الهجرة النبوية ومفهوم التغيير

  • 2017-09-22
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

الهجرة النبوية ومفهوم التغيير

يا ربنا لك الحمد ملء السّماوات والأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحقّ ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجَد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غِناك؟! وكيف نضِل في هداك؟! وكيف نذِلّ في عزّك؟! وكيف نُضام في سلطانك؟! وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟!
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ في تاريخ المسلمين وفي السيرة النبوية تحديداً أحداث عظيمة منها مولده -صلى الله عليه وسلم-، ومنها بعثته -صلى الله عليه وسلم- ونزول الوحي، ومنها الإسراء والمعراج، ومنها وفاته-صلى الله عليه وسلم-، وكلها أحداث قيّمة لها ميزان في تاريخ السيرة النبوية، لكن حدثاً واحداً من هذه الأحداث اختير ليكون بداية لتأريخ المسلمين و لتقويمهم إنه حدث الهجرة النبوية، لماذا؟ لأن كل أحداث السيرة ليس فيها حركة بل هي تقدير إلهي في أغلبها، أما الهجرة تحديداً فجانب الحركة والتحرك فيها واضح، لذلك كانت الهجرة بداية لتقويمنا فنقوم بالتــأريخ الهجري.

الهجرة حركة مدروسة لتغيير الواقع:
أيها الإخوة الكرام، الهجرة حركة لتغيير الواقع، بدليل قوله تعالى:

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِىٓ أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ قَالُوٓاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأْوَىٰهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا (97)
(سورة النساء)

لماذا لم تتحركوا؟ تقول: أنا عندي مشكلة، لماذا لم تتحرك لتغييرها؟ تقول: أنا مقيم على معصية، لماذا لم تتحرك لتترك هذه المعصية؟ بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-:

{ المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه }

(أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو)

الهجرة هي حركة مدروسة واعية نحو تغيير الواقع
تحرك، ترك لله، أعطى لله، منع لله، غيّر سلوكه لله، غيّر حياته لله، نحن أيها الإخوة عندنا أخطاء كبيرة على مستوى الفرد، على مستوى الأسرة، على مستوى الجماعة، على مستوى الوطن، على مستوى الأمة، لا بد من التحرك للتغيير هذه هي الهجرة، الهجرة أيها الإخوة في تعريف دقيق لها: هي حركة مدروسة واعية نحو تغيير الواقع، قد يتحرك الإنسان لتغيير الواقع لكن بحركة عشوائية، وكم أورثت الحركات العشوائية للتغيير دماراً، وكم أورثت الحركات العشوائية للتغيير كارثة، التغيير بغير منهج كارثي لا يؤدي إلى خير، التغيير أيها الإخوة ضرورة على مستوى الفرد والأمة والجماعة، لكنه إن كان تغييراً غير مدروس، غير شرعي، غير منضبط بأحكام الشريعة فإنه سيكون حتماً تغييراً نحو الأسوأ، ولن يكون التغيير نحو الأفضل إلا إذا كان مستمداً من هدي الإسلام ومن هدي سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، لذلك أيها الإخوة في هذه الخطبة نحاول أن نتلمس بعض النواحي القيمة في هذا السلوك التغييري الذي قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- الهجرة، ما الذي حصل؟

النواحي القيمة في الهجرة النبوية الشريفة:
لا بد من تهييء المجتمع لاستقبال التغيير
أولاً: أيها الإخوة لا بد من تهييء المجتمع لاستقبال التغيير، لا بد من تهييء المجتمع فبناء الأمة قبل بناء الدولة، لذلك النبي-صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر أرسل مصعب بن عمير الذي سُمّي مقرئ المدينة، أرسله إلى المدينة ليعلم الناس وليهيئهم لاستقبال النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته، ولاستقبال الإسلام والقرآن، فكان يُقرأ الناس القرآن ويعلمهم سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر النبي من بعد بيعة العقبة الثانية، تهيأ المجتمع في المدينة لاستقبال الفكرة الجديدة، فلما جاء النبي-صلى الله عليه وسلم- استُقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة استقبالاً حافلاً، وفُتحت له البيوت، وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، فقد كان الأنصار متهيئين لاستقبال المهاجرين، إذاً إذا أردت أن تغير لا بد أن تهيئ الواقع للتغيير، أما تغيير عشوائي بغير تهييء للواقع حتى في البيت، ضمن البيت الواحد، فكرة جديدة تريد أن تعدل في سلوك أبنائك، في سلوك أسرتك لا بد أن تهيـئ الواقع بالنصوص الشرعية، بالوقائع الصحيحة، بالفطرة السليمة، لا بد أن تهيئ الواقع ليستقبل أبناؤك الفكرة الجديدة بشكل صحيح ويطبقوها ويلتزموا بها.
لا بد من الأخذ الأسباب
ثانياً: أيها الإخوة الكرام الأمر الثاني من التهييئات والترتيبات بعد تهييء الواقع لتقبل المجتمع الجديد والنبي -صلى الله عليه وسلم-: لا بد من ترتيب الرحلة، ترتيب رحلة التغيير، ولا بد من الأخذ بالأسباب، لاحظوا أيها الإخوة سأعدد لكم فقط ما الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرحلة، فقط في رحلة الهجرة: جهز راحلتين، استأجر رجلاً مشركاً هو عبد الله بن أريقط فضّل فيه الخبرة لأنه كان خريّتاً ماهراً يعرف الطريق ليدله على الطريق، حدد موعد اللقاء بعد ثلاثة أيام في غار ثور، قامت عائشة-رضي الله عنها- وأختها أسماء -رضي الله عنها- بتجهيز المتاع والمؤن، أبقى علياً -رضي الله عنه- في فراشه لكي لا يشك المشركون بخروجه، غادر من الباب الخلفي، خرج من مكة قبل أن يطلع الفجر، لم يتجه شمالاً لأن الأنظار ستتجه إلى طريق المدينة من الشمال، خرج جنوباً مساحلاً، كل هذه الأسباب أيها الإخوة اتخذها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه كلها تخيّل في أيام الهجرة، فما بالك بالترتيبات التي قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة قبل الرحلة؟! الأخذ بالأسباب أيها الإخوة، يعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لابد إن أردت أن تنجح في رحلتك لا بد أن تأخذ بالأسباب، لا ينبغي أن تقول: توكلت على الله، وتتجه هذا ليس توكلاً هذا تواكل أو اتكال، التوكل أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، لا بد من الأخذ بالأسباب، أيها الإخوة الكرام؛ لكي أوضح هذه الحقيقة أكثر سأقارن لكم بين شيئين اثنين؛ رحلة الإسراء ورحلة الهجرة، النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإسراء كانت معجزة فأسري به من البيت.

سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ(1)
(سورة الإسراء)

الهجرة درس يعلمنا إياه النبي
على البراق، لم يتخذ أسباباً ولم يهيئ خبيراً ليدله على الطريق، ولم، ولم، ولم...، كان نائماً، أسري به، وجد نفسه في بيت المقدس؛ معجزة، لماذا لم يحدث ذلك نفسه في الهجرة؟! أما كان الله -عزّ وجّل- قادراً أن ينقله من مكة إلى المدينة بطرفة عين دون أن يحيط به الأعداء، ودون أن يلتفوا حول بيته، ودون أن يبحثوا عنه، ودون أن يلاحقوه في الطريق ويرسلوا في طلبه ويجعلوا مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، ثم يطارد ويدخل في في الغار ويختبئ لماذا؟ لأن الهجرة درس يعلمنا إياه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست معجزة، لا تنتظروا معجزة للنصر، ولا تنتظروا معجزة لتغيير الواقع، ولا تنتظروا معجزة من السماء لتربية أولادكم، ولا تنتظروا معجزة من السماء لتغيير واقعكم أبداً، لا بد أن تغيروا؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هنا سار وفق السنن الإلهية، واحترم قوانين ربه -جلّ جلاله-، ما قال: سأتوكل على الله وأخرج، مع أنه كان أعظم المتوكلين -صلى الله عليه وسلم- لكن بالطريقة الصحيحة؛ هذه مقارنة بين أمرين، أيضاً بين أمرين آخرين في الهجرة سيدنا رسول الله هاجر وسيدنا عمر هاجر، عندما هاجر عمر -رضي الله عنه- وكان من أشد الناس قوة، وقف وقال: "من أراد أن تثكله أمه فليتبعني خلف هذا الوادي"، الرجل منكم يلحقني، وخرج على أعينهم وهاجر، النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، أتُرى كان عمر أشجع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! حاشا لله ولرسوله.

{ كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْهُ‏. }

(مسند الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب)

في المعركة كان أشجع الناس، فلماذا النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ كل هذه التدابير وخرج متخفياً؟ لأن موقفه تشريع، بينما موقف عمر -رضي الله عنه وأرضاه- موقف شخصي، أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فلو اقتحم الأخطار لعُدّ اقتحام الأخطار سنة، ولقال الناس: ينبغي ألا نهيئ لأي أمر بل ينبغي أن نخرج على أعين الناس، لكن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعلمنا أن اتخاذ الأسباب سنة في الحياة، إذا أردت أن تنجح فادرس، إذا أردت أن تسلم في الطريق فتفقد سيارتك، إذا أردت ألا يصيبك مرض فاتخذ الاحتياطات اللازمة، ولكن كل ذلك لا يمنع من قضاء الله وقدره، فالتوكل على الله شيء والأخذ بالأسباب شيء وكلاهما مطلوب لك، وكلاهما تتعبد الله به، أنت عندما تأخذ ابنك إلى الطبيب أنت تتعبد الله، وأنت عندما تقوم في الليل وتقول: يا رب اشف ابني فأنت تتعبد الله؛ كلاهما عبادة لله تعالى، أما ترك إحداهما فهذه ليست عبادة، أيها الإخوة الكرام إذاً الإجراء الثاني في رحلة التغيير رحلة الهجرة هو اتخاذ كل الترتيبات الممكنة.
حسن التوكل على الله مع اليقين الثابت بنصره
ثالثاً: أما الإجراء الثالث في رحلة الهجرة فهو حسن التوكل على الله مع اليقين الثابت بنصره، أراد الله تعالى بعد كل هذه الترتيبات التي اتخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد الله أن يصل المشركون إليه، وصلوا إلى الغار ووقفوا خلفه، وقال أبو بكر-رضي الله عنه-: لقد رأونا يا رسول الله، يعني لم يكن بينهم وبين رؤيتهم، حتى ظن أبو بكر -رضي الله عنه- أنهم رأوه، قال لقد رأونا يا رسول الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري:

{ قُلتُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا في الغَارِ: لو أنَّ أحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟! }

(أخرجه البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق)

وفي القرآن الكريم:

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
(سورة التوبة)

إذاً أيها الإخوة كان من الممكن ألا يصلوا إليهم فالله تعالى قادر على كل شيء، لكن مع اتخاذ كل الأسباب أراد الله تعالى أن يبين لنا أن اتخاذ الأسباب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقلل من توكله على الله أبداً، لم يعتمد على الأسباب اعتمد على الله وحده فوصلوا إليه ليظهر لنا ربنا -جلً جلاله- يقين رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ويظهر لنا حسن توكله فهو لم يعبأ بهم، قال: (ما ظَنُّكَ يا أبَا بَكْرٍ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!) كان واثقاً متيقنًا من نصر الله -عزّ وجلّ-.
التغيير يعني أنك متفائل
رابعاً: أيها الإخوة الكرام أيضاً الأمر الرابع في ترتيبات الهجرة، ترتيبات الرحلة في التغيير هو التفاؤل ، إياك وأنت متجه للتغيير أن تكون متشائماً، إن كنت متشائماً فلماذا تحاول أن تغير؟! إن كنت ترى أن المشروع فاشل، فلماذا تريد أن تغير؟ التغيير يعني أنك متفائل، متفائل بالله -عزّ وجلّ-، بنصر الله -عزّ وجلّ-، لذلك أيها الإخوة من دروس الهجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما خرج تبعه رجل يسمى سراقة، سراقة من أمهر فرسان العرب وأشجعهم، سمع بمكافأة مئة ناقة بمن يأتي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حياً أو ميتاً، فخرج على خفية من القوم لكي لا يحظى أحد بالجائزة، وسار خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدركه فأخرج سهماً من كنانته يريد أن يصوبه فساخت قوائم فرسه في الرمل في المرة الأولى وفي المرة الثانية، ثم طلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله له أن يطلق قوائم فرسه، وقال: عهد الله علي ألا أحاربك، فدعا له فأطلقت قوائم فرسه، وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم- عهداً بذلك والقصة طويلة، لكن في التفاؤل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لسراقة بعد أن أطلقت قوائم فرسه وعاد خائباً، يقول له: " كيف بك إذا لبست سواريّ كسرى "أي سواري كسرى! كسرى في مملكته في أعظم مملكة، كسرى ملك الفرس في مكان لا يحلم سراقة أن يصل إليه، ولا أن يصل سوار كسرى أو تاجه إليه أبداً، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: " كيف بك إذا لبست سواريّ كسرى"، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان واثقاً من أنه سيصل إلى المدينة وسيغير، وسيغير الواقع، وسيبدل الله به الحال، وسينشئ الدولة الكبرى التي تحارب أكبر دولة وهي الفرس، وأن غنائم كسرى ستكون بين يدي المسلمين، وأن سراقة سيلبس هذا التاج والسوار، وهذا ما حصل في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وكان قد عُمّر طويلاً سراقة حتى بلغ الثامنة والتسعين من عمره، وجاء به عمر- رضي الله عنه- وألبسه سوار كسرى وتاجه وكبّر المسلمون، إذاً رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحلته كان متفائلاً، فإياكم أن تُهزموا من الداخل، فأعظم ما يصيب المسلمين اليوم أن يهزم من الداخل، وأن يقول لك: لقد انتهى المسلمون وانتهى الإسلام، أبداً.

هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ(9)
(سورة الصف)

ولكن كن جندياً في نصرة الحق فقط، أما الحق فمنصور من عند الله.

الحفاظ على القيم والمبادئ في رحلة التغيير:
لا ينبغي للتغيير أن يغير من قيمك ومبادئك
أيها الإخوة الكرام؛ الأمر الأخير في رحلة التغيير التي ينبغي أن تكون واضحة في أذهاننا حتى في أحلك اللحظات، لا ينبغي للتغيير أن يغير من قيمك ومبادئك، كم من ثورة قامت من أجل التغيير ثم انحرفت عن مسارها، ثم ظلمت وبطشت وطغت، وضلت وأضلت، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في أحلك لحظات التغيير، وهو يريد أن يغير الأمة لم ينسَ أنه عندما هاجر أن للمشركين عنده ودائع، فوكّل علياً -رضي الله عنه- أن يرد الودائع إلى أهلها، التغيير لا ينبغي أن يغيرك أنت، التغيير للواقع أما أنت تبقى على مبادئك وقيمك، لا تتغير إلا إن كنت بعيداً عن القيم والمبادئ، أما القيم والمبادئ فلا تغيرها من أجل التغيير، لا يبيح التغيير لإنسان أن يخالف شرع الله -عزّ وجلّ- لذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربما كان أحرى الناس أن يقول: هؤلاء الذين ظلموني وظلموا أصحابي، ونكلوا بهم، وأخرجوني طريداً من بيتي، ثم أرد لهم أماناتهم، دعها وشأنها، أو ألقها في الطريق، أو خذها معك غنائم لكن ليس هذا شأن النبوة، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكّل علياً أن يرد كل وديعة إلى أهلها، لأنه عندما يريد أن يغير يريد أن يغير بوسائل صحيحة تؤدي إلى تغيير صحيح، لا بوسائل باطلة تؤدي إلى تغيير أعرج يعيد الواقع إلى أسوأ مما كان عليه.
أيها الإخوة الكرام؛ هذه رحلة الهجرة حُقّ لها أن تكون بداية لتاريخنا الهجري، حُقّ لنا أن نؤرخ بهذا التاريخ، وأن نقول: السنة 1439 للهجرة، لأنها تذكرنا بأن التغيير في الواقع لا بد أن يكون رحلة حقيقية فيها اتخاذ للأسباب، فيها توكل على رب الأرباب، فيها تهييء للجو المناسب، فيها تفاؤل بنصر الله، وفيها اعتزاز بالقيم والمبادئ والثبات عليها.

الخاتمة:
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، استغفروا الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد،

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، إنك يا مولانا سميع قريب مجيب للدعوات، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعزّ من عاديت تباركت ربنا و تعاليت، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، اللهم بفضلك عُمّنا واكفنا اللهم شر ما أهمنا و أغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا يا مولانا إنك أنت التواب الرحيم، واهدنا ووفقنا إلى الطريق المستقيم، واشفي مرضانا ومرضى المسلمين بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم اجعل هذا البلد سخاء، رخاء، أمناً بفضلك يا أرحم الراحمين وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرّج عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم انصرنا على أنفسنا وعلى شهواتنا حتى ننتصر لك فنستحق أن تنصرنا على أعدائنا، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، والحمد لله رب العالمين، أقم الصلاة و قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.