على ذلك لما ذكر الله تعالى آيات الصيام:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)
(سورة البقرة)

ثم قال:

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
(سورة البقرة)

ثم قال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ثم قال:

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
(سورة البقرة)

ثم تابع آيات الصيام:

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
(سورة البقرة)

فجاءت آية الدعاء بين آيات الصيام، يعني ينبغي أن تسأل عن الله في رمضان، لا يمكن لإنسان أن يصوم لله، وأن يقوم لله، ثم لا يسأل عن الله، ثم لا يناجي الله، ثم لا يطلب من الله، لذلك قالوا: "إذا أردت أن يخاطبك الله تعالى فاقرأ القرآن"، الله تعالى يخاطبنا بالقرآن، يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)
(سورة النساء)

"وإذا أردت أن تكلم الله فادعُه"، فالدعاء هو حديثٌ من العبد إلى ربه، والقرآن حديثٌ من الرب إلى عبده، فالدعاء هو العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم:

{ الدُّعاءُ هوَ العبادةُ قَالَ رَبُّكُمُ ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }

(صحيح أبي داوود)

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
(سورة غافر)

فالدعاء هو العبادة، فلا بد أن يكون في كل يوم دعاء، لا تبخل على نفسك بالدعاء، كل يوم عقب الصلوات، قبل الفِطر:

{ إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ. }

(أحرجه بن ماجه وفي سنده ضعف)

لا ترد الدعوة عند الفطر، قبل الفجر بلحظات، انتهى السّحور وأمسكت، خمس دقائق تدعو فيها الله -عز وجل-، وتناجي فيها الله تعالى، الدعاء في الوتر، في القيام، فرمضان فرصة لأن تتصل بالله تعالى من خلال الدعاء، ناجِهِ، اطلب منه.

4. عبادة تفريج الكروب:
أن يكون لك في كل يوم عمل صالح
أيضاً مما اقترحه في رمضان: عبادة تفريج الكروب؛ أن يكون لك في كل يوم عمل صالح، المقتدر بماله أن يجعل صدقة كل يوم لله، وأن يبدأ بأقاربه المحتاجين، وأن يبدأ بالناس الذين لا يجدون ما يفطرون عليه، نحن نصوم أخي الحبيب في رمضان فنترك الطعام والشراب اختياراً، الطعام في الثلاجة، لكننا نتركه اختياراً، لكن هناك من الناس من يتركون الطعام والشراب اضطراراً؛ لأنهم لا يجدون ما يأكلون، فهلّا تفقّدتهم؟ هلا مددت يد العون إليهم؟ أدعو كل مُوسِر ولا أعني بالموسر هنا الغني غنىً كبيراً -وإن كان من باب أولى- أو الثري، ولكن كل إنسان عنده فضل حاجة:

{ وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له. }

(صحيح مسلم)

{ ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به. }

(رواه الحاكم في المستدرك)

عبادة تفريج الكروب في رمضان من أعظم العبادات، أن ترسل المال إلى المحتاجين، أن ترسل الطعام والشراب إلى من لا يجدون الطعام والشراب فهذا ايضاً مما يُطلب.

5. صلة الأرحام:
من أعظم العبادات في رمضان صلة الأرحام
آخر شيء أقوله والعبادات كما قلت منتوعة في رمضان صلة الأرحام، من أعظم العبادات في رمضان صلة الأرحام؛ لأنك تستكشف مشكلاتهم وتحاول أن تعالجها؛ عندك قريب لا يستطيع أن يعلّم ابنه، عندك قريب آخر مريض لا يجد ما يقوم به من أجل عملية جراحية، عندك قريب لا تملك أن تساعده، ولكنك تملك أن تقدم له كلمة طيبة، فتجبر خاطره، وحاولوا أن تجعلوا صلة الأرحام ليست للأرحام الذين تزورهم دائماً في كل العام، فدائماً الإنسان له أرحام لا يترك زيارتهم، لكن هناك أخت مثلاً له مع زوج أخته يعيشان في مكان متطرّف في المدينة، بعيد، مكان ناءٍ عن المدينة في الريف، فهو يستثقل زيارتهم، اذهب في رمضان لهم، اذهب، زُرْهم، تفقّدْ أحوالهم، انظر أوضاعهم، حاول أن تمدّ لهم يد العون، إن لم تستطع فعلى الأقل:
لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ
{ المتنبي }
بكلمة طيبة، إنكم لن تسَعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعكم منهم بسْطُ الوجه، وحُسْن الخلق، فمن أعظم العبادات في رمضان أن نهيّئ من الآن برنامج الزيارة: ابن عمي، ابن خالي البعيد، هذه كانت خالة أمي، ويجب أن أودّها، وأن أصلها، وهذا من أهل ودّ أبي، ومن أقربائه فأذهب إليه وأمدّ له يد العون، إن كنت بعيداً عنه أتصل به هاتفياً، أطمئن على أوضاعه، أطمئن على أحواله، فأحاول أن أقدم له ما أستطيع، هذا من أعظم القربات.
فألخص وأقول أخي الحبيب:
1. قراءة القرآن كل يوم.
2. والدعاء كل يوم.
3. وصلاة الجماعة وعلى الأقل الفجر والعشاء في جماعة كل يوم.
4. وعبادة تفريج الكروب، كل يوم اجعل لنفسك شيئاً تفرج به كرب إنسان ولو بكلمة، عمل صالح، صدقة عند الفطر، عند الفجر، صدقة ولو دينار واحد، ولو ليرة واحدة، ولو ريال واحد، كل يوم، تقدم ما تستطيعه، لكن اجعل كل يوم عباده لتفريج الكروب، تمد بها يد العون للمحتاجين.
5. وصلة الأرحم، لا سيما الأرحام الأباعد الذين لا تصلهم في العادة، فكّر بهم، استرجعهم، ضعهم عندك في المفكَّرة، واجعل برنامجاً لزيارتهم، وتفقّد أحوالهم، والاطمئنان عليهم.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، ابقَ معي سنستقبل عدداً من الاتصالات ثم نستكمل هذا الحوار الطيب، معي أخي عبد الله من اليمن، تفضل أخي عبد الله:

عبد الله من اليمن:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف حالك أخي الفاضل؟

الأستاذ مجاهد:
وعليكم السلام وحمة الله وبركاته، الحمد لله، تفضل:

عبد الله من اليمن:
كما تكلم شيخنا الكريم بهذه الأيام المتبقية نريد أن ننوه أن هناك بعض المساجد أخي الفاضل، يعني نحتاج إلى سراج، وإلى مصاحف، وإلى إضاءة، فعبر هذا البرنامج الجيد، برنامجكم هذا نريد أن نناشد جميع المسلمين أن يتفقدوا أحوال المساجد بالمصاحف، وكذلك ينظرون ماذا يحتاج أئمة المساجد من أشياء لهذه المساجد، لأن هناك في اليمن، أو في سورية أو في البلدان الفقيرة يحتاجون في الحقيقة إلى إعانة، فنرجو من شيخنا الفاضل أن يتكلم عن هذا الموضوع، لكي يتعاون بعض الناس في المصاحف وفي المسارج، الآن في المساجد أخي الكريم، هناك مسجد الآن 15 في 15، يعني الأهالي في منطقة فقيرة، لايستطيعون أن ينيروا المسجد في رمضان، يحتاجون إلى صوت عالٍ وميكروفونات.

الأستاذ مجاهد:
وضحت فكرتك، الأخ عبد الله من اليمن شكراً جزيلاً لك.
معنا الآن أخي أحمد من السودان، تفضل:

أحمد من السودان:
مرحباً، السلام عليكم، نشكر الدكتور بلال نور الدين على هذا البرنامج الجميل، يسعد المسلم في شهر رمضان المبارك على البرنامج الجميل، ونتمنى لكل المسلمين في السودان وفي جميع البلدان العربية في شهر رمضان أن يكثروا الدعاء، والتواصل، وصلة الأرحام، والإعانة في المساجد كما ذكر الأخ، والإفطار الجماعي، وكثرة الدعاء في رمضان، وقراءة القرآن.

الأستاذ مجاهد:
هل لك سؤال أو استفسار أخ أحمد؟

أحمد من السودان:
لا، شكراً.

الأستاذ مجاهد:
أشكرك جزيلاً على المداخلة، معي اتصال آخر، أخ عز الدين من الجزائر، تفضل:

الأخ عز الدين:
السلام عليكم أستاذ مجاهد، والسلام موصول للدكتور بلال نور الدين.

الأستاذ مجاهد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بارك الله بك.

الأخ عز الدين:
أشكركم جداً على هذا البرنامج "أيام الله"، سبحان الله، هل تعلم أنه الحبل السري لهذه القلوب، وتمدوننا بالشعور بالقوة الإيمانية، والثبات الروحي، وأريد أن أعقب على طلب الأستاذ الذي اتصل من اليمن من أجل المساعدات، نحن في هذه الأزمة، وقد تقارب شهر رمضان والشعب الجزائري، ومعظم الشعوب العربية في أزمات؛ ندرة في الحليب، ندرة في الزيت، ندرة في اللحوم، حتى صرت تفكر أن تعيش نباتياً، نحن كما رأيت في بلادنا أزمات سياسية، الرئيس الجزائري يقدم مئة مليار دولار للأنظمة الإفريقية.

الأستاذ مجاهد:
أستاذ عز الدين هل لك سؤال متعلق بهذه الأيام باستقبال رمضان؟ هل لك سؤال خاص بهذه الحلقة؟ أنت ما زلت معنا على الهواء، للاستفادة من الوقت، هل لديك أي سؤال؟

الأخ عز الدين:
سأقول لك بعض أبيات الشعر:
وأخرجتِ الأرضُ بترولها فَطارَ بهَا العلمُ … فوقَ الخيَال! توفِّرُ للشعبِ أقدارَهُ وتكفِي الجَزائرَ … ذُلَّ السؤال!
{ مفدي زكريا }

الأستاذ مجاهد:
حضرتك موهوب ما شاء الله عنك، بارك الله بك على هذه المشاركة، وكل عام وأنت بخير. معنا الأخ سعد من الكويت، تفضل:

الأخ سعد:
أهلاً وسهلاً أستاذ مجاهد، تحياتي لك كثيراً، سؤالي: كيف نتعامل مع شخص غير طبيعي؟ وآخر الكلام تحياتي لك وشكراً لك.

الأستاذ مجاهد:
ماذا تقصد بغير طبيعي؟

الأخ سعد:
يعني مثلاً متعاطي يا أستاذي المحترم، أيضاً لمن أذّن الأذان الأول في صلاة الجمعة، هل يجوز بعد الأذان الأول لصلاة الجمعة أن يصلي الشخص إذا كان مريضاً في بيته؟ مع تحياتي لكم.

الأستاذ مجاهد:
أشكرك، شكراً جزيلاً أخ سعد من الكويت.
بالعودة لك فضيلة الدكتور بلال، ربما هي مشاركات أكثر منها أسئلة، وربما عبد الله من اليمن يتكلم عن فكرة أن كثيراً من المساجد لا يوجد فيها إضاءة، وتحتاج إلى رعاية من المسلمين، وكذلك الأخ عز الدين من الجزائر يتحدث على أن الكثير من الشعوب العربية والإسلامية تمر بأزمات مادية طاحنة، ونحن ندخل إلى هذا الشهر الفضيل، فبماذا تنصح؟

الدكتور بلال:
كما أسلفنا، مما دعونا له في رمضان أن نفرّج الكروب عن المستضعفين، فهذا من أعظم الأعمال وأقربها إلى الله؛ لأن نفعه متعدٍّ، النفع المتعدي دائماً في الشريعة له مزية، عندما أنتقل من النفع الشخصي إلى نفع الآخرين، لذلك هذا مما ندعو إليه ونطلبه أولاً مساعدة المنكوبين والمحتاجين، بعد ذلك ندعو إلى المساجد، فالمساجد في رمضان تتألق وتتزين لهذا الشهر الكريم، ويكثر روّادها، ونسأل الله أن يكثر روادها في كل العام، فنستقبل فيها رواداً جدد، وزائرين جدد، يعني من أعظم الأعمال في هذه الأيام أن نؤمّن للمساجد إضاءاتها، ونظافتها، وماءها، وكهرباءها، وما يحتاجه الأئمة فيها للمسجد من ميكروفونات، مكبرات صوت، مكان لإلقاء الدروس، إلى غير ذلك، فرعاية المساجد وهي بيوت الله حق وواجب، وكل مسلم بما يستطيع يمد يد العون لبيوت الله تعالى.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك فضيلة الدكتور، سعد من الكويت كان يسأل عن التعامل مع شخص ير طبيعي، وقد قال أنه متعاطي المخدرات، كيف نتعامل معه في هذا الشهر المبارك؟

الدكتور بلال:
نحن دعاة ولسنا قضاة
حقيقة يعني أولاً: نسأل الله لنا وله العافية، ثانياً: المؤمن يتعامل عموماً مع كل العصاة؛ سواء سميناه شخص غير طبيعي، أو متعاطي، أو غير ذلك، نسأل الله أن يتوب عليه وعلينا، فإنه يتعامل مع جميع العصاة على أنهم مرضى، وعلى أنه داعية إلى الله تعالى، فنحن دعاة ولسنا قضاة، فيأخذ بيده إلى الله، ويدله على الله، ويحاول أن يعينه على الحق، وعلى الخير، أما إذا كان ذا صفة معينة وكان يتعاطى الممنوعات والمخدرات –نسأل الله السلامة- فإنه يرشده إلى أن يعالج نفسه، وأن يجعل هذا الشهر شهر صُلحٍ مع الله -عز وجل-، وأول هذا الصُّلح أن يلجأ في بلده إلى تلك الدُّور التي تقوم على استقبال هؤلاء المُبتَلين بتلك الآفة الخطيرة، وتخرجها من أجسادهم شيئاً فشيئاً برعاية طبية متكاملة، فهذا ممكن، ومتاح، ومباح في كل دولنا ولله الحمد والمنّة، ويستقبلونه بكل ترحاب، ولاسيما في الدول التي تقوم على شأن الإسلام ورعاية المسلمين، فأن يحضّه على الذهاب إلى تلك المراكز؛ ليتعالج العلاج المنطقي والطبيعي الذي يُنهي إدمانه ويعيده عضواً نافعاً في مجتمعه، فهذا من أعظم ما يقدمه له في هذا الشهر.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، أسئلة كثيرة وردت على رقم البرنامج، نأخذ منه بعض الأسئلة، يقول صاحب السؤال: ما حكم الصيام التطوعي في هذه الأيام قبل شهر رمضان؟

الدكتور بلال:
شهر شعبان كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر شهر يصوم منه بعد رمضان هو شعبان، تقول عائشة -رضي الله عنها-:

{ وما رأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استكمَلَ صِيامَ شَهرٍ قَطُّ إلَّا رَمضانَ، وما رأيتُه في شَهرٍ أكثَرَ منه صيامًا في شَعبانَ. }

(صحيح مسلم)

فصيام أيام من شعبان هذا من المسنون، لكن ورد حديث آخر، وهو في الصحيح أيضاً:

{ إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا }

(صحيح أبي داوود)

فكيف نجمع بين الحديثين؟ جمع بينهما أهل العلم على النحو الآتي:
أكثر شهر يصوم منه النبي الكريم
• من كان قد وطّن نفسه أن يصوم مثلاً الاثنين والخميس في شعبان فليتابع الآن الاثنين، والخميس سيكون رمضان إن شاء الله غالباً، فليتابع الاثنين ولا شيء عليه إن شاء الله.
• من وطّن نفسه أن يصوم أكثر شعبان فقال إن شاء الله سأصوم يوماً، وأفطر يوماً في شعبان، فله ذلك ولا حرج.
• من قال سأصوم أكثر شعبان عشرين يوماً وبقي عليه ثلاثة أيام فليصمها ولا حرج.
• أما الذي أمضى من واحد شعبان إلى خمسة عشر شعبان ولم يصم ولا يوم، فليتجهز الآن لرمضان، (إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا).
فإذاً: بين شخصين؛ شخص عادته الصيام في شعبان فليتابع، وشخص لم يعتد الصيام في شعبان فليكفّ الآن عن الصيام حتى يأتي رمضان، إلا إن كان صيام قضاء طبعاً، فإن كان عليه أيام من رمضان الماضي فليصمها الآن بلا شك.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور، تقول صاحبة السؤال: هل يجوز ختم المصحف بنية الرحمة لأم الميتة؟

الدكتور بلال:
طبعاً يجوز، يُقرَأ القرآن على نية المغفرة والرحمة للأموات، وهذا لا خلاف فيه إن شاء الله تعالى، لا سيما من الابن لأبيه وأمه، أو من البنت لأبيها وأمها، فلو جدلاً لم تنوي فإنه إن شاء الله يصل الثواب إلى أمها، لأن أعمالها في صحيفة والدتها.

الأستاذ مجاهد:
دكتور سؤال آخر يتكرر في كل عام فكرة ختم المصحف قراءة أم تدبراً؟

الدكتور بلال:
أنا أقترح اقتراحاً؛ أن نختم المصحف قراءة كل يوم جزء، قراءة متقنة بالأداء، نرجو فيها ثواب الله تعالى، وأن يجعل الإنسان لنفسه في رمضان كله سورة من سور القرآن، أو جزءاً من أجزاء القرآن يتدبره، يعني أن يجمع بين القراءة التعبّديّة، والقراءة التدبرية، يقول مثلاً: أنا إن شاء الله في شهر رمضان كل يوم جزء، وفي شهر رمضان سأجعل كل يوم نصف ساعة لصفحة من سورة الأنعام فرضاً، أو من سورة الحديد، أو جزء عمّ، وهكذا، فكل يوم ينهي القراءة التعبدية، ثم يأتي إلى صفحة من كتاب الله تعالى فيتدبرها.

كيف نتدبر القرآن؟
ما معنى يتدبرها؟
1. يشرح الكلمات الغريبة التي لم يفهمها.
2. يشرح المعنى العام من خلال كتاب من كتب التفسير المعتمدة.
3. ينظر هل أنا مُطبِّقٌ لِمَا جاء في هذه الصفحة من كتاب الله؟ هل أنا مُؤتمِر بما فيها، أم أنا بعيد عن مضمونها؟ فيسجل ملاحظاته ويعزم على أن يلتزم بما جاء في هذه السورة، أو في تلك الصفحة، فيجمع بين قراءة التعبد وقراءة التدبر.

الأستاذ مجاهد:
فضيلة الدكتور ربما بعض المشاهدين عندما يستمع لحضرتك، وحضرتك تقول أن يقرأ كل يوم جزءاً، ويتدبر جزءاً من القرآن، ربما يستقِلّ هذا الجهد، وربما يقول أن رمضان شهر القرآن، ويسمع عن الإمام الشافعي كان يختم، فله ختمات في الصباح والمساء، وكثرة الختمات.

خير الأعمال أدومها وإن قلّت:
الدكتور بلال:
كل إنسان على قدر طاقته لا شك في ذلك، لكن أنا من أنصار –وهذا اجتهاد قد يصيب وقد يخطئ- ما جاء في الحديث الشريف:

{ قُلتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: هلْ كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْتَصُّ مِنَ الأيَّامِ شيئًا؟ قالَتْ: لَا، كانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وأَيُّكُمْ يُطِيقُ ما كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُطِيقُ؟! }

(صحيح البخاري)

التنويع في العبادات خلال شهر رمضان
المطر عندما ينزل في سكون وإن كان في قلّة يُسمّى: "ديمة"، فأؤيد دائماً العمل الدائم المستمر، وألا يختص الإنسان شيئاً بمزيد كثير من القراءة والصلاة والعناية، ثم يعود إلى نقطة الصفر، فأنا من أنصار ذلك، أن يكون هناك تنوع في العبادات؛ جزء من القرآن الكريم، وإن أحب أن يقرأ جزأين أو ثلاثة لا مانع، ولست من أنصار أن نـأتي بأخبار من السلف منها ما هو صحيح، ومنها ما هو غير ذلك، تدعو إلى اليأس عند الناس، بأنني كيف أصل إلى هذا المستوى؟ وكيف أستطيعه؟ ولا سيما أن حياتنا اليوم حياة عملية، وفيها جهد، وفيها تحصيل الرزق، وفيها رعاية الأولاد، وأصبحت الحياة معقدة جداً، فأنا آتي بالحد الأدنى، وأترك لكل من الناس أن يزيد فيه ما يستطيع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ من قامَ بعَشرِ آياتٍ لم يُكتَبْ مِنَ الغافِلينَ، ومَن قامَ بمِئةِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ القانِتينَ، ومَن قامَ بألْفِ آيةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنطِرينَ. }

(سنن أبي داوود)

فجعل بين عشرة آيات، ومئة آية، وألف آية، لكن أقلّها أن يقوم بعشر آيات فينجو من الغفلة وإن زاد فحسن وأحسن.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، سؤال، يقول صاحب السؤال: سمعت أن علينا أن نتفرغ للعبادة وقراءة القرآن وتدبره في شهر رمضان، لكن هل مشاهدة الأخبار ومتابعة الأحداث العالمية يكون تضييعاً لوقت العبادة في شهر رمضان؟

الدكتور بلال:
ليس تضييعاً للوقت ما دام ضمن الحدود الطبيعية، فلا نستطيع أن نقول: إن الإنسان سيقضي نهاره كله في العبادة الشعائرية، أيضاً سينهض إلى عمله، أيضاً يمكن أن يتابع نشرة أخبار في اليوم، لكن في رمضان لا نستغرق في الأفعال البعيدة عن العبادة، فبعض الناس ممكن أن يقضوا نهارهم كاملاً خلف الشاشة، هذا ضيّع مقصد الصيام، ومقصد رمضان، فأين وقت بر الوالدين، وأين وقت مساعدة الأقارب، وأين وقت قراءة القرآن؟ فليس منافياً لحكمة الصيام أن يتابع الإنسان نشرة أخبار في المساء، يعرف ما يجري حوله في ساعة من الزمن، أو نصف ساعة، ليس تضييعاً، ولكن إذا كان في حرام، وفي نظر محرم فهذا لا يجوز قطعاً، أنا في الحلال فلا بأس، لكن ضمن حدود طبيعية، وألا يستغرق متابعته للحلال وقتاً طويلاً جداً يشغله عن عبادته.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، يقول صاحب السؤال: المسلسلات الرمضانية وبرامج المقالب سمة في الإعلام الرمضاني في عدد من الدول العربية والإسلامية، كيف تقيّمون ذلك؟ وكيف يمكن توجيه سلوك المسلم خلال هذا الشهر الفضيل؟

الدكتور بلال:
والله ياسيدي، السائل وضع يده على الجرح، فالحقيقة أن الله تعالى له إرادة، وأهل الشهوات لهم إرادة، قال تعالى:

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)
(سورة النساء)

فلينظر المسلم نفسه في أي إرادة هو؟ هل هو يوافق مراد الله تعالى منه أم يوافق مراد أهل الشهوات؟ كثير من الناس، وبعض إعلامنا يريد أن يقلب شهر رمضان من شهر عبادة إلى شهر ولائم، ومسلسلات، وفوازير وغير ذلك، يريد أن يقلبه من شهر عبادة خالصة لله إلى طقوس، وكأنه طقس من الطقوس، حتى بعض كلام الناس يقولون "مراسم رمضان، طقوس رمضان"، وينسون أنه شهر عبادة، شهر هدى من الله تعالى، فينبغي المسلم أن يكون حريصاً هذا الشهر ألا يفوّت نهار رمضان، وليل رمضان بمتابعة الأشياء المُحرّمة، وكثير من الأشياء التي ربما ليست حراماً، ولكنها تشغل الوقت، أما عن برامج المقالب وغير ذلك، فهذه فيها إشكال شرعي في الأصل قبل أن يكون إشكالاً في تضييع الأوقات في رمضان.

الإشكال الشرعي لبرامج المقالب:
إشكالها الشرعي في الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ من غَشَّ فليس مِنَّا }

(الألباني)

{ المَكرُ والخَديعةُ في النَّارِ. }

(شعيب الأرناؤوط)

لا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يروّعَ مسلمًا
هذه تُبذَل فيها الأموال الكثيرة، المَهُولة التي والله لو وُزِّعت على الفقراء لأغنتهم في هذا الشهر، وأحياناً في بعض البرامج تكون جيدة جداً؛ لأنها توجّه الأموال إلى نصرة المستضعفين، وهذه ينبغي أن نشجعها وأن ندعمها، وألّا ندعم البرامج التي تُنفَق عليها أموال طائلة جداً جداً، ثم يكون مآلها إلى الخديعة، وإنفاق المال في غير المكان الذي أراده الله تعالى له، فهو مال الله ونحن مستخلفون فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ لا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يروّعَ مسلمًا }

(صحيح الجامع)

وهذه البرامج غالباً ما يكون فيها إن كانت صادقة ففيها الترويع، وإن كانت كاذبة ففيها المكر والخداع، وإنفاق المال بغير طائل، فلذلك أنا أدعو إخوتي الكرام المتابعين والمشاهدين إلى أن يستثمروا هذا الشهر في الخيرات والبركات، ومتابعة الأشياء النافعة على الشاشة، ومتابعة دروس العلم، ومتابعة البرامج ربما التي فيها نفع، ولو كان نفعاً دنيوياً، وأن يبتعدوا عن الترويج لكل شيء من شأنه إباحة الفساد، والانحلال الأخلاقي، أو من شأنه الترويج لبرامج تُنفَق فيها الأموال في الخديعة والمكر والغش الذي ليس في ديننا في شيء.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، معي عدد من الاتصالات، سنأخذها سريعاً ثم نستكمل هذا الحوار، معي الأستاذة نجاة من السودان، نرجو أن تسمعينا من الهاتف وليس التلفاز، فمن التلفاز هناك تأخير في الصوت، تفضلي ما سؤالك؟

الأستاذة نجاة:
السلام عليكم، أنا نجاة من السودان، أريد أن أسأل الدكتور الشيخ بلال: لدي أرحام مقاطعينني منذ عدة سنين دون سبب، عندي أخي الكبير وزوجته، وزوجته ابنة خالتي، فأهلها هم أقربائي، وأغلب صلة الرحم لي، وأولاد أختي أنا قمت بتربيتهم، فهم أيضاً يفضلون أن يكونوا بعيدين منا في كل سنة في رمضان، أحاول أن أكون قريبة منهم لكنهم يحاولون أن يكونوا بعيدين منا، أنا وأختي، فسؤالي: ماذا أفعل معهم، أريد أن أقوم بصلة الرحم، فهم أرحامي، وبارك الله بكم.

الأستاذ مجاهد:
أشكرك أخت نجاة على حرصك، وكل عام وأنت بخير، وفي هذا الشهر الطيب إن شاء الله، وبإذن الله يذيب ربنا ما بينكما من خلافات، وتعود صلة الرحم إن شاء الله، وسيجيبك فضيلة الدكتور بعد هذا الاتصال.
معي الحجة نهى من فلسطين، تفضلي حجة نهى.

الحجة نهى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أجيب الأخت التي تكلمت قبل قليل، أم أدع الدكتور يجيبها؟

الأستاذ مجاهد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لندع الدكتور يجيبها، تفضلي ما سؤال حضرتك؟

الحجة نهى:
أولاً: أريد أن أقول لكم كل عام وأنتم بخير، والأمة الإسلامية، والشيخ الموقر المحترم الذي معك، والأمة الإسلامية بألف خير، ويردها إلى دينها، اللهم ثبّت ديني في قلبي، الأخت التي تكلمت أريد ان أقول الحمد لله نحمده ونشكره على نعمته، ونقول: الحمد لله الذي عافيتني مما ابتليت به غيري، عندنا أناس تصوم، اسمه صوم وصون، الصون ليس فقط الصيام عن الأكل والشهيات، يجب أن نصون أيضاً، ويوجد كما قالت الأخت وكلامها صحيح، وتحياتي لها، وفرّج الله همها إن شاء الله، يوجد قلة دين كثيرة عند الناس، لا يفهمون ما هو الدين، يعتقدون أن الدين دمار، لا الدين لله، والله العظيم أنا أتكلم عن العرف العام، بيتنا بيت تقوى الحمد لله، ولكني أسمع أشياء أتعجب بها من هذه الأمة، في الأمس شخص قريب منا مجاهد، نزلت كان في البيت، عدت وجدته ميتاً بالطائرة، فما الذي ستأخذه النفس معها؟ هذا شهر رمضان، هل عندما ينتهي رمضان نعود لمقاطعة الأرحام؟ لا، فالأرحام طيلة حياتنا في الدنيا والآخرة تظل أرحاماً، ولكن هناك قلة دين، وقلة فهم بالدين، يعتقدون الدين دمارنا، لا الدين معاملة، الدين لمكارم الأخلاق، دين الإسلام مكارم الأخلاق.

الأستاذ مجاهد:
نسعد والله ياحجة نهى لمشاركتك، ولكن لضيق الوقت أشكرك على هذه المشاركة شكراً لك.
معي الأخ أحمد تطراوي من الجزائر، تفضل أخ أحمد.

الأخ أحمد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كل عام وقناة الجزيرة بخير، كل عام وعمال الجزيرة بخير، أحمد تطراوي يحيي قناة الجزيرة، أخي مجاهد أنا سؤالي قصير جداً جداً، وأود تحليل من الشيخ المحترم بلال نور الدين: ما رأي الأستاذ أو الدكتور من الذين يعبدون الله إلا في رمضان يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويقرؤون كتاب الله، ثم إذا انصرف رمضان تركوا الصلاة، وانصرفوا عن كتاب الله، وعادوا إلى غيهم ورشدهم، سؤالي للدكتور: هل يقبل الله توبة هولاء من الناس أم هم يتحايلون على الله، لا يعرفون الله إلا في رمضان، أحمد تطراوي يحييك أخي مجاهد.

الأستاذ مجاهد:
أشكرك أخي أحمد تطراوي.
فضيلة الدكتور بلال، نبدأ من أختنا نجاة من السودان، وهي تتحدث عن موضوع صلة الرحم، لها أخ أكبر منها وزوجته ابنة خالتها، وأبناؤهم لا يصلون رحمهم، هي تحاول أن تصل رحمهم في كل رمضان، وفي كل مناسبة، لكنهم يُحجِمون عنها ولا يصلونها، فتسأل عن هذا الأمر الذي يحزنها بشكل كبير.

الدكتور بلال:
أخي الكريم، وأختي الكريمة الأخت نجاة، أسأل الله أن يجزيك خير الجزاء على محاولتك الصِّلة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:

{ ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها. }

(صحيح البخاري)

فأنت تعملين بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وتصلين رحمك رغم قطيعتهم، والله تعالى يقول:

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
(سورة فصلت)

وبذلك تكون مهمتك قد انتهت، وأخذت الثواب العظيم من الله، والأجر الكبير من الله، فإن استجابوا بعد ذلك فقد حصّلوا الأجر معك، وإن لم يستجيبوا أخذت الأجر وحدك، وأنا أدعوهم إن كانوا الآن يشاهدوننا أن يبادروا إلى الصلة، وإجابة الصلة مهما يكن من شيء؛ لأن الله تعالى ترفع الأعمال إليه في هذه الأيام، ومَن كان مشاحناً فإن الله -عز وجل- لا يقبل عمله، فأرجو الله تعالى أن يجزيك خيراً لمَا تحاولين وتسعين في الإصلاح، لعل الله -عز وجل- يليّن قلوبهم بعد حين، وتجدين أثر ذلك في سلوكهم وتعاملهم.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، أحمد تطراوي كان يتحدث عن الذين يعبدون الله في رمضان يصومون ويصلون ويزكون ويقرؤون القرآن، وبعد رمضان يتركون كل هذه العبادات، هل يقبل الله منهم أم لا؟

الدكتور بلال:
الله تعالى لا تضيق رحمته بأحد
أما القَبول فهو شأن الله تعالى وحده، ونسأل الله أن يقبل منهم، فالله لا تضيق رحمته بأحد، يقبل منهم عملهم، هم لو لم يكن عندهم خوف من الله، وخشية منه، وإجلال لهذا الشهر لَمَا بادروا إلى الصيام، ثم تغلبهم نفوسهم فيعودون إلى المعاصي، ولكن لا يعني أن عملهم صحيح، لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا: (كانَ عَمَلُهُ دِيمَةً) وأنا أقول لهؤلاء: أهلاً بكم في مدرسة رمضان، وغداً أقول للإخوة الكرام الذين هم روّاد المساجد في كل العام، سيأتيكم الآن زبائن جدد في رمضان، سيأتيكم رواد جدد، فإياكم والغلظة معهم، إياكم أن يقول قائل لهم: في رمضان فقط تأتون إلى المسجد! نحن في المسجد منذ أشهر، على العكس استقبلوهم بالترحاب، وحبّبوا إليهم المساجد، استقبلوهم بكل حب، ولكن أقول لهؤلاء الذين يرتادون المساجد، ويقيمون الصلاة في رمضان فقط: "كن ربانياً ولا تكن رمضانياً"، ديننا ليس ديناً جغرافياً لا بالزمان ولا بالمكان، من يعبد الله في مكان ويترك العبادة في مكان آخر ما فقِهَ حقيقة الدين، وكذلك من يقيم الصلاة في رمضان ويتركها خارج رمضان فما فقِه حقيقة الدين، القبول شأن الله وحده، لكن لنا أن ننصح لهم ونقول لهم: كونوا ربانييين، ولا تكونوا رمضانيين.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، بالعودة إلى الأسئلة التي وردت إلينا يقول صاحب السؤال: في حديثكم عن التوبة والعودة إلى الله -عز وجل- وعن المعاصي، أنا أعاني من فعل بعض المعاصي، وأصبحت أحب هذه المعاصي، فكيف يمكن التخلي عن هذه المعاصي، والتوبة والعودة إلى الله عز وجل؟

الدكتور بلال:
التوبة علمٌ وحالٌ وعملٌ، يشبه القانون الشهير: إدراك، انفعال، سلوك، لما يدرك الإنسان أنه مقيم على معصية لا ترضي الله يصبح عنده حال يُسمّى "الندم"، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:

{ الندم توبة }

(سنن ابن ماجه)

الندم توبة
ثم يندفع بعد ذلك إلى الإصلاح، يندفع إلى التغيير، يندفع إلى إصلاح ما كان بينه وبين الله، وبينه وبين عباد الله، من لا يجد في نفسه القوة على ترك المعصية؛ لأنها استأثرت في قلبه، واستحكمت الشهوة فيه، نقول له هناك ضعف في الإيمان، هذا ليس مرضاً، هذا عَرَض، والمرض هو ضعف الإيمان، لا بد من تقوية الإيمان، عندما يقوى الإيمان في نفس الإنسان –ورمضان فرصة لتقوية الإيمان- يصبح أقدر على ترك المعصية مهما استأثرت في قلبه، فرمضان فرصة مناسبة، قوِّ إيمانك من خلال صحبة صالحة، إذا كان لديك صحبة سيئة دعها، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
(سورة التوبة)

هذه يسميها العلماء الحاضنة الإيمانية، اجعل لنفسك حاضنة إيمانية، ارتدْ بيوت الله، صلوات الجماعة، قيام الليل، قراءة القرآن، يقوى إيمانك فتضعف قوة المعصية أمام قوة الإيمان فتتغلب عليها، هذا باختصار.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك فضيلة الدكتور، فضيلة الدكتور هناك حديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما كان يصعد المنبر وقال: آمين، آمين، آمين، وعندما سأله الصحابة فمن ضمن ما قال أنه:

{ ارْتَقى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على المنبر درجةً فقال: آمين، ثم ارتقى الثانيةَ فقال: آمين، ثم ارتقى الثالثةَ فقال: آمين ثم استوى فجلس، فقال أصحابُه: على ما أمَّنْتَ؟ قال: أتاني جبريلُ فقال :رَغِمَ أنفُ امرئٍ ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك، فقلتُ آمينَ، فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك أبوَيه فلم يَدخُلِ الجنةَ، فقلتُ: آمينَ، فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغْفَرْ له، فقلتُ، آمِينَ. }

(الألباني عن أنس بن مالك)

هذه الفرصة العظيمة لمغفرة الذنوب، ما هي الأسباب التي على المسلم أن يتعاطاها ليغفر الله له في هذا الشهر الفضيل؟

الدكتور بلال:
رمضان شهر المغفرة
نعم سيدي كم تفضلتم: (رَغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغْفَرْ له) يعني إن لم يُغفَر له فمتى؟ وهذا شهر المغفرة، الحقيقة سأضرب مثلاً بسيطاً وسريعاً:
تاجر عليه ديون كبيرة جداً، بلغت مئات الألوف، وعليه محاكم وقضايا، ومُهدّد بالسجن، ووضعه لا يسرّ صديقاً، ثم بعد ذلك تفاجأ في لحظة معينة قيل له افعل كذا وكذا وأشياء بسيطة جداً، ثم تُعفَى من كل ديونك، ومن كل المحاكم، عفو عام، كيف يكون حاله؟ والله لا ينام الليل من سروره، أُزيح عن كاهله كل الديون، وكل القضايا، وكل الأحكام وانتهى كل شيء.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ).
(مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ). انظر إلى هذه الفرص التي ممكن أن تُغفَر بها الذنوب؛ أن تقوم الليل وأن تصوم النهار، وعلى وجه الخصوص ليلة القدر لها مزية خاصة، هذه التي تغفر الذنوب.

شرطا المغفرة في رمضان:
لكن اشترط النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك شرطين: (إيمَانًا واحْتِسَابًا).
الشرط الأول: الإيمان، إيماناً بفرضية الصيام، إيماناً بالله تعالى الذي فرض الصيام، حباً بالله تعالى، ليس امتناعاً عن الطعام والشراب لمجرد الامتناع، لا، وإنما بنية التقرب من الله تعالى.
الشرط الثاني: الاحتساب، واحتساباً؛ أن يرجو بذلك أجر الله تعالى، لا يرجو أحداً من خلق الله، فإنّ الله يغفر له ذنوبه، فإذاً أعظم ما يُفعَل في هذه الأيام لمغفرة الذنوب: الصيام والقيام، إذا أديت ما فرض الله عليك من صيام شهر رمضان، وما سنّه لك من قيام ليله، فإن الله تعالى يغفر لك ذنبك، ولا يعجزه ذلك، وكما أسلفنا هذا للمعاصي التي بينك وبين الله، وأما ما كان بينك وبين العباد فأدّه الآن قبل رمضان حتى يُغفَر لك إما بالأداء، أو بالمسامحة.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله بك دكتور بلال، يقول السائل: تحدثتم عن صلة الأرحام، وعن الذهاب إلى الذين يسكنون في مكان بعيد، فحالي الآن أنني مغترب خارج البلاد لاستجلاب الرزق، كيف ممكن لمغترب في رمضان أن يصل الرحم؟

الدكتور بلال:
وسائل الاتصال الحديثة قرّبت البعيد
والله الإنسان في غربته يحتاج أرحامه، ويحتاجه أرحامه أكثر ما يكون في وطنه، واليوم يعني بفضل الله تعالى هذه الوسائل، وسائل الاتصال الحديثة قرّبت البعيد، وإن كانت في بعض الأحيان بعّدت القريب للأسف، عندما ينشغل كل بهاتفه ويترك أقرباءه ولا يجلس معهم، لكن نتحدث عن إيجابياتها، هي قرّبت البعيد، فاليوم اجعل لنفسك اتصالات اليوم اتصل مع خالتك، اليوم الثاني اتصل مع الثانية، أجعل خمس دقائق أو عشر دقائق لأهنئها بقدوم رمضان؛ كيف الحال، كيف أولادك، كيف وضعهم؟ إذا كان وضعك جيد في الغربة، ولك وبلغ مالي، وشعرت أن لديهم مشكلة، أرسل لهم هدية حوالة مادية، أو هدية عينية حسب ما تجد الظرف مناسباً، إذا كنت لا تستطيع اكتفِ بالسلام والاطمئنان عن الأحوال، فإن الناس يحبون الكلمة الطيبة، ويحبون ما يُسمّى في علم النفس "البوح"، أحياناً إنسان لا تملك أن تساعده، ولكن يكفي أن تسمع له، فمجرد سماعك له يشعر بذلك، ويدخل إلى قلبه من السرور ما لا تستطيع أن تعلمه أنت، تقول: ماذا فعلت؟ أنا تكلمت معه كلمتين، هو في ضعفه، وفي حاجته، وربما في بلده يعاني من ظروف معينة وجدها بحجم الجبال، لذلك الاتصال اليوم عبر وسائل التواصل؛ كالهاتف، والواتس آب، والفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل أصبح سهلاً، ومتاحاً، ومباحاً، فلا تبخل على نفسك، ولا على أرحامك أن تتصل كل يوم إذا كنت في غربة بواحد منهم في وطنك، وتسمع منهم وتحاول مدّ يد العون إليه بشيء تستطيعه.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، سؤال فقهي، تقول صاحبته: حالياً أنا أم لرضيع عمره شهر ونصف أرضعه رضاعاً طبيعياً، أفكر ألا أصوم رمضان؛ لأن علي دين من رمضان الماضي، ومع الحمل لم أتمكن من رده، وجربت قبل يومين أن أصوم، غير أنني أحسست بتأثر شديد، وكذلك تأثر حليبي ورضيعي من صيامي، لذا قلّ حليبه، وأنا كذلك شعرت بانهاك شديد، فقررت عدم الصيام حتى تصبح الظروف ملائمة، هل هذا القرار صائب بالنسبة لي؟ وكيف أعوّض هذا الشهر شهر رمضان المقبل، وشهر رمضان الفائت، لأنني لم أصمه، هل القضاء أو الكفارة أو كلاهما؟ وهي تقول بالنسبة لشهر رمضان الذي على الأبواب، وكذلك بالنسبة للأيام الباقية من رمضان الماضي، وبالنسبة للكفارة إن كانت واجبة هل ممكن أن أخرجها مسبقاً أم لا؟ أكثر من سؤال فيما يخص الأمر.

الدكتور بلال:
نعم، الحامل والمرضع حكمهم في قول جمهور الفقهاء حكم المريض، يعني تفطر إن خافت على نفسها، أو على جنينها وتقضي، وهناك بعض الأقوال أنها تفدي أيضاً مع القضاء، يعني ما سمّتها الأخت كفارة، هي الفدية، أنها تقضي وتفدي إذا خافت على جنينها.
ما أرجحه حتى لا أدخل الآن في التفاصيل الفقهية؛ لأن الأخت الآن تسأل وتريد جواباً سريعاً، أقول لها: ما دمت مرضعاً فلَكِ الفِطر، سواء إن أخبرتك الطبيبة فقالت لا تصومي، أو أنت كما قلت وجدت أنك غير قادرة، قلّ الحليب، ويتأثر الرضيع، فإن شاء الله لا شيء عليك لو أفطرت بخوفك على رضيعك، وعليك في قول جمهور الفقهاء القضاء عندما تستطيعين، وكذلك الأيام التي بقيت لك من رمضان الماضي عليك قضاؤها إن شاء الله عندما تتمكنين من ذلك مثل المريض: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك دكتور بلال، سؤالنا الأخير في هذه الحلقة، وقُبَيل رمضان بهذه الأيام، بماذا توصينا فضيلة الدكتور؟

العمل على تحصيل التقوى في رمضان:
الدكتور بلال:
الله تعالى لمّا فرض الصيام جعل علته التقوى
بارك الله بكم، أوصي نفسي وإياكم بتحصيل تقوى الله تعالى؛ لأن الله تعالى لمّا فرض الصيام جعل علته واضحة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
فخير ما يوصى به الإنسان، ويوصي به نفسه، ويوصي به أرحامه وأهله وأقرباءه تقوى الله تعالى، والمؤمن إذا قيل له: "اتّقِ الله" فإنه يعظم ذلك في داخله، ويسعى إلى تحقيق تقوى الله.
هذا عمر رضي الله عن عمر، يقول له أحدهم: "يا أمير المؤمنين، اتق الله"، فيقول له خادم أمير المؤمنين: "ويلك ماذا تقول لأمير المؤمنين"؟ فيقول له عمر: "دعه، لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، وفي المقابل في القرآن الكريم عن المنحرفين:

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
(سورة البقرة)

فنحن نوصي أنفسنا جميعاً بتقوى الله، لأنها خير الوصية، ولأنها خير الزاد:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
(سورة البقرة)


تعريف التقوى:
والتقوى: أن يُطاع الله فلا يُعصَى، وأن يُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر، فلنبدأ من الآن طاعةً لله تعالى، وذكراً لله تعالى، وشكراً له، وهذا الشكر لِيكن بالقلب، ولْيكن باللسان، ولْيكن بالعمل:

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(سورة سبأ)

فلنتفقّد في هذه الأيام المتبقية من يأتي عليهم رمضان وهم مهتمون لأولادهم، مهتمون لرزقهم، فلنبدأ من الآن بتفقدهم بالأغذية، وبالحاجات الرئيسية وبالمال، ولنبدأ بالأقرباء، ولنتعاون لعل الله يطّلع علينا في 1 رمضان متكافلين، متعاونين، متضامنين، نصوم جميعاً، ونفطر جميعاً على مائدة الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، ويبلغكم رمضان غير فاقدين ولا مفقودين، فإن رمضان نعمة من نِعَم الله العظيمة التي نسأل الله تعالى أن يلهمنا شكرها، وأن يوفقنا إلى الصيام والقيام، وغض البصر، وحفظ اللسان، والحمد لله رب العالمين.

الأستاذ مجاهد:
في ختام حلقتنا مشاهدينا الكرام، نشكر فضيلة الأستاذ الدكتور: بلال نور الدين الداعية الإسلامي على وجودك معنا، شكراً جزيلاً لك فضيلة الدكتور.

الدكتور بلال:
عفواً بارك الله بكم، سعدت بكم، وبالإخوة المتابعين.

الأستاذ مجاهد:
بارك الله فيك، كما أشكركم مشاهدينا الكرام، إلى أن نلتقي بكم في أول يوم من أيام رمضان يوم الخميس المقبل إن شاء الله، وسيكون البرنامج يومياً في رمضان، فكل عام وحضراتكم بخير، ولكم كل التحية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.