• الحلقة الرابعة والعشرون
  • 2022-04-25
  • برنامج في ثنايا القرآن
  • قناة يمن شباب

سورة العصر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ الحمدُ لله وصلاةً وسلاماً على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى صحبه ومن والاه.


الإنسان زمن وهو بضعة أيام:
أيها الإخوة الأحباب؛ سورةٌ في كتاب الله تعالى من قصار السور فيها من النفع الشيء الكثير، هذه السورة قيل عنها: لو تدبّر الناس سورة العصر لكفتهم، سورة العصر يقول تعالى:

وَالْعَصْرِ (1)
[ سورة العصر]

هذه الواو واو القسم، والله تعالى يُقسِم بالعصر من أجل أن يلفت نظرنا إلى أهمية العصر.
الإنسان زمن
ما هو العصر؟ في أرجح الأقوال وأَعمِّها العصر هو الزمن، هو مُطلق الزمن، فالإنسان زمن، هو بضعة أيام، كلما انقضى يومٌ انقضى بِضعٌ منه، أي فلان من الناس إذا أردت أن تُعرِّفه تعريفاً دقيقاً جامعاً مانعاً فرَضاً ولا أحد يعلم متى يَحين الأجل لكن من باب الافتراض فتقول: فلان هو عبارة عن أربعٍ وسبعين سنة وثلاثة أشهر وأربعة أيام وسبع ساعات وخمس دقائق وثانيتين، هذا هو الإنسان، هو الزمن الذي سيعيشه، والدليل أنه كلما اقترب من الموت خَسِر شيئاً من الزمن، فأنا وأنتم في بداية هذه الحلقة كنا أبعد عن الموت من هذه اللحظة، هذه حقيقة ليست تشاؤماً هي حقيقة، لأننا جميعاً اقتربنا من الموت دقيقة أو دقيقتين، لأن الموت نقطة لن تتغير، ثابتة، ونحن نسير نحوها، فلا بُدَّ أن نصل إليها، ومتى وصلنا إليها انتهينا، انتهى الزمن فانتهينا، فنحن زمن، والله تعالى يُقسم لنا في هذه السورة بالزمن فيقول:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[ سورة العصر]


الإنسان خاسر إلا إن أنفق وقته في الاستثمار لا في الاستهلاك:
جواب القسَم (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) لماذا؟ لأنه يخسر نفسه، عندما يخسر الوقت يخسر نفسه.
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
{ أحمد شوقي }
فالإنسان يخسر في كل لحظة، ما الذي يخسره؟ يخسر ذاته لأنه يخسر الزمن الذي هو رأس ماله، والذي هو يمثل حياته في هذه الأرض التي كتبها الله تعالى له:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[ سورة العصر]

الإنسان يخسر في كل لحظة
فالإنسان خاسر؛ يخسر عندما يستهلك الوقت، لكنه لن يخسر عندما يستثمر الوقت، لذلك جاء بعد ذلك قوله تعالى: إلا، إذاً هناك مُستثنون من الخسارة، من هم قبل أن نتلو الآية؟ باختصار هم الذين يستثمرون أوقاتهم ولا يستهلكونها، ما معنى يستثمرونها؟ أنت إذا كان معك مئة دينار وصرفتها الآن استهلكتها أنت، لو وضعتها في مشروع، وجاءك منها ربح أنت الآن تستثمرها، الأول استهلاك الثاني استثمار، أيهما أفضل أن يستهلك الإنسان ماله أم أن يستثمره ويأخذ عوائده؟ كل المنطق يقول: إن الاستثمار هو الأفضل، نحن في الوقت عندما يمر علينا الوقت نحن إما أن نكون قد استهلكنا الوقت، أو أن نكون قد استثمرناه، إذا كنا قد أنفقناه في الحرام - والعياذ بالله - فهذا استهلاكٌ من أسوأ أنواع الاستهلاك، لأنه سيأتي الحساب، وسيكون هذا الوقت وبالاً علينا، إن كنا قد أنفقناه في أشياء لا تُقدِّم ولا تؤخر فقد استهلكناه والتهينا عن النفيس بالخسيس، لكن إذا عملنا في الوقت أعمالاً مُفيدة تنفعنا بعد مُضيّ الزمن، ولو كانت أعمال دنيوية، أي عمل الإنسان إذا كان يعمل عملاً مُباحاً يُرضي الله تعالى، ويُطعم أولاده، ويُنفق على نفسه، ويكفي عياله، هذا استثمار للوقت، إذا كان في الصلاة يستثمر وقته، إذا كان صائماً يستثمر وقته، إذا كان يذكر الله يستثمر وقته، إذا ذهب في نزهة مشروعة مع أهل بيته لإدخال السرور إلى قلبهم، وإرضاء الله تعالى من خلالهم، فهو يستثمر وقته، فالاستثمار هو ألا تأتي في الوقت شيئاً حراماً، وألا تأتي في الوقت شيئاً قد يكون مُباحاً لكنه يُلهيك عما هو أهم منه وهو طاعة الله تعالى، ورضا الله تعالى، فنحن إما أن نستهلك أوقاتنا، أو أن نستثمرها، فإذا استثمرناها نجونا من الخسارة، وإذا استهلكناها فنحن خاسرون.
بعض السلف كان يقول: والله ما فهمت سورة العصر إلا من بائع الثلج! قالوا: وكيف بائع الثلج؟ ما علاقته بسورة العصر؟ بائع الثلج قال: كان يضع ألواح الثلج ليبيعها، وكان ينادي على الناس: ارحموا من يذوب رأس ماله، فبائع الثلج إن لم يبع الثلج ذاب الثلج وتحول إلى ماء وخسر رأس ماله، ونحن إن لم نستثمر الوقت ذهب الوقت، وخسرنا خسارةً عظيمة.

كيفية استثمار الوقت:
إذاً:

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

كيف نستثمر الوقت بنص هذه السورة الكريمة؟

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

هكذا نستثمر أوقاتنا؛ إيمان، والإيمان يحتاج إلى طلب العلم، فأيُّ مجلس إيمان سواء كان طلباً للعلم، أو عبادةً، أو كان قُرباً من الله تعالى، أو صلاةً، أو حَجاً، أو نفلاً، أو غير ذلك فهو إن شاء الله تعالى من الإيمان، أي شيء يقوي إيمانك بالله تعالى فيدخل في الأول من أركان النجاة، هي أربعة أركان للنجاة.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

لا يكفي أن تطلب العلم، وتتعلم، وتؤمن، لا بدَّ أن ينقلب الإيمان إلى عمل صالح، عمل يُحبه الله تعالى، عمل يصلح للعرض على الله تعالى:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

كل عملٍ يُرضي الله تعالى، ويكون خالصاً لوجه الله تعالى فهو عملٌ صالح (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) الثالثة، وهي تعني الأمر بالمعروف، نقل المعارف والأعمال الصالحة إلى الآخرين، فهذا من التواصي بالحق، آمنت وعملت صالحاً بعدها دعوت الناس إلى الأعمال الصالحة، دعوتهم إلى الله، نقلت لهم آيةً قرآنية، قال صلى الله عليه وسلم:

{ بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً، وَحَدِّثُوا عن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار }

[صحيح البخاري]

فبلّغت الناس، فأنت هنا تتواصى بالحق، رأيت إنساناً شارداً عن الحق فأعدته إلى الجادة المستقيمة، هذه وتواصوا بالحق، نتبادل الوصية، توصيني وأوصيك، تأمرني بالمعروف وآمرك، تنهاني عن المنكر وأنهاك، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) .
الإيمان صبرٌ وشكر
الرابعة: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فلا بُدَّ من الصبر، فالطريق شاقة ومتعبة، والحياة فيها آلام، وفيها مصاعب ومتاعب، وحتى نصل إلى دار السلام بسلام يجب أن نتواصى، أن يوصيَّ بعضنا بعضاً بالصبر، والتحمل تحمل المشاق فلا بُدَّ من الصبر عند الإيمان، ولا بُدَّ من الصبر عند العمل الصالح، ولا بُدَّ من الصبر على الأمر بالمعروف وعلى النهي عن المنكر، فالصبر يشمل كل حياتنا، بل إنَّ حياة المؤمن كلها لا تخلو أن تكون صبراً أو شُكراً، فإذا أصابه ما يُحب من الخير شكر الله فارتقى عند الله، وإذا أصابه ما لا يُحب من الشرور والمصائب صبر، وابتغى بذلك وجه الله تعالى، فحياتنا صبرٌ وشكر، والإيمان صبرٌ وشكر، كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الصحيح يقول: "وجدنا خير عيشنا في الصبر"، أي في الأيام التي كانت صعبةً على الإسلام والمسلمين كان يجد خير عيشه، في الأيام التي يجد فيها شُحاً في الموارد كان يجد خير عيشه، لماذا؟ لأن الصبر مقام عالٍ جداً، أن يشعر الإنسان بالرضا عن الله، وأن يشعر بالصبر على ما زوي عنه من الدنيا، أن يصبر، فالصبر مطيةٌ لا تكبو، ويقول بعض الصالحين: "لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت" لأنَّ كلاً منهما سيوصل إلى الله، فإما أن تصل إلى الله بشكرك، أو أن تصل إليه بصبرك، أو أن تصل إليه بهما معاً، وهذا حال الدنيا صبرٌ وشكر.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
[ سورة العصر]

فإن آمنت بالله إيماناً صحيحاً يحملك على طاعته، وعملت أعمالاً صالحةً تُقرّبك إلى الله، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المُنكر، وصبرت على كل ذلك، فقد نجوت من الخسارة، واستثمرت وقتك فيما ينفع .
إلى المُلتقى أستودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته