الهجرة النبوية ومفهوم التغيير
الهجرة النبوية ومفهوم التغيير
يا ربنا لك الحمد ملء السّماوات والأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجَد. |
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غِناك؟! وكيف نضِل في هداك؟! وكيف نذِلّ في عزّك؟! وكيف نُضام في سلطانك؟! وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟! |
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. |
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد: |
فيا أيها الإخوة الكرام؛ في تاريخ المسلمين وفي السيرة النبوية تحديداً أحداث عظيمة منها مولده -صلى الله عليه وسلم-، ومنها بعثته -صلى الله عليه وسلم- ونزول الوحي، ومنها الإسراء والمعراج، ومنها وفاته-صلى الله عليه وسلم-، وكلها أحداث قيّمة لها ميزان في تاريخ السيرة النبوية، لكن حدثاً واحداً من هذه الأحداث اختير ليكون بداية لتأريخ المسلمين و لتقويمهم إنه حدث الهجرة النبوية، لماذا؟ لأن كل أحداث السيرة ليس فيها حركة بل هي تقدير إلهي في أغلبها، أما الهجرة تحديداً فجانب الحركة والتحرك فيها واضح، لذلك كانت الهجرة بداية لتقويمنا فنقوم بالتــأريخ الهجري. |
الهجرة حركة مدروسة لتغيير الواقع:
أيها الإخوة الكرام، الهجرة حركة لتغيير الواقع، بدليل قوله تعالى: |
إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا (97)(سورة النساء)
لماذا لم تتحركوا؟ تقول: أنا عندي مشكلة، لماذا لم تتحرك لتغييرها؟ تقول: أنا مقيم على معصية، لماذا لم تتحرك لتترك هذه المعصية؟ بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: |
{ المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه }
(أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو)
الهجرة هي حركة مدروسة واعية نحو تغيير الواقع
|
النواحي القيمة في الهجرة النبوية الشريفة:
لا بد من تهييء المجتمع لاستقبال التغيير
|
لا بد من الأخذ الأسباب
|
سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ(1)(سورة الإسراء)
الهجرة درس يعلمنا إياه النبي
|
{ كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْهُ. }
(مسند الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب)
في المعركة كان أشجع الناس، فلماذا النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ كل هذه التدابير وخرج متخفياً؟ لأن موقفه تشريع، بينما موقف عمر -رضي الله عنه وأرضاه- موقف شخصي، أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فلو اقتحم الأخطار لعُدّ اقتحام الأخطار سنة، ولقال الناس: ينبغي ألا نهيئ لأي أمر بل ينبغي أن نخرج على أعين الناس، لكن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعلمنا أن اتخاذ الأسباب سنة في الحياة، إذا أردت أن تنجح فادرس، إذا أردت أن تسلم في الطريق فتفقد سيارتك، إذا أردت ألا يصيبك مرض فاتخذ الاحتياطات اللازمة، ولكن كل ذلك لا يمنع من قضاء الله وقدره، فالتوكل على الله شيء والأخذ بالأسباب شيء وكلاهما مطلوب لك، وكلاهما تتعبد الله به، أنت عندما تأخذ ابنك إلى الطبيب أنت تتعبد الله، وأنت عندما تقوم في الليل وتقول: يا رب اشف ابني فأنت تتعبد الله؛ كلاهما عبادة لله تعالى، أما ترك إحداهما فهذه ليست عبادة، أيها الإخوة الكرام إذاً الإجراء الثاني في رحلة التغيير رحلة الهجرة هو اتخاذ كل الترتيبات الممكنة. |
حسن التوكل على الله مع اليقين الثابت بنصره
|
{ قُلتُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا في الغَارِ: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟! }
(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق)
وفي القرآن الكريم: |
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)(سورة التوبة)
إذاً أيها الإخوة كان من الممكن ألا يصلوا إليهم فالله تعالى قادر على كل شيء، لكن مع اتخاذ كل الأسباب أراد الله تعالى أن يبين لنا أن اتخاذ الأسباب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقلل من توكله على الله أبداً، لم يعتمد على الأسباب اعتمد على الله وحده فوصلوا إليه ليظهر لنا ربنا -جلً جلاله- يقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ويظهر لنا حسن توكله فهو لم يعبأ بهم، قال: (ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!) كان واثقاً متيقنًا من نصر الله -عزّ وجلّ-. |
التغيير يعني أنك متفائل
|
هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ(9)(سورة الصف)
ولكن كن جندياً في نصرة الحق فقط، أما الحق فمنصور من عند الله. |
الحفاظ على القيم والمبادئ في رحلة التغيير:
لا ينبغي للتغيير أن يغير من قيمك ومبادئك
|
أيها الإخوة الكرام؛ هذه رحلة الهجرة حُقّ لها أن تكون بداية لتاريخنا الهجري، حُقّ لنا أن نؤرخ بهذا التاريخ، وأن نقول: السنة 1439 للهجرة، لأنها تذكرنا بأن التغيير في الواقع لا بد أن يكون رحلة حقيقية فيها اتخاذ للأسباب، فيها توكل على رب الأرباب، فيها تهييء للجو المناسب، فيها تفاؤل بنصر الله، وفيها اعتزاز بالقيم والمبادئ والثبات عليها. |
الخاتمة:
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله. |
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، |
الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب للدعوات، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعزّ من عاديت تباركت ربنا و تعاليت، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، اللهم بفضلك عُمّنا واكفنا اللهم شر ما أهمنا و أغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا يا مولانا إنك أنت التواب الرحيم، واهدنا ووفقنا إلى الطريق المستقيم، واشفي مرضانا ومرضى المسلمين بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعل هذا البلد سخاء، رخاء، أمناً بفضلك يا أرحم الراحمين وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرّج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، والحمد لله رب العالمين، أقم الصلاة و قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. |