تأملات في غزوة بدر وقوانين النصر الثابتة في سورة الأنفال

  • 2023-09-09

تأملات في غزوة بدر وقوانين النصر الثابتة في سورة الأنفال


المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصّلاة وأتم التّسليم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سورتنا اليوم والتي نلتقي معها وفي ظلالها إنما هي سورة الأنفال، تناولنا الحديث عنها في حلقتنا السابقة، نكمل اليوم بقية المحاور بعون الله وتوفيقه، فالسورة -كما يعلم الجميع- نزلت لتتحدث عن يوم عظيم بحاجة إلى أن ينزل فيه سورة؛ إنه يوم بدر يوم الفرقان -كما سماه الله تعالى-، فتعالوا بنا إخوتي المستمعين لنعيش أنوار وألطاف هذه الآيات الكريمة وبيان وشرح وتفصيل لبعض الآيات وذلك من خلال هذا اللقاء الذي جمعنا بفضيلة الدكتور الداعية (بلال نور الدين) أستاذ الفقه المقارن، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، عضو رابطة علماء الشام والمشرف العلمي والمسؤول عن موقع الدكتور محمد راتب النابلسي، حياك الله دكتور وأهلاً ومرحباً بك.

الدكتور بلال نور الدين:
أهلا ومرحباً، بارك الله بكم ونفع بكم، وجزاكم الله خيراً على هذه الاستضافة الطيبة.

المقدمة:
وإياكم يا دكتور، تحدثنا في الحلقة السابقة عن بداية الآيات والتي وردت في سورة الأنفال، اليوم سنتحدث عن باقي الآيات الكريمة والتي تتحدث -كما أسلفت- عن يوم عظيم، وهي بحاجة إلى أن ينزل فيها سورة تتحدث عن يوم بدر، فمن الطبيعي يا دكتور أن تبدأ السورة بوضع قوانين للنصر، المسلمين عدد قليل، عدة قليلة؛ أي بالعقل البشري والمادي المعركة خاسرة، لكن السورة تتحدث عن هدف واحد، يا مسلمين، النصر لا يأتي صدفة ولا يأتي فجأة، النصر له قوانين ثابتة، نرجو التوضيح يا دكتور، جزاكم الله كل خير.

قوانين النصر:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، كما تفضلتم الله تعالى لا يتعامل مع عباده بالأماني.

لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوٓءًا يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
(سورة النساء)

وإنما يتعامل مع عباده بالسنن:

سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
(سورة الفتح)

الأسباب تؤدي إلى النتائج
وهذه السنن مصطلحها الحديث كما تفضلتم هو (القوانين)؛ بمعنى أن الأسباب تؤدي إلى النتائج، فمن يقدم الأسباب يأخذ النتائج، ومن يقصّر في الأسباب تقصّر عنه النتائج، فلا بدّ لكل شيء من قانون؛ سبب ونتيجة، فهذه السورة الكريمة -كما تفضلتم- تحدثت عن قوانين النصر، ولو أردنا أن نجمل قوانين النصر فيمكن أن نضع كل القوانين في خانتين كبيرتين:
1- خانة متعلقة بالأسباب المادية.
2- وخانة متعلقة بالأسباب المعنوية الإيمانية.
فهما شرطان لا ثالث لهما كل منهما لازم؛ أي لا بد منه، غير كاف؛ أي لا بد أن يكون معه الشرط الثاني، الإيمان شرط، والإعداد شرط، فإذا قدّم الإنسان إيماناً ولم يقدم إعداداً فقد قصّر، وإذا قدم إعداداً ولم يقدم إيماناً فقد قصّر، فلا بدّ من أن يجتمع الإيمان مع الإعداد، أما الإيمان فقد ذكرته السورة في آيتين اثنتين الأولى:

وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

أي لابدّ أن توقن أن النصر من عند الله تعالى وحده، هذا قصر وحصر (ما مع إلا) (وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ) فلا يمكن أن يتحقق نصر في الأرض إلا إذا سمح الله تعالى به وأذن به، والآية الثانية:

إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

هاتان الآيتان في السورة، فالإيمان هنا المقصود به الإيمان بأن النصر من عند الله، وحسن التوكل على الله في تحقيق النصر، فلا يعتمد على الأسباب التي يقدمها وإنما يعتمد على مسبب الأسباب، وأما الإعداد فقد ورد أيضاً في هذه السورة، وعلى رأس هذه الآيات:

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍۢ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

من ضمن الإعداد الجيد الطاعة
(مَّا ٱسْتَطَعْتُم) إعداد القوة المتاحة وليس القوة المكافئة، فقد لا يستطيع المسلم أن يُعدّ القوة المكافئة لعدوه، ولكن ينبغي أن يستنفد الجهد في إعداد ما يستطيعه، (مَّا ٱسْتَطَعْتُم) أي كل ما تستطيعون، وأما قوله: (مِّن قُوَّةٍ) فهذه نكرة وقبلها (من) تعني أن نستنفد جميع أنواع القوة وليست قوة واحدة، فالتعليم قوة، والإعلام قوة، وأنواع الأسلحة قوة، والزراعة قوة، والصناعة قوة، والتجارة والمال قوة وهكذا (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) ومن ضمن الإعداد الجيد الطاعة، فجاء في السورة:

وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَٱصْبِرُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ (46)

إذاً نحن أمام منظومة متكاملة للنصر يحكمها أمران اثنان أساسيان:
1- إيمان بالله مع صدق التوكل عليه بأن النصر من عنده.
2- ثم إعداد للأسباب الممكنة والقوة الممكنة.
وهذا درس ليس في المعركة فحسب، درس ينبغي أن نلحظه في كل شيء في حياتنا، فلو كان عندي امتحان غداً أو كان عند ابني امتحان غداً، فإنني ينبغي أن أدرّبه على شيئين اثنين؛ توكل على الله لأن الله هو الذي سينجحك في الامتحان، وقم وادرس، فإياك أن تكون دراستك حجاباً بينك وبين أنك لن تستطيع أن تحقق النجاح إلا بتوفيق الله، وإياك أن تزعم أنك متوكل على الله- وهذا اتكال وليس توكلاً -أن تترك الدراسة، فلا بد أن تجمع الأمرين معاً، وفي المعركة لا بد من الإيمان، ولا بد من الإعداد.

المقدمة:
جميل جداً يا دكتور، والمتتبع للقرآن الكريم يا دكتور بتدبر وإمعان نجد أن قراءة القرآن هي رسائل متكاملة لجعل الإنسان صالحاً تعمّ الكون على منهج الله، فالسور التي سبقت سورة الأنفال- وهي من السبعة الطوال- جاءت لتؤكد أن هنالك منهج خلافة، الأنفال جاءت لتؤكد أنك حتى تصل إلى اكتمال المنهج يجب أن تأخذ بالقوانين الموجهة للمسلمين ليوم القيامة، هذه القوانين هي ما ذكرت وأجملت وأبدعت فيها يا دكتور بارك الله فيكم.

الدكتور بلال نور الدين:
صحيح، حياكم الله.

المقدمة:
نعود دكتور لجواب السؤال في بداية سورة الأنفال والذي تحدثنا عنه في الحلقة السابقة:

يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَنفَالِ ۖ قُلِ ٱلْأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)

وقد وضحت لنا -جزاكم الله كل خير- لماذا تأخر الجواب أربعين آية؟ الأصل هو ترسيخ قوانين النصر والتي احتوت عليها الآيات، ثم يأتي الحديث عن الدنيا وعن الغنائم، نود التوجيه والتوضيح، بارك الله فيكم.

سبب تأخر الإجابة لسؤال(يسألونك) في سورة الأنفال:
الدكتور بلال نور الدين:
حياكم الله كما تفضلتم الآية الأولى في السورة: (يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَنفَالِ) وبعد خمس صفحات، وهو منتصف السورة تقريباً، وفي الآية الواحدة والأربعين:

وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍۢ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (41)

لا بد أن نخرج حب الدنيا من صدورنا
إلى آخر الحياة الكريمة، هذا التأخر لفت أنظار المفسرين والمتابعين في تأخر الإجابة التفصيلية عن السؤال، وكما تفضلتم جاء ذلك لبيان أهداف الجهاد العليا، أهداف القتال في سبيل الله؛ قوانين النصر، الهدف الذي دخلنا المعركة من أجله، لماذا نحن هنا؟ لماذا جئنا إلى هنا؟ لم نأتِ طلباً للدنيا ولا طلباً للغنائم ولا طلباً للأنفال ولا طلباً لعَرض من الدنيا قليل، فلا بد أن نخرج حب الدنيا من صدورنا أن نملكها لا أن تملكنا، أن نتحكم بها لا أن تتحكم بنا، أن نجعلها في أيدينا لا في قلوبنا، أن نقودها لا أن ننقاد لها، فكل هذه المعاني مجتمعة لذلك تأخر هذا الجواب حتى يضمن المولى -جلَّ جلاله -أن حب الدنيا قد خرج من الصدور ، وأن الأهداف العليا قد توضحت وأصبحت ثابتة، لو أن أباً أرسل ابنه إلى بلد بعيد ليحصّل وينال شهادة عليا في مجال معين، فإن هذا الابن جاء لهدف، فلا بد أن يستقيم هذا الهدف في ذهنه حتى يستطيع أن يؤدي سلوكاً يتناسب مع هدفه، أما لو أن هذا الابن في اليوم الأول لوصوله إلى ذاك البلد اتصل بوالده وقال له :أين أجد أماكن اللعب؟ أين أجد أماكن السهر؟ أين أجد الأماكن الجميلة في ذلك البلد؟ فإن الأب يقول له: انتظر قليلاً، أنا ما أرسلتك إلى هذا البلد من أجل أن تسهر وتلعب وتلهو، أنا أرسلتك من أجل أن تحقق هدفك الأعلى؛ وهو نيل شهادة عليا في اختصاص نادر، فسلني عما يصلحك، سلني عما يحقق أهدافك، ثم بعد ذلك لن أمنعك من قضاء ساعة في لهو مباح، لكن إياك أن تجعل الوسائل أهدافاً، إياك أن تجعل الوسائل غايات فتنسى لماذا أنت هنا فلا يتحقق هدفك الذي جئت من أجله، من هنا فإن الله تعالى بيّن أننا دخلنا المعركة من أجل تحقيق العزة لله دين الله تعالى، ومن أجل نيل المراتب العالية في الدنيا والآخرة، وتحقيق النصر ونشر دين الله تعالى في الخافقين، فالجهاد له أهداف عليا، من أهدافه رد العدوان.

وَقَٰتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ (190)
(سورة البقرة )

ومن أهدافه:

وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
(سورة الأنفال)

فنحن جئنا لندافع عن أنفسنا، وجئنا لننشر الخير، ولكيلا يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، وإنما لنجعل العبودية خالصة لوجه الله تعالى؛ هذان هدفا الجهاد، أهداف الجهاد العليا في الإسلام، فلا ينبغي أن ننشغل عنها بلعاعة من الدنيا وغنائم وأموال وغير ذلك، فربّى القرآن الكريم الصحب الكريم وربانا من بعدهم على أن ننظر دائماً إلى الأهداف العليا، وألا تشغلنا الدنيا وألا تشغلنا الوسائل عن الغايات.

المقدمة:
بارك الله فيكم، دكتور ونحن ما زلنا نتحدث عن الغنائم والأموال، حب المال فُطرت عليه النفوس، يقول تعالى:

وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
(سورة الفجر)

ويقول أيضاً:

وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
(سورة العاديات )

فجاء في التفسير هنا أن المقصود بالخير هنا هو المال، لذلك ولعلم الله بما جُبلت عليه النفوس البشرية من حب للمال، كان المال الذي يأتي للمسلمين على ثلاثة طرق، أو طرائق، كل هذه الثلاث تولى الله بنفسه تقسيمها ولم يكلها إلى أحد، ولا حتى إلى نبيه -صلوات ربي وسلامه عليه-، نود التعرف على هذه المصادر.

تولي الله تعالى تقسيم المال على المسلمين:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، نعم كما تفضلتم، هي مصادر المال كثيرة في الإسلام، لكن ربما تجتمع كلها تحت ثلاثة عناوين رئيسية:
1-الميراث؛ يأتي المال عن طريق الميراث، يرث الإنسان مالاً من أبيه، من عمه، من جده إلى آخره من قواعد الميراث.
2-أو يكون غنيمة يغنمه في الحرب، هذه الأنفال التي نتحدث عنها.
3-أو يكون صدقة يتصدق بها، أو يُتصدق بها عليه، وهذه المصادر الثلاثة -كما تفضلتم- لها آيات واضحة في كتاب الله لا تدع مجالاً للشك أو للاجتهاد أو للتفسير أو التأويل البعيد عن مضامينها، فأما الميراث فقال تعالى في آيات واضحة في سورة النساء:

يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِىٓ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَٰحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَٰحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُۥ وَلَدٌ وَوَرِثَهُۥ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُۥ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
(سورة النساء)

ثم:

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَٰجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢ ۚ وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍۢ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَٰلَةً أَوِ ٱمْرَأَةٌ وَلَهُۥٓ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوٓاْ أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى ٱلثُّلُثِ ۚ مِنۢ بَعْدِ وَصِيَّةٍۢ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّۢ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

قواعد الميراث ثابتة
إلى آخر آيات الميراث وقواعد الميراث التي صنّف فيها المصنفون، وأصبحت لها قواعد ثابتة، يكاد الخلاف فيها يكون معدوماً، فقواعد الميراث ثابتة، ثم الغنيمة (يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْأَنفَالِ) إلى أن قال: (وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍۢ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ)إلى آخره، ثم الصدقات، وقال تعالى فيها:

إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْعَٰمِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَٰرِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
(سورة التوبة)

فعدد ثمانية أصناف يستحقون الزكاة الواجبة التي فرضها الله تعالى في الأموال وهي ربع العشر، أو غير ذلك في الأموال الأخرى كالأنعام وغيرها، فإذاً نحن أمام منظومة متكاملة لتوزيع هذه المصادر الثلاثة، حتى لم يتركها -كما تفضلتم- الله تعالى لأحاديث نبوية قد يُختلف في صحتها يوماً ما، أو يقال بأنها اجتهاد أو غير ذلك فيتحدث الناس بها بحق أو بغير حق وإنما أنزلها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، السبب في ذلك -كما تفضلتم- المال محبب للنفوس، وهو قوام الحياة، وبه تقوم دنيا الناس، فلا بد أن يكون توزيعه عادلاً من قبل الله تعالى، حتى لا يكون هناك أي اختلاف في ذلك، أحياناً الإنسان بدافع من عاطفته يتصرف بماله بالعاطفة، فجاءت الآيات لتحجزه عن ذلك، يعني أحياناً يتصل بي بعض الإخوة، "هذا ابني بارّ بي جداً، وهذا عاق، فهل يجوز أن أحرم العاق من ميراثه؟"

المقدمة:
أو ممكن وأنا غضبان أتخذ قراراً.

الدكتور بلال نور الدين:
تمام، نقول: هذا ليس حقاً لك أصلاً، أمس اتصل بي أحدهم، قلت له: هذا ليس حقاُ لك، حتى تمنعه أو ترفضه، أنت بذلك تزيد العاق عقوقاً، هذا المال الله تعالى فرضه له بغض النظر عن عقوقه، عقوقه سوف يحاسبه الله عليه، وبرّ هذا بك سوف يحاسبه الله عليه، ولا مانع من أن تهبه في حياتك شيئاً، أو تكرمه لأنه بارّ بك، لكن أن تتولى أنت توزيع ما وزّعه الله تعالى فهذا ليس من الأدب مع الله، فربّى الله تعالى النفوس بذلك عندما وزّع الأموال بذاته العلية، إذاً لا مجال للاجتهاد في ذلك، وإنما نلتزم ما جاء به النص تماماً ففيه العدل، وفيه حسن التوزيع، وفيه ما يرضي جميع الأطراف؛ لأنه تقسيم من الله -جلَّ جلاله- وهو أعلم بما يصلح عباده.

المقدمة:
بارك الله فيكم، يا دكتور، كلما قرأنا سورة الأنفال أو أي سورة من سور القرآن الكريم، في كل مرة يكون هنالك فتح جديد وفهم جديد، وخصوصاً ونحن نقرأ، ونقرأ تفاسير لعلماء أجلاء، هنالك أنوار وهدايات في مجمل الآيات، الخلاصة مما أقول: نحن نقرأ ونعاود التدقيق والتمحيص في سورة الأنفال، وجدت أن جميع العلماء أجمعوا على أن غزوة بدر بكل تفاصيلها كانت تخطيطاً ربانياً والترتيب كان ترتيباً ربانياً، وذلك من بداية الأسباب وانتهاء بالنصر، كان هنالك إعدادات في المعركة نود التعريج عليها، مثل الإعداد النفسي قبل المعركة، ثم المثبتات من نزول للملائكة، ونزول للغيث، النعاس إلى أن نصل لنتيجة المعركة، وبيان أن الله قادر على كل شيء، ففي السورة بيان للتوازن كما ذكرت أنت في بداية الحلقة، ثقة وتوكل على الله ثم الأخذ بالأسباب (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) نرجو التوضيح بارك الله فيكم.

التخطيط والترتيب الرباني لغزوة بدر:
الدكتور بلال نور الدين:
السورة هي سورة معركة بدر كما كان يسميها بعض الصحابة الكرام، ونزلت عقب معركة بدر وفصّلت في هذه المعركة، وإن كان ورد أحياناً ذكر لهذه الغزوة في سور أخرى كـ(آل عمران) مثلاً، لكن التفصيل جاء في سورة الأنفال، هذه المعركة العظيمة؛ معركة الفرقان، غزوة بدر الكبرى التي كانت أول غزوة بهذا الحجم يُحقق فيها نصر عزيز وتثبيت لأركان الدين- كما تفضلتم- ذكرها الله تعالى في هذه السورة مفصلة، كلها ترتيب من الله تعالى بدءاً من اختيار الغزوة، واختيار المكان الذي ستكون فيه الغزوة، فبدأ الحديث عن هذه المعركة بقوله تعالى:

كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ (5)

دائماً إرادة الله تعالى هي الخير
أي من لحظة الخروج أخرجك ربك فهي إرادة ربانية، وكان هذا الخروج بالحق، ولإحقاق الحق رغم أن البعض كان كارهاً لهذا الخروج، لا يريده (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ) لكن الله -عزَّ وجلَّ- أراد لك أن تخرج، ثم كنت تريد وأراد الله شيئاً، كنتم تريدون وأراد الله شيئاً، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد، ففي المحصلة دائماً إرادة الله تعالى هي الخير، وهي المتحققة، فقال تعالى:

وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَٰفِرِينَ (7)

والطائفتان هما العير أو النفير، أنتم تريدون العير، خرجتم من أجل استعادة أموالكم المغصوبة من قريش، والاستيلاء على هذه القافلة المحملة بالأموال والبضائع؛ قافلة أبي سفيان الراجعة من الشام، فأردتم العير وأراد الله تعالى لكم النفير، (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ذات الشوكة: الحرب التي فيها جهد، وفيها ضنك، وأنتم متعبون، وأنتم قلة مستضعفون، وأنتم أذلة.

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدْرٍۢ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
(سورة آل عمران)

كن لما لا تريد أرجى منك لما تريد
ضعفاء مفتقرون إلى الله، لكن أراد الله إعزاز دينه، وإعزازكم وإعزاز الحق فلذلك (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِ)، فدائماً كن لما لا تريد أرجى منك لما تريد، أو لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فالإنسان أحياناً يرجو شيئاً ويتعلق به ويظن الخير كله في هذا الشيء لكن الله تعالى يريد له شيئاً أعظم، يؤخره لشيء أهم، يؤخره لشيء أكبر عند الله، سيدنا موسى -عليه وعلى نبينا أفضل الصّلاة والسّلام- لما خرج خرج يريد:

فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِۦٓ ءَانَسَ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ ٱمْكُثُوٓاْ إِنِّىٓ ءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلِّىٓ ءَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
(سورة القصص )

يريد أن يتدفأ بجذوة من نار في هذا الليل الموحش البارد، وهو في سفره.

فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِىَ يَٰمُوسَىٰٓ (11)
(سورة طه)

فهو كان يرجو جذوة من نار فإذا بنور الله تعالى يضيء جنبات الوادي المقدس، وإذا به كليم الله تعالى، وإذا به أعظم العباد عند الله يومها رفعة، فإذاً أنت تريد لكن الله يريد لك شيئاً آخر فسلّم لله تعالى فيما يريد، فإذاً غزوة بدر من اللحظة الأولى اختار الله تعالى أن تكون، ثم اختار لها مكانها، قال تعالى:

إِذْ أَنتُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَٰدِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٍۢ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَنۢ بَيِّنَةٍۢ ۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

يصف يصور المولى -جلَّ جلاله- وكأننا نرى أرض المعركة، أنتم أيها المسلمون بالجانب الأقرب إلى المدينة، وهم بالعدوة القصوى بالجانب الأبعد (وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ) والعير أسفل منكم عند الساحل عند البحر الأحمر، ثم يقول تعالى: (وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَٱخْتَلَفْتُمْ فِى ٱلْمِيعَٰدِ) أي لو أنك وعدته أن تلقاه في بدر لما لقيته، لجئت قبله أو بعده وما التقيتم، ولكن الله تعالى أراد أن تلتقي به أراد أن تكون هذه المعركة، وفي هذا المكان تحديداً عند بدر، فالتقيتم بأمر الله تعالى، هذا كله مما يهيئ النفوس لتقبل بأي شيء يأتي من الله تعالى؛ لأن الله هو الذي يدبر الأمر لما تعلم أن الله تعالى هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي يسيركم في البر والبحر، فأنت ما جئت إلى هنا مصادفة، ولا جئت الى هنا بإرادة منك وإنما جاء الله تعالى بك من أجل أن تلقى عدوك، من أجل أن تكون في هذا الموقف، في هذا المكان، في كل أمور حياتنا عندها تستسلم لإرادة الله تعالى وتترك له التدبير، إذاً من بداية المعركة مكان المعركة بدأ الحديث عن هذه الغزوة، ثم من الإعداد النفسي والتهيئة النفسية لهذه المعركة ببيان شروط النصر، وبيان أهمية التوكل على الله، وأهمية طاعة الله تعالى ورسوله، وأهمية إصلاح ذات البين وغير ذلك مما يهيئ النفوس لهذه المعركة.

المثبتات التي أرسلها الله تعالى للمسلمين في غزوة بدر:
ثم جاءت المثبتات التي تفضلتِ بها فكانت الملائكة تقاتل معهم، وما أعظم هذا المثبت! أن تكون الملائكة مع المسلمين في أرض المعركة من الله تعالى، ثم جاء النعاس أمنة من الله تعالى، نأمن به من خوفنا من أعدائنا وهم كثرة، وقد أعدوا لنا ما أعدوا.

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَٰنِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلْأَقْدَامَ(11)

ثم جاء إنزال هذا المطر من الله تعالى لأهداف كثيرة، ليطهركم، ليربط على قلوبكم، ليذهب عنكم الرجس، ليثبت به الأقدام.

المقدمة:
قللهم في عيونهم.

الدكتور بلال نور الدين:
نعم.

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِىٓ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِىٓ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ ٱللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ (44)

فتنظرون فتجدونهم قليلاً و هم ربما أكثر من ذلك، وأيضاً يقللكم في أعينهم، ولو وجدوكم كثرة لما أقدموا على تلك الحرب، فما كان من عزة بعدها، و ما كان من النصر بعدها، وقوة لكم وشوكة لكم بين قبائل العرب بل بين الجزيرة كلها وقد انتصرتم هذا النصر المبين على قوة قوية في الجزيرة، فكل هذه كانت من المثبتات، ثم بعد ذلك يتحدث الله تعالى عن نتائج المعركة التي كانت نصراً مؤزراً، حتى كان فيها ما كان من الأسرى فيتحدث عن الأسرى، وعن فداء الأسرى، وعن التعامل مع الأسرى، وغير ذلك من التفاصيل التي يضيق المقام عن ذكرها.

المقدمة:
نعم، بارك الله فيكم يا دكتور، وأنت تتحدث وكأننا في جو المعركة، -سبحان الله- هذه من لطائف وأنوار القرآن الكريم أنك تعيش الحدث وكأنك كنت في نفس الزمان، فتح الله عليكم يا دكتور، لكن هنا نعود إلى نقطة مهمة ركزت عليها الآيات الحديث كان حديث الجماعي؛ بالجماعة كان يخاطب الله تعالى المسلمين بالأسلوب الجماعي وهي من الأسباب المادية التي دعت إلى النصر تحدثت الآيات عنه، وكل آيات الجهات كانت تركز على هذه النقطة التي سأذكرها الآن؛ وهي من الأسباب المادية كما ذكرت وهي الأخوة، الآيات كلها تتحدث بصفة الجمع للمؤمنين بعد الحديث عن الإصلاح نرى الآية رقم(3)، وكذلك الآية رقم (46 )،والآية( 63 )،الآية( 62) كلها تتحدث عن الأخوة، فما كان لها من أثر طيب ونصر في هذه المعركة؟ نود التوضيح يا دكتور والتعليق.

أثر الجماعة والأخوة في المعركة:
الدكتور بلال نور الدين:
بارك الله بكم، كما تفضلتم الآيات التي تفضلتم بذكر أرقامها منها مثلاً:

وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَٱصْبِرُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ (46)

هذا مفهوم الاجتماع، مفهوم التعاون والتعاون على البر والتقوى.

وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا
فإذاً نحن من بداية السورة (وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ) ، لما أخرج حب الدنيا من قلوبهم قال: (وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، إذًا نحن أمام حالة من الأخوة الإيمانية تصغر أمامها كل الخلافات، وما أحوجنا اليوم في عصرنا هذا وقد تكالبت علينا أمم الشرق والغرب وأعلنت حربها على الإسلام والمسلمين أن نتكاتف، وأن نتعاون، وأن نتناسى ونتغافل عن الخلافات التي لا تقدم ولا تؤخر؛ لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، فأعداؤنا يتعاونون وبينهم 5% من القواسم المشتركة، ولا ينبغي أن نتقاتل وبيننا أكثر من 95% من القواسم المشتركة، فنحن أمة واحدة لها كتاب واحد، ونبي واحد، وأهداف واحدة، ومشروعات واحدة وواضحة ومحددة، فلا ينبغي أن نتنازع فنفشل وتذهب ريحنا، ولا يكون لنا شأن بين الأمم، فالقرآن الكريم وفي سورة الأنفال على وجه الخصوص يربي النفوس على الأخوة الإيمانية.

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
(سورة الحجرات )

فلا بد من أن تصغر كل خلافاتنا أمام المفهوم العام للأخوة الإيمانية، فلو أننا تنازعنا وتراشقنا التهم وتبادلنا الخلافيات في جزئيات بسيطة يسع الخلاف فيها فإننا سنسقط من عين الله تعالى ومن عين الناس؛ لأن الإنسان قوي بأخيه، ولأن الإنسان عزيز بأخيه، من هنا كان من أهم أسباب النصر في هذه المعركة، والذي يُصنف بالأسباب المادية؛ أي من الأسباب التي ينبغي أن تُتخذ: تحقيق هذه الأخوة التي كانت عاملاً مهماً في النصر، وهذا المفهوم غزوة بدر بعد الهجرة بثلاث سنوات تقريباً بدأه النبي -صلى الله عليه وسلم- من اللحظة الأولى في هجرته يوم كان واحداً من أهم الأركان الثلاث التي قام بها عند وصوله المدينة من بناء المسجد ووثيقة المدينة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ولا أقول هي المؤاخاة الشكلية التي يفهمها البعض على أنها مجرد أنه أعطاه بعضاً من ماله وقال له الآخر: دلني على السوق، بارك الله في أهلك ومالك، ولكن كانت هي المؤاخاة التي تدل على أن لي أخ ، لي سند، لي من ألقاه، كان يلقاه في صلاة العشاء، ثم يلقاه في صلاة الفجر فيضمه ويعانقه، ويقول: "طال بي الشوق إليك يا أخي"، وهي ساعات فقط قد انقضت، فهي حالة من الأخوة بناها النبي -صلى الله عليه وسلم- من اللحظة الأولى لوصوله إلى المدينة، حتى إذا كانت غزوة بدر كان هذا المعنى قد ترسخ في نفوس الصحابة الكرام، فإذا لقوا عدوهم وقفوا في وجهه صفاً واحداً، فأعداؤنا لا يخترقوننا بأسلحتهم القوية، ولا بعددهم، ولا بإعلامهم، بقدر ما يخترقوننا من خلال عيوبنا نحن، من خلال مشكلاتنا الداخلية من خلال هزيمتنا النفسية، فنحن عندما نكون صفاً واحداً نكون قوة، وعندما نتفرق ونختلف فإننا نصبح صفاً هشاً يستطيع العدو اختراقه من أي مكان شاء، فقوتنا في وحدتنا وقوتنا في تماسكنا، وقوتنا في تعاوننا على البر والتقوى.

المقدمة:
بارك الله فيكم، وفتح الله عليكم في هذا الإيجاز وفي هذا الشرح المبسط يا دكتور، ولكن يحمل المعاني العظيمة للتفسير، لكن يا دكتور، ونحن في ثنايا سرد أحداث غزوة بدر نحن نترك الآيات ثم نعود إليها، جاءت النداءات الإلهية للمؤمنين ست مرات بوصفهم بالإيمان، هنالك ست مرات قال فيها الله في سورة الأنفال:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلْأَدْبَارَ (15)

كحافز لهم على الصبر، الثبات في جهادهم، وكتذكير لهم بأن هذه التكاليف التي فُرضت عليهم هي من مقتضيات الإيمان، نود التعريج على هذه النداءات، نفع الله بكم يا دكتور.

النداءات الإلهية للمؤمنين ومقتضياتها:
الدكتور بلال نور الدين:
نداء (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ) في القرآن الكريم
بارك الله بكم، النداء بـ(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ) ورد في أكثر من ثمانين آية في كتاب الله، ومنها ست آيات في هذه السورة -كما تفضلتم-، (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ) تشير إلى عقد إيماني بين المنادي -جلَّ جلاله- والمُنادى وهو المؤمن، فإذا قرأ المؤمن (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ) فإنه مباشرة يتحفز لاستقبال الأمر الإلهي؛ لأن هناك عقداً بينه وبين الله، فكأن الله تعالى يقول لعباده: يا من آمنتم بي رباً إلهاً حكماً عدلاً قوياً مهيمناً، آمنتم بأسمائي الحسنى، بصفاتي الفضلى، ما مقتضيات هذا الإيمان؟ أن آمرك الآن فتأتمر، وأن أنهاك فتنتهي؛ هذه مقتضيات الإيمان، فالعقد يقتضي وجود شروط وحقوق وواجبات، فما دمت أعلنت إيمانك بالله تعالى فهذا الإيمان له مقتضيات، فلذلك أنا أدعو الإخوة الكرام المستمعين إلى أننا إذا قرأنا القرآن الكريم أن نتعامل معه بشعور التلقي للتنفيذ الفوري، فإذا قرأت: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ) قف هناك شيء يريده الله تعالى منك، أنت إذا سمعت والدك وأنت تحبه وتجلّه وتقدّره وله فضل كبير عليك، إذا سمعته يقول لك: يا بني، فإنك تتحفز لسماع ما يأتي بعد يا بني، لعله يريد أن تحضر له كأس ماء، أو تحضر له دواء، أو يريد منك شيئاً لصالحك أو أي شيء آخر، فإنك تتحفز لأن يا بني، أي أنا أبوك وأنت ابني فينبغي أن تسمع مني ما سأقوله لك الآن، فمن مقتضيات الأبوة والبنوة أن تستجيب، ولله المثل الأعلى، عندما يقول تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)
(سورة الحجرات)

إذاً تحفز وانتبه هناك شيء يريده المولى منك، الخالق، الجليل، العظيم يريد منك شيئاً فما عساك إلا أن تقول: لبيك ربي لبيك، ثم تأتمر بما أمر، وتنتهي عما نهى عنه وزجر، فالنداء في القرآن لا سيما بقوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ) نداء رخيم، نداء محبب إلى القلوب ينبغي أن نستوعبه وأن نفهمه، وأن نسعى إلى تطبيق ما بعده، فإن المولى -جلَّ جلاله- لا يريد بعباده إلا الخير.

المقدمة:
نعم بارك الله فيكم، دكتور وما دمنا نتحدث عن النداءات نرى أن النداء أيضاً (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ) تكرر أيضاً في هذه السورة، فما دلالات ذلك؟

مكانة النبي الكريم عند الله وعند المسلمين:
الدكتور بلال نور الدين:
نعم.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ (64) يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٌ يَغْلِبُوٓاْ أَلْفًا مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65)

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لِّمَن فِىٓ أَيْدِيكُم مِّنَ ٱلْأَسْرَىٰٓ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)

انعكاس محبة النبي كمحبة واتباع
فكما تفضلتم جاء (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ) في سورة الأنفال، أولاً الله تعالى لم ينادِ نبيه -صلى الله عليه وسلم- باسمه يا محمد، وإنما يناديه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ) لمكانته عنده، ومكانة النبي عند الله تقتضي أن يكون له مكانة عندنا، وإذا كان له تلك المكانة في قلوبنا، فهذا ينبغي محبة أن يكون منعكساً إلى محبة واتباع؛ هذا الأمر الأول، فنفهم من (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ) مكانة النبي --صلى الله عليه وسلم- عند الله، فما ناداه باسمه وإنما ناداه بالنبوة وهي ذاك المقام العظيم، ثم نفهم من هذا النداء في معرض سورة الأنفال نفهم منه أهمية القائد، النبي- صلى الله عليه وسلم- كان قائد المعركة، وقائد الأمة هو نبي الله ورسول الله، لكنه في معركة بدر هو قائد المعركة.

{ كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْهُ‏. }

(مسند الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب)

فكان يتقدم الصفوف، وكان يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، كان يقود المعركة بنفسه، فيرى الجندي القائد أمامه فيندفع إلى تحقيق أهداف المعركة لأن قائده يتقدمه، فـ (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ) في سورة الأنفال مع هذا التكرار تشير إلى أهمية أن تتطلع العيون إلى القائد، وأن يكون للمعركة قائد، وأن يكون بكل أمر في حياتنا قائد، فحتى في السفر.

{ إذا كانَ ثلاثةٌ في سفَرٍ فليؤمِّروا أحدَهُم }

(أخرجه أبو داود، والبيهقي عن أبي هريرة )

لا بد من الأمير، فهذه الدلالة في تكرار (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ) للإشارة إلى مفهوم القيادة، وما ينبغي أن يكون عليه القائد من صفات تؤهله لأن تتعلق به عيون الجنود فيقودهم إلى النصر المبين.

المقدمة:
بارك الله فيكم يا دكتور، وكذلك نلاحظ أن هنالك آيتين وردت في سورة الأنفال:

إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)

وكذلك الآية الأخرى:

إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)

ما دلالة هذا التكرار يا دكتور؟

المقصود بالدواب:
الدكتور بلال نور الدين:
ركب الإنسان من عقل وشهوة
بارك الله بكم؟ نعم -كما تفضلتم- آيتان في سورة الأنفال (إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ)، الدواب جمع دابة، وكل ما دبّ على الأرض فهو دابة بالمفهوم العام، فربنا -جلَّ جلاله- خلق الإنسان وجعل فيه عقلاً وجعل فيه شهوة، وخلق الملائكة وجعل فيها عقلاً، وخلق دواب الأرض والمخلوقات الأخرى وجعل فيها شهوة فقط، فقالوا: رُكّب الملك من عقل بلا شهوة، وركّب الإنسان من عقل وشهوة، وركّب الحيوان من شهوة بلا عقل، فأما الإنسان فمن عقل وشهوة، فإذا سما عقله على شهوته كان فوق الملائكة، قال تعالى:

إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ (7)

أي خير ما برأ الله، وإن -والعياذ بالله- فاقت شهوته عقله -تغلبت شهوته على عقله- فانقاد بهواه ولم ينقد بشرع ربه، فهنا- والعياذ بالله- يصبح دون أدنى مخلوقات الله تعالى (إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
(سورة الفرقان)

أي الإنسان عندما يُعرض عن منهج الله تعالى ليس كالأنعام فحسب، وإنما هو أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأن الأنعام ليست مكلفة فنفذت المهمة التي خلقت من أجلها وانقضى الأمر، أما هو فمكلف ثم لم يأتِ بما كُلّف به فهو شر من الأنعام،(إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) عطلوا منافذ الإدخال، الإنسان يدخل المعلومات ويخرجها، الصم البكم إدخال وإخراج ويعالجها من خلال العقل، فهو لم يعالج المعلومة بشكل صحيح، ولم يدخلها بشكل صحيح، فهو شر الدواب عند الله، وفي الآية الثانية: (إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ما معنى كفر؟ غطى، ستر، فالكفر هو الغطاء.

ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
(سورة الكهف)

لما أصموا آذانهم عن سماع الحق، وعطلوا قلوبهم عن عقل الحق، ولم يستمعوا ولم يتكلموا بالحق، فهم كفروا، فلما كفروا أصبحوا من شر الدواب عند الله، في سياق هذه السورة ونحن نتحدث عن معركة بدر ونتحدث عن القتال بين الحق والباطل كان من المناسب أن يذكر المولى -جلَّ جلاله- صفات هؤلاء المعرضين المتنكبين عن طريق الحق ليبين شرهم وسوءهم، وما ينعكس من شرورهم وسوئهم على الناس، وأن قتالهم وكف أذاهم عن الناس من أوجب الواجبات.

