وليال عشر

  • الدرس الأول من تفسير سورة الفجر
  • 2021-07-12

وليال عشر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

سورة الفجر أربعة مقاطع:
في كتاب الله تعالى سورة من الجزء الثلاثين وهي سورة مكية، والجزء الثلاثون سوره مكية، نزلت قبل الهجرة، ومعظم القرآن المكي يتحدث عن الآيات الكونية، وعن البعث يوم القيامة، سورة الفجر أربعة مقاطع، المقطع الأول مقطع القسم.

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
[ سورة الفجر]

المقطع الثاني يتحدث عن الأمم الغابرة التي مضت، والتي أذاقها الله العذاب بسبب كفرها بنعم الله.

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
[ سورة الفجر]

المقطع الثالث يتحدث عن الابتلاءات التي تصيب الإنسان في الدنيا، وما هذه الابتلاءات؟

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
[ سورة الفجر]

المقطع الأخير يتحدث عن مشهد من مشاهد يوم القيامة:

وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
[ سورة الفجر]


الإنسان المؤمن لا ينبغي أن يحلف بغير الله:
نبدأ بالمقطع الأول ؛ المقطع الأول القسم بالآيات الكونية قال تعالى: (وَالْفَجْرِ) الفجر وقت الفجر.

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)
[ سورة الإسراء]

الفجر هو وقت الصبح
الفجر هو وقت الصباح عندما يطلع الفجر، ويأذن الله بميلاد فجر يوم جديد، هذا وقت الفجر وقال العلماء: الفجر؛ هو يوم النحر، أي مخصوص بيوم النحر أول أيام عيد الأضحى، فأقسم الله به، هذا قول لبعض أهل العلم، لكن الظاهر أنه على إطلاقه فهو آية من آيات الله، الإنسان المؤمن لا ينبغي له أن يقسم إلا بالله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن سعد بن عبيدة: أن ابن عمر سمعَ رجُلاً يقول: لا والكعبة، فقال له: لا تَحْلِفْ بغير الله فإِني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: مَن حلفَ بغير الله فقد كَفَرَ أو أشرك }

[أخرجه الترمذي]

{ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه. فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو لِيَصْمُتْ }

[ متفق عليه]

فالإنسان المؤمن لا ينبغي أن يحلف بغير الله، لأنه لا يعظم عنده إلا الله، لكن الله تعالى له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وقسمه بما شاء من مخلوقاته ليلفت نظرنا إلى هذا الشيء، فإذا قال تعالى:

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
[ سورة الشمس]

أي انظروا إلى الشمس، وإذا قال: (وَالْفَجْرِ) أي تفكروا في آية الفجر، وإذا قال: (وَاللَّيْلِ) أي تفكروا في آيات الليل وهكذا.

الفجر آية من آيات الله:
( وَالْفَجْرِ) أي انظروا إلى هذه الآيات، أين الليل إذا ذهب النهار؟ وأين النهار إذا ذهب الليل؟ الفجر آية من آيات الله.
كلما تقدم العلم كشف عن جوانب مهمة في هذا القسم العظيم، (وَالْفَجْرِ) تعاقب الليل والنهار مبني على دوران الأرض حول الشمس، مبني على دوران الأرض حول نفسها، مبني على أنها كروية، فلو لم تكن كروية لما تداخل الليل مع النهار بالحالة الموجودة وهكذا.
هذه ( وَالْفَجْرِ ) إشارة إلى وقت الفجر، وإلى آية الفجر تحديداً، وأقصد الآية الكونية التي ينبغي أن ننظر فيها، ونتمعن فيها ( وَالْفَجْرِ ).

