الأيام المعدودات

  • 2017-09-01
  • عمان
  • مسجد الناصر صلاح الدين

الأيام المعدودات

الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فيا أيها الإخوة الكرام؛ فقد اجتمع في هذا اليوم عيدان-ولله الحمد والمنة والفضل- فالعيد الأول هو يوم الجمعة، إذ يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ هذا يومُ عيدٍ، جعلَهُ اللَّهُ للمسلمينَ، فمن جاءَ إلى الجمعةِ فليغتسل، وإن كانَ طيبٌ فليمسَّ منْهُ، وعليْكم بالسِّواك. }

(أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عباس )

أي يوم الجمعة (جعلَهُ اللَّهُ للمسلمينَ، فمن جاءَ إلى الجمعةِ فليغتسل، وإن كانَ طيبٌ فليمسَّ منْهُ، وعليْكم بالسِّواك)، والعيد الثاني هو عيد الأضحى، إذ يقول صلى الله عليه وسلم:

{ إنَّ أعظمَ الأيَّامِ عندَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالَى يومُ النَّحرِ ثمَّ يومُ القُرِّ }

(صحيح أبي داود عن عبد الله بن قرط)

هذا اليوم، (ثمَّ يومُ القُرِّ) وهو اليوم التالي ليوم النحر يوم الغد، وسمّي يوم القر إذ يستقر الحجاج فيه في مِنى ويبيتون يومين أو ثلاثة.
أيها الإخوة الكرام؛ هذه الأيام من أعظم ما يُشرع فيها ذكر الله تعالى، قال تعالى:

فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُۥ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنْ خَلَٰقٍۢ (200)
(سورة البقرة)

وقال تعالى:

وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِىٓ أَيَّامٍۢ مَّعْدُودَٰتٍۢ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ ۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
( سورة البقرة)

وهذه هي الأيام المعدودات التي يُشرع فيها ذكر الله، فيسن في هذه الأيام المواظبة على الأذكار والتهليل والتكبير والتسبيح والتحميد، وهذه الأيام أيها الإخوة كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أيام أكل وشرب فلا يجوز صيامها، بل يُشرع فيها التوسعة على العيال ونحر الأضاحي وتقديمها للفقراء والمساكين وللأهل والأصحاب حتى تكون هذه الأيام أيام عيد وفرح لجميع المسلمين.

معنى العيد:
العيد عودة إلى الله
العيد أيها الإخوة عند أهل اللغة من العودة؛ لأنه يعود في كل عام، ولأنه يعود سُمي عيداً هذا عند أهل اللغة، وعند أهل التدين العيد يعود كل عام والعيد عودة إلى الله، فالعيد عودة يعود المسلم فيه إلى ربه، يعود المسلم فيه إلى أصل فطرته، يعود المسلم فيه إلى صفاء نفسه، يعود المسلم فيه إلى توبة صادقة ينيب فيها إلى ربه، من هنا جاء العيد، العيد عودة وفوق أنه عودة فالعيد عيادة، كيف يكون العيد عيادة؟ يزور الإنسان العيادة؛ عيادة الطبيب ليراجع أمراضه وينظر إن كان في جسمه خلل فيصححه ويتناول الدواء لأجله، وأعياد المسلمين عيادات يراجعون فيها حساباتهم فانشغالات الحياة وهمومها الطاحنة ونكباتها المتكررة، وقد جعل الله الدنيا دنية لا يستقر للإنسان فيها حال؛ لأنها ابتلاء.

ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ(2)
(سورة الملك)

فإذا تزاحمت الهموم وتراكمت المشكلات جاء العيد عيادة يطبب الإنسان فيها نفسه، فيفرح بفضل الله ورحمته ويستعيد نشاطه ويعزم على العمل من جديد ليتابع من جديد الترقي في سلم معرفة الله وفي سلم طاعته، العيد عودة، والعيد عيادة، والعيد عبادة، ولا أدل على أن العيد عبادة من أنه يفتتح بعبادة فيصلي المسلمون العيد، ولا أدل على أنه عبادة من أنه يأتي عقب عبادة عظيمة، فعيد الفطر يأتي بعد ثلاثين يوماً صوماً يصومها المسلم كي يتقرب بها إلى ربه، ثم يأتي العيد فيفرح بما أنجزه، ويفرح بما قدمه، ويفرح بطاعته لربه.

{ ... لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ. }

(أخرجه البخاري، ومسلم واللفظ له عن أبي هريرة)


مضامين العيد الراقية:
مد يد العون للفقراء والمساكين
ويأتي عيد الأضحى عقب عبادة وهي عبادة الحج للذين هم في بيت الله الحرام، وعبادة تسع من ذو الحجة للذين هم في أوطانهم فيداومون في هذه الأيام على التوبة والذكر والدعوة وقراءة القرآن والصيام، ويصومون يوم عرفة ثم يأتي العيد، العيد عبادة هو بل هو عبادة راقية من أرقى العبادات، لكن كثيراً من المسلمين فرغوا الأعياد من مضامينها الراقية وجعلوها مناسبات للتسوق وللاجتماع فيما يرضي وفيما لا يرضي ربنا -جلَّ جلاله- وهذه طامة كبرى أن يفرح المسلم بطاعة ربه عن طريق معصية ربه، العيد فرح بالطاعة، فكيف يفرح مسلم بالطاعة بشيء يعصي به ربه؟! كيف يحصل ذلك؟! لذلك أيها الإخوة الكرام لا بد أن يكون هذا العيد ذا مضمون راقٍ يبدأ بمد يد العون للفقراء والمساكين، ثم بصلة الأرحام وتفقدهم وتفقد أحوالهم، واحرصوا أيها الإخوة في صلة الأرحام على ألا تكتفوا بالأرحام في الدائرة الضيقة وفي الحي الواحد، بل فكروا في رحم لا يزورها أحد ولا يلتفت إليها قريب، فلعل الزيارة تُدخل من السرور على قلوبهم ومن جبر الخاطر ما لا تدخله زيارة على قوي أو غني، فكثيرون من الناس اعتادوا أن يزوروا بعض الأقارب يكتفون بهم وبعض الأصحاب، وغالب الأصحاب هؤلاء يزورهم مئات الأشخاص أو عشرات الأشخاص لكنهم ينسون شخصاً في أطراف المدينة ربما لا يُؤبه لهم ولا يزوره أحد وزيارته عبادة تقرب إلى الله وترفع معنوياته، كم من أخ زار أختاً له قد تزوجت وأصبح بيتها بعيداً عنه، فرحل إليها وسافر إليها و زارها في بيتها، وجبرت هذه الزيارة بخاطرها وخاطر زوجها وشعرت بقيمتها عند أهلها أمام زوجها، كم من عمة، كم من خالة، كم من قريب، كم من صديق تركنا زيارته وهو أحوج ما يكون إليها من غيرهم، فلا تجعلوا الزيارات ضيقة بل وسعوها لتشمل أشخاصاً ترفع هذه الزيارة من معنوياتهم وتجبر بخاطرهم وتدخل السرور إلى قلوبهم أكثر من غيرهم.

التوازن في الطاعات لله تعالى:
ديننا فيه توازن في كل شيء
إذاً أيها الإخوة؛ في العيد صلة الأرحام والتوسعة على الأهل والعيال وإظهار الفرح، ديننا أيها الإخوة دين عظيم، يوم تكون فيه الطاعة بترك الطعام والشراب، ويوم تكون فيه الطاعة بالأكل والشراب، وكله إرضاء للمولى -جلَّ جلاله- وهذا هو التوازن، أمس كانت طاعتنا لله في ترك الطعام والشراب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، واليوم وغداً وبعد غد من صام فقد عصى ولا يُقبل صيامه يحرم صيامه، بل الواجب أن يفطر ويأكل مع أهله وأصحابه ويجعل أيام فرح وسرور من أيام العيد؛ هذا هو ديننا توازن في كل شيء، ويوم عند الحجاج في عرفة؛ وقوف ودعاء وابتهال، ثم نزلوا إلى مزدلفة؛ عليكم بالسكينة، نوم، العبادة نوم هناك، لذلك أيها الإخوة الإسلام يوازن بين حاجات الجسد وقيم الروح فلا يطغى جانب على جانب، ولا تطغى مادة على قيمة ولا قيمة على مادة، بل هناك توازن لا حدود له بين جسد وروح وقيم ومصالح، وهذا كله لن تجده إلا في دين الله -عزَّ وجلَّ-، وكل قانون وضعي إنما يصرف الناس إلى جهة ويتركهم من جهة أخرى فينظر بعين واحدة للإنسان.

يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْءَاخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ (7)
(سورة الروم)

والإسلام يوازن بين كل هذه الحاجات والقيم، أيها الإخوة الكرام؛ نحن في أيام عيد، في أيام أكل وشرب، في أيام نحر وتضحية، نضحي بحظوظ أنفسنا وشهواتها، نضحي بالأنعام نقدمها قربة لله تعالى للفقراء والمساكين والمحتاجين.
أسأل الله -عزَّ وجلَّ-أن يعيد هذا العيد على الأمة الإسلامية بالخير واليمن والبركات، وأن يحفظ لكم إيمانكم وأهلكم وأولادكم وأوطانكم سالمة هانئة من كل مكروه وشر.

الخاتمة:
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واستغفروا الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الإخوة الكرام؛ العيد فرح وللأولاد على وجه الخصوص، وإدخال الفرح إلى نفوس الأولاد بهدية أو بطعام، أو بنزهة، أو بخروج من البيت أمر مشروع بالمندوب، ولكن ينبغي للآباء أن يتنبهوا أين يذهب أولادهم؟ من يصاحبون؟ مع من يذهبون؟ أين يمرحون ويلهون؟ حفاظاً على صحتهم النفسية والجسمية، ففي العيد تقل المراقبة في كل مكان بسبب خروج الناس إلى الشوارع، الأكل المنتشر في الأسواق، إلى غير ذلك، فلا بد للأب أن يراقب ابنه، وأن يصحبه، وإن لم يصحبه أن يراقب خروجه مع من يذهب؟ من يصاحب؟ ماذا يسمع؟ ماذا يأكل؟ ماذا ينظر؟ ويأمره بتقوى الله وطاعة الله والصلاة وما إلى ذلك، فانتبهوا إلى أولادكم جزاكم الله خيراً.

الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، اللهم لك الشكر على ما أنعمت وأوليت، نستغفرك ونتوب إليك، نؤمن بك ونتوكل عليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، يا واصل المنقطعين صلنا برحمتك إليك، اللهم برحمتك عُمّنا واكفنا اللهم شر ما أهمنا و أغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة توفنا، نلقاك وأنت راضٍ عنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وأنت أرحم الراحمين، وأنت أرحم الراحمين، اللهم اكتب الصحة والسلامة للحجاج والمسافرين والمقيمين والمرابطين في برك وبحرك وجوك من أمة سيدنا محمد أجمعين، اللهم اكتب لهم حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وتجارة لن تبور، واشملنا معهم بالثواب والأجر يا أرحم الراحمين، يا أكرم الأكرمين، اللهم إنا نسألك في هذه الأيام المباركة أن ترفع عن المسلمين هذه الغمة، وأن تدخل إلى قلوبهم السكينة، وأن تنزّل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، اللهم أطعم جائعهم، واكسُ عريانهم، وارحم مصابهم وآوي غريبهم، اللهم اغفر وارحم لكل حاج ولكل من استغفر له الحاج بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، اللهم فرّج عن إخواننا المستضعفين في فلسطين، اللهم فرّج عن إخواننا المستضعفين في الشام، وفي العراق، وفي بورما، وفي اليمن وفي كل مكان يُذكر فيه اسمك يا الله، فرجاً عاجلاً، تُعز فيه أولياءك وتُذلل فيه أعداءك يا أرحم الراحمين، اجعل اللهم هذا البلد آمناً، سخياً، رخياً، طيباً، مباركاً فيه، وفق اللهم ولاة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى، وفق الله ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، أقم الصلاة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.