تحليل شامل لسورة الفجر بمقاطعها الأربعة

  • الدرس الثاني من تفسير سورة الفجر
  • 2021-07-26

تحليل شامل لسورة الفجر بمقاطعها الأربعة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وكل عام وأنتم بخير جميعاً.


العقل يمنع صاحبه من الوقوع في المهالك:
أيها الكرام؛ قبل العيد التقينا على مائدة القرآن، على سورة الفجر، وقلنا: إن سورة الفجر من السور المكية، التي نزلت قبل الهجرة، والسور المكية في معظمها تتحدث عن الجنة، عن النار، عن الإيمان بالله عز وجل، ليس في السور المكية حديث عن تفاصيل العقيدة، أو عن تفاصيل الفقه، أي أحكام شرعية، وهذا منهج لنا ينبغي أن نتعلمه، وأن نعلمه، وهو أن البداية دائماً تكون مع الكليات ثم نخوض في الجزئيات، واليوم يخطئ كثير من الدعاة عندما يبدؤون الدعوة بالجزئيات، والتفاصيل الفقهية، وبالخلافات الفقهية في الجزئيات، ويتركون الأساسيات من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والجنة، والنار.
ثلاث عشرة سنة في مكة كان القرآن يتنزل يحدث الناس عن الإيمان بالله، الإيمان باليوم الآخر، مظاهر عظمة الله في الكون، كل الآيات المكية إذا قرأتها تجد فيها هذه المعاني.
سورة الفجر تندرج ضمن هذا المعنى، وفيها كما أسلفنا أربعة مقاطع، المقطع الأول هو مقطع القسم:

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
[ سورة الفجر ]

الحجر هو العقل
الحجر؛ هو العقل، العقل يربط، ما معنى عقلَ؟ ربط، اعقلها وتوكل، قال له: يا رسول الله معي ناقتي أعقلها أم أتوكل؟ قال له: اعقلها وتوكل، انظر إلى الفهم النبوي العظيم، انظر إلى هذا الفهم النبوي، اليوم كثير من الناس يعقلون الناقة لكن لا يتوكلون، وكثير من الناس، وأكثرهم من العرب يتوكلون بزعمهم، هذا ليس توكلاً ولا يعقلون الناقة، أي لا يربطون، اربط الناقة، اعقلها أي اربطها، ثم قل: يا رب احفظها وسلم، اذهب إلى الطبيب ثم قل: توكلت على الله فهو الشافي وحده، هذا المعنى، ادرس ثم قل: يا ربي وفقني في الامتحان توكلت عليك، هذا معنى اعقلها وتوكل.
الحجر بنفس معنى العقل، العقل ربط، الحجر يحجر صاحبه، يمنعه من الوقوع في المهالك، فإذا كانت الملكة الفكرية التي منحها الله تعالى لعباده لم يستخدموها في حجرهم أي في منعهم من الوقوع في المحرمات فصار - سامحوني بهذه الكلمة - المجنون أولى، المجنون لماذا سمي مجنوناً؟ جنّ الليل: ستر النهار، وجُنّ الإنسان أي سُتر عقله، المجنون أولى لأن المجنون لن يحاسب، أما العاقل الذي لم يستخدم عقله في المنع وفي الحجر من الوقوع في المحرمات فسيحاسب، لأن عنده الملكة ولم يستخدمها فصار المجنون يوم القيامة أولى منه، وأفضل منه عند الله، فالإنسان منح هذا العقل، أو هذا الحجر ليحجره، فقال: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هذا استفهام تقريري، أي يجب أن يكون هناك قسم لذوي العقول، وذوي الألباب، يجب أن يكون لهم قسم في ذلك وأن ينتبهوا إلى هذا.

أمم سابقة أبيدت وذكرت في القرآن الكريم لأخذ العبرة منها:
براعة الاستهلال في القرآن، في القرآن في هذه السورة وفي غيرها هو القسم.

