أمانان من الله تعالى لعباده

  • آيات متفرقة - الآية 33 من سورة الأنفال
  • 2022-09-26

أمانان من الله تعالى لعباده

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً متقبلاً يا رب العالمين، وبعد:
في الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأنفال يقول تعالى:

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
(سورة الأنفال)

هذه الآية فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام الترمذي في سننه: قال صلى الله عليه وسلم:

{ أنزلَ اللَّهُ عليَّ أمانَينِ لأمَّتي وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فإذا مضيتُ- يعني مضيت إلى ربي، توفيت- ترَكتُ فيهمُ الاستغفارَ إلى يومِ القيامةِ. }

(الترمذي عن ابي موسى الأشعري وهو ضعيف)


الأمان الأول هو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني أمته:
أن يكون النبي الكريم بين ظهراني أمته
الأمان الأول: هو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني أمته، لأن الله تعالى قضت سنته في خلقه أنه لا يعذّب أمةً ونبيّها بين ظهرانيها، وقد سُئل أحد السلف الصالح: هل في كتاب الله تعالى ما يشير إلى المثل الشعبي: كرم لعين تكرم مرج عيون؟ قال: نعم، قال: أين وجدت ذلك في كتاب الله؟ قال: في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) يعني إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزِل عذابٌ عامٌ بأمته وهو بين ظهرانيهم، حتى الأدق من ذلك: أن الله تعالى يوم أراد أن يُهلِك قوم نوح أخرج نوحاً من بينهم:

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
(سورة هود)

فلما خرج نزل العذاب بهم، وحتى لا ينظر نوح عليه السلام إلى ابنه فيرى العذاب وهو يحيق به قال تعالى:

قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
(سورة هود)

فما أراه عذاب ابنه بعينه إكراماً له لا إكراماً لابنه (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) لأنه من أصعب الأمور على الإنسان أن يرى ابنه أمامه يُعذَّب، وقد رأينا في قوارب الموت هذه الأخيرة نسأل الله تعالى أن يغفر ويعفو عمّن صعد فيها، رأينا كيف مات بعض الأولاد فاضطر أهلهم أن يلقوهم في البحار وهم ميتون أمام أنظارهم"

رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (28)

فالله تعالى قال: (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) لِئَلّا يرى نوح عليه السلام ابنه يُعذَّب أمامه، قال له:

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: كل من تعوّد معارضة الشرع بعقله لم يثبت في قلبه إيمان.
هو ماذا قال له؟ قال: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا) هذا نقل (وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) (قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) هذا عقل، هو بعقله يقول: أصعد إلى جبل عالٍ لا يصله الماء، متى كانت المياه تصل إلى أعالي الجبال؟ بالعقل لم تحدث، فهو احتكم إلى عقله، فأجابه نوح من جديد بالنص والوحي قال: (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) الموضوع لا علاقة له بما تفكر به، الله عز وجل لا يُعصَم منه أحد، هذا أمر الله قادم لا محالة، ولو كنت في قمة جبال هيمالايا سيصل إليك الماء (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) فلما عارض بعقله أمْر ربه (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) وكل مَن تعوّد معارضة أوامر الشرع بعقله سيغرق في بحور الشهوات والظلمات.
فنوح عليه السلام في المحصلة عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، أخرجه الله تعالى من بين ظهراني قومه حتى لا يُهلَك القوم وفيهم نبيهم (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) هذا هو الأمان الأول.

من إعجاز القرآن الكريم أنه يُفهَم على عدة مستويات:
ولأن القرآن الكريم فيه لطائف وهو لكل زمان ومكان، ولأن القرآن الكريم يُفهَم على عدة مستويات، في لفظه يُفهَم على عدة مستويات وهذا من إعجاز القرآن الكريم، يعني على سبيل المثال: ربنا جل جلاله قال:

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
(سورة الطارق)

رجع صفة عامة لكل شيء في السماء
أقسم بالسماء ووصفها بأنها ذات رجعٍ يعني من صفاتها أنها تُرجِع، ما الذي ترجعه؟ الصحابة رضوان الله عليهم في عصرهم فهموا وفق معطيات العلم في هذا العصر أن البحار تتبخر يصعد الماء ويرجع إليهم مطراً، (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) معنى صحيح ومقبول، ثم تطور العلم حديثاً فاكتشفوا أنه يمكن أن نرسل الأصوات عبر الأثير في الهواء ونلتقطها ونبثها في أنحاء الارض، فإذاً: السماء تُرجِع الأمواج الكهرطيسية بثاً، معنى صحيح ومقبول، ثم تطور العلم ففهموا أن كل شيء في السماء يدور في فلك:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
(سورة الأنبياء)

ثم يرجع إلى مكان انطلاقه النسبي، فالسماء ذات رجع صفة عامة لكل شيء في السماء، وليس مجرد التبخر، أو الأمواج الكهرطيسية.
هذا المثال بمعنى أن اللفظ القرآني نفسه يحمل كل المعاني، وهذا من إعجازه، قال:

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
(سورة النحل)

فإذا ركبت الآن في السيارة تتذكر أنه خلق ما لا تعلم، إذا ركبت في الجو في الطائرة خلق ما لا تعلم، فهذا من إعجاز القرآن في أنّ النص نفسه يمكن أن يُحمَل على معانٍ بتطور الزمان والفهم الجديد، لذلك ورد عن سيدنا علي رضي الله عنه قال: في القرآن آيات لمّا تُفسَّر، يعني لمّا يأت تأويلها، سيأتي في المستقبل.
السنة النبوية مأمن من عذاب الله
الذي عنيته أو الذي أوصلني إلى هنا (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) في حياته واضحة، ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني قومه فهم في مأمن من عذاب الله، بعد وفاته قال أهل اللطائف والتفسير: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) أي ما دامت سنتك قائمة في حياتهم وما دام منهجك مُطبَّقاً في تفاصيل حياتهم، فهُم في مأمن من عذاب الله، وأنت فيهم بمنهجك.
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) أي ما دامت سُنّتك يا محمد صلى الله عليه وسلم مُطبَّقة في حياتهم وما دام منهجك قائماً في بيعهم وفي شرائهم وفي تعاملاتهم ومع أزواجهم وفي بيوتهم فهم في مأمن من عذاب الله تعالى، فهذه البحبوحة الأولى: في حياته أنه بين ظهراني قومه، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أنّ منهجه مُطبَّق بين أمته.

أمة النبي صلى الله عليه وسلم أمتان:
وأمة النبي صلى الله عليه وسلم أمتان: أمة التبليغ، وأمة الاستجابة، فكل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أمة التبليغ، لكن لا يُشتَرط أن يكون من أمة الاستجابة، نحن نسأل الله تعالى أن نكون من أمة الاستجابة، أمة الاستجابة التي سمعت فاستجابت:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
( سورة الأنفال )

أمّا كل مَن بلغه الدعوة فهو مِن أمة التبليغ، يعني لو قال أستاذ لطلابه: غداً كل طالب يحضر معه دفتراً، ثلاثون طالباً في الصف بُلِّغوا، في اليوم الثاني عشرون طالباً جاؤوا بالدفتر وعشرة لم يأتوا به، فالعشرة بُلِّغوا لكن لم يستجيبوا، فالمُعوَّل عليه من بُلِّغ أم من استجاب؟ من استجاب، فعندما يقول بعض الناس نحن أمة محمد المرحومة المشفوع لها، على العين والرأس، لكن هل نحن من أمة التبليغ، أم من أمة الاستجابة التي استجابت لأمر ربها واستمعت لهدي نبيها صلى الله عليه وسلم وعملت بما فيه.
فأمة الاستجابة المعنية (وَأَنتَ فِيهِمْ) أي استجابوا للمنهج، وليس مجرد مسلم على الهوية، لا ولكن في الواقع مسلم في بيعه، في شرائه، في تعاملاته.

الأمان الثاني أمان الاستغفار:
المستغفر أصبح الاستغفار لازماً له
وأما البحبوحة الثانية أو الأمان الثاني: هذا ماضٍ إلى يوم القيامة، قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) والملفت للنظر أنّ الله تعالى قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) هذه لام الجحود، (لِيُعَذِّبَهُمْ) جاءت بالفعل المضارع، يعني مدة بقائك فيهم، أمّا بحبوحة الاستغفار قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ) على الدوام (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وما قال: وهم مستغفرون، ما الفرق بين وهم يستغفرون وهم مستغفرون؟ المستغفر أصبح الاستغفار لازماً له، فلو قال: وهم مستغفرون لَمَا شمل ذلك إلا كل إنسان داوم على الاستغفار في يومه مئة مرة مثلاً فأصبح اسمه مستغفراً كرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من رحمته قال: (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يعني فعل يدل على التجدد والحدوث، وليس على الدوام، فلو أنه استغفر حيناً، وغفل حيناً فهو في مأمن من عذاب الله، هذا من رحمة الله، في آية ثانية قال تعالى:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
(سورة القصص)

ما قال: يظلمون، لا يستحقون العذاب حتى يصبح الظلم سِمةً رئيسيةً في المجتمع، ظالمون، هنا قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يعني لمجرد أن الفعل واقع منهم فهم في مأمن، سواءٌ كان الاستغفار ملازماً لهم، أو كان حالة طارئة تطرأ عليهم، وهذه من رحمات الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
الإنسان يعصي لكنه يستغفر ويتوب
البحبوحة الثانية: هي بحبوحة الاستعفار وأمان الاستغفار، بمعنى آخر: إمّا أنْ تُطبِّق المنهج وإما أن تستغفر إن خرجت عنه، وليس هناك حل ثالث، فالمؤمن إذا نظرت إلى حاله، إلى فعل يفعله، إما أن يكون هذا الفعل وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لا يكون فيستغفر الله مباشرة منه، أما الحالة الثالثة أنه خارج المنهج، ولا يشعر بأنه خارج المنهج، هذا ليس في مأمن من عذاب الله، خارج المنهج وليس مستعداً أن يستغفر من خروجه عن المنهج، انظر إلى رحمة الله، الله تعالى ما قال دائماً وأنت فيهم في كل لحظة، يعصي الإنسان لكن يستغفر ويتوب، فإمّا أن نكون مطبّقين، أو أن نكون مستغفرين أما أن يكون عاصياً ولا يأبه بمعصيته، فهذا معنى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:

{ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ. }

(صحيح مسلم عن أبي هريرة)

ما معنى: (لوْ لَمْ تُذْنِبُوا) ؟ يعني ليس هناك إنسان لا يذنب:

{ كلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائين التَّوابُون. }

(المستدرك عن أنس بن مالك)

فلو أنّ إنساناً ترك الاستغفار فهو ظن أنه لا يذنب والله لا يريده، يريد شخصاً يشعر بذنبه فوراً فيعود إلى ربه.
فهذان البحبوحتان إمّا أنك مع رسول اله صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع منهجه بعد وفاته، أو أنك في استغفار لخروجك عن المنهج تعود إلى الله فوراً وتستغفره وتتوب إليه، يُروَى أن الحسن البصري رحمه الله وهو سيد التابعين: شكا إليه رجل جدَبَ الأرض فقال: استغفِر الله، وشكا إليه آخر فقْرَ الحال فكان يقول: استغفِر الله، وكان يأتيه الرجل فيشكو إليه أنه لم يأتِه الولد فيقول: استغفر الله، وهناك من يشكو له جفاف البستان فيقول له: استغفر الله، فاستنكر عليه بعض جُلّاسه قالوا: يا إمام كلما جاءك شاكٍ تقول له: استغفر الله، قال والله ما جئت بشيء من عندي، إنما جئت بها من قوله تعالى:

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11 (وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
(سورة نوح)

وقال رجل للحسن البصري: أما يستحيي أحدنا من ربه! يفعل الذنب ثم يستغفر، ثم يفعل الذنب، ثم يستغفر.
يعني مثلاً طالب مع أستاذه إذا أخطأ أول مرة فقال له أستاذ سامحني قال له: سامحتك، أخطأ الخطأ نفسه مرة ثانية، أو خطأ آخر فقال: سامحني في المرة الثاالثة والرابعة يقول لك: والله خجلت كل مرة أطلب من الأستاذ أن يسامحني وقد لا يقبل العذر الأستاذ في المرة الثالثة والرابعة فيقول: طفح الكيل، لم يعد هناك مجال للمسامحة.
أما ربنا جل جلاله فسئل الحسن البصري قال أما يستحيي أحدنا من ربه، يفعل الذنب ثم يستغفر، ثم يفعل الذنب، ثم يستغفر؟ فقال الحسن البصري ويحكم، ودّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه، إياكم أن يستزلّكم الشيطان من هذا الباب، فيقول لك: يا أخي ألا تستحي في كل ذنب تعود إلى الله؟ ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، يريد منك أن تمل من الاستغفار، والله تعالى لا يملّ حتى تملّوا.
فمهما كثرت الذنوب، ومهما عظمت الذنوب لا تيأس من الاستغفار، فهذا من فعل الشيطان أن يُقنِّطَك من الاستغفار، وأن يقول لك ويحك تذنب ثم تستغفر ثم تذنب.
هذه ليست دعوة لأن يتهاون الإنسان في شأن الذنوب والاستغفار، ولكنها دعوة لئلا يمل الإنسان الاستغفار مهما كثرت ذنوبه.

معنى الاستغفار:
والاستغفار أيها الكرام هو عملية مراجعة مستمرة، ما معنى الاستغفار؟ عندنا في اللغة العربية فعل ثلاثي يعني أصوله من ثلاثة أحرف، تقول: طعِمَ: يعني أكل، عندما تضيف له الهمزة والسين والتاء يصبح سداسي يعني ثلاثي مزيد بثلاثة حروف، فيصبح معناه الطلب، طعم: أكل، استطعم: طلب الطعام، سقى: شرب، استسقى: طلب السُّقيا.
الاستغفار طلبٌ مستمر من الله أن يغفر الذنوب
فالهمزة والسين والتاء في مقدمة الفعل تفيد الطلب، استكتب: طلب من غيره أن يكتب له، فالاستغفار: هو طلبٌ مستمر من الله تعالى أن يغفر الذنوب، فهو يغفر ونحن نستغفر، نحن نقول: أستغفرك يارب، وهو يقول: قد غفرت لك يا عبدي، لذلك الله تعالى هو الغافر، والغفار، والغفور:

غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
(سورة غافر)

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)
(سورة طه)

وتكرّر في كتاب الله تعالى:

فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39)
(سورة المائدة)

وغالباً ما تأتي المغفرة مع الرحمة، لأن المغفرة بمثابة التّخلية، والرحمة بمثابة التحلية، يعني هذا الكأس متسخ، فيه مياه سوداء، فلو أخرجتُها منه ثم صببت به شراباً نفيساً فلا أحد يقبله مني، لكن لو أني ذهبت به إلى المطبخ، وأدرت عليه الماء والصابون ونظفته، خلّيته، الآن أصبّ به الشراب فيقبله أي إنسان، لأن الإنسان يعتني بالمظهر والمخبر، فنُخلّي ثم نحلّي، تخلية ثم تحلية، وعندما نبدأ بقراءة القرآن: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (تخلية) بسم الله الرحمن الرحيم (تحلية) فالتخلية ثم التحلية.
والمغفرة تخلية، فعندما يقول لك ربنا جل جلاله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي يُذهِب الذنوب يغفرها لك، ثم تأتي الرحمة بعد المغفرة تحليةً لك، تخلية وتحلية.

معاني وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا:

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)
(سورة الأعراف)


المعنى الأول:
ما معنى (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) فادعوه بها: قال بعض أهل العلم: أن يقول الإنسان: يا غفار اغفر لي، يا لطيف الطف بي، يا رحيم ارحمني، يا منتقم انتقم لي، يعني يدعو الله بأسمائه الحسنى، هو حاله أنه ضعيف فيقول: يا جبّار انتقم لي ممن ظلمني، حاله أنه مذنب: يا غفور اغفر لي ذنبي، حاله أنّ مصيبةً قد لاح شبحها له: يا لطيف الطف، فيستجير باسم من أسماء الله الحسنى ويدعو الله به، يعني يتوسل إلى الله باسم من أسمائه، وهذا من التوسل المشروع الذي لا خلاف عليه.

المعنى الثاني:
أن تأخذ نصيبك من أسماء الله الحسنى
أما المعنى الثاني (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) قالوا إذا كان الله تعالى لطيفاً فكن لطيفاً مع عباده، والله تعالى هو الرفيق فكن رفيقاً مع أهل بيتك، يعني خذ من كل اسم نصيباً لك فتخلّق به، ربنا غفار فلماذا لا تغفر لإنسان جاءك متنصّلاً يقول لك: أخطأت سامحني، لماذا لا تدعو الله باسم الغفار فتقول له: قد غفرت لك لعل الله يغفر لي.
وهذا المعنى جاء في احديث المُعسِر الذي كان كلما جاءه من لا يملك قال لغلمانه: تجاوزوا عنه قال: فتجاوز الله عنه، فغفر له.
فعندما يرحم الإنسان يرحمه الله تعالى، وعندما يسامح يسامحه الله:

{ الْمُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، مَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه بها كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ. }

(صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر)

ومن فرّج عن معسر فرّج الله عنه.
إذاً (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) بمعنى أن تأخذ نصيبك من أسماء الله الحسنى، فتتخلّق بهذا الاسم فتستر إن كنت تريد من السّتِّير أن يسترك، وتغفر إن كنت تريد من الغفار أن يغفر لك، وترحم إن كنت تريد من الرحمن أن يرحمك، ومن لا يرحم لا يُرحم.
فإذاً: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا) فعندما نقول إن الله تعالى غافر، وغفور، وغفار، وعفو، وتواب، وستّير، بالمناسبة أسماء المغفرة، والتوبة، والعفو، والستر كثيرة من أسماء الله الحسنى لأنه بنى علاقته مع عباده على المغفرة والستر جل جلاله والرحمة، عندما نقرأ قوله تعالى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(سورة الفاتحة)

الله جل جلاله رب العوالم كلها
وهذا من أجمل ما قرأت في سورة الفاتحة، كأنّ النفس تشعر بالجلال، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعني أنت تنظر فتقول: أنا الآن أحمد رب العالمين، ليس رب الإنس، أو الجن، أو الحيوانات، أو النباتات، أو الجمادات، بل هو رب العالمين، يعني كل العوالم، النبات عالم، والحيوان عالم، والجماد عالم، والأفلاك عالم، وكل هذه العوالم أنت الآن تقابل ربها، وأنت إذا قيل لك: إن فلاناً الذي ستدخل عليه الآن هو الملك الذي يملك نصف هذه البلد، أو يملكها كلها، فإنك يرجف قلبك وأنت تدخل عليه، كيف سأجلس بين يديه؟ وما الكلمات التي سأحدثه بها؟ وماذا سيقول لي؟ وماذا سألبس للقائه؟ لأنه صاحب ملك، فلما تقول (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الذي يُمدّ كل العوالم يربيها جل جلاله، فكأنك تشعر في قلبك بجلال الموقف وهيبته، فجاء بعدها مباشرة:

الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيم ِ (3)
(سورة الفاتحة)

لا تقلق، فإنه قد بنى علاقته معك على الرحمة، فهو رحمن رحيم، فتشعر بالأُنس مباشرة، من الجلال إلى الجمال، من جلال وهيبة الربوبية إلى جمال الرحمة.
ويتجاوز الأمور كلها من أجل أن يبقى الإنسان في هذه البحبوحة، وهذا الأمان، ويستشعر مغفرة الله تعالى له، وفي الحديث الصحيح:

{ إنَّه لَيُغَانُ علَى قَلْبِي، وإنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَومِ مِائَةَ مَرَّةٍ. }

(صحيح مسلم عن الأغر المزني أبي مالك)

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أستغفر الله مئة مرة، وهو المعصوم الذي غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، معصوم أن يقع في الذنب، ومع ذلك قال له تعالى:

لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2)
(سورة الفتح)

وهذه ليست لأحد من خلق الله، ومع ذلك يحب مقام الاستغفار، ومقام العبودية، ويعلمنا هذا المقام فيقول: (وإنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في اليَومِ مِائَةَ مَرَّةٍ.)
الاستغفار مراجعة مستمرة لحركة الإنسان في الحياة
يستغفر الله ممّ؟ ممّا ذكره بعض أهل العلم من اللطائف قالوا: إن استغفار الأنبياء هو أنهم في أحوالهم مع الله أحياناً يكونون في مستوى عالٍ جداً، وأحياناً ينزل عن المستوى العالي بقليل، فيستغفر الله من حالٍ مرت عليه أقل من الحال التي وصل إليها مع الله الآن، فهم في صعود مستمر، فكلما وصلوا إلى الله، وتعرفوا إلى الله أكثر استغفروا الله من معرفتهم الماضية.
يعني إنسان يعرف شخصاً -ولله المثل الأعلى- معرفته به سطحية، لمّا تعرف عليه أكثر وجد نفسه غلطانَ في تقييمه للشخص فهو كريم أكثر مما تخيل، فكلما تعرفوا أكثر على الله استغفروا الله مما مضى من معارفهم السابقة به جل جلاله، ولا يعرف جلال الله إلا الله، وأعظم الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم الناس معرفة بالله، ووصولاً إلى الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يصل إلى المعرفة الكاملة، لا يعرف الله إلا الله جل جلاله.
وفي الحديث:

{ عَن عائشةَ رضي اللَّه عنها قالَت : طوبى لِمن وجدَ في صَحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا }

(رواه البيهقي عن صفية أم المؤمنين)

فالاستغفار أحبابنا الكرام، هو مراجعة مستمرة وتقويمية لحركة الإنسان في الحياة.
هذا توبة بن الصمّة كان من أشد الناس استغفاراً، ومحاسبة لنفسه فلما بلغ الستين من عمره عدّ أيام عمره فوجدها تزيد على واحد وعشرين ألف يوماً، فصرخ: يا ويلاه أألقى ربي بواحد وعشرين ألف ذنب!
يعني كل يوم ذنب واحد يصبح مجموعهم واحداً وعشرين ألف ذنب، ستين سنة.
وكان عمر رضي الله عنه في بستان من بساتين الأنصار وكان أنس بن مالك يراقبه وهو لا يراه، وإذا بعمر يقف مع نفسه فيقول: عمر أمير المؤمنين بخٍ بخٍ والله لتتّقينّ الله أو ليعذبنك الله،

{ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَخٍ بَخٍ وَاللَّهِ لَتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ لَيُعَذِّبَنَّكَ. }

(مَالِك عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ)

يأتيه أعرابي قد قرض الجوع بطنه وبه من الفقر ما به، يقول:
يَا عُمَرَ الْخَيْرِ، جُزِيتَ الْجَنَّةَ اكسُ بَنَيّاتِي وأمّهُنَّهْ وكن لنا من الزمان جُنَّه (وقاية) أَقْسِمْ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهْ «وَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ يَكُونُ مَاذَا؟» فَقَالَ عُمَرُ: قَال: إِذًا أَبَا حَفْصٍ لأَذَهْبَنَّهُ. قَالَ: «فَإِذَا ذَهَبْتَ يَكُونُ مَاذَا؟» :قَال يَكُونُ عَنْ حَالِي لَتَسْأَلَنَّهُ يَوْمَ تَكُونُ الأُعْطِيَاتُ منَّهْ وَموَقِفُ الْمَسْؤُولِ بَيْنَهُنَّهْ إِمَّا إِلَى نَارٍ وَإِمَّا إِلَى جَنَّةْ. فبكى عمر رضي الله عنه، وما وجد إلا سترته فخلعها وأعطاها للأعرابي وقال: خذ هذا ليوم تكون الأعطيات منَّه وموقف المسؤول بينهنّه إما إلى نار وإما جنّة
{ قصة بائعة اللبن }
فأحبابنا الكرام، هما ضمانتان من عذاب الله: إمّا أن نكون مع المنهج (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) وسنتك فيهم، ومنهجك بينهم، يطبقونه، يحبونه، يبادرون إلى تنفيذه، لا يخافون في تطبيقه لومة لائم، والأمان الثاني: أنْ إذا حِدنا عن المنهج أن نبقى على الاستغفار، فنستغفر الله ونتوب إليه، فإن الله تعالى يحب من عبده إذا عصى أن يعود إلى ربه فيستغفره ويتوب إليه:

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
(سورة النساء)

والحمد لله رب العالمين.