الثبات في زمن المتغيرات

  • الحلقة التاسعة عشر
  • 2020-05-12

الثبات في زمن المتغيرات

السلام عليكم: الآية اليوم هي الآية الثالثة والعشرون من سورة الأحزاب وهي قوله تعالى:

مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
(سورة الأحزاب: الآية 23)

(قَضَىٰ نَحْبَهُ) حقق هدفه، وقضى ما عليه، وذهب للقاء ربه.
وأما الحديث: فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه قال:

{ قال أنس رضي الله عنه: عَمِّيَ الذي سُمِّيتُ بهِ لَمْ يَشْهَدْ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَدْرًا، قالَ: فَشَقَّ عليه، قالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عنْه، وإنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا فِيما بَعْدُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَيَرَانِي اللَّهُ ما أَصْنَعُ، قالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، قالَ: فَشَهِدَ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَومَ أُحُدٍ، قالَ: فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، فَقالَ له أَنَسٌ: يا أَبَا عَمْرٍو، أَيْنَ؟ فَقالَ: وَاهًا لِرِيحِ الجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قالَ: فَقَاتَلَهُمْ حتَّى قُتِلَ، قالَ: فَوُجِدَ في جَسَدِهِ بضْعٌ وَثَمَانُونَ مِن بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، قالَ: فَقالَتْ أُخْتُهُ، عَمَّتِيَ الرُّبَيِّعُ بنْتُ النَّضْرِ، فَما عَرَفْتُ أَخِي إلَّا ببَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {رِجَالٌ صَدَقُوا ما عَاهَدُوا اللَّهَ عليه فَمِنْهُمْ مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَن يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}-[الأحزاب: 23]- قالَ: فَكَانُوا يُرَوْنَ أنَّهَا نَزَلَتْ فيه وفي أَصْحَابِهِ }

(صحيح مسلم)


شرح الحديث
أدب العهد مع الله
(قال أنسٌ رضي الله عنه: عَمِّيَ الذي سُمِّيتُ بهِ) يعني أَنَس بْن النَّضْر رَضِيَ اللَّه عنهما، (لَمْ يَشْهَدْ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بَدْرًا، فَشَقَّ ذلك عليه) صعب عليه أنه لم يشهد معركة بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، (فقالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ غُيِّبْتُ عنْه) أي لم أحضر لسببٍ خارجٍ عن إرادتي، (لإنْ أَرَانِيَ اللَّهُ مَشْهَدًا فِيما بَعْدُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَيَرَانِي اللَّهُ ما أَصْنَعُ) أي سأُري الله مني خيراً في صنيعي، (قالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا) وهذا أدبٌ في العهد مع الله، إذ إنَّ أَنَس بْن النَّضْر لم يحدد ما الذي يريد أن يفعله في عهده مع الله بوجهٍ دقيق وإنما ترك الأمر واسعاً، (فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، قالَ: فَشَهِدَ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَومَ أُحُدٍ) معركة أحد، (فَقالَ له أَنَسٌ: يا أَبَا عَمْرٍو، أَيْنَ؟ فَقالَ: وَاهًا لِرِيحِ الجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ) اشتاق لريح الجنَّة وأنا أجده في هذه المعركة، (فَقَاتَلَهُمْ حتَّى قُتِلَ) فلما انقضت المعركة : (فَوُجِدَ في جَسَدِهِ بضْعٌ وَثَمَانُونَ مِن بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَقالَتْ أُخْتُهُ: الرُّبَيِّعُ بنْتُ النَّضْرِ) وهي عمة أنس بن مالك راوي الحديث، قالت: (فَما عَرَفْتُ أَخِي إلَّا ببَنَانِهِ) أي برؤوس أصابعه، (وَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

المؤمن ثابتٌ على العهد
ثبات المؤمن على المبادئ
وأريد أن أعقب هنا على خاتمة الآية: (وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) إنه الثبات لا سيما في زمن المِحن والابتلاءات والمتغيرات، فالمؤمن ثابتٌ على قيمه ومبدئه في حالة اليسر أو في حالة العسر، في حالة الفرج أو في الشدة، عند الصحة وعند المرض، في شبابه وفي كهوله وفي شيخوخته، قبل الزواج وبعد الزواج، في زمن النصر والعزة والتمكين للمسلمين، وفي زمنٍ فيه بعض الهزيمة والضعف والابتلاء للمؤمنين، يبقى ثابتاً على ما عاهد الله عليه، فقد عاهد الله على طاعته حتى يلقاه وهو راضٍ عنه.
(وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) المؤمن لا يبدِّل ولا يغيِّر فهو على العهد ثابتٌ وماضٍ حتى يلقى ربه.

الثبات في زمن المتغيرات صعبٌ لكنه ميسرٌ
أيها الإخوة الكرام: الثبات في زمن المتغيرات صعبٌ لكنه ميسرٌ لمن أراد الله به خيراً، ممن جعل همَّه الآخرة وجعل همَّه رضا الرحمن، فييسر الله له الثبات فيبقى ثابتاً على مبدئه وقيمه في كل عصر وفي كل مصر، لا تثنيه سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة عن دينه، هو قويٌّ أمام الشهوات وثابتٌ أمام الشبهات حتى يلقى ربه وهو راضٍ عنه.
إلى الملتقى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.