فقه الابتلاء

  • 2017-11-03
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

فقه الابتلاء

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونستهديه، ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غِنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، فكيف نفتقر في غِناك؟! وكيف نضِل في هداك؟! وكيف نذِلّ في عزّك؟! وكيف نُضام في سلطانك؟! وكيف نخشى غيرك والأمر كله إليك؟!
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسلته رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، ليخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ موضوع خطبتنا اليوم: فقه الابتلاء، كيف نفهم الابتلاء؟

كيف نفهم الابتلاء؟
الامتحان لا بدَّ منه
أيها الإخوة الكرام بادئ ذي بدء؛ مدرسة فيها طلاب، الامتحان لا بدَّ منه ما دمت طالباً في هذه المدرسة فيعني أنك قبلت بالامتحان حكماً، لا يوجد مدرسة بغير امتحان، الآن لا بدَّ من علاج للمقصرين قبل أن يفوت الأوان؛ هذه ثانياً، ثالثاً: لا بدَّ من عقوبة لمن يستنفد فرص الإصلاح ولا يدرس، ولا يراجع، ولا يذاكر إذاً تأتي العقوبة؛ هذه أمور ثلاثة لا بد منها في المدرسة، كل مدرسة الامتحان للجميع، لا يوجد طالب يقول: أنا في المدرسة لكن لا أريد أن أخضع للامتحان، إذاً أنت لست في المدرسة، الامتحان عام للناجح، للمتفوق، للمقصر، لمن لا يدرس، الامتحان للجميع، ثانياً: لا بد من علاج للمقصرين قبل أن يفوت الأوان هذه من رحمة المدرسة أنها تعالج المقصرين قبل فوات الأوان، ثالثاً: لابدَّ من عقوبة لمن يصرُّ على عدم الدراسة ويترك العمل، ويميل إلى الكسل، و يستنفد كل فرص الإصلاح هذا لا بد من عقوبة؛ هذه ثلاثة أمور.
نحن في الدنيا في مدرسة لا بدَّ من امتحان للجميع؛ هذا هو الابتلاء، لا تستطيع أن تقول: أنا أريد أن أكون في الدنيا دون أن أخضع للامتحان أبداً هذا هو الابتلاء، الامتحان للجميع وأنت في الدنيا في مدرسة، والامتحان واقع، واقع شئت أم أبيت، ولا بُدَّ من علاج للمقصرين قبل فوات الأوان وهذه هي المصيبة.

وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ (30)
(سورة الشورى)

ولا بدَّ من عقوبة لمن يُصرّ، لمن لا يستجيب للمصائب؛ وهذا هو العذاب، والعذاب لا يقع بالمؤمنين، ولا يقع بأحباب الله، لكن الابتلاء يقع، هذه الثلاثة أمور أيها الإخوة؛ ابتلاء للجميع، مصيبة للمقصرين، عذاب لمن لا يستجيبون، الآن أيها الإخوة؛ إذاً الامتحان سنة، ليس قضية تقبلها أو ترفضها، ليس قضية تريدها أو لا تريدها، قال تعالى:

أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
(سورة العنكبوت)

(أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ) أتظن ذلك؟! (أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)، الآن انظروا إلى قوله تعالى:

وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَٰذِبِينَ(3)
(سورة العنكبوت)

هذه هي السنة، القانون، هذا أمر لا بدَّ منه وقع فيمن قبلك وسيقع عليك، (وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَٰذِبِينَ) السنة تقع لا بدَّ من أن تقع، قانون، واقع شئت أم أبيت، سنة.

مواد امتحان الدنيا:
الآن الحقيقة الثانية: هذا الامتحان ما مواده؟ كل امتحان له مواد، أقول: امتحان في الرياضيات، في الفيزياء، في العلوم، في اللغة العربية، الامتحان له مواد، ما مواد امتحان الدنيا، قال تعالى:

كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
(سورة الأنبياء)

مادتان: الشر مادة، الخير مادة، المادة الأولى الشر، المادة الثانية الخير؛ أي لنبلونكم بالصحة والمرض، ونبلوكم بالقوة والضعف، ونبلوكم بالشدة والرخاء، ونبلوكم بالغنى والفقر، ونبلوكم بالحلال والحرام، ونبلوكم بالطاعة والمعصية، ونبلوكم بالهدى والضلال، ونبلوكم بزوال النعم ووفرة النعم، هذه: (وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْر)ِ.

أشكال الابتلاء:
مادتا الامتحان هما الخير والشر
مادتان، أنت أعطاك الله مالاً أنت مبتلى به، حجب عنك المال أنت مبتلى بحجب المال، أنت صحيح أنت مبتلى، أنت مريض أنت مبتلى -نسأل الله العافية-، أنت غني مبتلى، أنت في حلال مبتلى، جاءك مال من حرام تأخذه أو لا تأخذه مبتلى، فالابتلاء مادتان خير وشر، لكن الناس أحياناً يقصرون الابتلاء على الشر، أي إذا رأوا إنساناً فقيراً رثَّ الثياب يقولون: هذا ابتلاه الله بالفقر، وأنت أخي يا من تركب سيارتك وعندك بيتك أنت مبتلى بالسيارة وبالبيت تماماً مثله، وقد ينجح هو في ابتلاء الفقر، وقد ترسب أنت في ابتلاء الغنى، فيتفوق هو عليك بفقره؛ هذه الحقيقة (وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْر فِتْنَةً)ِ فكلنا مبتلى، مبتلى فيما أعطاك الله، مبتلى فيما منعك الله.

صور الفتنة:
الفتن كثيرة
أيها الإخوة الكرام؛ الفتن كثيرة، أعرض بعضها مما قد لا ننتبه لها؛ أن يتعرض المؤمن للأذى والاضطهاد من أعدائه ثم لا يجد النصير؛ هذه فتنة، ابتلاء شديد، أن تُقبل الدنيا على المعرضين والعاصين والمنحرفين والمتفلتين، وهو يجد نفسه في طاعة الله والدنيا مدبرة عنه؛ هذه فتنة، هذا ابتلاء، أن يكون غريباً في دينه ينظر حوله فيرى العالم غارقاً في المعاصي والآثام، وهو وحده في مجتمعه يريد أن يطبق منهج الله، فيجد من الجميع استهجاناً، ما هذا؟ أين تعيش؟ في أي عصر أنت؟ هذه فتنة؛ فتنة الغربة في الدين، إذاً الابتلاءات متنوعة، ليس هناك نوع واحد، كل ما تتعرض له هو ابتلاء.

أهداف الابتلاء:
الآن أيها الإخوة الكرام؛ ما هدف الابتلاء؟ أولاً: الله تعالى غني عن تعذيبنا، الابتلاء ليس عذاباً، لا تقل: الله يعذبني، الله لا يعذب أحبابه.

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)
(سورة المائدة)

وجدنا خير عيشنا بالصبر
إن كنتم أحبابه فلِمَ يعذبكم؟ الله تعالى لا يعذب المؤمنين، الله لا يعذب أحبابه ولكنه يبتليهم، من هنا يقول عمر -رضي الله عنه- الآن القول غريب، عمر -رضي الله عنه- عاش حالة الصبر، وعاش حالة الشكر، أي ابتلي بالشر والخير، صار أمير المؤمنين وتدين له نصف الأرض- كما يقال- فعاش حالة عظيمة جداً من العزة والتمكين والاستخلاف والقوة لكنه عندما تحدث عن عيشه ماذا قال؟ قال: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"؛ أي: عندما كنا في حال ضعف، وهذا لا يعني أن المؤمن يطلب الضعف، لا، لكن الضعف لا بدَّ أن يأتي يوماً، يوجد مرض، يوجد فقر، يوجد ضعف، يوجد تمكين في الأرض لا بدَّ منهم، فقال: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"، يوم كنا نقول يارب، نحن صابرون على قضائك، يا رب، نحن راضون بما قسمته لنا، كان يجد لذة في العيش عندما يجوع لله، وعندما يضعف لله، وعندما يُفعل به ما يُفعل ولكنه يقول: أحد، أحد، كما هو بلال-رضي الله عنه وأرضاه-، كان يجد لذة العيش لأنها معرفة بالله -عزَّ وجلَّ-، لأنها تدل على إيمان عظيم بالله -عزَّ وجلَّ-، "وجدنا خير عيشنا بالصبر".
أيها الإخوة الكرام؛ إذاً ما هدف الابتلاء؟ هو ليس عذاباً، فما هدفه؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه، تقول عائشة -رضي الله عنها-: حمى لعنها الله، يقول: لا تلعنيها، -الله أكبر-، مريض بالحمى، قال: فإنها لا تذر على المؤمن من ذنب إلا أتت عليه، هو ينظر إلى الحمى على أنها نعمة، كما ينظر إلى العافية على أنها نعمة، ولكن نِعم الله ظاهرة وباطنة.

أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ(20)
(سورة لقمان)

الامتحان إعداد للتكريم
تراها الأعين (وَبَاطِنَةً) يظنها الناس حرماناً وهي في الحقيقة عطاء ممتد لا نهائي، أيها الإخوة الكرام؛ هدف الابتلاء الإعداد للتكريم مثل الامتحان في المدرسة، نعود إلى مثال الامتحان، المدرسة تمتحن الطالب، ما هدفها؟ أن يظهر الطالب المتفوق، ثم تقيم له حفلاً تكريمياً، فهو يُعدّ للتكريم، الامتحان إعداد للتكريم، كما تفتن النار الذهب، العرب تقول: فتنت النار الذهب؛ أي خلصته من العناصر الرخيصة العالقة به، الذهب غالٍ وهناك عناصر رخيصة تعلق به، كيف نعرف الذهب من غير الذهب؟ نفتن الذهب كما في اللغة العربية، نضعه على النار فتذهب العناصر الرخيصة، ويبقى ذهب خالصاً، وكذلك الابتلاءات تصهر المؤمن فتنقيه مما علق به مما لا ينبغي أن يكون عليه المؤمن، الابتلاء -أيها الإخوة- يكفّر الذنوب والخطايا، ويرفع الدرجات.

{ قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسْبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسْبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليْهِ خطيئةٌ }

(أخرجه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص)

هذا هدف آخر من أهداف الابتلاء، الهدف الأول: الإعداد لتحمل المسؤولية، والهدف الثاني: تكفير الذنوب والخطايا ورفع الدرجات.
أيها الإخوة الكرام؛ خباب بن الأرت جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً وهو متوسد في ظل الكعبة، النبي -صلى الله عليه وسلم- مستلقٍ في ظل الكعبة، قال: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ الآن نتخيل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال له: بلى، ووقف وقال: يا رب انصرنا، لم يفعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لماذا؟ لأنه لمح من طريقة خطاب خباب أنه قد حلّ به شيء من قنوط، شيء من تعب، شيء من ضعف في لحظة ضعف طارئة، فماذا قال له؟ قال له وهو محمر وجهه، غضب صلى الله عليه وسلم، قال:

{ شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قالَ: كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ. }

(رواه البخاري عن خباب بن الأرت)

الحياة مبنية على الابتلاء
إذاً أيها الإخوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وجّه خباب إلى أن الابتلاء سنة ماضية، وأن الأمر لا بُدَّ أن يستقر على حال ترضي الله -عزَّ وجلَّ-، ولكن لا تستعجل لأن الحياة مبنية على الابتلاء، أيضاً أيها الإخوة؛ من أهداف الابتلاء الله تعالى يظهر آياته، ويبين لعباده عاقبة الظلم والظالمين، ويستخلف عباده الصالحين، مهما طالت مدة البلاء، أين فرعون؟ اقرأوا التاريخ، اقرأوا القرآن، أين فرعون الذي قال لقومه:

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّى صَرْحًا لَّعَلِّىٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّى لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلْكَٰذِبِينَ(38)
(سورة القصص)

والذي قال:

فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ (24)
(سورة النازعات)

والذي قال:

وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِۦ قَالَ يَٰقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ ٱلْأَنْهَٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِىٓ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
(سورة الزخرف)

فأجراها الله من فوقه وأغرقه، أين هامان؟ أين قارون؟ أين عاد؟ أين ثمود؟

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنۢبِهِۦ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
(سورة العنكبوت)

أين الظالمون وأين التابعــون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيــان؟ أين الجبابرة الطغاة ويحهموا أين من غــــرهم لهو وسلطان؟ هل أبقى الموت ذا عزٍّ لعزتـه أو هل نجا منه بالأموال إنســـان؟ لا والذي خلق الأكوان مـــن عدم الكل يفنى فلا إنـــس ولا جان
وفي الحديث الشريف:

{ اتقوا دعوةَ المظلوم؛ فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله: وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ }

(أخرجه الطبراني)

