ولكن البرَّ ..

  • تفسير الآية (177)
  • 2022-02-07

ولكن البرَّ ..

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأُسَلِّم على نَبِيِّنا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم عَلِّمنا ما ينفَعُنا وانَفَعنا بما عَلَّمتنا وزِدنا عِلمَاً وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً يا ربَّ العالمين وبعد.


البرّ كلمة من الكلمات المُثَلَّثَة في اللغة العربية:
حديثُنا اليوم عن آيةٍ من سورة البقرة، لكن هذه الآية من جَوامِع الكَلِم، وكلامُ الله تعالى كُلّه من الجَوامِع، بمعنى أن الألفاظ القليلة تُؤَدِّي مَعانٍ كثيرة. لكن هذه الآية تتحدث عن كُليَّةٍ مُهِمَّة في الدِّين وعن أساسيات الدِّين، الآية هي قوله تعالى:

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
[ سورة البقرة ]

كل شيء فيه إحسان يُسَمَّى بِرَّاً
هذه الآية تتحدث عن البِرّ، والبِرّ كلمة من الكلمات المُثَلَّثَة في اللغة العربية، مُثَلَّثَة أي تأتي بثلاث حَرَكات، فهناك البِر والبُر و البَر. البُر هو القمح، والبَر اليابسة، والبِر هو التَّوسُّع في كل خيرٍ وإحسان، كل شيء فيه خير يُسَمَّى بِرَّاً، كل شيء فيه إحسان يُسَمَّى بِرَّاً، فنقول: بِرُّ الوالدين أي الإحسان لهما، ومَدُّ يَدِ العَوْن لهما، وإيصال الخير لهما، ونقول: فُلان بَارٌّ بَرَحِمِه أي يَصِل رَحِمَه، والله تعالى هو البَرّ الرحيم:

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
[ سورة الطور ]

طبعاً البَر اليابسة غير البَرّ هنا اسم الفاعل من البِرّ، فهو البَرّ جل جلاله، لأنه بَرٌّ بعباده، من يَصِلُ كما يَصِلُ جلَّ جلاله عباده بالخيرات؟ من الذي يُنعِم عليهم ويُغدِق عليهم البركات؟ من الذي يتَولَّى نُفوسَهُم بالتربية؟ من الذي يُعطيهم السَّكنية؟ من الذي أعطانا الولد؟ من الذي أعطانا الزوجة؟ من الذي أعطانا الوالدين؟ من الذي وهبنا الحياة؟ فهو البَر جلَّ جلاله.

تحويل القبلة هو سبب نزول الآية:
هذه الآية تقول: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) سبب نزول الآية هو تحويل القِبلَة، لَمَّا حُوَّلَت القِبلَة من بيت المَقدِس إلى مكة المكرمة، تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ المدينة صَلَّى باتجاه بيت المَقدِس، وكان يُقَلِّبُ وجهه في السماء:

قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
[ سورة البقرة ]

المَقدِس أُولَى القِبلَتَين
النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتوجَّه إلى مكة، يُحبُّ مكة، ويشعر أن المؤمن ينبغي أن يتميَّز في قِبلتِه، فالله تعالى حَوَّلَ القِبلَة في أثناء صلاة من صلوات المسلمين، وتَحَوَّلوا داخل الصلاة من بيت المَقدِس إلى بيت الله الحرام، فنقول دائماً: المَقدِس أُولَى القِبلَتَين، فأصبح المسلمون يتَوجَّهون إلى بيت الله الحرام، واليهود كانوا يتوجَّهون إلى بيت المَقدِس، والنَّصارى إلى المَشرِق، فبدأت الأحاديث في المدينة حول هذا الأمر، أي لماذا تَرَكَ قِبلتَنا وذهب إلى قِبلتِه؟ لماذا فَعَل ذلك؟ قِبلتُنا أفضل، التَّوجُّه إلى هنا أم إلى هنا؟ فأراد الله تعالى أن يَرُدَّ عليهم ويُبَيِّن لهم حقيقة الدِّين، فقال: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ) أي جهة المَشرِق أو المَغرِب.
الإسلام فيه أمور جَوهريَّة، لا أقول: الدِّين فيه قُشور، بل كلُّه لُب، لكن يوجد كُلِّيات ويوجد جُزئيات أصَحُّ تعبيراً حتى لا نقول: لُب و قشور، الدِّين كُلّ مُتكامِل، لكن هناك كُلِّيَّات وهناك جُزئِيَّات؛ تفاصيل.
الإنسان من غير أن يشعر عندما يترك الأمور الجوهرية في الدِّين يتَّجِه إلى مناقشة التَّفصيلات لِيُرضِيَ نفسه، ويُشعِرَ نفسه بأنه مُتَدَيِّن، فمثلاً تجد إنساناً يُناقِشُك في طول ثوبه، هل يجوز أن يَطول الثوب أم لا؟ ثم تكتشف مثلاً أنه قد أَكَلَ مال أخواته البنات، أنت تُناقِش في قَضِيَّة هي من الديِّن لا نقول: لا، وهي قَضِيَّة فِقهِيَّة موجودة في كتاب الفقه، لكن المصيبة الكبرى عندك أنك تأكل أموال يتامى أو أموال أخواتك البنات، استَولَيت على الميراث، فلا تُغَطِّ مُصيبتك في المال بقَضِيَّة مُتَعَلِّقة بطهارة البَدَن، أو الثَّوب، أو طول الثَّوب، أو كذا، هذا من البُعد عن الحق.
تَجد امرأة مُتَفَلِّتَة من كل مَنهَج، لا تُقيم شرع الله، ولا تُرَبّي أولادها، ولا كذا، ثم تناقش تقول: أنا وجدتُّ ورقة كيف أتلِفُها لأنه مكتوب عليها اسم الله عز وجل، هذا شيء جيد، وهذا تعظيم شعائر الله، لكن الاهتمام بالأمور البسيطة وترك الأمور الكبرى في الدِّين هذا دليل أن الإنسان يريد أن يتَمَلَّص من واجباته، فجاء الرَّد الإلهي في هذه الآية.

القِبلَة القَصد فيها الجهة وليس عين الكعبة:
حتى اليوم في بلاد الغرب هناك معارك تُدار من أجل القِبلَة، مع أن القِبلَة القَصد فيها الجهة وليس عين الكعبة، (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي جهته، فالموضوع لا يحتاج إلى سَمت وبوصلات وأنت قِبلَتك صحيحة وأنت خطأ لأنك انحَرَفتَ عن البوصلة وكذا.
عندما ابتعد المسلمون عن دِينهم غَرِقوا في التَّفصيلات حتى يُغَطُّوا تَركَهُم الأساسيات، هذه مشكلة، فجاء الإسلام هنا، وجاء القرآن الكريم لِيُبَيِّن للناس ضرورة الاهتمام دائماً بحقيقة البِر وليس بالشَّكلِيَّات المُتَعَلِّقة بالبِر، فقال: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي انتهى الأمر، الله أمَرَكَ إلى بيت الله الحرام، انتهى الأمر، الله عز وجل قال:

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
[ سورة البقرة ]

لكن الله اختار بيته الحرام كتعبير رمزي عن صِلَتِنا بهذا البيت الحرام فانتهى الأمر، وأصبح استقبال القِبلَة شرطاً لِصِحَّةِ الصلاة وانتهى الأمر.

المنطلقات النظرية التي ينبغي أن ننطلق منها في كل سلوك:
لكن الآن عودوا إلى البِر الحقيقي وانتبهوا لما سأقوله لكم، قال: (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ) الآن انتبه، (لَٰكِنَّ): استدراك أي الآن انتبه ماذا سأقول لك. (وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ) الآن بدأ بالنَّاحية العقدية، التَّصَوُّر، الأيديولوجيا، الإيمان، العقيدة.
العطاء ينبغي أن يصدر عن عقيدة صحيحة
(وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) هذه أركان الإيمان، هذا الجانب العَقَدي قبل العطاء، لأن العطاء ينبغي أن يصدر عن عقيدة صحيحة، إذا لم يكن هناك عقيدة صحيحة يُصبِح العطاء لِكَسب وِدّ الناس، للشُّهرة في الأرض، ليقول الناس: فُلان مُنفِق وقد قيل، وربنا عز وجل كريم، أي حتى الذي يُعطي في الدنيا من غير عقيدة صحيحة يُكافِئُه في الدنيا، فَيُحصِّل الشُّهرة، ويُصبِح له مكانة في المجتمع، ويُشار له بالبَنان، لكن إن لم يكن عنده إيمان بالآخرة:

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
[ سورة البقرة ]

لأنه لم يعمل في الأصل للآخرة، لكن كَرَم ربنا عز وجل أن أي إنسان يُحسِن في الدنيا يأخذ ثوابه، وإن كان للآخرة يأخذ ثوابه في الدنيا والآخرة.
فينطَلِق البِر هنا من قَضيَّة التَّصَوُّر، لأن التَّصَوُّر هو الذي يدفَعُك للعطاء الصحيح، التَّصَوُّر، فبدأ بالعقيدة (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) إذا دقَّقنا في هذه الخمسة، إذا نظرنا بإمعان في هذه الخمسة مُعظمُها غَيْب، (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) غَيْب، الله تعالى كل شيءٍ يدل عليه، كل شيء في الوجود، وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدُلُّ على أنه واحد، كل شيء يدل على وجوده، لكن هو غَيْب، أي غاب عن أنظارنا، قال:

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
[ سورة الأعراف ]

لما طَلَبَ إبراهيم: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَنْ تَرَانِي)، وبنو إسرائيل لما قالوا:

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ
[ سورة النساء ]

أنت لا ينبغي أن تطلب الرؤية، أنت مؤمن بالغَيْب، أنت رأسمالك إيمانك بالغَيْب، يوم القيامة تنظر إلى وجهه الكريم، لكن في الدنيا لا.
فهذه الأركان الخمس فيها غَيْب، الإيمان بالله، باليوم الآخر، بالملائكة، الكتاب والنبيين، جزء شهادة وجزء غَيْب، لأن الكتاب أصبح شهادةً بين أيدينا، لكن ما يُخبِرُنا به غَيْب.
النَّبَيون: بعهد النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً كان شهادة مئة بالمئة، الآن يوجد أشياء على الخَبَر، كان هناك النبي عيسى والنبي موسى، وهذه أخبار، لكن أخبار صادقة مئة بالمئة فهي من الغَيْب بشكل أو بآخر.
قَضِيَّة الإيمان مُتَعَلِّقَة بالغَيْب
فَقَضِيَّة الإيمان مُتَعَلِّقَة بالغَيْب بشكل رئيس لأنه لو كانت مُتَعَلِّقَة بالشُّهود لا تُسَمَّى إيماناً، إذا قال أحدهم: أنا مُؤمن مئة بالمئة أننا الآن نجلس في جلسة في هذا البيت، مُؤمن تماماً، ماذا نفعل معك؟ هل تُحِبُّ أن نُكافِئُك على إيمانك؟ نحن جالسون في هذه الجلسة، فإذا قال: أنا مُؤمن مئة بالمئة أن هذه طاولة، هذه واضحة لا تحتاج إلى إيمان.
فكرة الإيمان أن هناك شيئاً لا تُدرِكُه ببصرك لكنك تُؤمن به، وتَصِل إليه قبل أن تِصِل إليه، أي تِصِل إليه بفكرك قبل أن تَصِل إليه بجسدك، الآن كلنا سَنصِل إلى الجنة إن شاء الله، والبعيدون عن الله سَيصِلون إلى النار نسأل الله السلامة، لكن نحن وصلنا إلى الجنة والنار الآن قبل أن نَصِل إليها بجسدنا، وصلنا إليها إيماناً وتحقيقاً، لذلك قبل قليل كنا نُصَلِّي، لماذا كنا نُصَلِّي؟ لأننا وصلنا إلى الجنة والنار، فنخاف من الله عز وجل، فَأَدَّيْنا ما افترَض. الآن بعد قليل إذا عُرِض على أحدنا مال من حرام يركُله بَقَدَمِه، لأنه وصل إلى الجنة والنار، قبل أن يصل إليها بجسده، ولكنه وصَلَ إليها بعقله، وبإخبار الله له، فَكَّر من خلال الإخبار أن هناك جنة وناراُ، فالتَزَم بالمنهج.
فالإيمان غَيْب، فكرة الإيمان مُنطَلِقَة من الغَيْب، (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)، هذه كُلها غَيْبيات، المؤمن يعتقد يقيناً ليس شَكَّاً ولا وَهمَاً ولا ظَنَّاً ولا غَلَبَة الظَّن، يعتقد يقيناً بأن الله موجود وواحد وكامل وبأن هناك يوماً سَتُسَوَّى فيه الحسابات وسنقف بين يدي الله:

وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
[ سورة الصافات ]

وبأن هناك ملائكة قد وَكَّلَهُم الله بِمُهِمَّات، وبأن هناك أنبياء قد أرسلَهُم الله.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
[ سورة غافر ]

وبأن هناك كُتُباً أنزلها الله تعالى، منها الإنجيل والزَّبور والتَّوراة وكتابنا المُصَدِّق لِمَا بين يديه والمُهَيمن عليه، فنحن نؤمن، هذه مُنطَلَقاتُنا النَّظريَّة إن صَحَّ التعبير التي ننطَلِق منها في كل سلوك.

الإيمان هو الأساس الذي يبنى عليه ما بعده:
الآن كل سلوك سوف ينطلق من هذا الإيمان لذلك بدأ بالإيمان، كيف تستطيع أن تقول لإنسان: أنفِق لوجه الله وهو لم يؤمن بالله أصلاً؟ السلسلة مقطوعة.
كيف تقول لإنسان: إن القرآن نَزَل به الروح الأمين وهو لا يؤمن بوجود الملائكة أصلاً والله يقول: هناك مَلَك أنزَل القرآن على قَلبِ النبي صلى الله عليه وسلم؟ كيف تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو لم يؤمن أصلاً بوجود الأنبياء؟ وهكذا، فقَضِيَّة الإيمان هي الأساس أي هي القاعدة، هي التعليم الأساسي الذي لا بد منه لِيُبنى عليه ما بعده.
(مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) طبعاً في الحديث الشريف القضاء والقدر أيضاً، وهو مُتَفَرِّع عن الإيمان، لأن القضاء هو قضاء الله تعالى.

ارتباط ارتقاء الإنسان بإنفاقه ما يحب:
النَّقْد جزء من المال
البِر الجزء الأول الإيمان، الجزء الثاني قال: (وَآتَى الْمَالَ) بدأنا الآن بالحركة، الحركة التي فيها خدمة للآخرين، لأن البِر له علاقة بالإحسان، بالعطاء، بالخير، فبدأنا الآن بالنقطة الثانية: (وَآتَى الْمَالَ) المال هو كل مُتَمَوَّل، النَّقْد جزء من المال، النَّقد جزء من المال، لكن صرنا نطلق الجزء على الكل فنقول: هذا مال، الأوراق النقدية، لكن البيت مال، المعمل مال، المال هو كل شيء له قيمة فهو مال، مُتَمَوَّل أي يُبَاع ويُشترَى، مثلاً في ديننا الخمر ليس مالاً، إنسان يملك عشر زجاجات من الخمر والعياذ بالله لا تُسَمَّى مالاً شرعاً لأنها نَجِسَة، غير مُتَمَوَّلة، عُرفَاً تُسَمَّى مالاً، يَبيعُها ويَستَلِم ثمنها، ولكن شرعاً الخمر لا تسَمَّى مالاً، لأنها نَجِسَة تُهرَاق، إذا تاب الإنسان يقول لك: أبيعها؟ لا، لا تبعها، تُتلِفُها وعلى القمامة، ولو لإنسان يَستَحِلُّها، الآن تُبتَ إلى الله هذا لم يعد مالاً، كل شيء نَجِس ليس بمال، كل شيء نَجِس نَجَاسَة حُكمِيَّة أو حقيقيَّة ليس بمال، الخنزير ليس مالاً شرعاً.
المال مُتَقَوَّم أي له قيمة شرعيَّة، المال يستمِدَّ قيمته من الشريعة، فالذي لا يُسَمّيه الشَّرع مالاً ليس مالاً.
فهو (آتَى الْمَالَ) أي آتى من ماله سواء النَّقد، أو الكِساء، أو الدواء، أو الغذاء، كل ما له قيمة شرعاً فهو مال.
(عَلَىٰ حُبِّهِ) على حُبِّ من؟ على حُبِّ المال؟ ممكن. ربنا عز وجل هنا أطلَقَ الكلام حتى نفهم كل المعاني، (عَلَىٰ حُبِّهِ) على حُبِّ المال؟ ممكن، أي هو يُحِبُّ المال ورغم ذلك آتاه، أنفقه، والإنسان لا يرقى إلا إذا أنفَقَ مما يُحِب.

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
[ سورة آل عمران ]

لو عنده شيء تالِف ولا يريده يقول لك: تَصَدَّقتُ به، لن تنال البِر، البِر يحتاج أن تنفق شيئاً تُحِبُّه، (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) على حُبِّ المال، ممكن على حُبِّ الإيتاء؟ ممكن، (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) وهو يُحبُّ العطاء.
المؤمن ينبغي أن يُحبَّ العطاء
كثير من الناس يقول لك: أنا أسعَد ما أكون عندما أُعطي المال وأضعه في مكانه وأرى أثره، أرى الفقير اليوم التالي يخرج من بيته وقد ألبس أولاده لباساً جميلاً، يدخل إلى قلبي من السرور أضعاف ما لو أنفقتُ المال على نفسي، لأنني رأيتُ أثر عملي، فهذا(آتَى الْمَالَ) وهو يُحِبُّ إيتاء المال، على حُبِّ الإيتاء، فالمؤمن ينبغي أن يُحبَّ العطاء.
(آتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) على حُبِّ الله، صحيح، لماذا دفع المال؟ لأنه يُحِبُّ الله تعالى، والحُبُّ إنفاق، وكانوا يقولون: الحب بلا إنفاقٍ نِفاق، فلمَّا يُحِبُّ الله تعالى والله تعالى قال له: ادفَع، فدَفَع لأنه يُحِبُّ الله، ويرجو ثواب الله. إذاً (آتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) على حُبِّ المال ورغم حُبِّه له دفَعَهُ، قال صلى الله عليه وسلم:

{ جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وتَأْمُلُ الغِنَى، ولَا تُمْهِلُ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، ولِفُلَانٍ كَذَا وقدْ كانَ لِفُلَانٍ }

[ البخاري ]

أي أنت تُحِبُّ المال، ربما تشعر أنك تحتاجه والوقت صعب، وربما في المستقبل لا يوجد عمل، ينبغي أن أجمع أكثر، ودفعته، (آتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ).
(وآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ) الإيتاء، يُحِبُّ العطاء، وآتى المال على حُبِّ الله، على حُبِّه، على حُبِّ الله تعالى، لأنه يُحِبُّ الله دفع ماله لِيُبِرهِنَ على مَحَبَّتِه لله.

الأصناف التي يدفع لها المال:
1 ـ ذوو القربى:
الآن دَفَعَ المال لِمَن؟ الآن أعطاك أصنافاً مُهِمَّة جداً وترتيبها مُهِم جداً. بدأ بـ (ذَوِي الْقُرْبَىٰ)، (وآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ) الأقربون أولى بالمَعروف، والإنسان لا ينبغي أن يُخرِج زكاة ماله ولا صَدَقاتِه، قبل أن يَتَفَقَّدَ أقرباءه، لأننا إذا تكافلنا بأن كل غني تَكَفَّل عائلته وأسرته انتهينا، بَقِيَ اثنان أو ثلاثة بالمئة بالمجتمع كله الذين ليس لهم أقرباء، تُغَطِّيهم الزكاة ونقطة انتهى.
لو كل إنسان تَفَقَّدَ أهله و أقرباءه و أسرته وعائلته، فينبغي للإنسان إذا أراد أن يؤتي المال إن كان لديه زكاة أو صَدَقات، أن يبدأ بالأقارب، ثم الأبعد فالأبعد، الدائرة القريبة أولاً، طبعاً المُلزَم بالنَّفَقَة عليهم، هذه لا بد منها، لكن انتقل ؛ أخي، أختي، أصهاري - أزواج أختي - زوج ابنتي ممكن، إذا زوجها فقير لا يوجد مانع، حتى يمكن أن أُعطيه من الزكاة على بعض أقوال أهل العلم، لأن الزكاة هنا ليست للبنت بل للصِّهِر، لأنه هو مُلزَم بالنَّفَقَة، انتقلتُ من الأصهار لأوسع، الأخوال، الأعمام، أولادهم، أنا أُوَسِّعُ الدائرة فهذه: (ذَوِي الْقُرْبَىٰ).

2 ـ اليتامى:
(وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ) اليتامى قَدَّمَهُم لأنهم فقدوا مع المال المُعين، المسكين الفقير ربما والده يعمل فَيُمِدّه بشيء أما اليتيم فقدْ فَقَدَ والده وهو دون سِن الحُلُم، لا يُتم بعد الحُلُم، اليُتم قبل الحُلُم، فاليتيم يحتاج إلى النَّفَقَة أكثر من غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ كافِلُ اليَتِيمِ له، أوْ لِغَيْرِهِ أنا وهو كَهاتَيْنِ في الجَنَّةِ وأَشارَ مالِكٌ بالسَّبَّابَةِ والْوُسْطَى }

[ صحيح مسلم ]

رفيق في الجنة للنبي صلى الله عليه وسلم، إما أن تُؤتِيَ المال لليتيم فوراً أو لِوّصِيِّه، إذا كان اليتيم صغيراً ممكن للوَصي إذا كان هناك وَصِي مُعَيَّن تُعِينُه، هذا لفُلان، أنت واثق منه أعطيته.

3 ـ المساكين:
(وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ) هنا لم يذكر الفقراء، في آية الزكاة قال:

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
[ سورة التوبة ]

هنا قال المساكين. الفقراء والمساكين قال أهل العلم: هاتان الكلمتان إذا اجتَمَعَتا تَفَرَّقَتَا وإذا تَفَرَّقَتَا اجتَمَعَتَا.
الفرق بين الفقير والمِسكين
كيف؟ إذا اجتَمَعَتا أي قال: فقراء ومساكين، نُمَيِّز، الفقير شيء والمسكين شيء، أما إذا ذَكَر المسكين فهو يشمل الفقير، وإذا ذكر الفقير فالمسكين معه، لكن إذا ذَكَرَهُما معاً نريد أن ننظر للفروق بينهما، ما الفرق بين الفقير والمِسكين؟ أرجح الأقوال الفقير لا شيء له، المِسكين له شيء لا يكفيه. لأن المِسكين جاءت من سَكَنَ، من السُّكون، فهو عنده شيء لكنه لا يستطيع القيام بتحصيل شيء، سَكَن، مِسكين، من المَسكَنَة، تقول لي: فُلان لا يوجد عنده شيء: فقير، فُلان عنده لكن للعاشر من الشهر انتهى الراتب و أولاده لا يجدون ما يحتاجونه، هذا مسكين.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
[ سورة الكهف ]

فعندنا فقراء وعندنا مساكين، هنا ذَكَر المِسكين فهو يشمل من باب أولى الفقير، أي إذا كنت تُؤتي المال للمِسكين فمن باب أولى لمن لا شيء له أن تُؤتِيَه.

4 ـ ابن السبيل:
(وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) السبيل هو الطريق، (وَابْنَ السَّبِيلِ) نُسِبَ إلى الطريق، لأنك تقول: أنا ابن دمشق، أنا ابن عمان، والذي في الطريق لا من دمشق ولا من عمان وانقَطَعَت السُّبُل به، صار ابن السَّبيل، فنَسَبَه إلى المكان الذي هو فيه، أي ابن الطريق الذي انقَطَع، فهذا قد يكون له مال، قد يكون في بلده تاجراً كبيراً لكن لَمَحَ الشَّرع هذا المَلمَح، هو في بلده تاجر:

{ وارحموا عزيز قومٍ ذَل }

[ابن الجوزي ]

لكن الآن لسبب أو لآخر يقول لك: أنا انقَطَعتُ ليس معي ما أصِل به إلى بلدي، وعند وصولي سأُرسِلُ لك، هذا ابن السَّبيل يُعطَى من المال على حُبِّه.

5 ـ السائلين:
(وَالسَّائِلِينَ) جاء يسألك، عندي مشكلة، عندي عمل جراحي، ابني مريض، ابني يحتاج إلى تكاليف لإتمام دراسته، هو يسأل.
الآن هل كل سائل يُعطَى؟ أي كل سائل يعطى من غير تَحَقُّق؟ بالتأكيد لا. ليس هذا من مقاصِد الشريعة، ليس من مقاصِد الشريعة أن أكون على إشارة المرور ويقال لك: هذا من السائلين ينبغي أن أُعطِيَه، ممنوع حرام إن لم أُعطِه، لا، إذا كان شاباً ويسأل و يوجد عصابة تقف خلفه وتنتظر المال، هذا ليس سائلاً، هذا صار مُحتالاً، والمُحتال لم يقل الله: أعط المُحتال.
إذاً المقصود بالسِّائِل هو السَّائِل المُحتاج من باب البَيان الذي لا يحتاج إلى بيان، السَّائِل هو الذي يحتاج المال، لأن النبي صلى الله وعليه وسلم في أحاديث أخرى أيضاً ذمَّ المَسْأَلَة، قال:

{ هذا خيرٌ لك أن تجيء المَسألة نكتة في وجهِك يوم القيامة، إن المسألة لا تَصلُح إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدقِع، أو لذي غُرمٍ مفُظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع }

[ سنن أبي داود ]

{ لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً علَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ له مِن أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ }

[ صحيح البخاري ]

أي عليه أموال ولا يستطيع أداءها، فذهب وقال لك: ديون رَكِبَتني، أو لذي فَقرٍ مُدقِع أي وَصَلَ لمرحلة لا يجد ما يأكل أولاده، هذه المسألة، أما الإنسان يكون معه ويستطيع أن يعمل ويسأل الناس، فهذا مَذمُوم.
إذاً: (وَالسَّائِلِينَ) هم الذين يسألون ويستَحِقُّون المال، فإذا سألك الناس تَحَقَّق قبل أن تُعطِيَه.

6 ـ في الرقاب:
(وَفِي الرِّقَابِ) الرِّقاب جمع رَقَبَة، والرقبة تعني الإنسان، لكن يُكَنَّى بَرَقَبَتِه لأن الإنسان إذا أمسكتَه من رقَبَتِه فقد تَحَكَّمتَ به، فكأن الرَّقَبَة هي الإنسان، فالله تعالى يقول:

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
[ سورة البلد ]

حَلُّ المشكلة كان لا بد أن يأتي بالتَّدَرُّج
فهل جاء الإسلام إذاً لِيُعَبِّدَ الناس لغير الله أم لِيُعتِقَ العبيد ويُوجِّهَهُم لعبادة الله؟ ما دام في كل الآيات يجعل الصَدَقات في الرِّقاب، إذا الهدف أن تدفع الزكاة لتحرير الناس من العُبودِيَّة، فمن يتَّهِم الإسلام بأنه أنشأ نظام العبودية فهذا لم يقرأ شيئاً، العبودية نظام قائم، جاء الإسلام فألغاها من خلال توسيع المَخارِج، وتضييق المَداخِل، حتى ألغاه بسنوات قليلة دون أن يُحدِث مشكلة اجتماعية، فجاء الإسلام وأمَرَ كما أَمَرَ بالخَمر، بعد التَّدَرُّج، لكن في النهاية قال لهم: (فاجتنبوه)، فأراقوا كل ما في آنِيَتِهم من خَمِر، حتى المدينة صارت تجري بها أنهار كما وصفوا بالخمر، أراقوا كل شيء، فلو جاء الإسلام وقال: حرِّروا العبيد الآن، إذاً سنُنشِئ مشكلة مباشرةً في المجتمع المسلم، اسمها: مشكلة العبيد، الذين كانوا يعيشون عند أشخاص يَتكَفَّلون بهم، وفجأةً أصبحوا في الشوارع، إذا لم يكن هناك تربية إيمانية أصبحوا قُطَّاع طُرُق وسارقين، فَحَلُّ المشكلة كان لا بد أن يأتي بالتَّدَرُّج، فالإسلام ضَيَّقَ المَداخِل، مَنَعَ أن تُدخِل أفراداً إلا بالحرب، لم يعد بالإمكان، ووسَّع المَخارِج، وأمر بالإحسان للعبيد الموجودين، يجب أن تُحسِنَ لهم:

{ هُم إخوانُكم خَوَلُكم، جَعَلَهم اللهُ تحت أيْديكم، فمَن كان أخُوه تحت يَدِه فلْيُطعِمْه ممَّا يَأكُلُ، ويُلبِسْه ممَّا يَلبَسُ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإنْ كَلَّفتُموهم فأعينُوهم، ومَن لم يُلائِمْكم منهم فبِيعوهم، ولا تُعذِّبوا خَلْقَ اللهِ }

[ البخاري ]

{ لا يَقُلْ أحَدُكُمْ: أطْعِمْ رَبَّكَ، وضِّئْ رَبَّكَ، اسْقِ رَبَّكَ، ولْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلايَ، ولا يَقُلْ أحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، ولْيَقُلْ: فَتايَ، وفَتاتي، وغُلامِي }

[ البخاري ]

حتى الاسم ألغاه النبي صلى عليه وسلم، ووسَّعَ المَخارِج، كل ما يفعل الإنسان شيئاً يعْتِق رَقَبَة، وفي الرِّقاب، فَكُّ رَقَبَة، تريد أن تَقتَحِم العَقَبَة فَكُّ رَقَبَة، فالإسلام جاء للقضاء على هذا النظام الذي كان قائماً في الجاهلية وقضى عليه فعلاً، لكن الآن عُدنا إليه نسأل الله السلامة لكن ليس على مستوى استعباد الأفراد وإنما على مستوى استعباد الشعوب، نسأل الله السلامة.
هذا الجانب الإيتاء،(وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ).

7 ـ من أقام الصلاة وآتى الزكاة:
الآن قال: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) وقبل ذللك: (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ)، هذه الآية دليل الفقهاء وتُروى في الأثر: (في المال حقٌ سوى الزكاة).
بدأ بناحية العطاء المُطلَق ثم قال لك: هناك زكاة، إذاً الإنسان الغني لا يكتفي بالزكاة 2,5بالمئة، هو لو اكتفى بَرِئ من الشُّح، وإن شاء الله بَرِئت ذِمَّتُه، لكن الأصل في المؤمن أن العطاء هو سياسته، والزكاة هي جزء من العطاء، لذلك كَرَّرَها هنا للتأكيد على الفريضة، الأول هو: مُطلَق العطاء (وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّه)، ثم قال: (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ)، قلنا سابقاً إن أكثر رُكنين من أركان الإيمان تَكَرَّرا مُتلازِمَين: الإيمان بالله واليوم الآخر، وأكثر فَريضَتَيْن من أركان الإسلام تَكَرَّرَتا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن إقام الصلاة هو الحركة العموديَّة نحو الخالِق بالصِّلَة، وإيتاء الزَّكاة هي الحركة الأُفُقِيَّة نحو المخلوق بالعطاء.

8 ـ الموفون بعهدهم:
(وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) هذا من البِرّ، إن عاهَدْت الله على الطاعة أوف بعهدك، عاهَدْتَ أخاك على أن تُعطِيَه دَيْنَه بعد أشهر وأنت قادر أوف بعهدك، (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) هذا من البِر.

9 ـ الصابرون:
الصبر مَلَاك الدِّين
(وَالصَّابِرِينَ) باللغة العربية ينبغي والصَّابرون، والموفون والصَّابرون، اسم معطوف مرفوع، الموفون مرفوع ينبغي والصَّابرون، لماذا قال: والصَّابرين؟ في اللغة إذا أردتَ أن تلفِتَ الأنظار إلى شيءٍ مُعَيَّن تُغَيِّر حركة الإعراب، وتَنصِبُه بفعل محذوف أي كأن الله تعالى قال: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، انتهينا، الآن وأَخُصُّ الصَّابرين، أي هؤلاء لديهم مَيَّزَة خاصة جداً بالبِر. لأن الصَّبر هو مَلَاك كل ما مضى، لأن الذي ليس عنده صبر لن يُؤمِن أصلاً باليوم الآخر، ولا يُؤمِن بالله.
لمَّا قالوا:

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
[ سورة النساء ]

بنو إسرائيل، لماذا؟ لم يصبروا. أنت ستراه، هو يريد أن يراه الآن، غداً.

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
[ سورة المائدة ]

فالصبر مَلَاك الدِّين، الدِّين كُلُّه صَبر، فلذلك عَدَلَ عن الرَّفع إلى النَّصب وكأن هناك فِعلاً مقُدَّرَاً يُسَمُّونَه: مَنصوب على الاختصاص، وأَخُصُّ الصَّابرين، بحث طويل، وأَخُصُّ الصَّابرين أي أَخُصُّهُم بالذِّكر لأن الأساس في كل ما مضى هو الصَّبر، أن تَصبِر، ولن تعرف حتى تَصبِر، لن تستطيع أن تَعرِف الحقائق إلا إذا صَبَرت، فلذلك دفع المال، إيتاء المال يحتاج إلى صَبِر، لأنك تَصبِر على طاعة الله، وإذا كنت تريد أن تَكُفَّ عن معصية تحتاج إلى صَبِر لأنك تَصبِر عن معصية الله، وإذا كنت تريد أن تؤمن تحتاج إلى صبر على هذا المَجلِس، ما هو هذا المَجلِس؟ مَجلِس إيمان، ويحتاج إلى صَبِر، يحتاج إلى صَبِر، نصف ساعة جلوس، استماع، والإنسان الاستماع لديه ليس بالشيء اليسير، مثل الكلام أو متابعة شيء على الشاشة.
إذاً الإيمان يحتاج إلى صبر والإيتاء يحتاج إلى صبر، والصلاة:

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (132)
[ سورة طه ]

القيام للصلاة والرُكوع والسجود يحتاجان إلى صَبِر. فلذلك خَصَّ الصَّبر ونَصَبَه لبيان أنه مُتَمَيِّز عما سَبَق لأنه الأساس في ذلك كله، قال: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) البأساء الفقر، نقص المال، نقص الأموال، نقص الأنفُس، الفقر. والضَّراء: الضَّرَر بالجسم، المرض.
(وَحِينَ الْبَأْسِ) الحرب، (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ).
متى يكون الإنسان أشد ما يكون بحاجة إلى الصَّبر؟ إذا فَقَدَ شيئاً من ماله، المال شقيق الرُّوح كما يقول العَوام، وهو كذلك، أو إذا مَسَّهُ الضُّر في بَدَنِه، مرض، أو إذا كان في أرض المعركة مع العدو:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
[ سورة آل عمران ]


الصادقون هم من جاءت حركتهم في الحياة مُطابِقَة لمعتقداتهم:
(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ) الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأوفوا بِعُهودِهم وصبروا (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ) ما هو الصِّدق؟ هو أن يأتي الكلام مُطاِبقاً للواقع، إذا قلتُ لك الآن: هذا اللون أخضر، هذا صِدق، إذا قلتُ لك: هذا أحمر، هذا كذب، لأن الكلام لم يأت مُطابِقاً للواقع، أن تأتي النسبة الكَلامِيَّة مُطابِقة للواقع، الآن هؤلاء لماذا صَدَقوا؟ لأنهم تَرجَموا إيمانهم على أرض الواقع فهو صادق، أما إذا إنسان قال لك: أنا مؤمن بالله عز وجل وباليوم الآخر، وذهب وظَلَمَ الناس، هل هو من الذين صَدَقوا؟ كيف تُؤمِن باليوم الآخر وتظلم الناس وستقِف بين يدي الله؟ فأولئك الذين صدقوا لأنهم جاءت حركتهم في الحياة مُطابِقَةً لمعتقداتهم.

اتقاء الله خشية عذابه:
(وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الذين اتقوا شيئاً يكرهونه هو النار. ما معنى التَّقوى؟ أن تَتَّقي شيئاً تكرهه.
(أبو هريرة رضي الله عنه سُئلَ: ما التقوى؟ قال: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: ماذا صَنَعَت؟ قال: كنتُ إذا وَصَلتُ ابتَعَدَّتُ عنه أو جَاوزتَهُ، فقال: ذلك التَّقوى).
يوجد شيء تكرهه تبتعد عنه، ما الذي نكرهه؟ النار، فينبغي أن نَتَّقيهَا بالبِرّ والإحسان.
آخر شيء: لماذا نقول: اتقى الله؟ اتقى الله واتقى النار، كيف ذلك؟ هل النار تفعل فعلها بذاتها أم لها خالق؟ فأنت عندما تتقي الله تتقي ناره، أو نقول: اتقى النار، إما أن نقول: اتقى النار بما هو المُسَبَّب الذي هو النتيجة، أو نقول: اتقى الله لأن الله تعالى له عذاب شديد، فيَتَّقي الله تعالى خشيَة عَذابه، يكره عذابه فيَتَّقيه، أو يتَّقي النار فوراً، فقال: (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).
والحمد لله رب العالمين