أيام العشر من ذي الحجة أفضل الأيام على الإطلاق:
الآن قال: ( وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) الليالي العشر معظم المفسرين ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما وهو حبر الأمة، وترجمان القرآن، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم:

{ اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين، واجعله من أهل الإيمان }

[أخرجه الحاكم]

ابن عباس رضي الله عنهما، يقول: ( وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) هي ليال العشر من ذي الحجة، العشر من ذي الحجة، هذه الليالي التي نعيش أجواءها الآن، وهذه الليالي أيها الكرام جاء بها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما مِن أيام العملُ الصَّالِحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العَشْرِ، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجِهادُ؟ قال: ولا الجِهادُ، إلا رجل خَرجَ يُخاطِرُ بنفسه ومَاله، فلم يرجع بشيء }

[أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي]

الجهاد ذروة سنام الإسلام
الجهاد له مكانة عظيمة في نفوس الصحابة الكرام، ويعلمون أنه ذروة سنام الإسلام فاستغربوا (ولا الجِهادُ؟ قال: ولا الجِهادُ) في سبيل الله، أي العمل الصالح أفضل في هذه الأيام من الجهاد في سبيل الله فيما سواه (إلا رجل خَرجَ يُخاطِرُ بنفسه ومَاله، فلم يرجع بشيء) حالة خاصة أنه خرج فاستشهد في سبيل الله، وقدم روحه وماله، فهذا فقط الذي يفوق أجره هذه الأيام العشر، وهذا للدلالة على عظم هذه الأيام، قال أهل العلم: إنها أفضل الأيام على الإطلاق، حتى أفضل من أيام العشر من رمضان، إلا أن ليالي العشر من رمضان لها مكانة أعظم عند الله لأن فيها ليلة القدر، لكن كأيام العشر بنهارها وليلها أفضل أيام الدنيا هي تلك الأيام وأفضلها هو يوم النحر، أول أيام العيد هو يوم النحر، ثم يوم عرفة، وأيضاً يوم القر، وهو اليوم الثاني من أيام العيد، حيث يقر الحجاج في منى، فكل أيام العشر وما بعدها أيام التشريق هذه من أفضل أيام العمر، ولكن كثير من الناس يغفلون عنها رغم أن الله تعالى أقسم بها في قرآنه الكريم.
والعمل الصالح متنوع في هذه الأيام، الصيام جزء، وجزء جيد من العمل الصالح، لأن العمل الصالح واسع إخواننا الكرام سواء ما تعدى خيره إلى الآخرين، أو ما اقتصر نفعه على الإنسان، فما دام صالحاً وفق منهج الله، ويبتغي به وجه الله، كيف وفق منهج الله ويبتغي به وجه الله، لو أن إنساناً بنى مسجداً ولكنه ابتغى به أن توضع لوحة باسمه على المسجد ليمدحه الناس، ويقبلوا على تجارته لأنه بنى مسجداً في فناء معمله مثلاً فهذا العمل وفق منهج الله، لأنه بناء مسجد، لكنه ليس لله، هذا ليس عملاً صالحاً.
ولو أن إنساناً أقام حفلة ثم قال: هذه حفلة خيرية لنجمع التبرعات لأهلنا المحاصرين من كذا من بقاع الأرض، وجاء- نسأل الله السلامة - بمغنية متبرجة، وجمع التذاكر، وتبرع بها، فتقول: والله هذا العمل حرام، هو فعله لله، لكن هذا العمل ليس وفق منهج الله، لأن هذا العمل فيه إفساد للمجتمع، فهو ربما ابتغى وجه الله فيما فعل لكنه أتى بالعمل على خلاف السنة، لذلك قال:

وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
[ سورة النمل]

فينبغي حتى يرضى الله عن العمل الصالح أن يكون العمل وفق منهج الله وأن يكون خالصاً لوجه الله معاً، فهما شرطان لازمان غير كافٍ كل منهما على حدة، لابد منهما معاً.

أعظم الأعمال الصالحة في العشر من ذي الحجة:
1 ـ ذكر الله عز وجل:
أحبابنا الكرام؛ العمل الصالح في هذه الأيام متنوع، ومن أعظمه ذكر الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

{ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيام العشر فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير }

[أخرجه الطبراني]

سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وأكثروا من التكبير.
التكبير في عشر ذي الحجة سنة مؤكدة
التكبير في هذه الأيام سنة مؤكدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من غروب شمس آخر يوم من أيام ذي القعدة، أي دخول ذي الحجة من المغرب آخر يوم من ذي القعدة وحتى ثالث أيام التشريق، أي رابع أيام العيد كل هذه الأيام أيام التكبير، وكان الصحابة يكبرون في ممشاهم وأسواقهم، لكن هناك تكبيراً مقيداً وهو ما يكون بعد الصلوات الخمس، هذا يبدأ من صبح يوم عرفة، من فجر يوم عرفة يمتد إلى ثالث أيام التشريق، أي رابع أيام العيد، إلى غروب الشمس، هذا مقيد أي بعد الصلوات، سنته بعد الصلاة، لكن التكبير المطلق في كل وقت، وفي كل حال، وفي كل آن، هو في أيام العشر كلها مع أيام العيد، إلى آخر أيام العيد، حتى غروب آخر شمس من أيام التشريق، كلها أيام تكبير، وتحميد، وتهليل، وتكبير، أكثر من ذكر الله في هذه الأيام، والتهليل، والتكبير والتحميد.