الوزير يحيى بن خالد البرمكي قال له بعض بنيه يوماً وهم في السجن، بعد أن سجنوا قال له: "يا أبتِ، بعد الأمر والنهي والنعمة، صرنا إلى هذه الحال"، كنا نأمر وننهى، ونعمة وعز وسلطان صرنا في السجن، فقال: "يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون، ولم يغفل الله عنها"، ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمة زمناً والدهر ريان غدق سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم دمـاً حين نطق
يوسف الكوفي يقول: حججت ذات سنة، فإذا أنا برجل عند البيت- عند الكعبة- وهو يقول: "اللهم اغفر لي، وما أراك تفعل!"، الله أكبر يطلب المغفرة ولا يظن أن الله يغفر له، فقلت: "يا هذا، ما أعجب يأسك من عفو الله!"، ما وجدت مثلك يا إنسان، قال:" إن لي ذنباً عظيماً"، فقلت: "أخبرني"، قال: "كنت مع يحيى بن محمد بالموصل"، -وما أدراكم ما حل بالموصل اليوم، وبالرقة و بحلب وبغيرها من ديار المسلمين، وقبلها في فلسطين الجريحة؟- قال: "كنت مع يحيى بن محمد بالموصل فأمرنا يوم جمعة، فاعترضنا المسجد-بعد خروج الناس من الصلاة- فقتلنا، ثم نادى مناديه: من علّق سوطاً على دار فالدار وما فيها له"، هذه سنة الطغاة في كل عصر، حتى يفعل الجنود ما يريده الطغاة منهم، تُباح لهم المدن، افعل ما شئت لكن ثبّت لنا ما نريده، فقال: من علق سوطه على دار فهي له وما فيها؛ انتهى، "فعلقت سوطي على دار ثم دخلتها فإذا فيها رجل وامرأة وابنان لهما، فقدمت الرجل فقتلته، ثم قلت للمرأة: هاتي ما عندك وإلا ألحقت ابنيك به، فجاءتني بسبعة دنانير، فقلت: هاتي ما عندك، فقالت: ما عندي غيرها، فقدّمت أحد ابنيها فقتلته، ثم قلت: هاتي ما عندك وإلا ألحقت الآخر به، فلما رأت الجِد مني -مصر على فعلته- قالت: ارفق -انتظر- فإن عندي شيئاً كان أودعنيه أبوهما-عندي شيء- فجاءتني بدرع مذهبة -عليها ذهب، كلها ذهب- لم أرَ مثلها حُسناً، فجعلت أقلبها، فإذا مكتوب عليها بالذهب:
إذا جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء فويل ثم ويـــل ثم ويـــل لقاضي الأرض من قاضي السمـاء
كل شيء عند الله بمقدار
قال:" فسقط السيف من يدي وارتعدت، وخرجت إلى حيث ترى"، إلى بيت الله لعل الله يغفر له، إذاً أيها الإخوة الكرام؛ مصير الظالمين واضح، وفي الابتلاء يستخلف الله عباده، وفي الابتلاء يرينا الله مصير الطغاة والظالمين، ولكن لا تستعجلوا كل شيء عند الله بحكمة، كل شيء عند الله بمقدار، كل شيء عند الله له أجل، أخبرتكم مرة أني كنت على كرسي طبيب أسنان في هذه المدينة الطيبة بأهلها، فقال لي الطبيب: ما شأن المسلمين في العالم؟ هذا القتل، الدمار، متى النصر؟ قال لي: ونحن ندعو الله، ندعو الله صبحاً ومساء، قلت له: والله يا دكتور حالنا مع الله كحالي بين يديك الآن، قال: كيف ذلك؟! قلت له: بربك الآن وأنت قد وضعت المخدر لو قلت لك: توقف الآن عن إتمام العمل، هل تتوقف وأنا متألم الآن جداً؟ قال: لا والله، حتى أنهي لك ما جئت من أجله، حتى أصلح لك، قلت له: وهذا حال الله معنا ولله المثل الأعلى، هناك تراكمات خطيرة جداً، هناك ذنوب عظيمة جداً، لكن لا نتوقف عن الدعاء لكن نرجو الله -عزَّ وجلَّ- أن يرفع الغمة ونحن موقنون بذلك، ولكن بعلم الله، وبحكمته، وبالوقت الذي يرتضيه.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، استغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد الله أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

الدعاء:
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك يا مولانا سميع قريب مجيب للدعوات، اللهم برحمتك عُمّنا واكفنا اللهم شر ما أهمنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، واجعل أسعد أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، أنت حسبنا عليك اتكالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم بفضلك ورحمتك أعلي كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً، سخياً، رخياً، مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم فرّج عن المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها ما أهمهم، وما أغمهم، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم وآوي غريبهم،، واجعل لنا في ذلك عملاً متقبلاً يا أكرم الأكرمين، وفق اللهم ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقم الصلاة و قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.