وَالْعَصْرِ (1)
[ سورة العصر ]

وَالْفَجْرِ (1)
[ سورة الفجر ]

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
[ سورة الشمس ]

وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)

وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
[ سورة الليل ]

نظام الخلق مبني على الزوجية
هذه براعة الاستهلال، أي براعة الابتداء بالقرآن، أنه يلفت نظرك لشيء، لآيات عظيمة في الكون (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ) التي تكلمنا نحن عنها كانت ليالي ذي الحجة، نسأل الله أن يكتبنا فيها من المقبولين، (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) الزوج الذي هو المخلوق، لأن نظام الخلق مبني على الزوجية، الذكر والأنثى، حتى الليل والنهار كل شيء زوج، والوتر هو الله جلّ جلاله فهو الخالق الفرد الصمد، الوتر؛ هو الفرد.
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ* هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هذا المقطع الأول تحدثنا عنه.
المقطع الثاني تحدث الله عن الأمم السابقة حتى نعتبر ونأخذ العبرة، أمم سابقة مرت قبلنا، عاد.

إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
[ سورة الفجر]

في وقتها لم تجد أمة بقوة عاد، ثمود الذين نحتوا بالصخر بيوتاً.

وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
[ سورة الفجر]

جابوا ليس بمعنى أحضروا، نحن بالعامية نقول: جبلي هذا الغرض أي أحضره، لا، (جَابُوا الصَّخْرَ) أي نحتوا الصخر، فاتخذوا من الجبال بيوتاً (جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ):

وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
[ سورة الفجر]

وما أدراك ما الأوتاد، هي الأهرام، التي ظلت شاهدة إلى اليوم على قوة هذا العهد.

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)
[ سورة الفجر]

قلنا الطغيان في البلاد والفساد، الطغيان عسكري، والفساد إعلامي، نحن اليوم في عاد الثانية، في عاد الأولى.

وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50)
[ سورة النجم]

عاد الثانية اليوم وإن صحت التسمية يطغون في البلاد: البنتاغون.

فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)
[ سورة الفجر]

التحكم بأي أمة يؤدي الى نشر الفساد
هوليوود، أي يجب أن تسخر إعلاماً حتى يفسد الناس، وقوة عسكرية حتى يكون عندك قدرة على التسلط على الناس، ودائماً هذان الأمران يرتبطان ببعضهما، لأنك إذا أردت أن تتحكم بأي أمة، أو بأي شعب، أو بأي شيء، يجب أن تنشر - والعياذ بالله - الفساد، لأن الإنسان عندما يفسد، ويصبح همه شهوته، سواء شهوة البطن أو الفرج عندها تسهل السيطرة عليه، اليوم يوجد بلدان بعيدة لا يصل الانترنيت لعندهم، يبعثون لهم طائرات مسيّرة، من أجل أن تبث لهم الانترنيت، يوجد بلاد بإفريقيا من عندهم يبثون لهم الإعلام، حدثني أحدهم زار أحد البلاد، الإعلام لا ينقطع طوال النهار والعياذ الله يبث الإفساد فقط، الرقص والإباحيات فقط، حتى هذه البلاد تفسد فيسهل السيطرة عليها، ونهب ثرواتها، (طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) كل الطغاة في الأرض يستخدمون سلاحين؛ سلاحاً عسكرياً، وسلاحاً إعلامياً، الإعلامي للإفساد، والعسكري للتدمير.

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
[ سورة الفجر]

أي بالمرصاد لعاد ولمن سيأتي على شاكلتها، فأنت اليوم إذا رأيت أمة تجبرت كعاد فاعلم أن مصيرها كمصير عاد (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ).

الابتلاء علة وجود كل إنسان:
المقطع الثالث الذي تحدثنا عنه هو حركة الحياة، تصنف الناس إلى قسمين.

