الفرار إلى الله

  • الحلقة السادسة عشرة
  • 2022-04-17
  • برنامج في ثنايا القرآن
  • قناة يمن شباب

الفرار إلى الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ الحمدُ للهِ رب العالمين، وأُصلّي وأُسلّم على نبينا الهادي الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين.


صفات الفار إلى الله:
1 ـ يعرف ربَهُ ويُعظِّمه ويُقدّره حقَّ قدره:
يقول تعالى:

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
[ سورة الذاريات]

ليس لنا إلا باب الله تعالى
ليس لنا إلا باب الله تعالى، وليس لنا من جهة نفرُّ إليها في همومنا ومتاعبنا وأفراحنا وأحزاننا إلا الله تعالى، الفِرار إلى الله، ما صفات الفارِّ إلى الله من خلال هذه الآيات الكريمة؟
أولاً: الذي يَفرُّ إلى جهةٍ ما لا شكَّ أنه يَعرفها، أصابتني مصيبةٌ نسأل الله السلامة إلى أين أذهب؟ إلى من ألجأ؟ إلى جهةٍ أعرفها أولاً وأُعظّمها ثانياً، فلا أذهب إلى شخصٍ لا أعرفه، ولا أذهب إلى شخصٍ أعرفه ولكنه لا يملك الحلَّ لمشكلتي، فلا بُدَّ من أن أعرفه وأن أُعظّمه حتى أفرَّ إليه، ولذلك بدأت الآيات:

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
[ سورة الذاريات]

تُعرفك على الخالق، هو الذي خلق السماء، وهو الذي خلق الأرض وفرشها:

وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
[ سورة الذاريات]

ومن كل شيء من الذرّة إلى المجرّة خلقنا زوجين نظام الزوجية:

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
[ سورة الذاريات]

ثم قال:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
[ سورة الذاريات]

متى أمرك بالفِرار إليه؟ بعد أن بينَّ لك جلَّ جلاله عظمته، فهو يملك الحلَّ لكل مُشكلاتنا، فهو الذي خلقنا، وخلق ما حولنا، ويملكنا، ويملك كل ما حولنا، وأمرُنا وأمرُ كل شيءِ حولنا بيده جلَّ جلاله، فهل يُعقل أن نفرَّ إلى غيره؟! معاذ الله ففروا إلى الله.
إذاً أول صفات الفارِّ إلى الله تعالى أنه يعرف ربَهُ ويُعظِّمه ويُقدّره حقَّ قدره.

2 ـ موحِد لا يذهب إلا إلى الله:
الصفة الثانية في الفارِّ إلى الله تعالى أنه موحِد لا يذهب إلا إلى الله أبداً، فالله تعالى لا يَقبَل العمل المُشترك، ولا يُقبِل على القلب المُشترك، إذا أردت أن تتجه فاتجه إليه وحده، أما أن تتجه إلى الله وتتجه إلى غيره فإن مشكلتك لن تُحل، ولا أعني بذلك أبداً ترك الأخذ بالأسباب، فقد يذهب الإنسان إلى بعض الناس من باب الأخذ بالأسباب أما القلب فمتجهٌ إلى جهةٍ واحدة وهي الله، مرِض العبد ذهب إلى الطبيب وهذا مطلوب ومندوب لكن من الشافي في قلبه؟ هو الله فقط وحده، فالفارُّ إلى الله موحِد يتجه إلى جهةٍ واحدةٍ بقلبه، ويتخذ الأسباب التي أمره الله تعالى باتخاذها في طاعة الله تعالى.

3 ـ الخوف من الله تعالى:
إذاً هو أولاً: يعرف ربَهُ ويُعظِّمه، ثانياً: هو موحدٌ، ثالثاً: هو خائف؛ الفارُّ خائف فالذي يهرب ويركض، لا شكَّ أن هناك شيئاً يُخيفه حتى ركض هذا الركض، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ من خاف أدْلج ومن أدْلج بلغ المنزلَ إلَّا أن يُبلِّغَه اللهُ غالبَه إلَّا أن يُبلِّغَه الجنةَ }

[أخرجه الترمذي]

أدلج أي مشى في الظلمة، فالفارُّ إلى الله خائف، مم هو خائف؟ من ذنوبه ومن تقصيره في حق عبوديته لخالقه، لذلك جاءت الآية:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
[ سورة الذاريات]

الإنذار أن تخاف أن تعصي الله تعالى:

وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
[ سورة الذاريات]

هذا التوحيد.

وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
[ سورة الذاريات]

أكدَّ مرةً ثانية الخوف من الله تعالى.

4 ـ يحسن إلى خلق الله:
الفارُّ إلى الله تعالى يعرف ربه، يُعظّمه، يُوحدّه، يَخافه، الآن يُحسن إلى خلقه؛ إذا أردت أن تذهب إلى جهةٍ ما من أجل أن تطلب منها طلباً في حياتنا الدنيا فإنك تختار جهةٍ لك سابقة إحسانٍ معها قدّمت شيئاً لها فيكون لك وجهٌ أن تطلب منها، ما الذي يريده الله تعالى منك حتى تفرَّ إليه؟ أن تكون مُحسناً لخلقه، هو لا يريد إحساناً له جلَّ جلاله فهو الغنيُّ عن عباده جميعاً، ولكنه يريد منك أن تكون مُحسناً إلى عباده، فإذا كان لك عملٌ صالح؛ صدقة، نفقة، خير، برّ تُقدّمه فإنك تذهب إلى الله فاراً إليه، وبين يديك صدقة قد قدّمتها لوجه الله تعالى، فإن ذاك أدعى ليستجيب الله لك، ويقبلك عند فِرارك إليه.

5 ـ المسارعة:
الفرار يقتضي المُسارعة
أيضاً من صفات الفارّ إلى الله تعالى أن الفِرار يقتضي السرعة، هل رأيت في حياتك فاراً إلى جهةٍ ما راكضاً إليها يمشي مشياً بطيئاً؟! مستحيل، لا بُدَّ أنه مُسرع، فالفرار يقتضي المُسارعة، لا بدَّ أن نُسارع في طريقنا إلى الله، ألا نتباطأ، لأن الوقت ليس في صالحنا، نحن محكومون بالموت مع وقف التنفيذ:

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
[ سورة الزمر]

ولا ندري متى يحين الأجل، ومتى ننتقل من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية التي خُلقنا لأجلها، فينبغي للفارِّ إلى الله تعالى أن يُسارع في خطواته، فالوقت ليس في صالحنا، ثم الفارُّ إلى الله تعالى لا تعنيه الطرق الفرعية طرق الضلال، وإنما يمشي في طريقٍ واحدة مُسرعاً فيها، متجهاً إلى جهةٍ واحدة، لا يعتني بالطرق الفرعية أبداً، النبي صلى الله عليه وسلم خطَّ يوماً خطاً على الأرض، وخط َّعن يمينه خطوطاً وعن شماله خطوطاً ثم وضع يده على الخط المستقيم:

{ خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِه ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال: هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ }

[أخرجه أحمد والنسائي]

طرق الضلال كثيرة لا يستوعبها عمر الإنسان، لكن الفارَّ إلى الله تعالى لا تعنيه الطرق الفرعية، وإنما يعنيه الطريق المستقيم الذي يُوصِله إلى هدفه بأسرع وقتٍ ممكن، فكما تعلمون الطريق المستقيم في الرياضيات هو أقصر خطٍ يمرُ بين نقطتين:

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
[ سورة الفاتحة]


6 ـ الاستعانة بأخ صالح:
الفارُّ إلى الله تعالى أيضاً يأخذ معه في فِراره من يُعينهُ على هذه الرحلة، يُعينهُ في هذه الرحلة إلى الله تعالى لذلك جاء الأمر بالمجموع بواو الجماعة:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)
[ سورة الذاريات]

جميعاً.

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
[ سورة النور]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
[ سورة التوبة]

الشهوات مُستعِرة والشُبهات كثيرة
فينبغي دائماً للمؤمن في رحلته إلى الله أن يُصاحب إخواناً يُعينونه، فالشهوات مُستعِرة والشُبهات كثيرة، والإخوة معك في الطريق يُعينونك على الوصول إلى هدفك بأسرع وقتٍ ممكن، ويخذّلون عنك ما استطاعوا من فتن الدنيا وشهواتها وشُبهاتها، فاتخذ صُحبةً في طريقك إلى الله لذلك جاء الأمر بالمجموع:

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)
[ سورة الذاريات]

فالفرار إلى الله تعالى يقتضي الجماعة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فإن لم يجد الإنسان من يرافقه في رحلته فلا شكَّ أنه سيسلُكها ولو كان وحيداً، وأنت الجماعة ولو كنت وحدك إذا كنت على حق فأنت الجماعة.

7 ـ الاهتمام بالأهداف لا بالوسائل:
الفارُّ إلى الله تعالى تعنيه الأهداف
ثم الفارُّ إلى الله تعالى لا تعنيه الوسائل بقدر ما تعنيه الأهداف، هل رأيت إنساناً يهرب إلى جهةٍ ما وفي الطريق يجلس ليتنزه أو ليحتسيَ كوباً من الشاي أو فنجاناً من القهوة؟! أبداً، هو لا يعتني بالوسائل هو يريد أن يصل إلى هدفه، فالمؤمن في الدنيا يفرُّ إلى الله تعالى لا يعنيه كثيراً الوسيلة التي تُوصله، إن كانت الوسيلة عملاً صالحاً قام به، وإن كانت الوسيلة إنفاق مالٍ أنفقه، وإن كانت الوسيلة رعاية والديه رعاهما، لا تعنيه الوسيلة بقدر ما تعنيه النتيجة فلا يتمنى ما فضّل الله به الناس بعضهم على بعض فيقول: لو عندي مال لأنفقته، عندك ما تفعله لا تهتم بالوسائل بل اهتم بالأهداف.
عندما ننام قبل النوم ندعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: اللهم لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، فنحن نفرُّ من الله إليه، نفرُّ منه خائفين أن يُعاقبنا على ذنوبنا فلا نجد باباً نلجأ إليه إلا الله، أرأيت إلى ولدٍ صغيرٍ عاقبته أمه وأخرجته من البيت ذهب عشرات الأمتار ثم نظر خلفه فلم يجد باباً يطرقه إلا باب أمه فعاد فارّاً منها إليها، فاحتضنته، وضمته، وآوته، ورعته، والله تعالى نفرُّ منه إليه، لأنه ليس لنا إلا بابه جلَّ جلاله.
إلى المُلتقى أستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته