غنى النبي صلى الله عليه وسلم

  • 2023-09-16

غنى النبي صلى الله عليه وسلم


مقدمة اللقاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الخلق أجمعين.
إن تعظيم القرآن من تعظيم الله، فمن كان يرجو لله وقاراً عظّم كتابه، وأجلّه، ومجّده، والعمل به ينبغي أن يكون عقيدة وسلوكاً.
نحن اليوم في رابع حلقاتنا والتي نتحدث فيها عن سورة جليلة من سور القرآن الكريم، نتأمل آياتها، ونستفيد من دروسها، سورة جمعت بين السيرة والمواعظ، وتكلمت عن المؤمنين وصفاتهم، وعن الغنائم وقِسمتها، وعن الولاء والبراء، فتعالوا مستمعينا لنأخذ من دروس وعِبر هذه السورة وهي سورة الأنفال، لن أطيل عليكم مستمعينا في الحديث، سأترك المجال لضيفنا الجليل الداعية الدكتور أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة الدكتور بلال نور الدين أستاذ الفقه المقارن، والمشرف والمسؤول عن موقع الدكتور محمد راتب النابلسي، وعضو رابطة علماء الشام، للحديث عن دروس ومقاصد وأنوار سورة الأنفال، حياك الله دكتور بلال وأهلاً ومرحباً بك.

الدكتور: بلال نور الدين:
بارك الله بكم، ونفع بكم، وشكراً لهذه الاستضافة الكريمة.

مقدمة اللقاء:
حياك الله يا دكتور، في حلقتنا السابقة كنا قد تشرفنا وإياكم بالحديث عن سورة الأنفال، توقفنا عند الحديث عن النداءات التي وردت في السورة من نداءات "يا أيها الذين آمنوا"، ونداءات "يا أيها النبي" وقد تحدثت بأسلوب مبدع عن هذه الحلقات إجمالاً.
اليوم سنخصص الربع الأول من هذه الحلقة لنتكلم بشكل خاص عن خصوصية في سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، سنتحدث عن مصادر دخل النبي عليه الصلاة والسلام، مع بيان أهمية أن يكون النبي غنياً، تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

مصادر دخل النبي صلى الله عليه وسلم:
بارك الله بكم، مصادر دخل النبي صلى الله عليه وسلم تتصل بهذه السورة كما تفضلتم؛ لأن الله وضّح في هذه السورة مصدراً مهماً من مصادر دخله صلى الله عليه، وهو الأنفال أو الغنائم، فجعل خُمسها لله ولرسوله ينفقها صلى الله عليه وسلم كيف يحب:

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
(سورة الأنفال)


أولاًـ التكسب:
مصادر دخل النبي صلى الله عليه وسلم متنوعة، أولها التكسب، فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن عالة على أحد حاشاه، وإنما عاش في بداية حياته راعياً للغنم، قال:

{ ما بَعَثَ اللهُ نبياً إلا رَعَى الغَنَمَ"، فقالَ أصحابُهُ :وأنتَ؟، قال :نعم، كُنتُ أرعَاها على قَرَارِيطَ لأهلِ مكةَ. }

(أخرجه البخاري)

فعلى شيء يسير لكن كان يعمل، ثم بعد ذلك كان تاجراً، فكان يتّجر بمال خديجة، وسنّى شركة المضاربة حيث كان يضارب بمالها، الجهد منه والمال منها، فتاجر وكسب، فأول مصادره هو التكسب، فهو كان يكسب من عرق جبينه، وكان يدعو إلى التكسب، وإلى العمل، وينبذ الكسل، وينبذ فقر الكسل بأن يجلس الإنسان في بيته ويمدح فقره وزهده في الدنيا، وإنما كان يتكسب صلى الله عليه وسلم.

ثانياًـ الميراث:
ثم من مصادر دخله ميراثه، ورث والديه، وورث زوجته خديجة رضي الله عنها.

ثالثاًـ الفيء:
وكذلك الفيء، ما أفاءه الله عليه، من أهل خبير وغيرها.

رابعاًـ الهدايا:
وكذلك الهدايا، فمحمد صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، فالهدايا والهبات والعطايا كانت تأتيه صلى الله عليه وسلم فيقبلها ويثيب عليها صلى الله عليه وسلم.

خامساًـ الأنفال:
ومن مصادر دخله التي هي في هذه السورة كما أسلفنا هي الأنفال، الغنائم التي يغنمها في الحروب فضلاً عن أنه مجاهد في سبيل الله، فله سهمه من الجهاد الذي فرضه الله تعالى للمجاهدين الذين فرغوا أوقاتهم، وتفرغوا من أسرهم إلى نشر الإسلام في الخافقَين فكان له سهمه من الجهاد. هذه بالعموم مصادر دخله صلى الله عليه وسلم.

مقدمة اللقاء:
دكتور إذاً بالنهاية النبي كان غنياً، والقرآن يثبت ذلك من خلال الآيات الكريمة التي تحددت في سورة الضحى:

وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ(8)
(سورة الضحى)

وكذلك في سورة الأحزاب الآية 53 تحدثت عن مشهد تمثيلي للمؤمنين وهم على باب الرسول عليه الصلاة والسلام وهم يدخلون بالترتيب حتى يتناولوا طعامهم ثم يخرجون من عنده، إذاً النبي كان غنياً، كيف التعامل يا دكتور مع أحاديث صحيحة تتحدث عن فقر النبي، تتحدث عن ربط الحجر على بطنه من الجوع، تحدثت عن أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي؟

الدكتور: بلال نور الدين:

النبي صلى الله عليه وسلم أسوة للفقراء والأغنياء:
بارك الله بكم، شكراً لإثارة هذا الموضوع، الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أسوة:

لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)
(سورة الأحزاب)

النبي صلى الله عليه وسلم كان غنياً و منفقاً
ولا تتحقق أسوته للأغنياء إلا إن عاش غنياً، فكيف يأمر بالإنفاق وهو لا ينفق، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كالريح المرسلة، كان جواداً، وكان أجود ما يكون في رمضان، جاءه السائل فقال: لمن هذا الوادي من الغنم؟ قال هو لك، قال تهزأ بي؟ قال لا والله هو لك، قال أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، ورجع إلى قومه فقال أسلموا مع محمد، فإنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

{ ما سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى الإسْلَامِ شيئًا إلَّا أَعْطَاهُ، قالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فأعْطَاهُ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الفَاقَةَ. }

(صحيح مسلم)

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان غنياً وكان منفقاً، لا شك أنه عاش شيئاً من حياته بالفقر ليكون أسوة أيضاً للفقراء، ففي بداية الدعوة ليس كنهايتها، لكن لو أردنا وصفاً عاماً كيف مات النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف عاش حياته في المدينة؟ بعدما ذاق من حصار الشِّعب وكان مع صحابته في الشِّعب مفتقرين اضطراراً؛ لأن الله ابتلاهم بذلك حتى أكلوا ورق الشجر، فهو عاش جزءاً من حياته في بداية الدعوة في الضعف والفقر من أجل أن يكون قدوة لمن يعاني بعد بذل كل الجهود وكل الأسباب لكنه لسبب معين، لسبب طارئ يعاني من الفقر، فلا بد أن يجد في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، لكن حياته بشكل عام لا سيما بعد أن منّ الله عليه بالفتوحات وكان كما قلنا تاجراً قبل الدعوة وغير ذلك، كانت حياة الكفاف والكفاية، ثم حياة الغنى والعطاء والإنفاق صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة لنا في العطاء.

الفهم الصحيح لحديث موت النبي ودرعه مرهونة:
النبي صلى الله عليه وسلم لم يقترض لأنه احتاج مالاً
الحقيقة اطّلعت على بحث قيّم للدكتور: عبد الفتاح السمان جزاه الله خيراً في هذه القضية أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي، والحقيقة هذا الحديث من حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري، وهو صحيح، ولكن يُفهم على وجه خطأ، فهذا الحديث ورد في باب الرهن، لتشريع الرهن، ولتشريع جواز التعامل حتى مع أهل الكتاب في قضية الرهن، الحديث في البيع والشراء وليس في القرض، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقترض لأنه احتاج مالاً فاقترض ورهن درعه.

مقدمة اللقاء:
وليس لأنه ليس في بيته شيء حتى يطعم الضيف.

الدكتور: بلال نور الدين:
لا، أبداً، جاءه ضيف بالليل، وأراد أن يطعمه، واليهود كانوا يبيعون الطعام في المدينة وله جار يهودي، فأرسل إليه أن أعطنا شعيراً، فالرجل قال لا أعطيه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال:

{ أنا أمين في الأرض أمين في السماء. }

(تفسير ابن كثير)

فكيف يخوِّنني؟ فأراد أن يلقنه درساً فقال: أرسلوا له درعي، فالدرع كان ثمنها ثمانية وأربعون ديناراً بينما الطعام كان ثمنه دينار واحد، فهذا دليل على غناه صلى الله عليه وسلم، أعطاه الدرع، خذ الدرع وهات الطعام للضيف الذي طرق في الليل، فأعطاه الطعام، وسيدنا علي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان هذا قبل وفاته بأيام، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده من المال ما عنده، فأرسل وطلب الدرع فعلم أنه عند اليهودي، فأعطاه الدينار واسترجع هذه الدرع، ويقال أنها موجودة حتى الآن في متحف في إسطنبول.

{ توفيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ودرعهُ مرهونةٌ عند يهوديٍّ، بثلاثين صاعًا من شعيرٍ لأهلِه. }

(صحيح النسائي )

إذاً هذا الحديث صحيح ولكن ينبغي أن يُفسر تفسيراً صحيحاً، لا أن يُعرَض في باب أنه مات ودرعه مرهونة إذاً مات فقيراً، لا أبداً، وإنما يُعرَض في باب أنه فعل ذلك لتشريع الرهن، ولتشريع التعامل مع أهل الكتاب، وفي أنه لضيف طارئ جاء في ليل، وليس فقراً في النبي صلى الله عليه وسلم.

مقدمة اللقاء:
عندما خير الله نبيه الكريم بين أن يكون ملكاً نبياً أو عبداً نبياً اختار أن يكون عبداً نبياً، وهذه من شمائل وصفات الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان شديد التواضع وهذه أخلاقه، نرجو بيان كيف أنفق النبي أمواله؟ وما الطريقة التي أنفق فيها؟

الدكتور: بلال نور الدين:

كيف أنفق النبي عليه الصلاة والسلام أمواله:
الحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فُتِحت عليه الدنيا، وقال تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ﴾ كان يعلمنا أن تكون الدنيا في يدنا لا في قلبنا، وأن نتحكم بها لا أن تتحكم بنا، وأن نقودها لا أن ننقاد لها، فبيّن كيف يكون إنفاق المال عند وجوده، فيقول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح:

{ دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك. }

(رواه مسلم)


الإنفاق على أهل بيته:
فبدأ بأن أول مصادر الإنفاق أن تنفق على أهلك، أن تكون كريماً في بيتك، أن تنفق على زوجتك، وعلى أولادك، وعلى أهلك، وعلى أرحامك، أول ما قال تعالى: ﴿وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ﴾ فأول ما ينفق الإنسان ينبغي أن ينفق على أهل بيته، أن يتفقد أهل بيته، ثم يخرج إلى أرحامه الأبعد؛ أولاد عمه وعمومته، وإخوته وأخواته، ووالديه، وكل من يقربه، هذا أول الإنفاق.

الإنفاق على الصحابة والأعراب والناس كافة:
ثم بعد ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي كما قال هذا الأعرابي كما أسلفت قبل قليل عطاء من لا يخشى الفقر، لأن الدنيا لم تكن إلا في يده، لم تكن في قلبه وإنما كانت في يده فيتحكم بها وينفق ويعطي:

{ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ. }

(أخرجه البخاري)

النبي الكريم لا يتوقف عن العطاء
لا يتوقف عن العطاء صلى الله عليه وسلم، وكما بينت قبل قليل جزاك الله خيراً يصطفّ على بابه الصحابة الكرام والفقراء والمحتاجون، فيدخلون ويأكلون ويخرجون تباعاً، فكان ما يأتيه من مال ينفقه في سبيل الله، وكلمة في سبيل الله هذه أوسع كلمة، فكل درهم تضعه في شيء يرضي الله، وفي مكان يرضي الله فهو في سبيل الله، وأوله: لقمة تضعها في فم زوجتك، انظري إلى هذا الأدب والذوق النبوي لقمة تضعها في فم زوجتك وهكذا إلى أن تضع اللقمة في فم الفقير أو المسكين أو المحتاج، فهكذا كان دخله، وهكذا كان إنفاقه صلوات ربي وسلامه عليه.

مقدمة اللقاء:
نفع الله بك يا دكتور، في سورة الأنفال وأنت تتحدث كيف كان ينفق النبي أمواله، في سورة الأنفال وتحديداً في الآية الأربعين قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ﴾ من هم ذوو القربى؟ هل هم أهل قريش؟ هل هم بنو هاشم؟ هل هم بنو عبد المطلب؟

الدكتور: بلال نور الدين:

ذوو القربى:
في المال حق سوى الزكاة
الحقيقة عندنا قاعدة في تفسير القرآن وهي أن المطلق على إطلاقه، نعم هناك من فسّر ذوي القربي ببني هاشم وبني المطلب، ولكن أن نترك المطلق على إطلاقه فهذا فيما أراه أولى، وأليق بكتاب الله تعالى، فذوي القربى هم أقرباؤه صلى الله عليه وسلم، كل من تصلهم برسول الله صلى الله عليه وسلم قربى، وهذا تعليم لنا أن نتفقد ذوي القربى، صحيح أن الآية وردت في فهم الخُمس الذي يُوزَّع من الأنفال، لكن هذا الفهم يعلمنا شيئاً وهو أنه اجعل دائماً سهماً في أموالك لذوي القربى، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فينبغي أن نجعل سهماً من أسهم الخير التي تأتينا، وليكن مثلاً افتراضياً 20% كما هو الخُمس، ففي المال حق سوى الزكاة كما يقال، فهذا السهم ينبغي أن يكون لذوي القربى، أن يُنشَأ صندوق يسمى "صندوق العائلة"، كل من له قرابة في هذه الأسرة ولو كانت بعيدة، وكل من كان صاحب مال يضع فيه، فإذا احتاج أحد الشباب في العائلة أن يدرس في الجامعة ولا يملك القسط فيؤخذ له من هذا السهم، وإذا احتاج أحد إلى عملية جراحية طارئة لا يملكها فإنه يأخذ من هذا السهم وهكذا. هذه لطيفة ممكن أن نستشفها من هذا السهم الذي جُعل لذي القربى.

مقدمة اللقاء:
بارك الله بك يا دكتور، الآن نعود للحديث عن باقي محاورنا في سورة الأنفال، بعد الحديث عن الغنائم تحدثت الآيات عن موضوع الخيانة والتي وردت في السورة في ثلاثة مواقع، الموقع الأول كان في الآية 27، قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(27)
(سورة الأنفال)

الآية الثانية:

إِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)
(سورة الأنفال)

أما الموقع الثالث:

وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(71)
(سورة الأنفال)

أين نحن من الأمانة؟ أين نحن من الأمانة في نفوسنا؟ في تربية أبنائنا؟ وحفظ العهد بيننا وبين الله؟ أين نحن من اتباع سنة رسوله؟ ومن الميثاق الذي أُخذ علينا؟ هل نحن موفون بالعهد والأمانة يا دكتور؟ تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

الأمانة والخيانة:
أعظم ما في أمراض الحرب هو الخيانة
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضلتم في موضوع ورود الخيانة في ثلاث آيات في هذه السورة يلفت الأنظار، والحقيقة أن السورة ما دامت تتحدث عن الجهاد، وعن الحرب فإن أعظم ما في أمراض الحرب هو الخيانة، وأعظم ما يدخل إليه الأعداء إلينا هو الخيانة، فلذلك جاء ذكر الخيانة في هذه السورة بشكل واضح، كما تفضلتم اليوم الله تعالى يقول: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وجاء بالأمانات بالجمع، فما قال: ولا تخونوا أمانتكم وإنما قال ﴿أَمَانَاتِكُمْ﴾ ، فالأمانات متنوعة، وليست الأمانة كما يظن البعض بأنها مجرد أن إنساناً سافر ووضع عندك مالاً وأمنك عليه، وهذا نوع من أنواع الأمانة بلا شك ثم عاد فأعطيته المال، هو أمانة ولكن ليس كل الأمانة.

أنواع الأمانة:
1. أمانة النفس:
أول أمانة وأعظمها هي أمانة النفس؛ الله تعالى أعطانا هذه النفس ونحن أمناء عليها، هل زكيناها أم دسّيناها؟ هل حملناها على الطاعة أم على المعصية؟ فهذه أمانة.

2. أمانة التبيين:
ثم أمانة التبيين؛ فالأنبياء عليهم أمانة التبليغ، ونحن علينا أمانة التبيين، وهذا البرنامج يندرج في باب أمانات التبيين؛ أن نبين للناس الحق، وأن نبين لهم تفسير هذه الآيات، هذه أمانة التبيين بعد أمانة التبليغ وهي أمانة الأنبياء.

3. أمانة الواجب:
أعظم الأمانات هي أمانة الواجب
ثم أعظم الأمانات هي أمانة الواجب، فكل إنسان له أمانة، فاليوم المعلم في صفه هو أمين على هذا الصف، هل علّم الطلاب أم ألجأهم إلى الدروس الخاصة؟ هل جاءهم بامتحان معتدل في أسئلته أم صعّب عليهم ليلجؤوا إليه ويعطيهم دروس خاصة خارج أوقات الدوام، ويأخذ مالاً إضافياً.
اليوم الطبيب في عيادته مؤتمن على مريضه؛ هل أعطاه تحاليل لا يحتاجها، وأكثر عليه منها لأنه متعامل مع المخبر مثلاً، أم أنه أعطاه الشيء الذي يحتاجه؟ هل خفف عنه من مرضه أم هوّل عليه المرض حتى يلجئه إلى إجراء طبي لا يحتاجه؟ وهكذا...
المحامي مع موكله، حتى النجار عندما يقوم بعمله، هل أتقن عمله؟ هل وضع المسامير الكافية حتى يبقى القوام متيناً، ويؤدي الغاية التي وجد من أجلها؟
الميكانيكي مع السيارة هل قام بما يلزم، أم تركها ناقصة لشيء ما، فحصل فيها حادث فأودى بحياة الناس؟ كل إنسان مؤتمن على الأمور التي هو فيها، هذه أمانة الواجب.
الأمانات متنوعة، والله تعالى يقول: ﴿لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.

أعظم خيانة خيانة الإنسان ربه:
أعظم الخيانة أن يخون الإنسان ربه
وفي الآية الأخيرة التي تفضلت بها ملمح جميل جداً: ﴿وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ لأنه من درج على الخيانات الكبرى فلن يبالي بالصغيرة، فلا غرابة بعدئذٍ ممن يخون البشر إذا كان قد خان رب البشر، فأعظم الخيانة أن يخون الإنسان ربه، أن يخون الإنسان الله تعالى، فهذه أعظم خيانة فمن ترك ما أمّنه الله عليه من الصلاة، والزكاة، والعبادات، والطاعات، والقربات، وغض البصر، وحفظ اللسان، من ترك هذه الأمانة فهو أقدر على ترك هذه الأمانات الصغيرة وقد خان رب البشر، ولاحظي أن الآية الكريمة تقول: ﴿وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ هناك آيات:

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
(سورة الأنفال)

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
(سورة الطارق)

من باب المشاكلة، لكن هنا ما جاء بالخيانة في مقابلهم؛ لأن الخيانة ليست شيئاً حسناً في كل حال، هي مذمومة مطلقاً لذلك ما قال: فخانهم والعياذ بالله، بل قال: ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ فربط خيانتهم بالإمكان، ولم يربطها بالخيانة؛ لأن الخيانة مذمومة مطلقاً، والأمانة محمودة مطلقاً.

مقدمة اللقاء:
بارك الله بك يا دكتور، إذاً الآيات 30، 31، 32 تحدثت عن الأمانة أيضاً وتحدثت عن أمانين من عذاب الله، رُفع الأول وبقي الثاني، فكان الأول وجود سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والثاني هو الاستغفار، فما علاقة هذا بهذه الآيات مع شرح مبسط؟ تفضل

الدكتور: بلال نور الدين:

الأمانان من عذاب الله:
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضلت هناك أمانان من عذاب الله:

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33)
(سورة الأنفال)


الأمان الأول: اتباع منهج النبي عليه الصلاة والسلام:
تطبيق السنة النبوية أمان من عذاب الله
فالأول جاء ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ بالفعل المضارع والثاني جاء بالاسم ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ﴾ اسم الفاعل ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ لأن الثاني أدوم، لأن الثاني فيه ثبات، الفعل يفيد الحدوث أما الاسم يفيد الثبات، فالأمان الثاني لا يُرفع أبداً، فنحن في بحبوحتين من عذاب الله، إما أننا على المنهج ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ فالآية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تتعلق في وجوده بين ظهرانيهم، وقد سُئل أحد السلف الصالح: هل وجدت في كتاب الله ما يؤيد قولنا: كُرمَى لعين يكرم الله ألف عين؟ عندنا في الشام يقولون: "كرمال عين تكرم مرج عيون" قال: نعم ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ فكرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله يكرم الأمة كلها بسبب وجوده، فلا يُنزِل العذاب بهم، وبعد وفاته لها معنى لطيف ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ أي ما دامت سنتك قائمة في حياتهم فهم في مأمن من عذاب الله.

الأمان الثاني: أن نكون في حالة استغفار دائمة:
الأمان الأول أن نكون على المنهج؛ إما بوجود رسول الله بيننا، أو بوجود منهجه بيننا، الخيار الثاني: نخالف المنهج شيئاً يسيراً فنعود، فإما أننا على المنهج، أو أننا في حالة الاستغفار، أما أن يكون الإنسان معرضاً عن منهج الله تعالى، ولا يستغفر الله فهذا ليس في مأمن من عذاب الله، فالبحبوحة إما أن تكون متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتدياً به، ملتزماً لسنته، أو أن تكون مستغفراً لله مما تركت من هذا المنهج، أما الخيار الثالث فليس في قاموس المؤمن؛ أن يكون معرضاً عن منهج الله وهو لا يشعر، ولا يدري، ولا يستغفر، ولا يأبه، فهذه مصيبة المصائب.

مقدمة اللقاء:
بارك الله بكم يا دكتور، بعد الحديث عن التنبيه والتحذير من الخيانة جاءت الآية التي بعدها بالتحذير من فتنة المال والولد، متى تكون فتنة؟ ومتى تكون زينة؟ ومتى تكون عدواً؟ وكل ذلك ورد في سور القرآن الكريم، فلو رجعنا إلى سورة التغابن الآيتان 14، 15 قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
(سورة التغابن)

ولو ذهبنا إلى سورة الكهف:

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا(46)
(سورة الكهف)

بالإضافة إلى ما ذكر في سورة الأنفال، نود التوضيح متى تكون فتنة، ومتى تكون زينة ومتى تكون عدواً؟ تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:
بارك الله بكم، الحقيقة كما تفضلتم، يقول الله تعالى:

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
(سورة الأنفال)


الأولاد فتنة:
الفتنة هي أمر بمعنى الامتحان والابتلاء
في هذه السورة التي نحن بصددها، وهذه الآية تبين أنهم فتنة، والفتنة هي أمر بمعنى الامتحان والابتلاء، فهي ليست شيئاً سلبياً، كلنا نُفتن، فامرأة العزيز قد فُتنت بيوسف فرسبت، وهو فُتِن بها فنجح، فإذاً نحن في فتنة يعني في الابتلاء، كلنا في امتحان وابتلاء، فالفتنة حيادية، فسورة الأنفال تتحدث عن القضية الحيادية في الأموال والأولاد، وهي أننا نُفتَن بأموالنا وأولادنا؛ فإن ربيناهم التربية الصحيحة، ونشأناهم التنشئة القويمة على دين الإسلام فقد نجحنا في الفتنة، وإن تركناهم همَلاً، وأهملنا تربيتهم فكانوا عناصر سيئة في المجتمع فقد رسبنا في هذا الامتحان.

الأولاد زينة:
سورة الكهف: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بمعنى أنها شيء ينزين حياتنا، فتجد الولد يزين حياة أبيه، يزين حياة العائلة، يزين حياة البيت فيصبح فيه حياة.

الأولاد عدو:
أما العدو فهو أمر مهم جداً، كيف يكون الولد عدواً؟ أنت أخذته، أنت أنجبته، أنت قبلته من الله ليكون لك عُزوة، وليكون لك عزاً وزينة وغير ذلك، فكيف يكون عدواً؟ ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ من للتبعيض ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ قال العلماء هذه عداوة المآل، ما معنى عداوة المآل؟ لما قال تعالى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(8)
(سورة القصص)

نحن نُفتَن في أولادنا
هل التقط آل فرعون موسى ليكون لهم عدواً، أم التقطوه ليتخذوه ولداً ولينفعهم؟ ما الذي حصل في المآل؟ أنه كان عدواً لهم بإرادة الله، لو طبقنا هذا هنا، ما معنى عداوة المآل؟ أي عندما تهمل ولدك ولا تربيه، عندما تريد أن تعلمه اللغة الأجنبية فقط، نحن نؤيد تعليم اللغة ولكن ليس الأجنبية فقط، وإنما تترك لغة القرآن وتنشِّئه على اللغة الأجنبية فقط، عندما لا تختار له مكاناً يصلح لدراسته ولدينه ولعلمه ولآخرته، فهو في الحصيلة، وفي المحصلة، وفي نهاية الأمر، سيكون عدواً لك في المآل، لأنه سيوردك المهالك في الدنيا وفي الآخرة، فنحن نُفتَن في أولادنا؛ فإما أن نجعلهم زينة لحياتنا، وإما أن نجعلهم عدواً لنا في الحال وفي المآل.
إذاً قضية الآيات الثلاث كما تفضلتم ـ وهذا سؤال جميل جداًـ أننا أمام فتنة؛ أولادنا، أموالنا، منصبنا، حياتنا فتنة، نحن في ابتلاء، في اختبار، في امتحان، فإما أن نجعل من أولادنا زينة لحياتنا، وخيراً لنا وذخراً لنا عند ربنا، وإما والعياذ بالله أن يجعلهم البعيدون عن المنهج عدواً لهم؛ لأنه كما ورد في بعض الآثار: تقول الفتاة التي أعرضت عن منهج الله تعالى يوم القيامة، وتفلتت وغوت وأغوت...إلخ، تقول يوم القيامة: لن أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي؛ لأنه كان سبباً في إفسادي. إذاً كانت عدواً لوالدها، إذاً هي عداوة المآل.

مقدمة اللقاء:
لا إله إلا الله، وكأنك يا دكتور تتحدث عن وضعنا الحالي؛ أن الناس لم تعد تفرّق بين الرعاية والتربية والتعليم، فالتربية إذا نشأت بعد الرعاية، وبعد التعليم، فالمآل سيكون جيداً بإذن الله تعالى، ولكن إن كان هناك تركيز على الرعاية والطعام والشراب ونوع المدرسة التي أضع فيها أولادي، ونوع التعليم الذي أضع فيه أولادي يغني عن التربية، فهنا سيكون المآل إلى العداوة لا سمح الله.

الدكتور: بلال نور الدين:
صدقتم 100%، يقول صلى الله عليه وسلم:

{ كفى بالمرءِ إثمًا أن يضَيِّعَ من يَقُوتُ. }

(سنن أبي داوود)

يعني هو يطعمه ويرعاه كما تفضلتم، يقوته يأتي له بالطعام والشراب، لكنه يضيع دينه (كفى بالمرءِ إثمًا أن يضَيِّعَ من يَقُوتُ) إذاً يطعمه، فكيف يضيعه وهو يطعمه؟ لا، لأنه لا يربيه، هو يرعاه لكنه لا يربيه ولا يعلمه.

مقدمة اللقاء:
نأتي الآن دكتور للآية 48 وهي تحدثت عن براءة الشيطان كعادته بعد وسوسته للإنسان بأن يتبرأ منه كما ظهر ذلك في سورة إبراهيم في الآية 22 فلو عدنا إلى السورة التي بين أيدينا:

إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
(سورة الأنفال)

هنا بيّن الخوف من الله، في سورة إبراهيم قوله تعالى:

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22)
(سورة إبراهيم)

إلى آخر الآيات، نود التوضيح لهذه البراءة، والتركيز على أن الإنسان يجب أن يتبع المنهج السليم وأن يتبع الاستقامة، تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

لا سلطان للشيطان على الإنسان:
بارك الله بكم، صدق الشيطان وهو كذوب، فعلاً هو لم يكن له سلطان على بني آدم، هو يزين العمل، أضرب لذلك مثلاً سمعته من شيخنا الدكتور راتب حفظه الله: كان يقول أن هناك شخصاً يلبس ثياباً أنيقة جداً، وهو ذاهب إلى حفلة مهمة جداً، وإذ به في المخفر يشتكي على رجل يقول: إنني سقطت في بركة مياه آسنة، واتسخت ثيابي، فقال له الضابط: هذا الرجل هل ألقى بك في المياه؟ قال: لا والله لم يفعل، قال: هل شهَرَ في وجهك سلاحاً فأجبرك على النزول؟ قال: لا، قال: إذاً ماذا فعل؟ قال: قال لي انزل فنزلت، يضحك منه الناس ومن في المخفر، لماذا جئت تشتكي عليه؟ هو لم يفعل شيئاً، هو قال لك انزل، كان بإمكانك ألا تنزل، لماذا نزلت؟ فالشيطان عندما يقول يوم القيامة: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم﴾ أنا ما أجبرتكم على شيء.

مقدمة اللقاء:
لا دخل لي باللغة العامية.

الدكتور: بلال نور الدين:
الشيطان يزين العمل
لا دخل لي أبداً، أنا قلت لكم انزلوا فنزلتم، فمن المضحك أن تقول الشيطان، كما يقول بعض الناس، كلما يفعل شيئاً سيئاً تقول له: لماذا فعلت هذا؟ يقول: لعن الله الشيطان، نعم لعن الله الشيطان، لكن أنت لماذا فعلت ما أمرك به الشيطان؟ فالشيطان يزين العمل، بمعنى أنه يظهره على أحسن وجه وهو في أسوأ وجه، يزينه فيقبله بعض الناس الذين ليس عندهم الإيمان القوي الذي يدفعهم إلى عدم الوقوع في حبائل الشيطان ﴿إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ﴾ يعني الشيطان اتخذ حيلة عجيبة جداً، هو جعلهم يقبلون على شيء لا طاقة لهم به، ثم قال: ﴿إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ﴾ رأى الملائكة تقاتل في صفوف المؤمنين.
﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فأعرض عنهم وتركهم، وهذا أسلوب الشيطان في عداوته، يبدأ بتزيين العمل، ثم يوقع الإنسان به خطوة خطوة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21)
(سورة النور)

هو لا يقول له مثلاً اذهب إلى الزنا والعياذ بالله، ولكن يبدأ معه بصداقة وخلوة، وموعد فابتسامة، فلقاء، ثم يوقعه في الزنا، وكذلك السرقة، وكذلك غيرها، خطوات الشيطان، ثم بعد أن يقع في المعصية يتبرأ منه ويذهب عنه ويتركه لمصيره المحتوم، فهذا من حبائل الشيطان التي ينبغي الانتباه لها، والله تعالى يقول:

إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)
(سورة النور)

فعداوته واضحة، عدو مبين، عداوته ظاهرة، عداوته بيّنة، لا تخفى على المؤمنين ولكنها قد تخفى على غير المؤمنين؛ لأنهم يتبعون أهواءهم، وأهواء أنفسهم، فعندها يقعون في حبائله.

مقدمة اللقاء:
وهذا ما ركزت عليه سورة الأعراف، وقد سبق شرحها وتفصيلها يا دكتور، وهنالك الآيات التي تحدثت عن إغواء الشيطان من بداية رفضه للسجود، ثم من إغوائه لآدم، ثم لبني آدم عندما أغواهم بكل هذه المغريات من بيان السوءات، ومن أكل الشجرة وما إلى ذلك، فهذه طريقه، ودائماً يركز الله تعالى في كتابه على كل ذلك، ولكن هل من مستمع؟ هل من سامع لهذا النداء؟ سلمنا الله وإياكم يا دكتور والمستمعين أجمعين.

الدكتور: بلال نور الدين:
آمين، آمين.

مقدمة اللقاء:
نذهب الآن إلى الآية الخمسين، وردت أنواع لعذاب الكفار، هل هذا العذاب يا دكتور كان داخل المعركة أم بحياة البرزخ أم يوم القيامة؟ وهنا نذكر بهذه الآية قوله تعالى:

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(50)
(سورة الأنفال)

نود تفسير هذه الآية يا دكتور بارك الله بكم.

الدكتور: بلال نور الدين:
أصعب العذاب انتظار العذاب
بارك الله بكم، كما تفضلتم هذه الآية في الأنفال، وهي آية تثبت ما ينفيه اليوم بعض الذين يتكلمون على وسائل التواصل، وهو موضوع عذاب القبر الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه دائماً قبل ختام الصلاة، فيقول أعوذ بك من أربع، ومنها عذاب القبر، فهذه الآية تثبت هذا العذاب؛ لأنها تتحدث عن البرزخ، ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ﴾ في لحظة الوفاة يبدأ العذاب ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ أنا أشبه عذاب القبر برجل محكوم بالإعدام قد وُضع في زنزانة مفردة، وهو مهيَّأ للإعدام، وهناك أوقات يُفتَح فيها الباب ويُقدَّم له بعض الطعام، لكن كلما فُتح الباب في وقت غير مخصص للفتح وللطعام يقول: قد جاؤوا لأخذي إلى الإعدام، فيعيش حالة الرعب الدائم المستمر إلى أن تحين ساعة القصاص العادل، المحكمة التي أقرت حكم الإعدام، وهذا الذي بنى مجده على أنقاض الناس، وطغى وبغى، وكفر بالله، وأساء إلى عباد الله تعالى، في حياة برزخه يُعذَّب، فمنذ أن يغادر الدنيا إلى أن يلقى الله تعالى هو في حالة عذاب مستمر؛ لأنه ينتظر العذاب، وأصعب العذاب انتظار العذاب، وأجمل السعادة انتظار الفرج والسعادة، فيعيش تلك الحياة ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى﴾ لرأيت عجباً الجواب محذوف، لرأيت عجباً منهم وهم ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ لأن الموت عندهم مصيبة، بينما الموت عند المؤمن تحفة المؤمن، وعرس المؤمن، غداً نلقى الأحبة محمد وصحبه، فالموت عند المؤمن بداية الخير، وبداية السعادة، من لحظة وفاته تبدأ حياة البرزخ سعيدة هنيئة لأنه سيلقى ربه.
قال أحد الأعراب من سيلي حسابنا يوم القيامة؟ قيل: الله تعالى، فاستبشر، قال: إن الكريم إذا حاسب تفضّل، فالمؤمن يثق برحمة الله، يثق بفضل الله، فبرزخه مليء بالسعادة حتى يحين موعد النعيم المقيم في جنة عرضها السماوات والأرض، والذي بنى حياته ومجده على أنقاض الآخرين، وأنقاض الناس، وأقام عزه على ذلهم، وأمنه على خوفهم، وغناه على فقرهم فإن الموت عنده مصيبة كبيرة؛ لأن ما بعده شر كله، من لحظة الوفاة إلى لحظة الحساب يوم القيامة، وإلى أبد الآبدين.
إذاً هذه الآية فيما أعتقد جاءت في الحديث عن حياة البرزخ، لأنها واضحة في مطلعها

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ


مقدمة اللقاء:
بارك الله بكم، تتابع الآيات الآن دكتور في آيتين في مشهد عظيم، ونحن هنا نتحدث عن سورة الأنفال، نتحدث عن موقعة بدر، نتحدث عن الملائكة وهي تقاتل، ونتحدث عن مواضيع مهمة في السورة يأتي ذكر لآل فرعون، ما اللطيفة؟ ما الشاهد من وجود الآيتين لذكر آل فرعون في هذه السورة؟

الدكتور: بلال نور الدين:

سنة الله ماضية لا تتغير ولا تتبدل:
الحقيقة أن اللطيفة متمثلة في مطلع الآيتين 52، و54، وهي:

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
(سورة الأنفال)

هذه الكاف للتشبيه، ودأب يعني عادة أو مثل أو طريقة، فاللطيفة باختصار أن الله تعالى يحدثنا عن الأقوام السابقة ليبين أن سنته ماضية لا تتغير:

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(23)
(سورة الفتح)

فهذه السنة ماضية لا تتغير ولا تتبدل، يعلمنا بالأقوام السابقة، فيقول: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ يعني هذا كهذا، فإذا أردت أن تعرف سنة الله في شيء، فانظر إلى سنته السابقة فهي نفسها اللاحقة، فاللطيفة مفتاحها في الكاف، كاف التشبيه ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، فيبين أن حال هؤلاء في تكذبيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن منهج الله تعالى يشبه حال آل فرعون في تكذيبهم لموسى عليه السلام، فعندما تقدم الأسباب نفسها تأخذ النتائج نفسها، فمادام التكذيب هو السبب أو البداية فإن الإهلاك هو النهاية، فما أنتم عليه من تكذيبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ستكون نتيجته ما كانت عليه نتيجة آل فرعون، عندما كذبوا نبيهم موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.

مقدمة اللقاء:
بارك الله بكم يا دكتور، وننتقل الآن إلى الآيات 64، 65، 66، هذه الآيات تتحدث عن نسبة وتناسب في النص، نرجو توضيح ذلك وهي في قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
(سورة الأنفال)

نود توضيح هذه النسبة والتناسب، وما معنى ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾؟ تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:
الله مع الصابرين
بارك الله بكم، الحقيقة هذه معادلة رياضية، في البداية كان الواحد مقابل عشرة، الشخص ينبغي أن يصمد لعشرة من المشركين، فإذا فرّ وأمامه عشرة أو أقل فقد فرّ من الزحف، فأنت أمامك عشرة فمطلوب منك أن تقاتلهم حتى آخر رمق، وهذا فيه شدة، وفيه صعوبة، ولكنه على المؤمنين يسير، لأن الملائكة كانت تقاتل معهم، ولأن الله مع الصابرين، لكن الله تعالى نسخ هذه الآية بآية جديدة فقال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ فجعل النسبة لرجل مقابل رجلين، كانت رجل مقابل عشرة، ثم أصبحت لرجل مقابل رجلين، فإذا كان أمامه رجلان فيجب عليه أن يقاتلهما، ولا يحل له ترك القتال، أما إذا كانوا أكثر من ذلك، فهو في حِلٍّ من أمره إن شاء قاتل، وإن شاء أعرض لأنه:

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258)
(سورة البقرة)


سنة الإسلام التخفيف والتيسير:
سنة الإسلام هي التخفيف والتيسير
أما قوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ ، فهو منهج عظيم في أن سنة الإسلام هي التخفيف والتيسير، ففي السفر الأربع ركعات تصبح ركعتين ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾، وفي الصيام المريض والمسافر يترك الصيام ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾، وغير القادر على الحج يترك الحج ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾، ومن لا يملك نصاب الزكاة فلا زكاة عليه ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾، والمريض يصلي على فراشه مضطجعاً، أو جالساً، أو مستلقياً بحسب طاقته ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾، فالقضية في الإسلام هي قضية التخفيف والتيسير، فمنهج الإسلام له صفتان رئيسيتان في الفقه الإسلامي:
• الشمول لكل ما يحتاجه البشر في كل زمان وفي كل مكان.
• ثم التيسير ورفع الحرج.
هذه الآية ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ﴾ وإن وردت في سبب مخصوص لكن عمومها يشير إلى أن أساسيات الإسلام هي التخفيف والتيسير على الناس.

مقدمة اللقاء:
وفيها الاستمرارية، نأتي الآن دكتور إلى آخر سورة الأنفال الآيات 72، 73، 74، وهي في آخر محور لنا في هذه الحلقة، ختم الله سورة الأنفال بقضية مهمة يا دكتور، من أهم قضايا العقيدة، قضية الولاء والبراء لقوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
(سورة الأنفال)

إذاً هذه الآيات التي أتينا على ذكرها، لا أطيل في القراءة حتى لا يدركنا الوقت، ألا ترى أنه ربط الولاء بالهجرة؟ نود الحديث عن الولاء والبراء في هذه الآيات مع بيان الصفات المذكورة والمنتهية بقول الحق: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ هذه الصفات تختلف عن أولى الآيات التي خُتمت بنفس الختمة وهي في الآية الرابعة من سورة الأنفال، تفضل.

الدكتور: بلال نور الدين:

قضية الولاء والبراء:
بارك الله بكم، الحقيقة هذا الموضوع طويل، لكن نختصره، الولاء والبراء كما قال بعض أهل العلم: هو الفريضة السادسة في الإسلام.
الولاء أن توالي المؤمنين ولو كانوا ضعافاً
الولاء: أن توالي المؤمنين ولو كانوا ضعافاً، ولو كانوا فقراء، ولو كان لهم حال ليس كما هي الأمم القوية، أن تبقى موالياً لهم، تقف في صفهم، تناصرهم.
والبراء أن تتبرأ من أعداء الله تعالى مهما كانوا أقوياء، ومهما كانوا أغنياء، أن تتبرأ منهم، وألا تكون موالياً مناصراً لهم، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا﴾ فليس هناك ولاية وأنت لا تريد أن تتحرك، الولاء مرتبط بالحركة، أن تقول أنا مؤمن ثم لا تتحرك لنصرة الدين، ومن أعظم مظاهر نصرته في عصره صلى الله عليه وسلم هي الهجرة، الآن:

{ لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا. }

(صحيح البخاري)

يعني إذا قال إنسان أنا أريد أن أحقق الولاء فذهب إلى مكة وهاجر إلى المدينة، هذا كلام مضحك، لم يعد هناك هجرة بعد الفتح (ولَكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ)، فاليوم الولاء يتعلق بالهجرة العملية، وهي:

{ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. }

(صحيح البخاري)

أن تترك المنكرات، وأن تأتي بالصالحات، أن تقف مع المؤمنين في صفهم، أن تنصر الضعفاء والمساكين، أن تقدم الخير للناس، أن تدعم المشاريع الخيرية، أن تدعم مشاريع حفظ القرآن الكريم وتعليمه في الأمة، هذا هو ولاؤك اليوم، هذه هي هجرتك اليوم.
أما إذا آمن الإنسان ولم يهاجر، إيماناً سكونياً، فهذا الإيمان ليس فيه ولاية للمؤمنين ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا﴾.
الأمر الآخر أن هذه الآيات كما تفضلت خُتِمت بـ ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ والآيات في بداية سورة الأنفال أيضاً ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ وقد أتينا عليها في الحلقة الأولى، ما الفرق بينهما؟

بداية الأنفال لصلاح الفرد وخاتمتها لصلاح المجتمع:
في بداية سورة الأنفال:

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)
(سورة الأنفال)

أنت جزء من المجتمع
هذه التكليفات الفردية التي نريد منها صلاح الفرد لكنها لا تكفي، هذه لصلاح الفرد، وختام الأنفال لصلاح المجتمع، التكليفات الجماعية، فأنت في بداية سورة الأنفال لما أراد الله تعالى أن يخرج حب الدنيا من قلوبهم وقد سألوا عن الأنفال، بيّن لهم ما يصلح حالهم هم، الآن بعد أن عرض في سورة الأنفال قضية الولاء والبراء، والمعركة والخيانة، وما نتج عنها جاءت التكليفات الجماعية، فالآيات هنا تتكامل مع الآيات في البداية، التكليفات الجماعية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا﴾ تحركوا ﴿وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ فلا تكفي التكليفات الفردية، التكليفات الفردية تصلحك كفرد، لكن هل أنت معفى من مجتمعك؟ لا والله، أنت لست معفى من المجتمع، فأنت جزء منه، فيجب أن تؤوي من يحتاج الإيواء، وأن تنصر من يحتاج النصر، وأن تجاهد في سبيل الله بالمال، بالأنفس، بالعلم، بالخبرة، بالتجارة، بكل ما تستطيعه، وأن تهاجر في سبيل الله، ليست الهجرة السابقة وإنما الهجرة اليوم هي أن تهجر ما نهى الله عنه، وأن تتحرك لنصرة الدين الذي آمنت به.
فالفكرة إن بقيت حبيسة في الرؤوس، ولم تنتقل إلى واقع عملي فقيمتها صفرية، لكنك عندما تتحرك لنصرتها، وتتحرك لإعلائها، وتتحرك لتكثير أتباعها، فأنت بذلك قد هاجرت حقاً ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا﴾ كل هذه الأمور مع بعضها تجعلك مؤمناً حقاً؛ لأن الإيمان ليس إيماناً سكونياً فحسب؛ أن يُذكر الله فيَجِل قلبك، وأن تقيم الصلاة، وهذا أمر مهم جداً، وهو بداية الأمر، بداية الأنفال، لكن نهاية الأمر، ونهاية الأنفال هي أن تؤمن، وتهاجر، وتؤوي، وتنصر، وتجاهد في سبيل الله.

مقدمة اللقاء:
بارك الله بكم يا دكتور على هذه الأنوار، وهذه اللطائف التي شملتنا بها في تفسير سورة الأنفال كاملة، جزاكم الله كل خير، ونفع الله بكم، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، اللهم اهدنا واهدِ بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
شكراً جزيلاً الدكتور بلال نور الدين أستاذ الإعجاز العلمي، المشرف والمسؤول عن الموقع الإلكتروني للعالم الجليل محمد راتب النابلسي، عضو رابطة علماء الشام، وفقنا الله وإياكم وشكراً جزيلاً لكم يا دكتور.