العفو والإعراض عن الجاهلين

  • الحلقة الثامنة
  • 2020-05-01

العفو والإعراض عن الجاهلين

السلام عليكم: الآية اليوم هي الآية التاسعة والتسعون بعد المئة من سورة الأعراف، وهي قوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم، ومخاطباً أمته من بعده:

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
(سورة الأعراف: الآية 199)

وأمَّا الحديث: فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه:

{ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ؟ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: يَا ابْنَ الخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ، حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ، فَقَالَ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ }

(صحيح البخاري)


شرح الحديث
(عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ) وقد كان الحُرُّ واحداً ممن يُدْنِيهِمْ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه، من مجلسه، (وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا) وكان مجلس عمر من القُرَّاء، (كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا) كما يقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
(وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ) فقد كان الحُرُّ واحداً من هؤلاء القُرَّاء القريبين من مجلس عمر رضي الله عنه، (فَقَالَ: عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ الحُرِّ، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ؟) يعني عمر رضي الله عنه، (هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ؟) أريد أن ألقاه، هل لك وجهٌ عنده؟، (فقَالَ الحُرِّ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ) استأذن له بالدخول، فدخل على أمير المؤمنين (فقَالَ: يَا ابْنَ الخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ) أي العطاء الكثير، (وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ) يخاطب من؟ يخاطب الفاروق، الذي ذاع سيطه وعدله في الآفاق، يقول له: أنت لا تحكم بيننا بالعدل ولا تُعْطِينَا الجَزْلَ، (فَغَضِبَ عُمَرُ، حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ) بأن يعاقبه لما بدر منه من إساءةٍ وافتراءٍ وكذب، (فَقَالَ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ})، (وَإِنَّ هَذَا) يعني عُيَيْنَةُ (وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ)، (فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ).
يقول ابن عباس: (فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ) حين تلا عليه الآية، وأَعرَضَ عنه، (وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ) كان عمر رضي الله عنه وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ، فإذا سمع أمراً في القرآن الكريم بادر إلى تنفيذه فوراً، ولو كان ذلك على حساب مشاعره، ولو كان ذلك على حساب أي شيءٍ في الحياة، فأمر الله عزَّ وجل كان مقدَّماً على كل شيءٍ عند عمر رضي الله عنه، (وَكَانَ وَقَّافًا) يقف عند أمر الله تعالى، كثير الوقوف عند أمر الله تعالى ونهيه، يُطبِّقه فوراً.

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
(سورة الأعراف: الآية 199)


أخذ العفو والأمر بالمعروف
أمَّا {خُذِ العَفْوَ}: فقد جاء فيها حديثٌ صحيحٌ في سنن أبي داود:

{ قَالَ: أُمِرَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ }

(صحيح أبي داود)

المعروف يعرف بالفطرة
وأمَّا {وَأْمُرْ بِالعُرْفِ}: أي بالمعروف، فالمعروف سمِّي معروفاً لأنَّ الفِطَر السليمة تعرفه ابتداءً، وما سمِّي المنكر منكراً إلا لأنَّ الفِطَر السليمة تنكره ابتداءً، قبل التعليم.
المعروف يعرف بالفطرة، والمنكر ينكر بالفطرة.
فقال: (وَأْمُرْ بِالعُرْفِ) أي بالمعروف، (وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) أي لا تقابل سفههم بالسفه.

الناس رجلان محسنٌ ومسيء
وقد قيل: " الناس رجلان: فرجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه. وإما مسيء، فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأعرض عنه، فلعل ذلك أن يرد كيده ".

1. الرجل المحسن
(رجل محسن، فخذ ما عفا لك من إحسانه) هذا شخصٌ محسن، فإن وجدت في أخلاقه شيئاً عفا لك فيه من إحسان فخذه ولا شيء عليك (ولا تكلفه فوق طاقته ولا تحرجه)،

مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ
(سورة التوبة: الآية 91)

أعطاك؛ خذ منه ما أعطاك (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ).

2. الرجل المسيء
النصيحة بما تعارف عليه الناس
الرجل الثاني: (وإما مسيءٌ فمُره بالمعروف) هذا مُره بالمعروف، انصح له أن يأتي بما تعارف عليه الناس، وتعارفت عليه الفطرة السليمة، وجاء الشرع يأمر به، (فمُره بالمعروف)، قال: (فإن تمادى على ضلاله، واستعصى عليك، واستمر في جهله، فأعرض عنه)، (استعصى عليك) لم يقبل النصيحة.

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
(سورة الأعراف: الآية 199)

إلى الملتقى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.