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
[ سورة الفجر]

الأصل ليس في الابتلاء انما في ردة الفعل
ربنا عز وجل يبتلي عباده، يبتليهم؛ أي يمتحنهم، أو يختبرهم، فالابتلاء بالمفهوم العامي عند الناس هو مفهوم سلبي أن الله ابتلاه، الله ابتلاه أي امتحنه، فإذا نجح بالابتلاء فالمفهوم إيجابي، وإذا رسب فالمفهوم سلبي، فالأصل ليس في الابتلاء إنما في رد فعلك على الابتلاء، نحن من ثقافتنا أننا إذا رأينا إنساناً جالساً في الطريق لا مال له، ولا طعام، ولا شيء، ويتكفف الناس نقول: أعانه الله إنه مبتلى، هذا صحيح، وإذا رأينا إنساناً مريضاً لا يستطيع التنفس - نسأل الله السلامة- نقول: أعانه الله إنه مبتلى، صحيح مبتلى، لكننا إذا وجدنا إنساناً أنعم الله عليه بالمال لا نقول: أعانه الله مبتلى، وإذا رأينا إنساناً صحيحاً يذهب ويأتي، وجسمه عسل كما يقول أهلنا في مصر: جسمه تمام وكذا، لا نقول: أعانه الله مبتلى، في الحقيقة الاثنان مبتليان، لكن مادة الاختبار مختلفة، إذا رأيت طالباً عنده رياضيات، وآخر عنده لغة عربية، هذا مختبر وهذا مختبر، لكن مادة الاختبار مختلفة، هذا اختباره غداً بالرياضيات، وهذا اختباره غداً بمادة اللغة العربية، هذا ممتحن وذاك ممتحن، فالصحيح مادة امتحانه الصحة، والسقيم مادة امتحانه المرض، والفقير مادة امتحانه الفقر، والغني مادة امتحانه الغنى.
فالقضية ليست فيما يهيئ الله لك من ابتلاءات، وإنما في رد فعلك على هذا الابتلاء، فقد ينجح الفقير في ابتلاء الفقر فيسعد إلى أبد الآبدين، وقد يفشل الغني في امتحان الغنى ويمسك عن زكاة ماله، وعن مساعدة الناس فيخسر إلى أبد الآبدين، وقد يكون العكس يخسر الفقير وينجح الغني، والصحة والمرض، وصاحب الجاه، والضعيف إلى آخره من متضادات الحياة، فكلنا ممتحنون لكن مواد الامتحان مختلفة بيننا.

الله تعالى لا يمدح في قرآنه إلا الإنسان المؤمن الرباني:
هنا الآيات الكريمة: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) على فكرة كلمة الإنسان إذا أحببتم في المكتبة الشاملة، أو في أي برنامج قرآن ضع كلمة الإنسان تظهر كل الآيات التي فيها كلمة الإنسان، لن تجد في كتاب الله تعالى كله آية واحدة تمدح الإنسان.

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
[ سورة العصر]

كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
[ سورة العلق]

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
[ سورة الأحزاب]

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً (67)
[ سورة الإسراء]

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
[ سورة الأنبياء]

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)
[ سورة المعارج]

فالإنسان بشكل عام لا يمدح، لأن الإنسان قبل الإيمان هو كائن، مثله مثل الكائنات الأخرى سامحوني، الله قال:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)
[ سورة الأحزاب]

الإنسان كائن مثل السماوات، والأرض، والجبال، لكن عندما ينتقل من مرحلة الإنسان إلى مرحلة الإنسان المؤمن، أو الرباني عندها يمدحه الله في قرآنه الكريم.

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)
[ سورة الكهف]

عندما يؤمن الإنسان يصبح المؤمن، فتجد في القرآن الكريم:

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107)
[ سورة الكهف]

الذين آمنوا، أصبح لهم مفهوم مختلف.

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
[ سورة البقرة]

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
[ سورة النجم]

انتقل من مفهوم الإنسانية العام إلى مفهوم الربانية أو مفهوم الإيمان.

الإكرام والإنعام ليسا دلالة على رضا الله عن الإنسان:
رضا الله لا يكون بالإكرام والإنعام
هنا قال: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ) بشكل عام (إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ) امتحنه (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) الإكرام والتنعيم، أي فوق الإكرام النعم الكثيرة (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) العوام اليوم إذا شاهدوا إنساناً معه نقود ويسافر كثيراً يقولون: من أحبه الله أطلعه على ملكه، لا علاقة لهذا بهذا، هناك شخص لم يسافر طوال حياته والله يحبه، وربما يسافر والله يحبه، ليست مربوطة ببعضها.
أنا سمعت شخصاً بالشام مرة قال لي كلمة، قال: والله يا أخي الله أحب من يملك نقوداً كثيرة، أستغفر الله، قلت له: صحح مفاهيمك، الله يحب المؤمن، الذي يملك نقوداً، ويحب الفقير الذي لا يملك شيئاً، الله يحب المؤمن، لا يحب الغني يحب المؤمن، المؤمن الغني الله يحبه، والمؤمن الفقير الله يحبه، الضعيف والقوي، السقيم والمعافى، فالقضية ليست في أن الإكرام والإنعام هو دلالة على رضا الله عنك، انتبه (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ) هو الإنسان (رَبِّي أَكْرَمَنِ).

وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
[ سورة الفجر]

ضيق عليه رزقه، رزقه ضيق، صاحب دخل محدود لا يكاد يكفيه إلى نهاية الشهر (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) الله لا يحبني لو يحبني أعطاني، الله يهينني لأنه يمنع عني المال.

المال والصحة والتفوق يعطيهم الله لمن يحب ولمن لا يحب فهم ليسوا مقياساً:
انظر الآن إلى الجواب الإلهي قال:

كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
[ سورة الفجر]

الله عز وجل منح المال لمن يحب ولمن لا يحب
كلامكم خاطئ أنتم الاثنان (كَلَّا) وكلا غير لا، تسأله هل تأكل؟ يقول لك: لا، أما إن سألت: هل سرقت؟ لا يقول لك: لا، يقول له: كلا، كلا أداة ردع وزجر ونفي، مع النفي يوجد ردع وزجر، فلا شيء وكلا شيء آخر، فهنا ربنا عز وجل ينفي ويردع ويزجر أن يكون المفهوم في الحياة هو أن نفهم الحياة على أنها في الدنيا عطاء، أو على أنها إهانة، إكرام أو إهانة، (كَلَّا) أي لا يا عبادي ليس عطائي إكراماً، ولا منعي إهانةً، عندما أعطي ليس هذا إكراماً، لأن الله عز وجل منح المال لمن يحب، عثمان بن عفان ربنا يحبه وأعطاه المال، وقارون يكرهه وأعطاه مالاً.

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
[ سورة القصص]

الجاه، ربنا عز وجل أعطاه لمن يحبه، وأعطاه لذي القرنين، وأعطاه لمن لا يحبه للنمرود مثلاً، فربنا عز وجل يعطي المال، والصحة، والذكاء، والتفوق لمن يحب، ولمن لا يحب، إذاً ليس هذا مقياساً، فقال: (كَلَّا) أي لا تفهم من العطاء أنه يحبك، ولا تفهم من المنع أنه يهينك، هذا معنى كلا، فقال: (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا).

مخاطبة الله عز وجل من شرد عن منهجه:
الآن (بَل) بل حرف إضراب باللغة العربية، الآن يوجد كلام جديد، الآن يخاطب هذا الإنسان الذي شرد عن الله عز وجل، الإنسان الذي يفكر أن العطاء إكرام، والمنع إهانة، قال: (لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ).

وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
[ سورة الفجر]

هناك إنسان لا يطعم المساكين، هذا غلط كبير، معه مال، وأمامه مسكين ولا يرضى أن يعطيه، لكن هنا قال: (وَلَا تَحَاضُّونَ) أي هو لا يملك أن يتكلم بكلمة يحض بها على الخير أي ليس فقط لا يعطي، بل يضيف إلى عدم إعطائه عدم حضه على الخير.

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
[ سورة الماعون]

قد يملك الإنسان ويعطي، وقد يتكلم فيعطي، التحاض أي التعاون، الأمر بالمعروف، التكافل الاجتماعي، (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).

وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19)
[ سورة النجم]

التراث؛ هو الميراث، والميراث له قواعد شرعية يقسم وفقها، فإذا خالف الموكل ذلك فقد عصى الإنسان ربه.

وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20)
[ سورة النجم]

أي حباً كثيراً، هذه في أصل خلقة الإنسان.

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
[ سورة العاديات]

الخير هنا المال، سورة العاديات: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) الجم؛ هو الشيء الكثير، انتهى المقطع الثالث.

تثبيت القوانين من نعم الله التي لا يلتفت إليها الإنسان:
المقطع الرابع قال:

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22)
[ سورة الفجر]

الآن المشهد الأخير، والمشهد الأخير هو مشهد يوم القيامة، هذا مشهد الدنيا، بما فيه من متناقضات، إنسان عنده مال، إنسان لا يوجد عنده مال، إنسان منحه الله جاهاً، إنسان ما منحه جاهاً، أعطاه صحة، منع عنه بعض الصحة، هذا مشهد الحياة الدنيا، ابتلاءات كلها، الآن ننتقل للمشهد الختامي، المشهد الأخير (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً) تغيرت معالمها، الدك؛ هو فناء الأرض، أنت الآن ترى عمارات، جبالاً، أنهاراً، خضاراً، (دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي هُدت الأرض، تغيرت معالمها، زالت بما فيها.
أحبابنا الكرام؛ في الأرض الله عز وجل ثبت أشياء كثيرة، اليوم أي عالم، على الجوال اليوم لا تحتاج إلى العلماء، غوغل عالم مع كل إنسان يريد أن يعرف بتاريخ 2030 يوم 30 / 6 / 2030، الشمس في أي ساعة تشرق، يكتب على غوغل فيظهر له، أي ربنا عز وجل نظم الكون بطريقة عجيبة، كل شيء، شروق الشمس، غروب الشمس، ثبت القوانين، قوانين الأشياء، وهذه من نعم الله التي لا يلتفت إليها الإنسان.
القانون هو علاقة بين متغيرين
القانون ما هو؟ القانون هو علاقة بين متغيرين، بأبسط مثال المعادن تتمدد بالحرارة، هذا قانون ثابت، لو لم يكن ثابتاً، أحياناً المعادن تتمدد بالحرارة، أحياناً يوم الثلاثاء تنكمش بالحرارة مثلاً، أليس الله على كل شيء قدير؟ لم يعد هناك بناء في الأرض، نعمل فواصل تمدد أو لا نعمل، تتمدد أو تنكمش، نحتاج إلى قوانين، بماذا عمرت الأرض؟ بالقوانين، اكتشفوا القوانين، الطب قوانين، ارتفاع الضغط، يجب أن تنقص من الملح، الملح يزيد الضغط، قانون، حتى الأطباء عندهم قوانين، لو أن القوانين غير مثبتة بالحياة لن نستطيع أن نعمر الأرض، هذه من نعم الله أنه ثبت القوانين، لكن ربنا عز وجل حرك أشياء، حرك قانون الرزق وقانون الصحة، أنت اليوم يأتيك ألف، في اليوم الثاني يأتيك مئة، في اليوم الثالث لا يأتيك رزق نهائياً، لأن الله يؤدب عباده بالرزق، يعطيه ويمنع عنه من أجل أن يبقى صاحياً ويمشي على الطريق الصحيح، يؤدبه بالرزق، قد يعاقبه، وقد يؤدبه، وحرك الصحة، نحن اليوم بفضل الله- أدام الله الصحة على الجميع - لكن الصحة آخر شي تبدأ بعد الأربعين، بعد الخمسين، بعد الستين، بعد السبعين، وأنت ماش، الصحة متغيرة، أيضاً ربنا عز وجل يلفت أنظارنا إليه بالصحة، أما باقي القوانين فمثبتة بالأرض، لماذا ثبت الله كل هذه القوانين؟ أولاً حتى نعمر الأرض حتى نستفيد، وثانياً وهو شيء مهم لكن هذا خاص بالمؤمن تثبيت هذه القوانين يدفعك إلى تعظيم المقنن جلّ جلاله، العناصر كلها تتمدد بالحرارة، وتتقلص بالبرودة، تنكمش بالبرودة لغة الفيزيائيين هذه عبارتهم، تتمدد بالحرارة، وتنكمش بالبرودة، الماء مثله مثل أي عنصر يتمدد بالحرارة، وينكمش بالبرودة، لكن الله عز وجل الماء تحديداً عمل له خاصية إضافية تبرده ينكمش ينكمش ينكمش ليصل لزائد أربع، زائد أربع درجات يعكس الآية يتبلور يرجع يتمدد، لذلك تضع أنت قارورة الماء بالثلاجة تجدها انفجرت، لأنه رجع تمدد هو بالبرودة، بعد زائد أربع الخاصية التي أودعها الله بالماء هي سبب وجود الحياة في الأرض، لأنه لو لم يعمل هذه العملية كانت البحار تجمدت كلها، فانعدم التبخر، وانعدم المطر، وماتت كل الكائنات، المطر سببه هذه الخاصية التي في الماء، لأنه عندما يتمدد ينزل لتحت، الجليد يبقى في الأعلى والماء تحته فتعيش الكائنات، وإلا تجمدت كل المحيطات، إذاً بخاصية واحدة بالماء في الدرجة زائد أربع يتمدد، الله عز وجل جعل الكون موجوداً، فأنت عندما تريد أن تنظر بقوانين الله عز وجل العظيمة لا تستطيع إلا أن يقشعر جلدك من عظمته وتخشاه وتخافه، وتقول له: يا رب، وتلجأ له.

مشهد من مشاهد يوم القيامة:
يوم القيامة كل هذا الأمر انتهى، لأنه وجد لخدمتك (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً) انتهى، العبرة انتهت، والعظة انتهى، والذي انتفع بالكون انتهى، والذي لم ينتفع انتهى، ومن بنى مجده على أنقاض الآخرين انتهى، والمظلوم الذي لم تهب له هذه الأرض إلا السوء، والظلم، وعاش بالسجون ثلاثين أو أربعين سنة من أجل كلمة حق قالها (دَكّاً دَكّاً) انتهى كل شيء.
في عالم الشهادة لا نسأل عن الكيف
قال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) وجاء ربك الآن علماء العقيدة اختلفوا من أجل هذه الآية، وانقسموا فرقتين، جاء ربك أم أمر ربك؟ هذا من الغيب، والغيب لا تسأل عن كيف؟ والله أحبابنا الكرام نحن بالشهادة لا نسأل عن الكيف، نحن الآن هذا المكيف يعمل يعطينا هواء بارداً، لا أعرف هل هناك أحد موجود يستطيع أن يشرح لنا عن آلية التكييف، أنا بالنسبة لي لا أعرف كيف يعمل، لكن أعرف أنني أكبس الزر يأتي هواء بارد، أنا مسرور، الآن يوجد شخص يقوم ويشرح لنا ساعة عن كيفية التبريد وهو أيضاً ينتفع بالتبريد، صحيح؟ لكن أنا لا أعرف الآلية، من رحمة الله أنا أعرف أن أنتفع مثله، لكن هو يعرف الآلية.
الأرض تدور حول الشمس، ما سرعتها؟ وكيف تدور؟ لا أعرف، أعرف أنه يتشكل سنة شمسية، ويتشكل أربعة فصول من دورانها حول نفسها، أنتفع من دون أن أعرف الكيفية، هذا بعالم الشهادة، بالغيب؟ (وَجَاءَ رَبُّكَ) والله لا أعرف كيف، وليس مطلوب مني أن أسأل كيف؟ ولا سيحاسبني ربي يوم القيامة يقول لي: كيف آتي؟ هذا الموضوع لا يعنيني.

فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
[ سورة الشورى]

انتهى، لكن المشهد فيه جلال وهيبة يجب أن أنتبه له (وَجَاءَ رَبُّكَ) تخيل المشهد والله يا أحبابنا الكرام، ولله المثل الأعلى.

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
[ سورة النحل]

لماذا نضرب الأمثال لله؟ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لا نضرب له الأمثال، لكن والله يا أحباب إذا كنا نجلس هنا، وأنا قلت لكم: العفو منكم، وجاء الملك، والله لنقوم كلنا لاستقباله، المشهد فيه هيبة يا أخي ملك البلاد دخل، فتأمل بمشهد يوم القيامة، قالوا: (وَجَاءَ رَبُّكَ) الله أكبر ! (وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) المشهد فقط ليعطيك هذه الهيبة العظيمة وليس لتسأل: كيف يأتي ربنا عز وجل؟ ما شأنك بذلك؟ لا يعنيك، سيأتي جل جلاله بطريقة لا نعلمها، وليست بطريقتنا، لأنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) جلّ جلاله، هو خالق الأشياء وخالق الكيفيات، فلا تسأل له عن كيفية.

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
[ سورة طه]

الله أكبر مشهد مهيب، كيف يستوي الرحمن على العرش؟ بالتأكيد (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لا يستوي استواء كاستوائنا.
سُئل الإمام مالك، أو غيره مروي عن عدة أئمة، قال: كيف استوى على العرش؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ، الاستواء معلوم مئة بالمئة، والكيف مجهول، الكيف لا تسأل كيف، هو فوق الكيفية جلّ جلاله، قال: والإيمان به واجب، يجب أن تؤمن أنه استوى جلّ جلاله، والسؤال عنه بدعة، ما فعلها السلف الصالح، كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا أحد قال له: يا رسول الله كيف استوى الرحمن؟ ما ورد بكل السنة، وبكل السلف أن أحداً سأل عن الغيب، عن تفاصيله، وإنما عن عمومه فقط (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً).

وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
[ سورة الفجر]

الله أكبر! جهنم، نحن الآن نخاف منها، لأن عندنا عقلاً لا نريد أن نصل لها، لكن الكافر والعياذ بالله يوم يؤتى بجهنم أمامه لأنه لا يؤمن إلا بما يراه.
ينبغي أن يحتكم الإنسان إلى النصوص
نحن عندنا دمشق، وعندنا حمص، في الشام، أنا ضعيف بالطرقات، فلا أطرح أمثلة إلا عنهم لأني أعرفهم، عندنا دمشق وحمص، وهناك منطقة اسمها النبك، بعد ثمانين كيلو متراً من دمشق، ويبقى ستين كيلو متراً لنصل إلى حمص، النبك منطقة باردة جداً، ينزل فيها ثلوج، بلدة من ريف دمشق، فأنت راكب سيارتك، دمشق لا يوجد فيها مطر، دمشق لا ينزل الثلج إلا قليلاً، المطر قليل، الأرض جافة، وصلت إلى حرستا تريد أن تستلم طريق النبك وجدت إدارة المرور واضعة لوحة كبيرة بالعرض: الطريق إلى حمص مغلق بسبب تراكم الثلوج، مغلق بسبب تراكم الثلوج في النبك، لا يوجد طريق إلى حمص، ماذا تفعل؟ أنت ذاهب إلى حمص، تدور وترجع إلى بيتك، حتى تسمع الأخبار ويقولوا لك: فتح الطريق، لو أن فرضاً وجدلاً أعزكم الله جميعاً دابة، بقرة تمشي إلى حمص، متى تقف؟ عندما تجد الثلج أمامها، لم يعد هناك طريق فتقف، إذاً الفرق بين الإنسان وغير الإنسان أن الإنسان ينبغي أن يتحاكم إلى النصوص.
ربنا عز وجل يقول له: يوجد نار، يقول: أنا من الآن أقف عن أكل المال الحرام، لا ينتظر حتى يرى النار بوجهه حتى يقول: تذكرت، فات الأوان (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي رآها رأي العين، لم يعد هناك معنى لأن يتذكر (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) انتهى الوقت.
مثال ثان أوضح: طالب على طاولة الامتحان يكتب، والسؤال ما عرفه، وأيقن بالرسوب، ساعتان يعصر دماغه، ما تذكر، لم يتذكر، جاء المراقب، وقال له: انتهى الامتحان، وسحب الورقة منه، أنت امتحانك انتهى وقته، سحبت الورقة منه، بعدما سحبت الورقة منه، ووضعها بالظرف، وختمها، وسلمها للإدارة فتح الكتاب قال: أف، هذا هو الجواب، والله تذكرته، قال له: انتهى الوقت، تذكرته لكن فات الأوان (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) انتهى الوقت، ولم يعد هناك دور ثان، ولا تكميلي، انتهى كل شيء، مرة واحدة أخذت فرصتك، تلقيت كل التعليمات، الكون حولك، كل شيء يشهد بوجود الله، ثم لم تنتبه فقال:

يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
[ سورة الفجر]

أين الحياة؟ الآخرة (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) التي هي الآخرة، هذه التي نعيش بها في الدنيا ليست الحياة الحقيقية، الحياة الحقيقة هناك، لأن الحياة هذه تنتهي بالموت، فهي مؤقتة: (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) لحياتي الأخروية التي تدوم، لكن (ليت) بضاعة الحمقى بعد فوات الأوان، تمنٍّ (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).

فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
[ سورة الفجر]

إنسان في الأرض يستطيع أن يعذب عذاباً كما يعذبه الله تعالى والعياذ بالله نسأل الله السلامة؟ (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب أحد عذاب الله، العذاب في الدنيا محدود هذا يسلي عن المظلومين، اليوم الطغاة في الأرض يذيقون بعض المظلومين كل صنوف العذاب لكن هم سيذيقون يوم القيامة ما لم يخطر على بالهم من العذاب (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ).

وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
[ سورة الفجر]

يوثق؛ أي يربط، يشد عليه (وَثَاقَهُ أَحَدٌ) ولا يستطيع أحد أن يوثق إنساناً كما يوثق الكافرين يوم القيامة، كما يربطهم.

آخر آية في سورة الفجر تختم السورة بجوّ إيماني عظيم:
آخر آية في السورة حقيقة تختم السورة بجوّ إيماني عظيم، في المقابل مع الخوف من جهنم، ومما فيها للكافرين، قال:

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
[ سورة الفجر]

بهذا النداء العلوي، الرقيق، المحبب (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) النفس بالقرآن الكريم، يوجد نفس لوامة تلوم صاحبها، يخطئ فتلومه، ممتازة، أقسم الله بها:

وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
[ سورة القيامة]

ونفس أمارة بالسوء:

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
[ سورة يوسف]

ونفس مطمئنة، المطمئنة اطمأنت إلى وعد الله، ووعيد الله، اطمأنت إلى الجنة، اطمأنت لما عند الله من خير، اطمأنت (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ).

ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
[ سورة الفجر]

نحن أخواننا الكرام من الله وإليه، منه وإليه، فعندما نعود يوم القيامة نعود إلى ما كنا عليه سابقاً، خلقنا والمرجع إليه (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً):

جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
[ سورة الفجر]

فهي قد رضيت، وهي قد رُضّيت (رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) قال:

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
[ سورة الفجر]

أي ادخلي مع عبادي الصالحين، والعباد غالباً تستخدم في القرآن للعباد المحببين إلى الله، للعباد الصالحين.

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
[ سورة الحجر]

عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً (63)
[ سورة الفرقان]

أما العبيد فتستخدم لعبيد القهر، فكل الناس عبيد لله، لكن نحن إن شاء الله عباد له، عندنا عبودية قهر، إنسان يفتقر في وجوده إلى الله، أكفر كفار الأرض ألا يفتقر في نبضات قلبه إلى قيومية الله جلّ جلاله؟ فكلنا عبيد، لكن من العباد؟ من استجابوا لله طوعاً وحباً، فقال: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي)

وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
[ سورة الفجر]

والحمد لله رب العالمين