المقدمة:
بارك الله فيكم يا دكتور، في آخر محور لنا في هذه الحلقة، نود تفسيراً للآية السادسة والثلاثين من سورة الأنفال وربطها بحاضر الأمة، الوضع العام في هذا القرن والمنفقون كثر ليصدوا عن سبيل الله، والله تعالى يقول:

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)

تفضل يا دكتور.

محاولات المعرضين عن الله تدمير المجتمع المسلم وواجب المؤمنين لصدهم:
الدكتور بلال نور الدين:
إنفاق أموالنا لإعلاء كلمة الله
بارك الله بكم، كما تفضلتم هذه الآية تمس واقعنا اليوم مساً شديداً، فاليوم المعرضون عن الله تعالى تكالبوا على أمة الإسلام، اليوم ينفقون أموالهم لنشر الشذوذ في مجتمعاتنا، ينفقون أموالهم لهدم وتقويض أركان الأسرة التي نعتز بها، والتي نفاخر بها الأمم بأننا أمة الأسرة التي تبني الأسرة فتبني الأجيال، ينفقون أموالهم من أجل تحريف الحقائق، ومن أجل طمس الهوية، ومن أجل إشاعة الفاحشة في المجتمعات، ومن أجل إشاعة الإعلام الفاسد المفسد فهم ينفقون أموالهم، فأولاً ماذا فعلنا نحن؟ ماذا أنفقنا من أموالنا من أجل الحق؟ وهذه دعوة لكل الموسرين ولكل الذين وهبهم الله تعالى من المال أن يجعلوا دائماً جزءاً من أموالهم لنصرة الحق، لنصرة المستضعفين في الأرض لإعلاء كلمة الله تعالى، فكأن الله تعالى عندما يقول: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ) كأنه يقول لنا: فماذا فعلتم أنتم أيها المؤمنون؟ هم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فهل أنفقتم أموالكم لإعلاء كلمة الله تعالى؟ هذا مفهوم مهم لهذا العقد، أن ننفق أموالنا لإعلاء كلمة الله في المساجد وأهم من ذلك في دور العلم، في المعاهد الشرعية، في معاهد القرآن الكريم، في مراكز القرآن، وحتى في مجالات العلم المختلفة لأنها جميعها قوة للمسلمين؛ فهذا المعنى الأول، المعنى الثاني: لا تقلقوا فإن هؤلاء مهما أنفقوا من أموالهم ليصدوا الناس عن دين الله وليبعدوهم عن دين الله تعالى فإنهم سينفقونها ثم تكونوا ندامة عليهم، حسرة عليهم، سيتحسرون لماذا؟ لأنهم أنفقوا ولم يحققوا آمالهم؛ لأن:

وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَىٰهُ مِن مِّصْرَ لِٱمْرَأَتِهِۦٓ أَكْرِمِى مَثْوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ ۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمْرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
(سورة يوسف)

(فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) وبعد غلبتهم سيكون مصيرهم إلى جهنم -والعياذ بالله تعالى-، فآخر ما أريد أن أقوله في هذا المجال:

المقدمة:
تفضل يا دكتور.

الدكتور بلال نور الدين:
لا ينبغي أن نقلق على دين الله لأن الله تعالى ناصره ولو بالرجل الفاجر الفاسق، ولكن ينبغي أن نقلق على أنفسنا، هل سمح الله لنا أن نكون جنداً من جنود نصرة الحق وأهله أم لم يسمح لنا؟ فالقلق ليس على الدين وإنما القلق علينا نحن أن يقلق كل منا على نفسه، هل أنا في نصرة دين الله؟ هل أنفق مالي لإعلاء كلمة الله؟ هل أنفق من خبرتي وجهدي ووقتي لإعلاء كلمة الله؟ هل أنفق من جهدي لتربية أولادي وتنشئتهم على دين الله أم أنني -والعياذ بالله- ليس هناك حيادية في هذه المسألة؟ إذا كنت حيادياً فأخشى أن أقول لك: أنت مع الطرف الآخر لأن حياديتك هنا قاتلة، فأنت عندما تترك واجباتك فكأنك تساعدهم على النهوض بواجباتهم التي يظنونها واجبات، أو يسمونها واجبات في سبيل الصد عن سبيل الله تعالى، فإما أن نكون أو لا نكون، فأنت لا تقلق على دين الله، ولكن اقلق على نفسك هل أنت قد سُمح لك من الله تعالى أن تكون جندياً لنصرة الدين والحق أم أنك في الخندق الآخر -والعياذ بالله-؟!

المقدمة:
ونجد الجواب أيضاً يا دكتور في الآية التي تليها:

لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُۥ عَلَىٰ بَعْضٍۢ فَيَرْكُمَهُۥ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُۥ فِى جَهَنَّمَ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ (37)

فنسأل الله أن نكون من الطيبين، وأن يميزنا عن الخبيثين، وأن نكون جنداً لله، وأن نكون مستخلفين، وأن نكون صالحين في هذه الأرض، بارك الله فيكم يا دكتور، وشكر الله لكم هذا الجهد، ونفع الله بكم.

الدكتور بلال نور الدين:
حياكم الله وبارك الله بكم، وشكراً لهذه الاستضافة الكريمة الطيبة.