2 ـ الصدقات:
من الأعمال الصالحة التي يضاعف أجرها في هذه الأيام: الصدقات.
أحبابنا الكرام ؛ المؤمن يتحرى الأوقات التي تضاعف فيها الأجور، أي كلنا ينبغي أن نكون تجاراً مع الله، في هذه الأيام أحبابنا الكرام تاجروا مع الله، لو أن إنساناً يريد أن يقدم صدقات بشهر أو شهرين الآن ينفقهم لأن الحاجة ماسة، وأحوال الناس صعبة، يخرج صدقاته في هذه الأيام حتى تضاعف له، لا سيما نحن مقبلون على العيد.

3 ـ الصيام:
ومن الأعمال الصالحة: الصيام، يستحب الصيام، واستحبه الكثير من أهل العلم في هذه الأيام، فهي عشرة أيام، العاشر يحرم صيامه، لأنه أول أيام العيد، هو يوم النحر هذا يحرم صيامه، والتاسع يسن صومه، صومه سنة مؤكدة – صوم يوم عرفة - لغير الحاج، لأن الحاج في جهد فلا ينبغي أن يصوم، فالتاسع يسن صيامه لغير الحاج، وهو سنة مؤكدة، قال صلى الله عليه وسلم:

{ عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: صيامُ يومِ عرفةَ إِني أحْتَسِبُ على الله أن يُكَفِّرَ السنة التي بعدَه والسَّنَّة التي قبلَهُ }

[أخرجه الترمذي]

الصيام في عشر ذي الحجة
وأما الأيام الثمانية الأخرى من واحد إلى ثمانية من استطاع أن يصومها كلها فقد أفلح ونجا، ومن صام بعضها فعلى العين والرأس، فالأعمال الصالحة واسعة في هذه الأيام ومنها الصيام، وقد ورد في أحاديث سنية صيام العشر، وإن كان ضعفها بعض أهل العلم، لكن صححها كثير من أهل العلم أيضاً، صيام العشر، العشر كاملة من واحد لتسعة طبعاً، لكن يقولون: العشر من باب التغليب، لأن العاشر لا يجوز صيامه، وانظروا إلى عظمة هذا الدين أنك يوم عرفة تتقرب إلى الله بالصيام، ويوم العيد تتقرب إلى الله بالفطر، ولو صمت العاشر وأفطرت التاسع فقد أخذت إثم العاشر وفوت سنة التاسع، أي عظمة الدين أنه ينظم حياتنا، عندك أوقات للصلاة، وأوقات للصيام، وأوقات للفرح، قال:

{ عن كعب بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثه و أوس بنَ الحدَثانِ أيام التشريق فناديا: إنه لا يَدْخُلُ الجنةَ إِلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشُرْب }

[أخرجه مسلم]

أنت تتعبد الله بالأكل والشرب، وذبح الأضحية، وإطعام الناس، هذه فيها عبادة، لكن بالتاسع تمسك عن الطعام والشراب، هذه هي حقيقة الدين، والاقتداء بالدين أحبابنا الكرام اقتداء بالمحصلة، أي نصوص، تأس بالسنة، هذه حقائق بين أيدينا نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمر وبما نهى.

الفرق بين الشفع والوتر:
أخواننا الكرام ؛ هذه الليالي العشر كما قلنا أيام خير وبركة إن شاء الله، ونسأل الله ألا يفوتنا أجرها.
(وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) الشفع أخواننا الكرام الصلوات الزوجية أي الظهر شفع، والفجر شفع، والعصر شفع، والعشاء شفع، المغرب وتر، الوتر ؛ وتر لأنه بواحدة، أو بثلاث، أو بخمس، أو بسبع، أو بتسع، فهي وتر.

{ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ للّهِ تِسْعَة وِتِسعِينَ اسماً، مَن حَفِظَها دَخَلَ الجَنَّةَ، واللهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ }

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي]

فالوتر هو العبادة الفردية، والشفع هو العبادة الزوجية، وسع بعض أهل العلم تفسير هذه الآية قالوا: الشفع هو كل ما خلق الله تعالى:

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
[ سورة الذاريات]

كل شيء بالحياة مبني على نظام الزوجية
فكل شيء بالحياة مبني على نظام الزوجية، ذكر وأنثى، حتى قالوا بالمخلوقات الشمس والقمر، الليل والنهار، فكله مبني على وجود نظام الزوجية، الشفع، أما الخالق فهو الوتر جلّ جلاله، فهو الفرد لا مثيل له جلّ جلاله، فهو وتر جلّ جلاله، فقالوا: الشفع هو المخلوق، والوتر هو الخالق جلّ جلاله.
لكن نأخذ القول الأول لأنه يتناغم مع الآيات، الشفع عبادة عدد ركعاتها زوجي، والوتر كل عبادة عدد ركعاتها فردي.

دخول الليل في النهار والنهار في الليل شيئاً فشيئاً:
ثم قال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) الليل أخواننا الكرام:

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
[ سورة الحج]

بالكون لا يوجد ضوء ثم فجأة يختفي الضوء ويصير الظلام، لا، بل: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) أي يدخل الليل شيئاً فشيئاً، ويدخل النهار شيئاً فشيئاً، هذا معنى يولج، وهذا مبني على أن الأرض كروية، فلو كانت بشكل آخر لما حصل دخول الليل بالنهار، ودخول النهار بالليل، فهنا قال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) أي يأتي أو يجيء شيئاً فشيئاً، ويذهب شيئاً فشيئاً.

الحكمة من تنكير قوله تعالى: وليالٍ عشر:
تناغم النهار والليل مع عبادتك وطاعتك
الآن بين الليل والفجر (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) كانت العبادة، الطاعة التي هي: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي تناغم وجود النهار والليل مع عبادتك وطاعتك لله عز وجل، أي هما ظرف العبادة، أنت تعبد الله في النهار والليل، بين الفجر والليل يتناغم الوجود معك وأنت تعبد الله عز وجل، وكأن الكون كله يسبح بحمد الله معك، مع عباداتك في الشفع والوتر والليالي العشر التي اختصها الله تعالى، والتي قدمها تقديم أهمية، ونكرها، انظر: (وَالْفَجْرِ) معرفة، دخلت عليها أل التعريف، (وَالشَّفْعِ) معرفة، (وَالْوَتْرِ) معرفة، (وَاللَّيْلِ) معرفة (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) نكرة، ما قال الليالي العشر، قال: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: نكرها ليميزها بين المعرفات لدلالة عظم شأنها عند الله، هذه الليالي (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) نكرها جلّ جلاله.

كلام الله يفهمه ذوو العقول الراجحة:
أحبابنا الكرام ؛ هذا الجزء الأول هو القسم، الآن ماذا قال تعالى؟ (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هذا استفهام تقريري، ماذا يعني استفهام تقريري؟ أنت عندك ابنك في البيت، وبذلت عليه ما بذلت بالتوجيهي حتى تعبت، ثم بعد ذلك هو أهمل دراسته، ويوم صدور النتائج أخذ خمسين أو ستين بالمئة، وجاء إلى البيت، تقول له: هذا الذي حصلته بالنهاية؟ هذا سؤال، الآن هو لا سمح الله إذا أراد أن يغيظك يقول لك: نعم هذا الذي حصلته، فتقوم بضربه، أنت تسأله، أنت توبخه، تقرر لكن بطريق الاستفهام، الآن هو يجب أن يضع عينه بالأرض ويستحي.
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي هذا الكلام فيه قسم، يفهمه ذوو العقول، إذا كان لا يملك عقلاً فهو غير مكلف، المجنون ليس مكلفاً، لكن إذا كان مكلفاً هذا الذي جاء في الآيات الأربع فيه (قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)، حجر؛ أي عقل، لماذا سمي حجراً؟ لأنه يحجر صاحبه عن الوقوع في الأغلاط والمحرمات، الحجر.

وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53)
[ سورة الفرقان]

البرزخ والحجر المحجور
بين البحرين يوجد برزخ، حاجز، والحجر المحجور أبلغ من الحاجز، اكتشف العلماء أن الأسماك التي تعيش في هذا البحر لا تدخل إلى هذا البحر، تصل إلى مكان وتعود وكأن هناك حاجزاً، مع أنه ليس هناك حاجز، تستطيع أن تعبر الماء لكنها تعود، فقال تعالى (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً) هذا برزخ لا يبغي، لا يطغى ماء بحر على ماء بحر، كل بحر له ملوحته، وكثافته، ولونه، لكن فوق البرزخ قال: (وَحِجْراً مَحْجُوراً) فامتنعت أسماك هذا البحر عن الدخول إلى هذا البحر، وأسماك هذا البحر عن الدخول إلى هذا البحر، هذا من آيات الله، فالحجر هو المنع، حجره عن كذا منعه، ويقال في الفقه: حجروا على فلان لأنه سفيه، أي منعوه من التصرف بماله لكيلا يتلفه، هذا الحجر.
( هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) أي هذا الكلام فيه قسم يفهمه ذوو العقول الراجحة، وحتى العقل من أين جاءت كلمة عقل؟ ألم يقل له: اعقلها وتوكل، عندما سأل أحدهم النبي عن الناقة: يا رسول الله أعقلها أم أتوكل؟ أي أربطها كي لا تهرب، أم أتركها وأتوكل على الله؟ قال له: اعقلها وتوكل، اربطها ثم توكل على الله، الأسباب والتوكل معاً، ما معنى اعقلها؟ أي اربطها، فالعقل أيضاً جاء من الربط والمنع، لأنه يمنع صاحبه من الخطأ، فإذا قال لك إنسان: أنا عاقل، ثم ذهب وشرب الخمر وزنا والعياذ بالله فهل هذا عقل؟ هذا ما دام متفلتاً لا يحده شيء معنى هذا أن عقله لم يأمره بالصحيح، معنى هذا يوجد نقص بالعقل، وإن كان هو بالظاهر عاقلاً ومعه شهادة، لكن ما دام العقل لم يمنعك من أن تقع فيما يهلكك، وقد يكون الهلاك عظيماً وهو هلاك الآخرة والعياذ بالله، إذاً هذا ليس عقلاً لأنه لم يمنع صاحبه من الوقع في المحرمات.
أخواننا الكرام؛ هذا الجزء الأول من السورة (وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ*وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ*وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ*هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْر).

خبر الله من شدة موثوقيته كأنك تراه:
كيفية تلقي خبر الله عز وجل
الآن جاء في المقطع الثاني: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأى بعينيه ما فعله الله بعاد؟ عاد كانت قبل رسول الله بمئات السنين، لماذا لم يقل له: ألم تسمع ما فعله ربك بعاد؟ قال: لأن خبر الله إذا جاء ينبغي أن تتلقاه وكأنك تشاهده بعينك، إذا أخبرك الله بشيء يجب أن تتلقاه وكأنك تراه بعينك، شخص جالس معك يقول لك: هل رأيت ما حدث معي؟ لا والله ما رأيت، أسمعني، قال: فخبر الله من شدة موثوقيته كأنك تراه، هذا يقين اليقين.
قال: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ) عاد الأولى قوم، التي هي إرم، جاء باسمها للتأكيد ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) كانت بيوتهم من شعر، ولها أعمدة طويلة جداً عماد ( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ) هذه عاد في وقتها لم يكن هناك مثلها أبداً، حتى إن الله تعالى في القرآن الكريم لما ذكرهم قال:

فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
[ سورة فصلت]

فأجابهم وقال: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) فما ذكرهم بمن أشد منهم قوة لأنه لم يكن في عصرهم من هو أقوى منهم، فذكرهم بقوته جلّ جلاله قال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) وأهلكهم الله:

وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
[ سورة الحاقة]

القوم الآخرون هم ثمود: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) جابوا ليست من جابوا بالعامية أي أحضروا ؛ بل هي بمعنى شقوا، نحتوا من الجبال بيوتاً، أي بداخل الجبل عملوا الأقواس، وعملوا البيوت، والذي ينزل إلى مدينة البتراء يرى كيف الأقوام كانت تجوب الصخر بالواد.

علاقة الطغيان بالفساد:
الأهرامات أعجوبة من أعاجيب الزمان
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) الأوتاد ؛ تعني الأهرامات، الأهرامات أعجوبة من أعاجيب الزمان التي لا يعلم أحد حتى الآن حقيقة طريقة بنائها (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ) انظر هنا نقطة مهمة، قال: (طَغَوْا فِي الْبِلَادِ) ليس في بلدهم، في البلاد، لأن الطاغية طغيانه يعم كل البلاد وليس بلده فقط، إذا كان كثيراً، مثل اليوم بعصرنا يوجد كثير من عاد وثمود، طغيانهم ليس ببلدهم يقصفون البلدان، ويعتبرون سياستهم الخارجية مثل سياستهم الداخلية، نحن سياستنا الخارجية مثل الداخلية، نحن نتصرف بالعالم كله (طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) ما علاقة الطغيان بالفساد؟
أحبابنا الكرام ؛ أي طاغية حتى يخضع الناس لطغيانه يريد أن يفسدهم، لأن المجتمع غير الفاسد مجتمع قوي فيواجهه، فإذا أفسده سهل عليه قيادته، لأنه يصبح همه شهوته، فيحقق له شهواته، فيركن له ( طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ) البنتاغون ( فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) هوليوود، لن يكون عندك قوة بلا فساد، القوة تحتاج إلى فساد، وكل الطغيان في الأرض يعتمد على سياسة إفساد الشعوب، يسخر الإعلام لإفساد الناس، الفاسد يصبح همه ليس المبادئ والقيم حتى يدافع عن المظلومين، يصبح همه فقط شهوته، شهوة البطن وشهوة الفرج، فيحققها للشعوب بطريقة أو بأخرى فيخضع فقال: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ).
ثم قال: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) السوط ؛ يشير إلى اللذع، للإيلام، والصب للكثرة، فصار العذاب مؤلماً وكثيراً، تقول: صب الماء ؛ نزل بكثرة، ليس قطرة، وسوط ؛ أي لذع ضرب، فهناك إيلام وغزارة ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) هذه الآية مخيفة.
أخواننا الكرام ؛ والله مخيفة، هذه ليست لعاد وثمود ولفرعون فقط.

الله تعالى بالمرصاد فعلى كل إنسان أن يراقب تصرفاته:
والله يا أحبابنا الكرام لا أبالغ إذا قلت: إذا أراد إنسان أن يأكل ميراث أولاد أخيه فليتذكر: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) إذا أراد أن يغش المسلمين ويضع مواد مسرطنة بالمواد الغذائية من أجل أن يربح ربحاً عالياً، عليه أن يتذكر (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)، إذا أغلق الباب على نفسه وزوجته ليس لها أحد غير الله، وأهلها في مكان بعيد، وظلمها، وهي ليس لها أحد غيره تذكر: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).
مع الله عز وجل الصلحة بلمحة
أخواننا الكرام، بالمرصاد أي هو يرصد تحركاتك، لا تفكر أن تفلت من ربنا عز وجل، تعالى الله جلّ جلاله، حاشاه جلّ جلاله، إياك أن تظلم، مع الله عز وجل الصلحة بلمحة، إذا قصرت بجانب الله، فاتتني صلاة، نظرت نظرة، توبة بساعة صفاء، يا رب، لكن إياك أن تظلم لأن الظلم مرتعه وخيم، الظلم ظلمات يوم القيامة، فالإنسان عليه ألا يترك برقبته حقاً لأحد من مخلوقات الله، كن مظلوماً ولا تكن ظالماً، إذا رأيتُ حقاً لي، قل: ليس لي، قل له: لك.
النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر في القصص النبوي فيمن كان قبلنا، أنهم باعوا أرضاً، شخص باع أرضاً لشخص آخر، قال له: الأرض لك، الثاني وهو يحفر الأرض رأى جرة ذهب، جرة الذهب لمن؟ رجع لعنده، حملها وذهب لعنده، قال له: هذه الجرة لك وجدتها في الأرض، قال له: إنما بعتك الأرض بما فيها، أنا بعتك الأرض فهذه لك، قال: بل هي لك، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أشترِ منك الجرة، ما هذا النقاش الراقي؟ فاحتكموا، فقالوا: زوجوا ابن هذا لبنت هذا بالجرة.
عندما يكون هدفك الله عز وجل أنت تقول: لا، هذا ليس حقي، لو كنت تشك عشرة بالمئة تقول: لا، سأتركه لأخي، ولن أكون ظالماً، أما الإنسان عندما يكون غير منتبه ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) يصير الأمر إن كان هناك شبهة يقول: اعتبره مضى لم يره أحد.
فالإنسان أحبابنا الكرام ؛ عليه ألا يكون برقبته مظلمة لأحد، لا مظلمة أنه يظلمه بكلمة، لا مظلمة أنه يظلمه بمال، لا يظلمه بشيء هو له، هذا: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ).

الاعتصام بالله والابتعاد عن الضلال:
المقطع الثالث أحبابنا الكرام في السورة يتكلم عن أمر مهم جداً: ( فَأَمَّا الْإِنْسَانُ ) الإنسان بشكل عام قبل الإيمان، بالقرآن فقط تقرأ الإنسان معرفة، أي الإنسان قبل أن يؤمن.

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
[ سورة العلق]

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[سورة العصر]

الإنسان بالقرآن أينما قرأته مذموم
إلى آخره، تقرأ الإنسان أي هو على أصل خلقته قبل أن يؤمن فقال: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ) بالمناسبة الإنسان ما مدحه الله بالقرآن، الإنسان بالقرآن أينما قرأته مذموم، أما المؤمن فممدوح، الرباني ممدوح، فالإنسان - هذا اقتراحي - لا يقل أحدكم: أنا إنساني، بل يقول: أنا رباني، الإنسانية كلمة فضفاضة، عند مصالحه سيترك إنسانيته، ويتحول لوحش كاسر، ويقولون: أصعب شيء بالحيوان إذا جاع، وأصعب شيء بالإنسان إذا شبع، الحيوان يجوع فيفترس، الإنسان عندما يشبع كثيراً ( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) يعتقد أنه مستغن عن الآخرين، وأموره بخير، يطغى، ويريد أن يضل.
انتبهوا _ أحبابنا الكرام _ كلما وجدت نفسك قد أنعم الله عليك بنعم أكبر اعتصم بالله أكثر حتى لا تنسى، الطغيان يأتي من النسيان، والنسيان يأتي من الاستغناء عن الله من غير أن تشعر، ونسأل الله السلامة.

الابتلاء مصير كل إنسان:
( فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) ابتلاه أي امتحنه، أعطاه البيت، والزوجة، والسيارة، وربما المزرعة، والمال الوفير (ابْتَلَاهُ)، هل هذا الإكرام والإنعام هو شيء جيد؟ لا، سيئ؟ لا، ما هو؟ امتحان، نتيجته ممكن أن تكون جيدة أو سيئة، لكن مبدئياً لا أستطيع أن أحكم، لكن الإنسان من جهله ( فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ) إذا كان غير مؤمن ( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) هل ترون كم يحبني الله ! هل ترون العطاء الذي أعطاني الله إياه؟ جاهل، ما فهم الامتحان، ما فهم أن هذا العطاء هو امتحان، قال: ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ ) بالطرف المقابل، إنسان آخر ابتلاه الله، لكن مادة الابتلاء مختلفة، قال: ( فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيق عليه رزقه، رزقه قليل، آخر الشهر يقترض من الناس، ( فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) قدر ؛ أي ضيق، مثل قوله تعالى:

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
[ سورة الأنبياء]

بعض الناس يعتقدون أن ذا النون ظن أن الله تعالى لن يقدر عليه، لا يستطيع أن يأتي به، أنت بشر تظن هكذا بالله؟ أن الله ليس قديراً؟! النبي يظن أن الله ليس قديراً؟ ( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) أي فظن أن لن نضيق عليه، أنه لا يوجد مشكلة، ليس أن ( لن نقدر) من القدرة، ( لن نقدر ) من التقدير، وهو التضييق، انتبهوا يونس في بطن الحوت، وذو النون هو صاحب الحوت.
( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ ) ضيق عليه ( رِزْقَهُ فَيَقُولُ ) الإنسان ( رَبِّي أَهَانَنِ) لماذا لا يحبني الله مثل فلان؟ لماذا لا يعطيني مثلما أعطاه؟ جاهل، ما فهم المعادلة، انظر إلى الجواب الإلهي، انظروا إلى الجواب الإلهي قال: ( كَلَّا ) كلا أداة ردع وزجر ونفي.
إذا جاءك شخص وقال لك: معك هويتك؟ تقول له: لا، لا تقل له: كلا، قل له: لا، يكفي، إذا شخص قال لك: كأنك سرقت لي شيئاً، وأنت إنسان شريف محترم، قل له: كلا، فيها مع النفي ردع وزجر، أي كلامك خاطئ، فكلا تعطي الردع مع الزجر مع النفي أما لا فنفي، انظر إلى دقة اللغة.
العطاء ابتلاء والمنع ابتلاء
فقال: ( كَلَّا ) أي أنتما الاثنان جاهلان، لا كلامك صحيح ( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) ولا كلامك صحيح ( رَبِّي أَهَانَنِ ) لا أكرم هذا، ولا أهان هذا، لأن الدنيا لا تساوي شيئاً أمام الآخرة، ليس العطاء فيها إكراماً، وليس المنع فيها إهانة، العطاء ابتلاء، والمنع ابتلاء، فإذا نجح صاحب المنع في الابتلاء، ودخل الجنة فهو أفضل من صاحب العطاء الذي استحق النار، وإذا نجح صاحب العطاء، وأنفق المال، وزكى، وأعطى، وتصدق، وصلى، وصام، فهو أفضل من صاحب المنع الذي أثناء المنع سخط على الله - والعياذ بالله - فدخل النار، لا هذا أفضل، ولا ذاك أفضل، القضية بالنتائج وليست بالمقدمات، إنما هي مجرد ابتلاءات.
( كَلَّا ) أي ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء، ومنعي ابتلاء، فقال: ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) كلا جواب عن الكلام السابق.

التكافل في الإسلام:
ثم قال: ( بل ) هنا حرف إضراب، يوجد كلام جديد، لا تطعمون اليتيم، أنتم تتركون الواجبات المطلوبة منكم في إطعام اليتامى ( وَلَا تَحَاضُّونَ ) لأن الإسلام يريد أن يقيم تكافلاً اجتماعياً، ما قال: ولا تطعمون المسكين، قال: ( وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) أي ليس دورك فقط أن تطعم المسكين، جالسون بمجلس، يا جماعة يوجد شخص من طرفي معروف وضعه صعب، وحالته مستورة، إذا سمحتم كل واحد منكم يدفع له شيئاً، هذا تحاض على طعامِ المسكين، تحض الناس على الخير، هذا المجلس فيه تحاض، لمن تكلمنا في البداية عن أيام العشر وفضلها والصدقات، الآن نحض بعضنا على أنه ننفق في هذه الأيام للمساكين والفقراء، فهذا اسمه الحض، وهذا يدل على التكافل في الإسلام، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الابتعاد عن أكل المال الحرام:
قال: ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً ) التراث: الميراث، بعض الناس يأكلون ميراث أخوتهم، بعض الناس يقول لك: نحن لا نورث البنات في العائلة، يذهب المال للصهر، هذه جاهلية والعياذ بالله، وبعض الناس يقول لك: هذا البيت لي أنا، الوالد كتبه باسمي، خير ماذا حدث؟ والله بمرض الموت قبّل يد والده اليمين والشمال، وقبّل قدميه، فوالده حنّ عليه وكتب باسمه البيت، أنت أخذته من أبيك من غير سبب لكن عند الله عز وجل لا يصح اكتب البيت باسمي، أخوتك لهم حق فيه، بالقضاء الشرعي يقول لك: بيع شراء صار لك، لكن أنت تعلم أنك لم تأخذه بحق، ولم تدفع ثمنه إلى آخره ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً ) أي تأخذون وتأكلون ( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ) أي كثيراً، ( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ) أي حباً كثيراً.
المقطع الرابع إن شاء الله بعد العيد، إن شاء الله وكل عام وأنتم بخير جميعاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.